خاتمة

نهاية عصرٍ مُظلِم
يمكننا الآن أن نعود إلى نقطة البداية ونطرح السؤال الذي طرحناه في بداية هذا الكتاب: هل كانت هذه الفترة — القرون التي أعقبَت انهيار العصر البرونزي — عصرًا مُظلمًا حقًّا أم لا؟ مع أن تسمية فترةٍ ما بالعصر المُظلِم لا يعني بها العلماء في الواقع إلا الافتقارَ إلى سجلاتٍ مكتوبة وتبسيطٍ للمجتمع بوجهٍ عام؛ فإنها تُستخدَم في كثيرٍ من الأحيان من أولئك الذين هم خارج الأوساط الأكاديمية للإشارة إلى الانهيار التام والانحطاط، وعواء كلابٍ بريَّة وبرابرة يتجولون في الظلام خارج مرمى بصر الناجين الخائفين الذين يجلسون القرفصاء وسطَ أنقاض مُدنهم، التي كانت ذاتَ يوم مَبْعثَ فخر.1

ولكن كما رأينا، فإن أيًّا من السيناريوهَين ليس دقيقًا تمامًا لوصف القرون التي أعقبَت الانهيار. ورغم أن هذه الحقبة في مُجملها تحقق العديد من المعايير المُبيَّنة في تمهيد هذا الكتاب لوصف العصر المظلم، من بينها فقدان الكتابة، وتوقُّف تشييد العمارة الضخمة، وانهيار الأنظمة الاقتصادية والإدارات المركزية؛ فإننا لا نرى هذا إلا في بعض المجتمعات التي ناقشناها، ولكنْ ليس في كل المناطق. وحتى في المناطق التي عانت أكثرَ من غيرها، ما زلنا نرى أدلةً على الاختراع والابتكار.

في واقع الأمر، قِلةٌ فقط من زملائي هم الذين لا يزالون يشيرون إلى هذه الفترة باعتبارها عصرًا مظلمًا؛ فالآن يطلِق عليها علماء الآثار ومؤرخو العصور القديمة وعلماء الكتاب المقدَّس وغيرهم من الأكاديميين ببساطة اسم العصر الحديدي. ولكنْ يبدو أنَّ عامة الناس لم يفهموا الرسالة بعدُ؛ يكفي أن ننظر مرةً أخرى إلى تعريف «العصر المظلم» في قاموس «ميريام وبستر» (وكذلك تعريف «العصر المظلم اليوناني» في «موسوعة تاريخ العالَم») والذي ذكرتُه في بداية هذا الكتاب. وهذا يحتاج إلى تغيير، كما يمكن أن يتَّضح بسهولة.

•••

لاحظ إيان موريس أن مفهوم العصر المظلم في تاريخ اليونان القديمة، لم يظهر للوجود إلا في تسعينيات القرن التاسع عشر، بعد أن أدرك المؤرخون وعلماء الآثار أن أربعة قرون على الأقل كانت تفصل بين هوميروس (الذي عاش في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد) وحرب طروادة (التي دارت على الأرجح في أوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد).2 ولإعطاء مثال كلاسيكي واحد، في عام ١٩٦٢ وصَفَ السير دينيس بيج، وهو مؤرخ بريطاني بارز في العصر الهومري، هذه الحقبة على النحو التالي: «في وقتٍ ما، بُعَيْد عام ١٢٠٠ قبل الميلاد، مُحِيَت الحضارة الميسينية من فوق الأرض … وعلى مدى الثلاثمائة أو الأربعمائة عام التالية، كانت اليونان معزولةً، وفقيرة، ومحلية. وضاع فنُّ الكتابة؛ وتدنَّى الاتصال بالعالَم الخارجي فصار قليلًا أو منعدمًا؛ وتوقف استخدام فنون اليونان وحِرفها الميسينية اليدوية، أو تدهور إلى حدٍّ كبير. إن التناقُض هنا شديد للغاية.»3
كان تشيستر ستار، الذي كان أستاذًا مبجلًا للتاريخ القديم في جامعة ميشيجان، قد قال الشيءَ نفسه تقريبًا قبل عامٍ واحد، ولكنْ بطريقةٍ أكثر شعرية، وبأسلوبه الفريد: «مع انطفاء الجمرات الأخيرة في القصور الميسينية المُدمَّرة، خيَّم الظلام على اليونان. استمرَّ الناس في العيش في معظم أنحاء منطقة بحر إيجه، وإنجابِ الأطفال، والموت؛ لكنَّ روتين حياتهم اليومية المُملَّ والدفن النهائي لم يترك سوى أقلِّ قدْرٍ من البقايا الجسدية. ولم يبدأ هذا الغموض في التبدُّد ببطءٍ إلا في القرن الثامن قبل الميلاد.»4
كما يلاحظ موريس، فقد ظَل هذا النموذج للعصور المُظلِمة اليونانية مسيطرًا مدة قرنٍ تقريبًا، حتى ثمانينيات القرن العشرين، وإن كان مع كثير من النقاش والجدال الدائرين حول الموضوع. وبحلول ذلك الوقت، أصبح هذا النموذج عقيدةً راسخة لدى كثيرين في هذا المجال، وخاصة بعد المنشورات البالغةِ التأثير التي أصدرها في سبعينيات القرن العشرين ثلاثةُ علماء آثار بريطانيين بارزين؛ أنتوني سنودجراس من كامبريدج («العصر المظلم لليونان»، في عام ١٩٧١)، وفينسنت ديسبورو من أكسفورد («العصور المظلمة اليونانية»، في عام ١٩٧٢)، ونيكولاس كولدستريم («اليونان الهندسية»، في عام ١٩٧٧).5
ومع ذلك، فقد ظَهرَ كثير من المواد الجديدة من عمليات التنقيب الأثرية التي تعود إلى العصر الحديدي في اليونان في العقود الأخيرة، والتي تقوِّض هذا النموذج، كما رأينا في الفصل الخامس. وحتى تشيستر ستار اعترف في نهاية المطاف في أوائل تسعينيات القرن العشرين، قائلًا: «إن معرفتنا … بأي فترة أخرى من التاريخ القديم لم تتغير أو تتوسَّع كثيرًا في الأجيال الأخيرة على المستوى الواقعي كما تغيرَت صورتنا عن اليونان المبكرة».6
ونتيجةً لذلك جزئيًّا، يزعم الآن عدد من الأكاديميين «التدريجيين»، كما يُسمِّيهم إيان موريس، أنه لم يكن هناك مثل هذا الانفصال المفاجئ في أعقاب انهيار أواخر العصر البرونزي كما كنا نظنُّ سابقًا؛ وأن التغييرات من المُرجَّح أن تكون أكثر اعتدالًا؛ وأن العصر المُظلِم، بوجهٍ عام، لم يكن قاتمًا تمامًا كما صُوِّر سابقًا؛ ومن ثَم لا ينبغي حتى تسميته كذلك. في الواقع، صرَّحت سارة موريس، من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، بطريقةٍ قاطعة: «لقد بدَّد علم الآثار الحديث «العصر المظلم» لليونان.» وتُضيف أن «الاكتشافات الحديثة أضاءته بشكلٍ ساطع للغاية، بحيث لم يعُد مُمكنًا أن يُبقى على اسمه أو حقيقته.»7
أظنُّ أن مناقشاتنا في الفصول أعلاه أظهرَت أن هذا لا ينطبق فقط على منطقة بحر إيجه، ولكنْ على شرق البحر الأبيض المتوسط أيضًا. ففي الأطروحة التي قدَّمها جوشوا جيفيرز لجامعة بنسلفانيا في عام ٢٠١٣، لاحظ أن مصطلح «العصر المظلم» كثيرًا ما يَستخدِمه مؤرخو الشرق الأدنى القديم ببساطة ﻟ «وصف فترةٍ تفتقر نسبيًّا إلى الوثائق اللازمة لتوضيح تاريخ تلك الفترة وإعادة بنائه.» ويلاحظ أيضًا: «مِن ثَم أن تطبيق هذه العبارة على الشرق الأدنى لا يحمِل حُكمًا تقديريًّا، بل يصِف فقط صعوبة المهمة التي يواجهها مؤرخ العصر الحديث.»8
أما عن بلاد الشام، فيقول بنجامين بورتر من جامعة كاليفورنيا في بيركلي: «لم يكن العصر الحديدي الأول عصرًا مظلمًا يفتقر إلى التطور التاريخي كما افترض العلماء السابقون. فقد تكيفَت الجماعات مع الظروف السياسية والاقتصادية الجديدة.» وحتى قبل عَقدَين من الزمن، قالت سوزان شيرات: «ربما لا يشترك في الوقت الحاضر سوى قِلةٍ من الناس في مثل هذه الرؤية الدرامية الألفية لبداية العصر المظلم … الآن أصبح لكل منطقةٍ من مناطق المساعي الأثرية المتزايدة التخصُّص نُسختها الخاصة لمَا حدث في هذه الفترة، بعضها بشكل واضح أقلَّ «ظلامًا» من غيرها.»9
ولهذا، وعلى الرغم من آراء المؤرخين وعلماء الآثار من الأجيال السابقة، فإنني أتفق مع العلماء الذين يزعمون الآن أن القرون الأُولى من الألفية الأُولى قبل الميلاد في منطقتَي بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسط لم تكن مظلمةً تمامًا كما اعتدنا أن نتصوَّر. ففي عام ١٩٩١، على سبيل المثال، صرَّح جيمس وايتلي بوضوح: «إن العصر المُظلم لليونان هو نِتاج تصوُّرنا الخاص.»10
وعلاوةً على ذلك، إذا تذكَّرنا أن مرحلة ألفا من الدورة التكيفية تُعَد «مرحلة إعادة التنظيم» ووقتًا «خلاله تكون الابتكارات والفُرَص الجديدة مُمكنة»؛ فمن المناسب أن نلاحظ أن جون بابادوبولوس من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس أشار على وجه التحديد إلى وجود «عددٍ ملحوظ من «الابتكارات»» خلال هذه الفترة في اليونان، عدد كبير للغاية، في الواقع، بحيث لا يكون مقبولًا أن نُسمِّيها العصر المُظلم. ومن بين هذه يُدرِج بابادوبولوس مفاهيمَ وابتكاراتٍ ظهرَت خلال تلك القرون، إضافةً إلى تلك التي ستؤتي ثمارها لاحقًا، ولكنْ يجب أن تكون قد بدأت في التطوُّر خلال هذه الفترة. تشمل هذه التطوُّرات محو الأمية الجماعي («لأول مرة في تاريخ العالَم، أصبحت الكتابة أداةً يمكن لأيِّ شخصٍ استخدامها») والذي جاء مع إدخال الأبجدية الفينيقية؛ واختراع العُملة، الذي بدأ في ليديا في القرن السابع قبل الميلاد؛ وإنشاء دويلات المدن اليونانية؛ وبطبيعة الحال، استخدام الأدوات والأسلحة الحديدية.11 ويقول بابادوبولوس أيضًا، على وجه التحديد، إن «حقيقة أنَّ عصرًا يُطلَق عليه «العصر المظلم» يُعلَن عنه من خلال ابتكار تكنولوجي فريد من نوعِه مثل الاستخدام الواسع النطاق للحديد في البر الرئيسي اليوناني، أمرٌ مُهم في حدِّ ذاته.» بالتحديد، يُلاحِظ أيضًا، أنَّ «اليونانيين أنفسهم لم يعرفوا عصرًا مُظلمًا»، ويتساءل: «لماذا لا نثِق في حُكمهم الأكثر صوابًا؟»12

حقًّا، لِمَ لا نثق في حُكمهم الأكثر صوابًا؟ أظنُّ أنه قد حان الوقت أن يشير الجميع، ليس فقط الأكاديميون ولكنْ عامة الناس أيضًا، إلى القرون من الثاني عشر إلى الثامن قبل الميلاد في منطقتَي بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسط بأنها العصر الحديدي وليس العصر المظلم، مثلما يُشير العلماء الآن على نحوٍ أكثر شيوعًا إلى «العصر المظلم» الآخَر الذي يشير إليه قاموس «ميريام وبستر» — أي القرون التي أعقبَت سقوط روما — إما باسم «العصور القديمة المتأخِّرة» أو «العصور الوسطى المبكرة». لم تكن الفترة التي أعقبَت انهيار أواخر العصر البرونزي محرومةً تمامًا من الإبداع والاختراع، كما رأينا بأنفُسنا، وكما أشار بابادوبولوس وآخَرون. وعلى الرغم من وجود انقطاعٍ جلي بشكلٍ عام مع الفترة السابقة؛ فمن الواضح أنها أيضًا فترةُ انتقال وتعديل، تنطوي على التحول بقدْر ما تنطوي على التجديد. في كنعان وسوريا والأناضول وقبرص وأماكن أخرى، على سبيل المثال، كانت هناك ممالك جديدة، من بينها إسرائيل ويهوذا وأدوم وموآب وأورارتو؛ لقد كانت هناك نُخَبٌ جديدة قائمة، واقتصادات مركزية جديدة، وإدارات جديدة؛ وفي بعض الحالات، الآن، كان هناك نظام كتابة جديد يمكن استخدامه أثناء الارتقاء الطويل للعودة إلى نظامٍ عالمي ذي صبغة دولية في هذه المنطقة. باختصار، كانت بوجهٍ عام فترةَ انبعاثٍ وتجديد أكثر من كونها فترةَ ظلام ويأس.

لذلك، فإن تسمية هذه الفترة ببساطة بالعصر الحديدي، كما يفعل علماء الآثار وغيرهم من الأكاديميين، هي الأكثر منطقيةً. إنها تسمية لا تنطوي على أي قدْح، وليس لها أي ارتباطاتٍ اجتماعية أو اقتصادية واضحة، وهي تعبير بسيط عن حقيقة مفادها أنَّ الكثير من الأدوات والأسلحة خلال هذه الفترة كانت مصنوعةً من الحديد وليس البرونز.13 وباعتبارها مرحلةَ ألفا من الدورة التكيفية في هذه المنطقة، وليست عصرًا مظلمًا، كانت هذه الفترة بدايةً لشيءٍ جديد؛ مجموعة من الأفكار والثقافات التي أدَّت في النهاية إلى العالَم الذي ننتمي إليه الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥