الفصل الثاني

فاتح كل الأراضي، المُنتقِم لآشور

(آشور وبلاد بابل)
«قاتلُ جحافل الأخلامو المنتشرة على نطاق واسع، ومشتِّت قوَّاتهم … فاتحُ كل الأراضي، المُنتقم لآشور!» هكذا وصَفَ آشور-ريش-إيشي الأول، ملك آشور من ١١٣٣ إلى ١١١٦ قبل الميلاد، نفْسَه بفخرٍ على العديد من شظايا المخاريط الطينية التي عُثر عليها في موقع نينوى في بلاد الرافدين القديمة.1 وبفضله وبفضل تفاخُره، نمتلك أولَ سجلاتٍ ملكية مكتوبة في آشور بعد انهيار العصر البرونزي.
«الأخلامو» الذين يُشير إليهم معروفون اليوم على نطاقٍ واسع باسم الآراميين. ولعلَّ أكثر ما اشتهروا به هو ذِكرهم في الكتاب المقدَّس العبري، حيث أعلن إبراهيم في جملته الشهيرة: «آراميًّا تَائِهًا كَانَ أَبِي» (سِفر التثنية، الإصحاح ٢٦: الآية ٥). وفي نهاية المطاف أصبحَت لُغتهم، الآرامية، هي اللغة المشتركة في مختلف أنحاء الشرق الأدنى، ولكنَّ هذا لم يحدث إلا بعد عدَّة قرون في المستقبل.2
ويُعتقَد أنَّ هؤلاء الآراميين الرُّحَّل أو شبه الرُّحَّل تأثروا إلى حدٍّ كبير بالظروف المناخية والبيئية الجديدة في المنطقة؛ على سبيل المثال، توقُّف هطول الأمطار في بلاد الرافدين فضلًا عن تغيُّر المجرى الرئيسي لنهر الفرات، الذي تحول إلى الغرب في هذا الوقت تقريبًا. وقد أدَّى هذا إلى انخفاضٍ في الأراضي المتاحة للري وزيادة ملوحة التربة في شمال بلاد الرافدين.3 ونتيجةً لذلك، بدءوا في شنِّ غاراتٍ ومهاجمة المدن والبلدات في المناطق التي يسيطر عليها الآشوريون، والتي تأثرت أيضًا بالتحول نفسه، في الظروف الخاصة بالأراضي الصالحة للزراعة، وكانت بالمِثل أكثر فقرًا من ذي قبل.
وعلى الرغم من تفاخُره، على ما يبدو، فلم تكن هزيمة آشور-ريش-إيشي للآراميين حاسمة؛ حيث اضطُرَّ ابنه، تِغلث-فلاسر الأول، إلى مُحاربتهم أيضًا في وقتٍ لاحق. ظلَّ الآراميون يشكلون مشكلة للآشوريين منذ القرن الثاني عشر فصاعدًا، وفي نهاية المطاف، بحلول القرن التاسع قبل الميلاد، تمكنوا، كما قال نيكولاس بوستجيت من جامعة كامبريدج، من تأسيس «سلالات حاكمة صغيرة» في جميع أنحاء المنطقة.4

•••

بدأ حُكم آشور-ريش-إيشي ببساطةٍ كبيرة بأنشطة البناء في مواقع آشور (شمال تكريت المعاصرة مباشرةً) ونينوى (الآن تحت سيطرة المَوصل المعاصرة، على الضفة الشرقية لنهر دجلة). وهناك بَنى المعابد والقصور، إضافةً إلى ترسانة مُحتمَلة.5
ربما استُخدِمَت الترسانة على الفور، حيث يدَّعي من بين إنجازاته أنه قاوم بنجاحٍ الهجماتِ التي شنَّها ملكٌ بابلي يُدعى نبوخذ نصر الأول، الذي حكَمَ من ١١٢٥ إلى ١١٠٤ قبل الميلاد. ومع أن نبوخذ نصر هو الذي بدأ الأعمال العدائية، فإنه خسر أمام آشور-ريش-إيشي والآشوريين ليس في مناسبةٍ واحدة فحسب، بل في مناسبتَين منفصلتَين. ففي المرة الأولى، اضطر نبوخذ نصر إلى حرق آلات الحصار التابعة له أثناء انسحابه، حتى لا تقع في أيدي الآشوريين. وفي المرة الثانية نُقِش أن آشور-ريش-إيشي «قاتلَ نبوخذ نصر، وألحقَ به هزيمةً كاملة، وذَبَحَ قواته واستولى على مُعسكَره. كما استولى على أربعين من عرباته ومعدَّاته، وأُسِر كاراشتو (؟)، قائد نبوخذ نصر الميداني».6
ونحن نعلَم هذا مما يُسمَّى «التاريخ المتزامِن»، وهو جزء من سلسلةٍ من النصوص المعروفة باسم «أخبار الأيام الآشورية والبابلية» أو ببساطة «أخبار أيام بلاد الرافدين». هذه هي السجلَّات التي تسرد الأحداث التي وقعَت في كلٍّ من آشور وبلاد بابل، مع تحديد تواريخ للأحداث المُرتبطة بكلٍّ منهما. وقد كُتبَت بضمير الغائب، أي كملاحظاتٍ مُحايدة، وكانت جزءًا من جهدٍ من جانبِ مؤرِّخين مُعاصرين، أو مُعاصرين نسبيًّا، لمزامنة سجلَّات المنطقتَين. واليوم يضع المؤرخون القدماء، الذين يدرسون الألفية الثانية والألفية الأُولى قبل الميلاد في هذه المنطقة، جهودَهم موضعَ تقديرٍ كبير.7
إضافةً إلى ذلك، تأتي بعض أهم المعلومات لدَينا من الروايات التي تصِف إنجازات كل ملك، غالبًا، سنةً بسنة. إنها تُعرَف الآن باسم «الحوليَّات الملَكية الآشورية»، وقد كُتبَت كما لو كان الملك نفسه هو المؤلف (على الرغم من أن الكتبة هم في الواقع من قاموا بالعمل الفعلي)، وسجلوا حملاته وإنجازاته الأخرى، وروايات البناء، وما إلى ذلك. ومن هذه النصوص نستطيع أن نستنتج تفاصيلَ مهمَّة، مثل عدد القوات المشارِكة في إحدى المعارك وعدد الأشخاص الذين قُتِلوا أو أُسِروا، وإن كان لا بدَّ من التعامُل مع هذه النصوص بحذرٍ شديد، لأنها مليئةٌ بالمبالغة، وقد تكون الأرقام مُبالغًا فيها. كما قد تختلف التفاصيل الخاصة بكلِّ عامٍ حسب النقش؛ لأن النُّسَخ لم تكن دائمًا نُسخًا مُطابِقة، ولكنَّ هناك شيئًا واحدًا ثابتًا ومُتسقًا دائمًا؛ وهو أنه من الواضح أن الملوك الآشوريين لم يُهزَموا قَط، وهو ما يبدو صعبَ التصديق.8 ومن الواضح أن النصوص كانت دعايةً بقدْر ما كانت تسجيلاتٍ لأحداثٍ تاريخية.
وتتضمَّن السجلات الملكية الأخرى في نهاية المطاف نقوشًا ضخمة تُصوِّر مشاهد المعارك ورحلات الصيد والملك وهو يتلقَّى الجزية. وكثيرًا ما كانت هذه النقوش توضَع على جدران قصورهم، ولكن كان من المُمكن أيضًا أن تُنقَش على أي شيء، من قواعد العرش والشواهد الضخمة إلى واجهات المنحدرات الطبيعية على ضفاف الأنهار المختلفة. وكانت هناك أيضًا وثائقُ إداريةٌ مكتوبة على ألواحٍ طينية، تضمَّنَت رسائلَ ومعاهداتٍ دبلوماسيةً وإيصالاتٍ وتقارير تُنذر بالسوء وما شابه ذلك.9
ويمكن الحصول على معلوماتٍ إضافية من الإصدارات المختلفة لمَا يُعرف ﺑ «قائمة الملوك الآشوريين». وتزعم هذه القائمة الأخيرة، التي تبدو غير معقولة في الأقسام الخاصة بتاريخ آشور المُبكِّر، ولكنها أكثر مصداقيةً في الأجزاء اللاحقة؛ أنها تذكُر أسماء جميع الملوك الآشوريين من أول مَن «عاشوا في خيام» حتى نهاية عهد شلمنصر الخامس في عام ٧٢٢ قبل الميلاد. إضافةً إلى ذلك، هناك أيضًا ما يُسمَّى ﺑ «سجلات الأسماء»، وهي سجلاتٌ تتضمَّن إشاراتٍ مُوجَزة إلى الأحداث التي وقعَت في عامٍ تقويمي مُعين (كلُّ عام مرتبط باسمِ مسئولٍ آشوري مُعيَّن يُعرَف باسم «ليمو»، بحيث يعرف الجميع أيَّ عام كان) وقد تكون أكثرَ موثوقيةً من أيٍّ ممَّا سبق.10

بعض هذه الأنواع من السجلات لا تبدأ إلا في وقتٍ لاحق، مثل النقوش الضخمة على جدران القصور الآشورية، والتي لم تبدأ في الظهور بانتظامٍ إلا في القرن التاسع قبل الميلاد، لكنَّ البعض الآخَر يبدأ في وقتٍ سابق، من ذلك ما كان خلال القرن الثاني عشر قبل الميلاد. كل هذا يزوِّدنا بوفرةٍ من المعلومات التاريخية، ولكنْ مرةً أخرى، يجب أن نكون حَذِرين بشأن قَبول التفاصيل دون تمحيص. ما مِقدار ما يمكن أن نُصدِّقه؟ وما مقدار ما يُعتبر مبالغةً من جانب الملك وكتَبَته؟ وما مقدار ما هو صحيح وما مقدار ما هو «صحيح ولكنْ مُبالَغٌ فيه»؟

ما برحنا نحصل على هذه الأنواع من الأدلة المادية منذ أكثر من قرنٍ من الزمان حتى الآن، منذ الأيام الأولى للتنقيب الأثري في بلاد الرافدَين الذي أجراه رُوَّاد مثل أوستن هنري لايارد، وبول إميل بوتا، وهرمز رسام. لم تكن أساليبهم مقبولة دائمًا، من تقنياتهم في التنقيب إلى التوجُّهات الاستعمارية للأثريين غير المَحليين، لكنَّهم كشفوا عن المدن المدفونة في آشور وبلاد بابل، والتي لم تكن معروفةً إلا من الكتاب المقدَّس العبري في ذلك الوقت، وأخرجوا قصصَها إلى النور.11
ومع ذلك، وكما هو الحال دائمًا في التعامُل مع مثل هذه العصور القديمة، وخاصة تلك التي نحصل على آثارها عن طريق التنقيب الأثري والأثريين، فإننا نواجِه مشكلاتٍ مع تبايُن المصادر. إن طبيعة الحفظ تعني أن مصادرنا غالبًا ما تقتصر على السجلات الحكومية، أو الأرشيفات التي يحتفظ بها التجار أو الحكام من أعلى مستويات المُجتمع، مع أننا نحصل أحيانًا على بياناتٍ دقيقة، مثل غلة المحاصيل في عامٍ مُعين. في أغلب الأحيان، إذا كنا نمتلك معلوماتٍ حقيقية عن الظروف الاقتصادية أو الاجتماعية، فإنها تكون في إطار الأزمات أو الانتصارات التي حقَّقها الملك. ومع ذلك، فإن هذا يُزوِّدنا ببعض المعلومات عن الحياة اليومية في ذلك الوقت، ولكن فقط في بعض الأحيان.12

ولذلك، فإننا عادة لا نستطيع مناقشة مثل هذه الأمور إلا على مستوى الدولة، وليس على أدنى مستويات المجتمع؛ وذلك لأننا ببساطة لا نملك السجلات المكتوبة عن هذه المستويات، وحتى البقايا الأثرية لا تقدِّم دائمًا بياناتٍ واضحة عن الشعوب الأكثر فقرًا. ولكنْ، باستثناء الظروف غير العادية، فإننا عادةً لا نمتلك أيضًا سجلاتٍ تُوضِّح كيف تفاعَلَ الملوك أو رؤساء البلديات أو غيرهم من الحكَّام مع الكوارث. ورغم أن لدَينا أدلةً على بضع حالات محدَّدة حيث طلَبَ الملك الحيثي أو الأوغاريتي المساعدةَ أثناء مجاعةٍ أو ذَكرَ رؤية سفن أو قوَّاتٍ معادية؛ فإننا كثيرًا لا نستطيع أن نرى إلا النتيجة النهائية، والتي مِن الواضح أنها حدثت بسبب كيفية تفاعُلهم (أو عدم تفاعُلهم)، وإن كان تفاعُلهم ناجحًا أم لا.

على أي حال، ربما يكون نبوخذ نصر الأول قد تعلَّم شيئًا من هزيمتَيه الأُولَيين على يد آشور-ريش-إيشي والآشوريين؛ لأنه قام بعد ذلك بحملاتٍ ناجحة على العيلاميين المُجاورين، الذين كانوا قد هاجموا بابل وسرقوا نسخةً من قانون حمورابي وتمثالًا لمردوخ قبل عدَّة عقود. لكنَّ النصر لم يكُن سهلَ المَنال. فقد كان لا بد من إيقاف حملةٍ مبدئية عندما اجتاح وباء الطاعون القوات البابلية أثناء توجُّهها إلى عيلام. تروي قصيدةٌ لاحقة القصةَ من وِجهة نظر نبوخذ نصر. يقول نبوخذ نصر: «لقد أهلك إيرا، أعظم الآلهة، مُحاربِيَّ. لقد أضعف فِرَق خيلي … كان شيطان يقتُل خيولي الجميلة … فأصبحتُ خائفًا من الموت، ولم أتقدَّم إلى المعركة، بل عدتُ أدراجي.»13
كانت الحملة الثانية أكثر نجاحًا. فقد سجَّل نقش تُركَ على حجر «كودورو»، وهو نوع معروف من علامات الحدود الحجرية (الرمزية) التي توجَد غالبًا في سياقات المعابد، هبةً عبارة عن أرضٍ وإعفاءات مختلفة، منحَها نبوخذ نصر الأول لشخصٍ يُدعى شِتي مردوخ، أحد الضباط المشاركين في هذه المحاولة الثانية ضد عيلام. ويتضمَّن النقش وصفًا مُفصَّلًا للزحف إلى عيلام ثم المعركة التي قاتل فيها شِتي مردوخ ببسالة من مركبته على ميمنة الملك.14
وقع الهجوم المفاجئ في شهر يوليو، عندما لم يكن العيلاميون يتوقَّعونه على الإطلاق. وكانوا مُحقِّين في ذلك؛ لأن الزحف إلى عيلام كان أشبهَ بالزحف إلى بوابات الجحيم. فقد قيل لنا إن وهَج الشمس «كان يحرق كالنار»، وإن المسارات التي كانت القوات البابلية تسير فيها «كانت تحترق كنيران مكشوفة!» ولم يكن هناك ماء في الآبار ولا أيُّ أماكن أخرى يُمكنهم منها إرواء عطشهم. «لقد تخاذلَت أروع الخيول العظيمة، وترنَّحَت أرجُل الرجال الأقوياء»، هكذا جاء في النقش، ولكن نبوخذ نصر وجيشه واصلوا مسيرتهم. «وهكذا سارَعَ الملك الجبار، ووصل إلى ضفةِ نهر أولاي. وتواجَهَ الملِكان هناك وخاضا معركةً. واندلعَت بينهما معركةٌ حامية، وأظلَمَ وجه الشمس بسبب غبارهما المتصاعد، وهبَّت زوابع، وثارت العاصفة! وفي عاصفةِ معركتهما لم يكن المحارب في المركبة يستطيع أن يرى المحارب الآخَر الذي إلى جانبه.» وفي النهاية، هُزمَ جيش العيلاميين، و«اختفى» مَلِكهم، و«هكذا انتصر الملك نبوخذ نصر، واستولى على عيلام، ونهب مُمتلكاتها.»15
ومع أن نبوخذ نصر الأول لم يَستَعِد لوحة حمورابي؛ فإنه أعاد تمثال مردوخ الذي سُرِقَ. وبسبب هذا الفعل، ظلَّ يُذكَر في سجلَّات البابليين لأجيال. في الواقع، وجَّه نبوخذ نصر ضربةً قاسية للعيلاميين لدرجة أنه لم يعُد هناك أيُّ سجلات مكتوبة أو أدلةٍ أثرية تُذكَر عن العيلاميين لعدَّة مئات من السنين التالية. لقد أظهروا قدْرًا من المرونة في المراحل الأولية من انهيار أواخر العصر البرونزي، لكنهم سقطوا بقوة بعد هذه الهزيمة العسكرية. ولم يلعبوا دورًا رئيسيًّا في السياسة الدولية مرةً أخرى حتى أواخر القرن الثامن قبل الميلاد.16

•••

بوجهٍ عام، أثبت الآشوريون والبابليون أنهم من بين المجتمعات المتضرِّرة الأكثر مرونةً ونجاحًا في تحمُّل عواقب الانهيار. لقد تمكَّنوا من الاحتفاظ بمعرفتهم بالكتابة، وإنجاز مشاريعِ بناءٍ ضخمة، وإبقاء أنظمة حُكمهم في مكانها. ومع ذلك، حتى همْ لم ينجوا من الأذى. على سبيل المثال، تُشير الأدلة الأثرية — التي حصلنا عليها من عمليات المسح الأثري في منطقة بابل القديمة — إلى أنه ربما كان هناك انخفاضٌ في عدد السكان بنسبةٍ تصِل إلى ٧٥ في المائة خلال الثلاثمائة عام التي بين الانهيار، في نهاية العصر البرونزي، وبداية النهضة البابلية بعد عام ٩٠٠ قبل الميلاد.17
إضافةً إلى ذلك، وفقًا لإيه كيرك جريسون — وهو باحث مشهور في جامعة تورنتو، كان مسئولًا عن نشر جميع النقوش الملكية الآشورية المعروفة في سلسلة من المُجلدات التي ظهرَت من أواخر ثمانينيات القرن العشرين فصاعدًا — لا توجد تقريبًا أيَّ نقوشٍ ملكية ترجع إلى فترة الخمسة والسبعين عامًا من نهاية حُكم توكولتي-نينورتا الأول في عام ١٢٠٨ قبل الميلاد حتى عهد آشور-ريش-إيشي الأول. ومن المُدهش جدًّا أنه لا توجَد مثل هذه النقوش الملكية التي تركها لنا ملكٌ يُدعى آشور-دان الأول، الذي حكَمَ خمسين عامًا تقريبًا خلال هذه الفترة، من ١١٧٩ إلى ١١٣٣ قبل الميلاد.18
قد يكون من الواجب علينا أن ننظر إلى هذا الافتقار إلى السجلات الملكية خلال هذه الفترة كعلامةٍ على أنَّ الآشوريين تأثروا بالانهيار في نهاية العصر البرونزي أكثر ممَّا كنَّا نظنُّ. ومع ذلك، لا يُمكننا أن نعرف هذا على وجه اليقين، خاصة وأنهم ربما كانوا يكتبون على موادَّ قابلةٍ للتلفِ مثل الجِلد أو الخشب أو شرائح الرصاص، حتى لو كانوا قد توقَّفوا مؤقتًا لسببٍ ما عن تسجيل النقوش الملكية على الحجر. من ناحيةٍ أخرى، يُشير إيكارت فرام، عالِم الآشوريات في جامعة ييل، إلى أنَّ النقوش الملكية كانت تُكتب عادةً على الحجَر أو الطين؛ لذا فقد تكون الفجوة ذات مغزًى بالفعل.19
لحُسن الحظ، كما ذكرنا، تبدأ السجلَّات الملكية الآشورية مرةً أخرى مع حُكم آشور-ريش-إيشي الأول، في وقتٍ ربما كان فترةَ هُدنة، مدةَ خمسين عامًا، للجفاف الذي كان يؤثِّر على منطقتَي شرق البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجه بالكامل؛ وسأناقش هذا الأمر بمزيدٍ من التفصيل أدناه.20 وإذا كان الأمر كذلك، فسيكون آشور-ريش-إيشي الأول قد استفاد من هذه الهدنة المناخية المؤقَّتة.

(١) تِغلث-فلاسر الأول

خَلَفَ آشور-ريش-إيشي ابنُهُ تِغلث-فلاسر الأول الذي اعتلى العرش الآشوري في عام ١١١٥ قبل الميلاد. واستمر حُكمه قرابة أربعين عامًا، حتى عام ١٠٧٦ قبل الميلاد. وتفاخر بتصريحاتٍ مُماثِلة لتصريحات والده، حيث صرَّح في إحدى المرات أنه عَبَر نهر الفرات ثمانيًا وعشرين مرة؛ مرتَين في العام مدةَ أربعة عشر عامًا، مُلاحِقًا الآراميين. كما صمد، مثل والده، في وجه هجومٍ أو اثنين من البابليين، من بينهما الهجوم مرةً أخرى من نبوخذ نصر الأول.21
نحن نعرفه إلى حدٍّ ما بسبب النقوش العديدة التي تركها كتَبَته والتي تصِفُ بَسالته، والتي ربما يكون الكثير منها مبالَغًا فيه:
تِغلث-فلاسر، الملك القوي، ملك الكون، ملك آشور، ملكُ جميع الجهات الأربع، محاصِرُ جميع المجرمين، الشاب الجسور، الرجُل الجبَّار الذي لا يرحم والذي يعمل بدعمٍ من الإلهَين آشور ونينورتا، الإلهَين العظيمَين، سيدَيه، و(بهذا) أسقَطَ أعداءه، الأمير اليقِظ الذي، بأمر الإله شَمَش المُحارِب، غزا من بابل أرضَ أَكد إلى البحر العلوي لأرض أمورو وبحر أراضي نيري وأصبح سيدًا للجميع … إنه مقاتل لا يُشَق له غبار أرهبَت معاركه الشرِسة جميعَ أمراء الجهات الأربع حتى إنهم لجَئُوا إلى مخابئَ مثل الخفافيش واندفعوا بعيدًا إلى مناطقَ يصعب الوصول إليها، مثل الجربوع [وهو حيوان قارضٌ صحراوي صغير قافز].22
كما سجَّل الكتبة، على العديد من المنشورات الطينية المُثَمَّنَة وبتفاصيل كبيرة، وفي كثيرٍ من الأحيان، مروِّعة؛ ما فعَلَه تِغلث-فلاسر الأول بجنود العدُوِّ التعساء الذين لم يختبئُوا أو يندفعوا بعيدًا إلى مناطق يصعب الوصول إليها، بعد هزيمتهم في المعركة. على سبيل المثال، بعد أن تغلَّب على تحالُف من خمسة ملوك وجيشهم المشترَك المكوَّن من عشرين ألفَ رجُلٍ في معركةٍ خاضها خلال السنة الأُولى من حُكمه، يصِفُ أحد النقوش كيف شرَعَ في تدنيس الجثث ونهْبِ ممتلكاتهم وأسْرِ الباقين: «مثل شيطانٍ عاصف، كدَّستُ جثثَ محاربيهم في ساحة المعركة وجعلتُ دماءهم تتدفَّق في جوف الجبال وسهولها. قطعتُ رءوسهم وكدَّستها مثل أكوام الحبوب حول مدنهم. وأخرجتُ غنائمهم وأموالهم ومُمتلكاتهم التي لا تُعدُّ ولا تُحصَى. وأخذتُ الستة آلاف الباقين من قوَّاتهم الذين كانوا قد فرُّوا من أسلحتي واستسلموا لي واعتبرتُهم مثل أهل أرضي.»23 ثم يستمر النقش على المنوال نفسه، واصفًا الانتصارات على العديد من المجموعات الأخرى، ذاكرًا كلًّا منها بالاسم، والتي تمتدُّ على نطاقٍ واسع في أجزاء مما يُعرَف حاليًّا بتركيا والعراق والمناطق الساحلية في بلاد الشام.24
إضافةً إلى ذلك، كانت اللعنات التي أمَرَ تغلث-فلاسر الأول الكتَبَة بإضافتها في نهاية هذا النقش الطويل؛ كافيةً لإثارة حيرةِ أيِّ شخص. لقد وجَّه هذه اللعنات إلى كلِّ مَن «يكسر أو يمحو نقوشي التذكارية أو الطينية، أو يرمِيها في الماء، أو يحرقها، أو يُغطيها بالتراب … مَن يمحو اسمي المنقوش ويكتب اسمه، أو مَن يتصور أيَّ شيءٍ ضارٍّ ويضعه موضعَ التنفيذ بما يضرُّ بنقوشي التذكارية.» ومُستعينًا بالإلهَين أنو وأداد في لَعْن الجاني المُحتمَل، الذي افترض أنه سيكون ملكًا أو حاكمًا في المستقبل، كتَبَ بعد ذلك: «فلْيُسقِطا مُلكَه. ولْيقتلِعا أُسس عرشه الملكي. ولْيقضِيا على سلالته النبيلة. ولْيُحطِّما أسلحته، ولْيجلبا الهزيمة لجيشه، ولْيجعلاه يجلس مكبَّلًا بالأغلال أمام أعدائه. ولْيضرب الإله أداد أرضه ببرقٍ رهيب، ويُصِبْها بالضنك والمجاعة والفقر والطاعون. ولْيأمُر بألَّا يعيش يومًا واحدًا آخَر. ولْيدمِّر اسمه ونسله من الأرض.»25 وفيما يتَّصل بالآراميين تحديدًا، يشير أحد النقوش المُبكرة إلى أن تغلث-فلاسر الأول غزا ستًّا من مدنهم، فأحرقها عن بكرة أبيها ونهَبَ ممتلكاتهم. ذبح أيضًا الكثير من قواتهم، وطاردهم عبْرَ نهر الفرات على طوَّافات مصنوعة من جلود الماعز المنفوخة.26
ورغم أن الآراميين كانوا من أخطر خصوم الآشوريين في ذلك الوقت، وكثيرًا ما كان يُنظَر إليهم باعتبارهم العدوَّ اللدود للملك الآشوري، وخاصة خلال السنوات الأُولى من حُكم تِغلث-فلاسر الأول؛ فإنهم لم يكونوا خصومَه الوحيدين. إذ يزعم تِغلث-فلاسر في النقش المبكر نفسه أنه سيطر على مجموعةٍ متنوعة من الأراضي والجبال والمدن والأمراء الآخَرين الذين كانوا أيضًا مُعادِين له ولآشور. وقد تفاخَرَ قائلًا: «تنافستُ مع ستِّين رأسًا متوجًا وحققتُ النصر عليهم في المعارك، فأضفتُ أراضيَ إلى آشور وشعبًا إلى سكانها. ووسَّعتُ حدود أرضي وحكمتُ كلَّ أراضيهم.»27
fig10
شكل ٢-١: منشور طيني لتِغلث-فلاسر الأول. المتحف البريطاني رقم ٩١٠٣٣. الصورة بإذنٍ من المتحف البريطاني.

وفي نقوشٍ أخرى تشمل سلسلةً من الألواح الطينية فضلًا عن شظايا مسلَّات عثر عليها الأثريون في موقع آشور، إضافةً إلى ما يُسمَّى «المسلة المكسورة» التي عُثِرَ عليها في نينوى والمؤرخة حاليًّا بأنها تعود إلى عهده؛ يصف تِغلث-فلاسر إعادةَ بناء العديد من القصور والمباني الأخرى وترميمها في آشور وأماكن أخرى، فضلًا عن حفر الخنادق والقنوات المُهمَلة منذ فترةٍ طويلة. كما وثَّق المزيد من الحملات، من بينها حملات في ما يُعرف الآن بسوريا ولبنان غربًا. وقتَلَ و/أو أسَرَ ثيرانًا بريَّة وأفيالًا وأسُودًا عند سفح جبل لبنان وأماكنَ أخرى، فضلًا عن النمور والدِّببة والخنازير البرية والنعام؛ وقطَعَ عوارض الأَرز وأخذها لاستخدامها في معبدٍ في بلاده، ثم واصَلَ طريقه إلى أرض أمورو (شمال سوريا الساحلية) وغزاها.

كما تلقَّى الجزية من المدن الساحلية جبيل وصيدا وأرواد، حيث كان الفينيقيون يشرعون في الاستقرار، ويسرد هدايا كانت عبارةً عن حيواناتٍ غريبة، شملَت تمساحًا و«أنثى قردٍ كبيرة من ساحل البحر». ويوضَّح على «المسلة المكسورة»، وفي أماكن أخرى، أنَّ هذه الحيوانات السالفة الذِّكر أُعطِيَت له من فرعون مصري (ربما كان رمسيس الحادي عشر، آخِر ملوك الأسرة العشرين)، وأنها تضمَّنَت أيضًا «رجُل نهر»، والذي حُدِّدَ سابقًا على أنه جاموس مائي أو ربما فرس النهر ولكن أُعيد تحديدُه مؤخرًا على أنه من المُرجَّح أن يكون فقمةَ راهب متوسطية.28
ويقول تِغلث-فلاسر أيضًا إنه أبحر في رحلةٍ بالقارب ست ساعات أثناء وجوده في أرواد وإنه، أثناء وجوده في البحر، قتَلَ ««ناهيرو»، الذي يُطلَق عليه اسم حصان البحر.» وفي نقشٍ لاحق، يقول تحديدًا إنه قتَلَه بحربةٍ من صُنعه. ورغم وجود قدْرٍ لا بأسَ به من النِّقاش؛ فإن الباحثين لم يُقرِّروا بعدُ ما هو بالضبط «ناهيرو»، فقد اقترح بعضهم أنه كان نوعًا من الحيتان الصغيرة أو الفقمة أو سمك القرش، ولكنَّ نصًّا آخر يذكُر العاج من «ناهيرو»؛ لذا فإن هذا يُشير إلى أسنانٍ أو نابٍ من نوعٍ ما، وفي الواقع، قد يميل الرأي الحالي نحو تحديده على أنه فرس النهر.29

هذه هي المرة الأُولى التي تُذكَر فيها هذه المدن الساحلية الفينيقية في نقشٍ ليس من صُنعها منذ انهيار العصر البرونزي. إنني سأناقشها بمزيدٍ من التفصيل في الفصل التالي، ولكنْ في الوقت الحالي يمكننا وضعها في سياقها؛ لأن عالَم أواخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد الجديد كان مختلفًا تمامًا عن ذروة أواخر العصر البرونزي في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. في ذلك الوقت، كان ملوك آشور جزءًا من القوى العظمى، وتبادلوا الهدايا الملكية الضخمة مع ملوكٍ آخَرين، من مصر إلى حاتوسا، حين مارس الملوك الأصغر والأدنى شأنًا في جبيل وصيدا وصور وغيرها من المدن الكنعانية القريبةِ التجارة والدبلوماسية فيما بينهم ومع القوى العظمى. الآن، بوجود تِغلث-فلاسر الأول على رأس السلطة — وخاصةً في وقتٍ لاحق، من القرن التاسع فصاعدًا، كما سيتَّضح — أخذ الآشوريون ببساطة ما يريدون من الفينيقيين وغيرهم، إما عن طريق نهب المدن الأصغر المهزومة والاستيلاء على ما يحتاجونَه أو عن طريق فرض الجزية، أو بكلتا الوسيلتَين.

(٢) لم يعُدْ أحد يعيش هنا

في أواخر شهر أكتوبر من عام ٢٠٢١، نشَرَ صحفيان مقالًا في صحيفة «ذا واشنطن بوست» يصِفُ بعض المشكلات التي تواجه جنوب العراق حاليًّا. وكتبا: «لم يعُدْ أحد يعيش هنا. ومع تسبُّب تغير المناخ في ارتفاعٍ شديد في درجات الحرارة وندرة المياه في جميع أنحاء الشرق الأوسط؛ فإن الأرض هنا تجفُّ تدريجيًّا. وفي مختلف أنحاء جنوب العراق، هناك شعور باقتراب النهاية.»30
كان من المُمكن أن يصفا بالعبارات نفسها الوضع في آشور القديمة قبل ثلاثة آلاف عام؛ لأن الأمور بدأت في الانهيار قُرب نهاية حُكم تِغلث-فلاسر الأول، وبلغ الانهيار ذروته في غضون حوالي ١٥٠ عامًا من الانحدار قبل أن تبدأ الأمور في التعافي مرةً أخرى.31 كانت الأوقات الصعبة قد حَلَّت أخيرًا على الآشوريين، وعلى البابليين المُجاوِرين إلى الجنوب أيضًا. في الواقع، اقترح المؤرِّخ الإيطالي الموقَّر ماريو ليفيراني أنَّ الأزمة في بلاد الرافدَين كان ينبغي أن تبرُز في وقتٍ أبكر بكثيرٍ ولكنها تأخرَت أو أُرجِئَت بسبب زعماء أقوياء مثل تِغلث-فلاسر الأول في آشور ونبوخذ نصر الأول في بابل.32 لا شكَّ في أن جزءًا كبيرًا من المرونة الناجِحة لهذَين المُجتمعَين في أعقاب الانهيار مباشرةً كانت نتيجةً لوجود قادة مثل هؤلاء في مكانهم، خلال وقتِ احتياج هذَين المجتمعَين.

نعلم أن القوَّتَين استمرَّتا في التقاتُل، حتى مع معاناة كلٍّ منهما من الآثار الضارَّة للظروف البيئية. على سبيل المثال، شنَّ تِغلث-فلاسر الأول حملةً على بابل مرتَين في القرن الحادي عشر، فاحتلَّ عدة مدن وعاد بالغنائم إلى آشور. وقد ذُكِرَت على وجه التحديد في النقوش مدينتَا بابل وزقورة عقرقوف، اللتان وصفهما بأنهما «المدينتان العظيمتان في كاردونياش [بابل]، إلى جانب حصونهما.» وكان خصمه مردوخ-نادين-أخي، ملك بابل الذي حكَمَ من حوالي ١٠٩٩ إلى ١٠٨٢ قبل الميلاد والذي سبق أن أغار على مدينة إكلاتوم الآشورية، وسرق تماثيل إلهَين — أداد وسالا — وهي الفعلة التي استلزمَت حينئذٍ الانتقام.

يزعم تِغلث-فلاسر أنه هزَمَ مردوخ-نادين-أخي في المرتَين، واستولى على قصور بابل التي كانت مِلكًا للملك وأحرَقَها واستعادَ التماثيل. ومع ذلك، هناك الآن مؤشرات جيدة على أنَّ تِغلث-فلاسر ربما يكون في الواقع قد خسر المعركة الأولى من هاتَين المعركتَين، واللَّتَين قُتِل خلالهما اثنان من أبنائه، وأنه لم يهزم مردوخ-نادين-أخي إلا أثناء الحملة الثانية.33
إن تِغلث-فلاسر حتى لم يُعطِ تاريخًا محددًا لوقوع هاتَين المعركتَين، لكنهما أُرِّخَتا وفقًا للسنتَين اللتين تولَّى فيهما مسئولان مُعيَّنان منصبَيهما. كانت المرة الأولى خلال العام الذي سُمِّي على اسم مسئول يُدعى آشور-شوما-إيريش؛ وكانت المرة الثانية خلال العام الذي سُمِّي على اسم مسئول يُدعى نينوآيو. ونحن نعرف الآن أن هذين العامَين كانا على الأرجح عامَي ١٠٩٢ قبل الميلاد و١٠٩١ قبل الميلاد على التوالي، اللذَين كان من شأنهما أن يكونا العامَين الثاني والعشرين والثالث والعشرين من اعتلاء تِغلث-فلاسر العرش. ربما كان هناك أيضًا هجومٌ انتقامي شنَّه مردوخ-نادين-أخي بعد عدة سنوات، في عام ١٠٨٦ قبل الميلاد.34
في موطنه في آشور، بنى تِغلث-فلاسر قصرًا مذهلًا، يُقال إنه بُني بالكامل من خشب الأَرز من لبنان، وأُطلِقَ عليه اسم «قصر ملك كل البلاد». كما بنى معبدًا من أجل «أن» و«أداد»، وهما اثنان من آلهة آشور، إضافةً إلى عددٍ من المباني الأصغر، ومن ضمنها مبنًى أُقيم من خشب البقس فقط لتخزين أسلحته. كما أمر بإنشاء تمثال للناهيرو الذي قتلَه بحربةٍ في أمورو؛ وكان من المُفترَض أن يكون مصنوعًا من البازلت وكان من المُفترَض أن يكون بالحجم الطبيعي أو أكبر. وفي مدينة نينوى، أمر ببناء مبانٍ وقصور مُماثلة، فضلًا عن حديقةٍ ملكية وقناةٍ لريِّها.35

•••

تذكُر النصوص الآشورية من هذه الفترة على وجه التحديد هجماتٍ إضافية من الآراميين، فضلًا عن سلسلةٍ من الكوارث، لكننا نجد الآن أيضًا مؤشرات على مشكلاتٍ مناخية في هذه المنطقة، لأول مرة في هذه النقوش. على سبيل المثال، في نصٍّ يرجع تاريخه إلى عام ١٠٨٢ قبل الميلاد، خلال السنة الثانية والثلاثين من حُكم تِغلث-فلاسر الأول، يُقال لنا إنه كانت هناك مجاعةٌ شديدة لدرجة أن السكان لجئوا إلى أكل لحوم البشر؛ «أكل بعض الناس لحوم بعض»، كما ينصُّ المَدخَل ذو الصِّلة في «أخبار الأيام الآشورية». ينص المدخَل نفسه أيضًا على أن الآراميين «نهبوا [الأرض] واستولوا على الطُّرق وغزوا واستولوا على [العديد من المدن المحصَّنة] في آشور» في ذلك العام. ولقد اضطرَّ المواطنون الآشوريون إلى الفرار إلى الجبال الواقعة شمال شرق أربيل لإنقاذ حياتهم.36
وبعد ذلك، بعد ما بين عامَين وستة أعوام (١٠٨٠–١٠٧٦ قبل الميلاد)، في نهاية الحُكم الطويل لتِغلث-فلاسر، حدَثَ تلفٌ تام للمحاصيل. وقد ترافَقَ مع هذا غزوٌ آخَر من الآراميين، وهو أمرٌ غير مفاجئ على الأرجح؛ لأنهم لا بدَّ قد تأثَّروا أيضًا بالمجاعة وتلف المحاصيل. الأمر المدهش هو أنهم ربما أجبروا تِغلث-فلاسر نفسه على الفرار. تقول «أخبار الأيام الآشورية»: «لقد دُمِّرَت جميع محاصيل آشور. واخترَقَت «البيوتُ» الآرامية [أي، الغزاة] المنطقةَ المحيطة بنينوى وكليزي؛ وتراجع تِغلث-فلاسر، ملك آشور، إلى أرض كاتموهي.» تُعرَف منطقة كاتموهي (أو كاتموهو) عادةً بأنها منطقةٌ جبلية تقع بالقرب من مدينة مِديات المعاصرة فيما يُعرف الآن بكردستان التركية.37
نجا الآشوريون من المجاعة والجفاف والهجمات في نهاية حكم تِغلث-فلاسر الأول، ولكنَّ ذلك كان بدايةَ انحدارهم. وجاءت النهاية بعد حُكم أحد أبناء تِغلث-فلاسر الأول المُسمَّى آشور-بيل-كالا، الذي حكَمَ من حوالي ١٠٧٤ إلى ١٠٥٧ قبل الميلاد. وقد ترك لنا عددًا من النقوش (على الرغم من أنَّ عددها أقلُّ ممَّا كان يُظَنُّ سابقًا، حيث تمَّ إعادة نسب العديد منها مؤخرًا لتِغلث-فلاسر الأول). ففي حالة إذا رغب أيُّ شخصٍ في العبث بنقوشه في المستقبل، فقَدْ نُقشَ على ظَهْر أحد التماثيل لعنةٌ: «أمَّا مَن يمحو نقوشي واسمي، فإنَّ الآلهة السبعة، آلهة الغرب، سيُصيبونه بلدغةِ ثعبان».38
مع نهاية حُكم آشور-بيل-كالا نحو عام ١٠٥٧ قبل الميلاد، وبعد أن نجَحَ الآشوريون في تجنُّب انهيارهم مدةَ ١٢٠ عامًا بعد عام ١١٧٧ قبل الميلاد، أشار الباحثون إلى انتهاء ما يُسمَّى بالحقبة الآشورية الوسطى. كان الجفاف قد نال من آشور مرةً أخرى خلال حُكمه، في السنوات بين عامَي ١٠٦٠ و١٠٥٠ قبل الميلاد، مصحوبًا بأعمالِ تمرُّد والمزيد من الغزوات من الآراميين (الذين يُطلَق عليهم أحيانًا اسم السوتانيين في السجلَّات البابلية لتلك الفترة). وبعد ذلك، بدأ الجفاف يُذكَر كلَّ عشر سنوات بالضبط، في أعوام ١٠٤٠ و١٠٣٠ و١٠٢٠ و١٠١٠ قبل الميلاد، وفقًا لتقارير كلٍّ من الآشوريين والبابليين. كما كان هناك «اضطراب وفوضى» جاء مع الجفاف في عام ١٠٤٠ قبل الميلاد؛ والطاعون الذي صاحب الجفاف في عام ١٠١٠ قبل الميلاد؛ ثم المزيد من الضغوط والمجاعة إلى جانب الجفاف في عام ١٠٠٧ قبل الميلاد.39 وتمتد المرحلة التالية إلى عُمق القرن العاشر وتشتمل مرة أخرى على الجفاف والمجاعة والاضطرابات الاجتماعية والتَّفتُّت السياسي؛ وسأتناول هذا بمزيدٍ من التفصيل بعد قليل.

في المجمل، ربما لم يكن القرن الحادي عشر قبل الميلاد وقتًا مناسبًا للعيش في آشور أو بابل، سواء كنت آشوريًّا أو بابليًّا أو آراميًّا/سوتانيًّا. ومع ذلك، كان هناك ضوء في نهاية النفق، وإن كان بعيدًا، فعندما عاد الآشوريون إلى الظهور في الجزء الأخير من القرن العاشر قبل الميلاد، تحت إشراف ملِكَيهم آشور-دان الثاني وأداد-نيراري الثاني؛ بدءوا في تأسيس الإمبراطورية الآشورية الجديدة، والتي استمرَّت بعد ذلك في الهيمنة على الشرق الأدنى القديم مدةً تقترب من ثلاثمائة عام.

(٣) آشور وبابل في القرن العاشر قبل الميلاد

ومع ذلك، خلال الجزء الأكبر من القرن العاشر قبل الميلاد، لم تكن الأمور في آشور وبابل أفضل كثيرًا مما كانت عليه خلال القرن الحادي عشر. على سبيل المثال، بدءًا من حوالي عام ١٠٠٧ قبل الميلاد، وطوال العشرين عامًا التالية، يبدو أن هناك نقصًا في الحبوب في بلاد الرافدين. على وجه التحديد يذكُر نقشٌ مكتوب على حجر «كودورو» حدوديٍّ بابلي «الضنك والمجاعة في عهد الملك كاشو-نادين-أخي» (١٠٠٧–١٠٠٥ قبل الميلاد). ويُقال لنا إن «القرابين المنتظمة [للآلهة] توقفَت، وتوقفَت قرابين الخمور». ويبدو أن الأمور استمرَّت على هذا المنوال حتى عهد الملك التالي؛ لأنَّ النقش نفسه يُسجِّل أن كاهنًا من مدينة سيبار قال له: «لقد توقفَت قرابين المعبد لشَمَش [الإله الرئيسي].»40
ثم، خلال فترة دامت حوالي ثلاثين عامًا، من حوالي عام ٩٧٠ قبل الميلاد وما بعده، بدأ الآراميون في الهجوم مرةً أخرى، في مرحلةٍ ما، مدةَ تسع سنواتٍ متتالية. ونعرف أن هذا حدَثَ في عهد ملكٍ بابلي يُدعى نبو-موكين-أبلي (٩٧٨–٩٤٣ قبل الميلاد)، حيث تُسجِّل «أخبار الأيام البابلية» أنَّ «الآراميين كانوا عدوانيِّين، لذلك لم يتمكن الملك من الذهاب إلى بابل». وهناك أيضًا دلائل تشير إلى حدوث مجاعة في عام ٩٥٤ قبل الميلاد ثم مرة أخرى بعد حوالي خمسة عشر عامًا؛ حيث سُجِّلَت مجاعة أخرى وَجُوعٌ مصاحِب لها في حوالي عام ٩٤٠ قبل الميلاد.41
بدأ التعافي الآشوري أخيرًا مرةً أخرى في عهد الملك آشور-دان الثاني (٩٣٤–٩١٢ قبل الميلاد). بدأ آشور-دان الثاني ببطء مهاجمةَ الممالك الآرامية الصغيرة المختلفة واستعاد الأراضي الآشورية التي كانت قد فُقِدَت خلال القرن السابق. في حولياته، يفتخر آشور-دان الثاني كثيرًا بقوله إنه أعاد أيضًا الآشوريين الذين كانوا قد فرُّوا من المنطقة في وقتٍ سابق. وكتب: «لقد أعدتُ شعب آشور المُنهَك الذي كان قد هجر مُدنه ومنازله في مواجهة العوز والجوع والمجاعة، ووصلوا إلى أراضٍ أخرى. لقد أسكنتُهم في مدنٍ ومنازل مناسبة واستقروا في سلام.»42
واستمر التعافي في عهد خليفته أداد-نيراري الثاني (٩١١–٨٩١ قبل الميلاد)، الذي حقق نجاحًا كبيرًا لدرجة أنه بدأ في توسيع الأملاك الآشورية مرة أخرى، مما أدى في النهاية إلى الكيان العملاق الذي نُسميه الآن الإمبراطورية الآشورية الجديدة. كان يشنُّ حملات تقريبًا كلَّ عامٍ من الوحد والعشرين عامًا التي قضاها على العرش، غربًا على الآراميين، وجهة الجنوب الشرقي على بابل، وشمالًا.43
ويزعم تحديدًا أنه هزم ملكَين من بابل على التوالي وأنه غزا أرض هانيجلبات (المعروفة باسم مملكة ميتاني في أواخر العصر البرونزي) ما لا يقلُّ عن سبع مراتٍ مختلفة. واستولى على غنائم شملَت عرشًا ذهبيًّا وأطباقًا ذهبية مصقولة وحتى «خيمة ذهبية تليق بسلطانه، لم أحدِّد وزنها». كما قتل ٣٦٠ أسدًا من عربته الحربية، و٢٤٠ ثورًا بريًّا، و٦ أفيال أثناء رحلات صيدٍ مختلفة، وأعاد ترميم المعابد التي كانت بحاجةٍ إلى رعاية عاجلة، حسب نقوشه.44
الأمر المثير للاهتمام للغاية حول هذا التوقيت لبداية النهضة الآشورية الجديدة تحت حُكم هذَين الملِكَين هو أنه يتطابق تطابقًا جيدًا للغاية مع الأدلة الجديدة على أن المناخ تغيَّر للأفضل في هذا الوقت تقريبًا. تشير دراسة جديدة تستند إلى «سجلٍّ كهفي عالي الاستبانة ومؤرَّخ بدقَّة» من كهف كونا با، الواقع في منطقة كردستان في شمال شرق العراق على بُعد حوالي ثلاثمائة كيلومتر جنوب شرق نينوى، إلى أن الفترة من حوالي ٩٢٥ قبل الميلاد إلى ٧٢٥ قبل الميلاد كانت عصرًا أكثر رطوبةً بكثيرٍ من أيِّ عصرٍ شَهدَه الآشوريون منذ نهاية أواخر العصر البرونزي. وكما يلاحظ الباحثون، فإن هذه الفترة «متزامنة مع المراحل البارزة للتوسُّع الإمبراطوري الآشوري (حوالي ٩٢٠–٧٣٠ قبل الميلاد)» وشملَت «فترة ذروة أمطار، يُطلَق عليها هنا الأمطار الآشورية الغزيرة» والتي استمرَّت من ٨٥٠ إلى ٧٤٠ قبل الميلاد، وكانت واحدة من «أرطب الفترات في الأربعة آلاف عام الماضية» في تلك المنطقة.45 ويُمكننا أن نلاحظ أيضًا أنه لم يعُدْ هناك أي ذِكر في السجلات الآشورية للمجاعة أو الجفاف خلال هذه الفترة. وإذا كان في هذه النتائج الجديدة أيُّ مؤشر، فهو أنه لا شك في أن الآشوريين الجُدد لم يُضيعوا أيَّ وقتٍ من أجل أن يستفيدوا استفادةً كاملة من تغيُّر المناخ.

(٤) هرمز رسَّام وبوابات بَلاوات

لقد ظهرَت المعلومات حول المرحلة الكبرى التالية في نهضة الآشوريين الجدد جزئيًّا بسبب هديَّة غير عادية أُرسلَت في عام ١٨٧٧ إلى هرمز رسَّام، وهو عالِم آثار عراقي من المَوصل تدرَّب على يد العالِم البريطاني الشهير أوستن هنري لايارد. كان رسَّام يعيش في لندن في ذلك الوقت، في شِبه تقاعُدٍ بعد مسيرةٍ مهنية متميزة. وعندما فتح طردًا أرسلَه له صديق في العراق، وجَدَ أنه يحتوي على شظايا برونزية هشَّة، منقوشة بمَشاهِد لمحاربين ومكتوبة بنصوصٍ موجزة. قال الصديق إن أحد سكان القرية المحليين عَثرَ على هذه القطع أثناء حفر قبرٍ في موقعٍ صغير يُسمَّى بَلاوات، والذي يُعرف الآن باسم إمجور-إنليل القديم، ويقع على بُعد حوالي سبعة عشر ميلًا (سبعة وعشرين كيلومترًا) جنوب شرق الموصل.46

وفي العام التالي، عندما طلَبَ المتحف البريطاني من رسَّام الخروجَ من حالة شِبه التقاعُد والعودة إلى العراق لإجراء عمليات تنقيب في نينوى، وافَقَ على أن يفعل ذلك وانتهز الفرصة لإجراء بعض الحفر الاستكشافي في بَلاوات أيضًا. اتضح أن القطع المُتناثرة التي كانت قد أُرسِلَت إليه كانت من الجزء العلوي من سلسلةٍ من الأشرطة البرونزية التي كانت قد عُلِّقَت في الأصل كزينةٍ ببابَين خشبيَّين كبيرَين، يبلغ ارتفاع كلٍّ منهما عشرين قدمًا وعرضه ثماني أقدام. كان البابان جزءًا من بوابةٍ تقع عند مدخل قصر في الموقع، كان قد بناه شلمنصر الثالث، الذي حَكمَ آشور خلال القرن التاسع قبل الميلاد، من ٨٥٨ إلى ٨٢٤ قبل الميلاد.

كانت هناك ثمانية أزواج من الأشرطة إجمالًا، يبلغ طول كلٍّ منها حوالي ثمانية أقدام وارتفاعه قدمًا، مُثبتة على البابَين. وعند الحفر عبر العشرين قدمًا من التربة والطوب اللبِن المُتساقط الذي أحاط بها الآن وثبَّتها بقوة، وجد رسَّام أن معظمها لا يزال في مكانه، زوج فوق الآخَر. في مرحلةٍ ما، كان حريق قد دمَّر خشب البابَين أو تفكَّك ببساطة بمرور الوقت، ولم يتبقَّ سوى الأشرطة البرونزية «قائمةً» في مكانها، تبدو في جميع أنحاء العالم مثل رفِّ قُبعات عملاق، كما كَتبَ لاحقًا. قال إن الأشرطة نفسها كانت «منقوشةً بمجموعةٍ متنوعة من الموضوعات، مثل مَشاهد المعارك ومَواكب النصر والعروض الدينية» و«مقسَّمة إلى ألواحٍ مُحاطة بإطار من الوُرَيْدات».47

في الواقع، تبيَّن أن المَشاهد والنقوش تُسجِّل الحملات من السنوات العشر الأُولى أو أكثر من حُكم شلمنصر، بدءًا من عام ٨٥٨ قبل الميلاد. نرى مدن العدو محاصَرة؛ ومقاتلي العدو الأسرى مَطعونين؛ والعديد من الرسوم الأخرى ذات الأهمية العامة أو المروِّعة. ويصاحب كلَّ مشهدٍ نقشٌ يحدِّد الحدث المُعيَّن. ومن بين المدن المذكورة صور وصيدا وكركميش، فضلًا عن مدن أخرى في مملكة أورارتو (التي تقع إلى الشمال، في المنطقة الشرقية من الأناضول، والتي سأُناقشها في الفصل الرابع) وأماكن أخرى في بلاد الرافدين. وتعتبر هذه الأشرطة مهمةً للغاية لإعادة بناء هذه المناطق والأحداث خلال هذه الفترة.

أرسل رسَّام الأشرطة التي كان قد استخرجها إلى المتحف البريطاني، حيث تُعرَض حاليًّا مع عناصر أخرى قال إنه عُثِرَ عليها في الموقع. ومع ذلك، فقد شكَّك العديد من أُمناء المتاحف في اكتشافاته على الفور تقريبًا، من بينهم عالِم المصريات الشهير إي إيه واليس بودج. ففي منشور المتحف البريطاني الذي عرض لهذه القطع في عام ١٩١٥، صرَّح بودج علنًا بشكوكه في أنها يمكن أن تكون قد جاءت من بلاوات. وكتَبَ في مقدمة المجلد: «بعد فحص التل، وجدتُ أنه من المُستحيل تصديق أن هذا الموقع غير المُهم يمكن أن يحتوي على معبدٍ آشوري … لذلك يجب أن نستنتج … أنَّ المكان الذي عُثِر فيه على النقوش البرونزية المنشورة هنا لم يُتحقَّق منه بعدُ.»

وافق على ذلك مؤلِّف المجلد، إل دبليو كينج، الذي كان القائم على «أمين» المتحف البريطاني، وكتب: «يُمكننا أن نستنتج أن المُكتشِفين الأصليين للبوابات حرصوا حرصًا كبيرًا على إخفاء الموقع الفعلي لاكتشافهم.» كما ألمح الأمينان أيضًا إلى أن رسَّام ربما يكون قد اشترى جميع الأشرطة؛ لأنهما كتبا في المجلد أنه «اشتراها» و«حصل عليها»، ولم يُنقِّب عنها ويستخرجها.48 يجب أن نتساءل لماذا شَكَّ بودج وكينج في رسَّام، على الرغم من أنه من المُرجَّح أن ذلك كان إمَّا عنصريةً متأصِّلة، أو نزعةً استعمارية، أو غيرةً مهنية، أو كلَّ ما سبق.
ومن المثير للاهتمام، وربما بسبب هذه الاتهامات، أن رسَّام لم يسلِّم المتحف البريطاني القطعَ الأصلية التي أُرسلَت إليه على سبيل الهدية من صديقه في العراق. وبدلًا من ذلك، احتفظَت بها أُسرته، ثم حصل عليها في نهاية المطاف متحف والترز للفنون في بالتيمور بولاية ماريلاند؛ حيث لا تزال هناك حتى يومِنا هذا. كما شَقَّت قطعٌ أخرى، كلُّها من الزوجَين العلويين من الأشرطة، والتي كان قرويون محليون يحفرون قبورًا فوق التل قد اكتشفوها، طريقَها إلى متاحف أخرى ومجموعات خاصة من خلال تجَّارِ آثارٍ مختلفين.49
ووصلَت الأمور إلى ذروتها عندما رفع رسَّام، بدعم من لايارد، دعوى قضائية لتبرئة نفسه، ولكن لم تُبَرَّأ ساحتُه إلا في عام ١٩٥٥، بطريقةٍ غير مُتوقعة. بدأ الأمر عندما أنشأ المتحف البريطاني قسم الآثار الآسيوية الغربية في ذلك العام وأُعيد تنظيم المخازن. ودُهِش الجميع عندما عُثرَ على المزيد من الأشرطة البرونزية من مجموعةٍ أخرى من الأبواب، في صندوقٍ أو أكثر كانت قد مرَّ عليها في ذلك الوقت عقودٌ من الزمن وهي قابعةٌ في المخازن. كان رسَّام قد أرسلها أيضًا ولكنها نُسِيَت. وعُثِر على قطعٍ عديدة منها ملفوفة في صحيفة، من طبعة صحيفة «ذا تايمز» بتاريخ ١٨٨٠، وربما كان ذلك هو الوقت الذي كانت قد أُخرِجَت فيه من الصناديق أو الحاويات التي كان رسَّام قد شحنَها إلى لندن. وقد جاءت كلُّ هذه القطع من قصرٍ أقدم في المَوقع، وهو القصر الذي بناه آشور ناصربال الثاني، والد شلمنصر، الذي حكم في وقتٍ سابق في القرن التاسع قبل الميلاد، من ٨٨٣ إلى ٨٥٩ قبل الميلاد. يُمكننا أن نؤكد ذلك بثقة؛ فرغم أنَّ بقية القصر لم يُحدَّد موقعها بعد؛ فإن سبعة من الأشرطة منقوشٌ عليها «قصر آشور ناصربال، ملك الكون، ملك آشور، ابن توكولتي-نينورتا، ملك آشور، ابن أداد-نيراري، ملك آشور أيضًا».50
كان رسَّام قد كتَبَ عن هذه المجموعة الثانية من الأشرطة في تقاريره وفي منشوره النهائي، واصفًا إيَّاها بأنها قادمةٌ من أبواب يبلغ ارتفاعها نصفَ ارتفاع زوج أشرطة شلمنصر الثالث وتقع على بُعد ستِّين قدمًا (عشرين مترًا) من مجموعة الأشرطة الأولية. ومع ذلك، في أحد الخطابات المُرسَلة إلى المتحف البريطاني في عام ١٨٧٨، قال رسَّام: «لسوء الحظ، هذا الأثر الصغير الثاني متضرِّر بشدة … بمجرد أن [كُشِف] سقط مُفَتَّتًا إلى قِطع.» وقال شيئًا مُشابِهًا جدًّا في كتابه بعد ما يقرُب من عَقدَين من الزمان؛ حيث كتَبَ: «لقد عُثِر على هذا متضرِّرًا للغاية، وبمجرد تعرُّضه للهواء، تفتَّت إلى قِطع.» لا عجبَ في أنه كان يُفترَض منذ فترةٍ طويلة أنَّ هذه المجموعة الثانية من الأشرطة قد ضاعت؛ ولم يتوقَّع أحد أن يكون رسَّام قد جمع القطع وشحنها إلى لندن أيضًا، لكنه بالفعل فعَلَ ذلك.51
بمجرد استعادة هذه الأشرطة الإضافية من المخازن، كشَفَ فحصُها عن أن المَشاهد الموجودة على الشريطَين السُّفليين متطابقةٌ تقريبًا؛ فكلاهما يُصوِّر سجناء «من خاتي» (أي شمال سوريا) وكذلك آشوريين في موكب. تُصوِّر الأشرطة الأخرى مَشاهدَ إضافية، من بينها خاتي عدَّة مرات أخرى، إضافةً إلى صيد الأسُود والثيران. وفي المُجمل، تُعطينا هذه الأشرطة، مثل الأشرطة الموجودة على بوابة شلمنصر الثالث والتي عَثرَ عليها رسَّام في وقتٍ سابق، صورةً بصرية لائقة لبعض حملات آشور ناصربال.52
وقد دَفعَت هذه الاكتشافات (أو إعادة الاكتشافات) في مخازن المتحف البريطاني الأمناءَ إلى رعاية رحلةٍ استكشافية أخرى إلى بَلاوات في عام ١٩٥٦، هذه المرة بقيادة عالِم الآثار البريطاني ماكس مالوان، الذي كان متزوجًا من كاتبة الروايات البوليسية أجاثا كريستي. وعثر الفريق على الفور على المزيد من الأشرطة البرونزية المنقوشة. وقد جاءت هذه الأشرطة من بوابةٍ أخرى، أصغر حجمًا ومزدوجة، يرجع تاريخها أيضًا إلى عهد آشور ناصربال الثاني. وكانت البوابة جزءًا من معبدٍ مُكرَّس لِمامو (ربما إلهة الأحلام الآشورية)، كان آشور ناصربال قد بناه في الموقع في الوقت نفسه الذي بنى فيه قصره. وقد أكَّد اكتشاف مالوان للأشرطة الإضافية أن رسَّام كان يقول الحقيقة بشأن اكتشافاته السابقة في بَلاوات.53 وعلاوةً على ذلك، تَمكَّن فريق مالوان من التحقُّق من أن البوابة التي اكتشفوها كانت قد احترقَت وانهارت عندما دُمِّرَت البلدة بعد قرون، حوالي عام ٦١٢ قبل الميلاد، في الوقت نفسه الذي انتهَت فيه الإمبراطورية الآشورية الجديدة. بل إنهم كانوا قادرين على تحديد أنَّ أحد بابَي البوابة المزدوجة كان مغلقًا والآخَر كان مفتوحًا جزئيًّا وقت التدمير.54
حُفِظَت أشرطة مالوان ورُمِّمَت في المتحف البريطاني، حيث تبيَّن أن المشاهد المرسومة عليها أظهرَت حملاتٍ عسكرية وأعداء يُقدِّمون الجزية إلى آشور ناصربال. وعلى وجه الخصوص، تُشير النقوش والأيقونات مرةً أخرى إلى مدن في فينيقيا وأورارتو، وكذلك كركميش، والعديد من المعاقل الآرامية على ضفاف نهر الفرات.55 وقد أُعيدت الأشرطة بعد ذلك إلى العراق، حيث عُرضت في متحف المَوصل منذ عام ١٩٧٤ فصاعدًا. ولسوء الحظ، تعرَّض المتحف للنهب في عام ٢٠٠٣ ثم هاجمه تنظيم داعش مرةً أخرى في عام ٢٠١٥. وقد اختفَت الآن العديد من الأشرطة التي عثر عليها مالوان، إما سُرِقَت أو دُمِّرَت، لذا فمِن حُسن الحظ أنها كانت بالفعل قد دُرِسَت بالكامل ونُشِرَت في مجلد حرَّره أمناء المتحف البريطاني جون كيرتس ونايجل تاليس وظهَرَ في عام ٢٠٠٨.56

(٥) الانبعاث الجديد للآشوريين

تصِفُ لنا أشرطة بَلاوات من الأبواب المختلفة ما كان يحدُث في جميع أنحاء الشرق الأدنى القديم، خلال القرن التاسع قبل الميلاد. إنها، في الواقع، تُشكِّل جزءًا واحدًا فقط من وفرةٍ من المواد المتاحة لأولئك الذين يرغبون في محاولة إعادة بناء هذه الفترة، تتراوح بين نقوشٍ ملكية موجودة في القصور الآشورية، وتمثيلات تصويرية، وبقايا إضافية استعادها الأثريون، وتفاصيل موجودة في الكتاب المُقدَّس العبري. ونتيجةً لهذا، يُمكننا الحصول على صورةٍ جيدة إلى حدٍّ ما لمَا كان يحدث في شرق البحر الأبيض المتوسط حينما شرعَت المجتمعات والحضارات المختلفة في إعادة تأسيس وتشكيل العالَم المُترابط، الذي كان قد فُقِدَ خلال انهيار أواخر العصر البرونزي.

على سبيل المثال، يشهد هذا القرن التعافي والتوسُّع المستمرَّين للإمبراطورية الآشورية، والتي وصفها ماريو ليفيراني بأنها شبكةٌ هشَّة من المُستوطنات والمعاقل المُتصلة التي أُنشئت في البداية في «أراضٍ غريبة»، بدلًا من كونها «بقعة زيت» صُلبة تمتدُّ عبر الأرض.57 في هذا الانبعاث الجديد للآشوريين، حلَّ محلَّ المنافسين الصغار المُتعدِّدي الدول، ودويلات المدن الصغيرة، الإمبراطوريةُ الكبيرة الأُولى في الألفية الجديدة. سمح الفراغ الذي خلَّفه الانهيار بهياكلَ سياسيةٍ واقتصادية جديدة (مثل التجارة الفينيقية المتوسطية) مع تعافي العالَم. ودون أيِّ منافسين أقوياء، ملأت آشور في النهاية الفراغَ السياسي لتصبح الدولة الكبيرة الأكثر مرونةً الآخِذة في التعافي من انهيار أواخر العصر البرونزي. وبينما كان يفعل الآشوريون ذلك، أوجدوا العديد من العناصر التي اعتمدَتها الإمبراطوريات اللاحقة: الجيوش الدائمة، وأنظمة الاتصالات والنقل الفعَّالة، والدعاية السياسية (مثل نقوش بوابات بلاوات).
بدأ توكولتي-نينورتا الثاني (٨٩٠–٨٨٤ قبل الميلاد) الأمور، بحملاتٍ في ما هو الآن أجزاء من سوريا وجنوب شرق تركيا. وقد أثمرَت هذه الحملة في نهاية المطاف على يد خليفته آشور ناصربال الثاني، الذي شنَّ حملةً في المنطقة نفسها، من ضمنها الاستيلاء على مدينة توشان وإعادة تأسيسها. وقد تم تحديد هذا المكان الآن على أنه تلُّ زيارت تبه الحالي، الواقع على أعالي نهر دجلة في جنوب شرق تركيا؛ حيث قد يكون فريق أثري، برئاسة تيم ماتني من جامعة أكرون، وجد القصر الملكي الذي قال آشور ناصربال إنه بناه هناك.58
ويرى بعض العلماء أن الملك آشور ناصربال الثاني هو أول من بدأ حقًّا في إعادة ترسيخ قبضة آشور على الأراضي في جميع أنحاء الشرق الأدنى القديم. يصف جريسون عهد هذا الملك بأنه إحدى أهم الحقب في تاريخ بلاد الرافدين، مشيرًا إلى العدد الكبير من النقوش الملكية التفصيلية، والعدد الهائل من مشاريع البناء التي تعهدها، وخاصة في موقع كالح ولكن أيضًا في أماكن أخرى، وعدد الحملات العسكرية التي كانت تهدف إلى توسيع الإمبراطورية الآشورية.59
بذل كتَبَة آشور ناصربال الثاني جهودًا كبيرة لوصف المعاملة الوحشية لأولئك الذين أسَرَهم أثناء حملاته. تظهر مثل هذه الأوصاف مرارًا وتكرارًا في النقش الواحد، وتفصِّل بشكلٍ مروِّع ما حدَثَ في كل حملة. في أحد هذه النقوش، على سبيل المثال، والمعروف باسم نصب كورح، كُتبَ عن أحد الحكَّام الذين هزمهم: «لقد سلختُ بور-رامانو، المجرم، وكسوتُ جدار مدينة سينابو بجلده.»60
هذا هو أحد النقشَين اللذَين اكتشفهما عالِم الآثار البريطاني جون تايلور عام ١٨٦١ في موقع كورح (المعروف الآن باسم بلدة أوكتيبي في تركيا الحالية، والتي تقع على مقربةٍ من زيارت تبه). أمَّا النقش الآخر فقد أنشأه لاحقًا ابن آشور ناصربال، شلمنصر الثالث، ويتضمَّن وصفًا للأحداث التي وقعَت أثناء معركة قَرقُور، والتي سأناقشها بمزيدٍ من التفصيل أدناه. وقد تبرع تايلور بالنقشَين للمتحف البريطاني في عام ١٨٦٣ وكتب عنهما في مجلة «جورنال أوف ذا رويال جيوجرافيك سوسايتي أوف لندن»، حيث وصف بإيجاز زيارته للموقع واكتشافهما مُلقَيَيْن على سطح الأرض: «حالفني الحظ باكتشاف لوحٍ حجري يحمل صورة ملك آشوري، ومُغطًّى على كِلا الجانبَين بنقوشٍ طويلة بالخط المسماري … وعلى مسافةٍ قصيرة أسفله، على منحدر التل، استُخرِجَت بقايا أخرى مثالية من الوصف نفسه، كان الحطام يُخفيها بالكامل تقريبًا.»61 ويبدو من الصعب بعضَ الشيء تصديقُ أنَّ النقشَين كانا ببساطة مُلقيَين على السطح وليس في عمق التل، لكنه لا يذكر إجراءه لأيِّ عمليات تنقيب؛ لذلك يجب أن نُصدِّق تايلور فيما يقول.
إن تفاخُر آشور ناصربال الثاني لا ينفرد به نصب كورح. في حالةٍ أخرى، كَتبَ يصف هجومًا على مدينة تُسمَّى بيتورا: «لقد غزوتُ المدينة. قتلتُ ثمانمائة من جنودها المقاتِلين بالسيف وقطعتُ رءوسهم. وأسَرتُ العديد من الجنود أحياءً. وأحرقتُ الباقين، وأخذتُ منهم جزيةً ثمينة. وبنيتُ كومة من الرجال الأحياء والرءوس أمام بوابته. وخوزقتُ على الأوتاد سبعمائة جندي أمام بوابته. ودمرتُ المدينة وحوَّلتها إلى تلالِ خراب. وأحرقتُ أولادها وبناتها المُراهِقين.»62
كذلك حارب آشور ناصربال الثاني الملك البابلي نبو-أبلا-إيدينا (الذي حكم من حوالي ٨٨٧ إلى ٨٥٥ قبل الميلاد)، وهاجم مملكة بت أديني الآرامية، وحاكى تصريح آشور-دان الثاني من عدة عقود سابقة، مُدَّعيًا أنه هو أيضًا «أعاد الآشوريين الضعفاء الذين ذهبوا إلى أراضٍ أخرى بسبب الجوع والمجاعة».63

•••

بعد بضع سنوات فقط من حُكمه، نقل آشور ناصربال الثاني عاصمته من آشور، حيث كانت تقع حتى تلك النقطة، إلى كالح، والتي كانت تقع في موقعٍ أكثر مركزيةً داخل الأراضي الآشورية. ثم صارت كالح عاصمةً آشورية لمَا يقرُب من مائتَي عام، من ٨٧٩ قبل الميلاد حتى ٧٠٦ قبل الميلاد. وعُرِفَت لاحقًا باسم نمرود، وهو الاسم الذي اكتسبَت به شهرةً أثناء أعمال التنقيب التي قام بها لايارد، والتي بدأت في عام ١٨٤٥.64
fig11
شكل ٢-٢: نصب كورح لآشور ناصربال الثاني. المتحف البريطاني رقم ١١٨٨٨٣. الصورة بإذن من المتحف البريطاني.
على الفور شرَعَ آشور ناصربال الثاني هناك في بناء قصر، يُطلَق عليه الآن اسم «القصر الشمالي الغربي». ظهرَت البقايا الأولية لهذا البناء الهائل في اليوم الأول الذي بدأ فيه لايارد أعمال التنقيب، بعد أن حلم في الليلة السابقة بالعثور على قصورٍ تحت الأرض، بها «وحوش عملاقة» و«أشكال منحوتة» و«نقوش لا نهاية لها». وقد وجد ذلك بالضبط، حيث كانت جدران القصر مُزيَّنة في كل مكان بألواح من المرمر مُغطاة بمنحوتاتٍ ونقوشٍ تصوِّر إنجازات الملك، وفتوحاته البطولية، والغنائم والجزية التي تلقَّاها، ووصفه لبناء القصر (أعلاه)، وما إلى ذلك.65 في الأساس، كان آشور ناصربال قد بدأ نوعًا جديدًا تمامًا من الفن التاريخي من خلال تصوير انتصاراته وأنشطته الأخرى ذات الصلة، في نقوش بارزة (وليس مجرد نقوش) على جدران قصره (وعلى أشرطة بوابات برونزية مثل تلك الموجودة في بَلاوات)، وهي الممارسة التي استمرَّ فيها لاحقًا ملوك آشوريون في قصورهم.

على مئات الألواح التي تُبطِّن جدران القصر، وجَدَ لايارد ما يُعرَف الآن باسم «النقش القياسي» لآشور ناصربال، والذي يتضمَّن الوصف التالي لعملية البناء:

أخليتُ الأنقاض القديمة وحفرتُ حتى مستوى الماء. وجعلتُ حفرة الأساس إلى عمق ١٢٠ طبقة من الطوب. وأسَّستُ هناك قصرًا من الأَرز والسرو والدبرانو والعرعر وخشب البقس وخشب المِسكانو والبلوط والأَثْلَة ليكون مقرًّا ملكيًّا لي ولراحتي الملكية إلى الأبد. وصنعتُ نسخًا من حيوانات الجبال والبحار من الحجر الجيري الأبيض ومرمر الباروتو ووضعتُها على أبواب القصر. وزيَّنتُه بطريقةٍ رائعة؛ فأحطتُه بمساميرَ برونزية. ورَكَّبتُ أبوابًا من الأرز والسرو والدبرانو والعرعر وخشب الِمسكانو في مداخله. وملأتُه بكمياتٍ كبيرة من الفضة والذهب والقصدير والبرونز والحديد، الغنائم من الأراضي التي ظفرتُ بالسيادة عليها.66
وكما وصفَته عالِمة الآشوريات النمساوية كارين رادنر، فإن قصر آشور ناصربال الجديد كان ضخمًا. فقد بلغت مساحته ٢٠٠ متر في ١٣٠ مترًا (أي بطُولٍ يعادل ملعبَي كرة قدم أمريكية وعرضٍ أكبر من ملعب كرة قدم)، وكان يحرس بوابة الدخول ثيرانٌ أو أُسودٌ مجنَّحة برءوسٍ بشرية تسمَّى لاماسو، وكان يضمُّ ساحاتٍ وغرفًا ومساكن خاصة للعائلة المالكة في الداخل.67
وعندما انتهى من بنائه، أقام آشور ناصربال الثاني احتفالًا هائلًا بمأدبةٍ استمرَّت عشرة أيام كاملة. ووفقًا لنقشٍ أمَرَ بإقامته بعد ذلك، وعُثِر عليه أثناء أعمال التنقيب التي أجراها مالوان في الموقع، فقد دُعي ما يقرب من سبعين ألف شخصٍ إلى مراسم الافتتاح. وشمل هذا العدد سكان المدينة بالكامل، فضلًا عن أشخاص من جميع أنحاء الإمبراطورية، إضافةً إلى خمسة آلافِ دبلوماسي أجنبي، من بينهم مندوبون من مدينتَي صور وصيدا الفينيقيَّتَين. وتضمنَت القائمة أكثر من سبعة عشر ألف رأس من الأغنام والحملان والعجول والثيران؛ وعشرة آلاف حمامة وعشرة آلاف يمامة، إضافةً إلى آلافِ الطيور الأخرى؛ وعشرة آلاف من الأسماك والبيض والخبز؛ وكمياتٍ هائلة من الخضراوات والفواكه والمكسرات والتوابل، من بينها الرمان والعنب والفستق (المُقشَّر وغير المقشَّر)، واللِّفت والزيتون والبصل والثوم؛ وتجرعوا كلَّ ذلك بعشرة آلاف جرَّة من البيرة، وعشرة آلاف قِربة من النبيذ، ومائة حاوية من الحليب.68
ولكي يتمكنوا من توليد هذا القَدْر الفائض والقدرة على تكريسه لحدثِ وليمةٍ واحد؛ فلا بد أنَّ آشور ناصربال الثاني والآشوريين حقَّقوا نجاحًا كبيرًا في حملاتهم العسكرية التوسعية والغنائم والجزية التي أدرَّتها هذه الحملات. وكما لاحظ تريفور برايس، الأستاذ الفخري بجامعة كوينزلاند، فإنَّ مثل هذه السلع، التي كانت تُؤخَذ من المدن المهزومة، والتي كانت تُعطى في كثيرٍ من الأحيان كجزيةٍ على أساسٍ سنوي بعد ذلك، هي بلا شك السبب الحقيقي وراء كلِّ الحملات الآشورية. فقد جلبَت إلى خزائن الآشوريين الجُدد كلَّ شيء؛ من الأخشاب والمعادن الثمينة، إلى الأثاث الفاخر والأشياء الغريبة؛ وكلها كانت ضروريةً وساهمَت في الاقتصاد الآشوري.69 ومع ذلك، لا يمكن التقليل من قيمة الدعاية لهذا الحدث الاحتفالي الخاص والرسالة السياسية التي أرسلها أيضًا.

•••

كما زحَفَ آشور ناصربال بجيشِه لغزو أرض أمورو، الواقعة إلى جنوب كركميش، وكذلك فينيقيا؛ وزحف حتى إلى الجنوب. وجمَعَ الجزية من أمورو وكذلك من الكيانات الفينيقية في صور وصيدا وجبيل وأرواد (التي وصفها بأنها تقع على جزيرة). وأعلن على نحوٍ مُثير للإعجاب في نقوشه: «لقد طهَّرتُ أسلحتي في البحر الأعظم» (أي البحر الأبيض المتوسط). ومع أننا رأينا مثل هذه التصريحات من قبل من جانب الآشوريين؛ فإنه كان أولَ مَلِكٍ يفعل ذلك منذ أجيالٍ عديدة. وقد شملَت الجزية أشياء من المعدن («فضةً وذهبًا وقصديرًا وبرونزًا») فضلًا عن «ملابس كتَّانية مُزخرَفة بألوان مُتعددة، وأنثى قردٍ كبيرة، وأنثى قردٍ صغيرة، وأبنوس، وخشب البقس، [و]عاج «ناهيرو».»70
وقد نتمكن من رؤية بعض هذا على الأشرطة البرونزية التي عَثرَ عليها مالوان في بَلاوات؛ حيث يُعتقد أن الأشرطة الوسطى على أبواب معبد مامو، الذي أقامه آشور ناصربال الثاني، ربما تُصوِّر (أو صوَّرَت ذات يوم) مدنًا فينيقية، إضافةً إلى وجهاء فينيقيين يؤدُّون الجزية. يُظْهِر أحد المَشاهد من الباب الأيسر، والذي يفتقِر الآن إلى تصوير المدينة الفعلية، أربعة عشر رجُلًا يحملون الجزية، ستة منهم يُسافرون في قوارب من النوع الفينيقي؛ «بمقدمة ومؤخِّرة على شكل رأس بطة». ويظهر المَشهد المقترِن به، على الباب الأيمن، الملِك الآشوري وهو يتلقَّى الجزية من هؤلاء الرجال، بما في ذلك مراجل كبيرة ذات مِقبضَين، مع ظهور اثنين من القوارب. هذه المرة، لا تزال المدينة موجودة، مُصَوَّرة في هيئة مدينةٍ محصنة على ما يبدو أنها جزيرة، لذلك من المُحتمَل جدًّا أن تكون صور (أو ربما أرواد). في جميع الأحوال، يظهر الرجال وهم يعتمرون قبعاتٍ ناعمة «برُءُوسٍ مقوَّسة» وأحذية «بأصابع مرفوعة لأعلى». في صفٍّ آخَر أدنى، نرى مشهدًا مُتطابقًا تقريبًا على الشريط الأيسر؛ مجددًا هذه المرة، لا تزال المدينة موجودةً ومُحاطة بالمياه، ربما على جزيرة، مع قاربَين آخَرَين من الطراز الفينيقي نفسه، وستة رجال يحملون الجزية، إضافةً إلى المُجدِّفين.71

(٦) شلمنصر الثالث

عندما أصبح شلمنصر الثالث ملِكًا، زاد حجم الجيش الآشوري زيادةً كبيرة واستمرَّ في الحملات المُستمرة بلا هوادة التي بدأها والده. وفي نقوشه، وَصفَ شلمنصر نفسه بأنه «ملكٌ عظيم، ملكٌ قوي، ملكُ الكون، ملكٌ لا مثيل له، تنِّين، السلاح الذي يُدمِّر كلَّ الجهات».72 ولم يكن يبالغ.
من أجل توسيع إمبراطوريته، شنَّ شلمنصر حملات عسكرية كل عام طوال فترة حُكمه التي امتدَّت لأربعةٍ وثلاثين عامًا، وهاجَمَ كل منطقة تقريبًا وكلَّ ملك كبير أو صغير يقع في نطاقه. وفي نهاية أحد النقوش الطويلة، قدَّم ملخصًا عدديًّا لعدد الرجال الذين قتلَهم جيشُه أو أسَرَهم، فضلًا عن الحيوانات التي استولى عليها كغنائم، على مدار العشرين عامًا الأولى من حملته العسكرية: «١١٠٦١٠ أسرى؛ و٨٢٦٠٠ قتيل؛ و٩٩٢٠ حصانًا (و) بغلًا؛ و٣٥٥٦٥ ثورًا؛ و١٩٦٩٠ حمارًا؛ (و) ١٨٤٧٥٥ شاةً.»73 هذه الأعداد، إن كان من الممكن تصديقها، مُذهِلة.
ومع ذلك، فقد خرج أيضًا لمساعدة ملك بابل الذي تولى الحكم حديثًا ويُدعى مردوخ-زكير-شومي (الذي حكم من حوالي ٨٥٥ إلى ٨١٩ قبل الميلاد)، والذي تمرد شقيقه الأصغر عليه. هزم شلمنصر الأخ وأقام علاقات طيبة مع البابليين. ورُدَّ هذا العون لاحقًا عندما ساعد الملك البابلي نفسه ابنَ شلمنصر، شمشي أداد الخامس، في إخماد تمرُّد في آشور بعد بضع سنوات.74
خلال حملاته العديدة، وكثير منها على أورارتو في أقصى الشمال، خاض شلمنصر أيضًا معارك في جبال الأمانوس، فيما يُعرف الآن بجنوب شرق تركيا، و«قطَعَ أخشاب الأرز» (المعروفة أيضًا باسم «أرز لبنان») وعوارض العرعر. كما مضى جهة الجنوب الغربي إلى المنطقة التي تُعرَف في عصرنا الحالي بلبنان، ومن المُرجَّح أنَّ تلك كانت المناسبات التي جمع فيها بعضَ الجزية الموضحة على بوابات بَلاوات. صُوِّرَت إحدى هذه الوقائع على الشريط الثالث من البوابة التي أقامها في بَلاوات. وفيما يلي نصُّ النقش الموجود على السجلِّ العلوي: «الجزية التي تلقيتُها من سفن رجال صور وصيدا». ويُصاحب ذلك مشهدٌ يُصوِّر قوارب تُبحر من مدينة صور البحرية وبضائع يجري تفريغها إلى البَر الرئيسي.75
وهناك شريط مجزأ آخَر، وهو أحد تلك التي أُرسلت في الأصل إلى رسَّام على سبيل الهدية وهو الآن في متحف والترز للفنون في بالتيمور، يُظهِر مثالًا ثانيًا للجزية التي تلقَّاها شلمنصر من المدن الفينيقية. وينص النقش المصاحِب على ما يلي: «تلقَّيتُ جزيةً من مدينتَي قوم صور وصيدا: فضةً وذهبًا وقصديرًا وبرونزًا وصوفًا ولازوردَ وعقيقًا.» وتؤكِّد هذه النقوش والمَشاهد الروايةَ الواردة في نقش شلمنصر على النصب؛ حيث تنصُّ على ما يلي: «تلقَّيتُ الجزية من ملوك ساحل البحر. على ساحل البحر الواسع سرتُ بِبِرٍّ ونصر.»76 كما تؤكِّد ما نعرفه عن الجزية التي طالَبَ بها شلمنصر وغيره من ملوك الآشوريين الجُدد من صور وصيدا والمدن الأخرى على الساحل الفينيقي.
fig12
شكل ٢-٣: شلمنصر الثالث في صور (لاحظ القوارب في السجل العلوي)، من الشريط الثالث من بوابات بَلاوات. المتحف البريطاني رقم ١٢٤٦٦١. الصورة بإذنٍ من المتحف البريطاني.
كما حارب شلمنصر عدَّةَ مرَّات الآراميين، الذين كانوا قد استقرُّوا بحلول ذلك الوقت في دويلات مدنٍ صغيرة، مختلفة، تقع بشكلٍ أساسي في أجزاء ممَّا يُعرَف حاليًّا باسم لبنان وسوريا والعراق. كان للكثير من هذه الممالك الصغيرة أسماء تبدأ ﺑ «بِت» (والتي تعني «بيت …»، مثل Beit في العبرية؛ مما يعكس الأصول القبَلية في كل حالة)؛ على سبيل المثال، بت أديني، وبت زماني، وبت أجوشي، وهكذا. ومن عجيب المفارقات أنَّ شلمنصر والآشوريين هم الذين ساعدوا اللغة الآرامية على الازدهار والانتشار خلال القرن التاسع وما بعده؛ لأنه بعدما غزا الآراميين، بدأ في توظيف الكتَبة الذين يمكنهم التحدُّث والكتابة بالآرامية وجعلهم جزءًا من النظام الإداري المُصمَّم للمساعدة في حكم المناطق التي استولى عليها حديثًا. وبدأ الآراميون الآخرون في العمل في أدوارٍ إضافية داخل البيروقراطية الآشورية.77
كانت إمبراطورية شلمنصر شاسعةً لدرجة أنه أسَّس أيضًا آليةً جديدة لضمان إمكانية إجراء الاتصالات في حينها. وأفضل وصفٍ يمكن أن يُطلَق على هذا النظام هو أنه أشبَه بنظام «بوني إكسبرس» الذي كان مُستخدَمًا في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، إلَّا أن الآشوريين استخدموا البِغال بدلًا من الخيول. وكان هذا بديلًا لرسولٍ واحدٍ يحمل رسالةً أو مرسومًا طوال رحلة، كما كان يحدث في السابق. الآن، أنشأ الآشوريون نظامَ تتابُع على امتدادِ ما كان يُعرف باسم «طريق الملك»، حيث يسافر الراكب مسافةً مُحددة ثم يسلِّم الرسالة أو المُكاتَبة إلى الراكب التالي، الذي ينتقل إلى النقطة التالية على الطريق ويسلِّمها إلى الراكب التالي، وهكذا حتى تصِل إلى وِجهتها. من الواضح أن هذا كان أسرعَ بكثيرٍ ولكنَّه ليس آمنًا مثل إرسال رسولٍ خاص واحد. وقد استخدم الآشوريون هذه الطريقة في الاتصال السريع خلال القرون القليلة التالية.78

(٧) معركة قَرقُور

كانت معركة قَرقُور، التي وقعَت في السنة السادسة من حكم شلمنصر الثالث (٨٥٣ قبل الميلاد) هي أشهر معاركه؛ أو على الأقل المعركة التي يذكرها المؤرخون كثيرًا — وقد سُجِّلَت هذه المعركة بأدقِّ التفاصيل على نقشِ النصب الخاص به، حيث يذكر أنه حارب تحالفًا من اثني عشر ملكًا.

وقد أطلق جريسون، عالم الآشوريات في جامعة تورنتو، على هذا التحالف اسم «تحالف دمشق»، حيث كان من بين أعضائه هَدَد-عزر (أداد-إدري)، ملك آرام-دمشق، الذي جلب ١٢٠٠ عربة حربية و١٢٠٠ فارس و٢٠ ألفَ جندي إلى ساحة المعركة. وكان هناك أيضًا إيرهوليني، ملك حماة، الذي جلب ٧٠٠ عربة حربية و٧٠٠ فارس و١٠ آلاف جندي؛ وأخاب، ملك إسرائيل، الذي أحضر ألفَي عربة حربية و١٠ آلاف جندي (لاحظ أنَّ هذا هو أول تأكيد خارج الرواية التوراتية على وجود أخاب، الذي الْتقَينا به أعلاه في الفصل السابق). وكان هناك أيضًا ألف جندي من مصر، يُحتمَل كما ذكرنا أن يكون أوسركون الثاني هو مَن أرسلهم، والمزيد ممَّن جاءُوا من المدن الفينيقية، جبيل وأرواد وتل عرقة (عِرقاتا). وإجمالًا، تمكَّن أعضاء التحالُف من أن يضعوا في الميدان ما يقرُب من ٤ آلاف عربةٍ حربية وألفَي فارس وأكثر من ٤٠ ألفًا من المشاة وألف جمل.79
ومع ذلك، هزم شلمنصر تحالُف القوات التي تجرَّأت على مواجهته. يقول في أحد النقوش: «أسقطتُ بالسيف ١٤ ألف جندي، من رجالهم المُقاتِلين، وأمطرتُهُم بالدمار كما يفعل الإله أداد. ملأتُ السهل بجُثثهم المنتشِرة وأسقطتُ قواتهم الكثيرة بالسيف. كان السهل صغيرًا جدًّا بحيث لم يكن يمكن وضع (العدد الهائل) من جُثثهم على الأرض؛ لم تكن المنطقة الواسعة كافيةً لتستوعِب دفنهم جميعًا. سددتُ نهر العاصي بأجسادهم مثل الجسر.»80
كما ذُكِرَت هذه الواقعة في خمسة نقوشٍ أخرى على الأقل. ويُزعَم في هذه النقوش أنَّ عدد القوات المعادية التي قُتِلَت كان أكثر من ذلك بكثير؛ ففي مجموعة من الألواح الطينية من العاصمة آشور، والتي شكَّلَت نسخةً من حولياته، وفي تمثالَي ثورَين هائلَين وجدَهما لايارد في نمرود/كالح، ضاعَفَ شلمنصر الثالث العدد تقريبًا، مُدعيًا ما يلي: «قتلتُ بحدِّ السيف ٢٥ ألفًا من رجالهم المُقاتِلين (و) استوليتُ منهم على عرباتهم الحربية وفرسانهم (و) معداتهم العسكرية.» كما أضاف نهايةً جديدة، مدعيًا: «لإنقاذ حياتهم، هربوا وركبوا القوارب، (و) خرجوا وركبوا البحر.»81
كما صُوِّرَت المعركة على الشريط التاسع من بوابات بَلاوات. وهنا نرى الاستيلاء على عدة مدنٍ في منطقة حماة، بما في ذلك مدينة قرقور نفسها، التي تحترق. وشلمنصر جالس في خيمة، حين يُعرَض أمامه السجناء الذين أُسِروا والأشياء المنهوبة من المدينة.82
وبعد بضع سنوات، قال شلمنصر إنه تلقَّى مرةً أخرى الجزية من مدينتَي صيدا وصور الفينيقيَّتَين، خلال عامه الثامن عشر على العرش. وهناك نُسَخ مختلفة لهذا النقش؛ ففي إحدى النسخ ينصُّ على وجه التحديد على أنَّ الجزية كانت من «بعل-معزر ملك صور»، الذي ورَدَ ذِكره مباشرةً قبل «يَاهُو من بيت عُمري». وربما يكون هذا الملك هو بعل-معزر [بعل-آزور] الثاني (٨٥٥–٨٣٠ قبل الميلاد) من صور، كما أطلق عليه يوسيفوس، المؤرخ الروماني اللاحق.83
كما تلقَّى شلمنصر الجزية «من أرض مُصري»، أي مِصر، والتي لا تزال تُعرَف باسم «مِصرايم» في العبرية الحديثة. وقد تضمنَت الجزية من مصر «جِمالًا ذات سنامين، وجاموسة مائية، ووحيد قرن، وظبيًا، وإناث فيلة، (و) قرودًا.» وكان يُظَن في الأصل أن الفرعون في ذلك الوقت كان تاكيلوت الثاني، ولكنْ نظرًا لأنَّ حُكم أوسركون الثاني امتدَّ الآن إلى عام ٨٣١ قبل الميلاد، فالأرجح أنه هو الذي قدَّم هذه الجزية. وينصُّ نقش آخر لشلمنصر على أنه تلقَّى مرةً أخرى جزيةً من صور وصيدا وجبيل بعد ثلاث سنوات، في عام ٨٣٨ قبل الميلاد.84
وفي الوقت نفسه تقريبًا، من حوالي عام ٨٣٩ قبل الميلاد فصاعدًا، وجَّه شلمنصر انتباهه أيضًا نحو جنوب شرق الأناضول، إلى منطقةٍ ومملكةٍ تُعرَف باسم تابال، والتي كانت قد تأسَّسَت في أعقاب الانهيار الحيثي في المنطقة. سرعان ما هَزمَ شلمنصر الملوك السور-حيثيين هناك، وكذلك أولئك الذين حكموا منطقة قِيلِيقِيَة القريبة المعروفة في ذلك الوقت باسم أدَناوا (أو كيو في النقوش الآشورية، وهياوا أو أضنة في نقوشٍ لوفية مختلفة). ومن الجدير بالذكر، كما أشار تريفور برايس، أن اسم «هياوا» يأتي من «أهياوا»؛ الاسم الذي أشار به الحيثيون إلى الميسينيين، مما قد يُشير إلى أنه كانت هناك هجرة من البر الرئيسي لليونان إلى هذه المنطقة مباشرة بعد انهيار العصر البرونزي.85

(٨) حَزائِيل وياهُو

في السنوات التي أعقبَت المعركة التي خاضها شلمنصر الثالث في قرقور عام ٨٥٣ قبل الميلاد، عَبرَ نهر الفرات عدة مرات إضافية وقاتَلَ في سوريا أثناء عدة حملات أخرى، من بينها حملاته على التشكيلات الإضافية المختلفة لمَا يسمَّى تحالُف دمشق، والذي ذكرتُ أنه كان في الأصل بقيادة هَدَد-عزر، ملك دمشق. وقد وقعَت هذه الحملات في السنوات السادسة والعاشرة والحادية عشرة والرابعة عشرة والثامنة عشرة والحادية والعشرين والثانية والعشرين من حُكمه. وخلال الحملات الأخيرة، تذكُر السجلَّات ملكًا آراميًّا جديدًا لدمشق، ليس هَدَد-عزر، بل حَزائِيل، الذي وُصِف بأنه «ابن لا أحد»؛ أي أنه كان مغتصِبًا للعرش.86
حتى الآن، لم أخصِّص مساحةً كافية للآراميين في هذه الصفحات كما كان ينبغي أن أفعل. وبوجهٍ عام، لم يتوحَّدوا قَطُّ ويبدو أنهم كانوا يُعرَفون في المقام الأول بممالكهم الصغيرة الفردية أو دويلات مدنهم. ومع ذلك، يبدو أن هذا الحاكم الجديد لآرام-دمشق، حَزائِيل، كان يُخطِّط في ذهنه لأشياء أخرى. لقد ذكرتُه بالفعل أعلاه، فيما يتعلَّق بنصب تل دان، الذي ربما أقامه بعد حملةٍ في المنطقة في أواخر أربعينيات القرن التاسع قبل الميلاد. ويُعتقَد الآن أيضًا أنه هاجم عددًا من المواقع الإضافية في مملكة إسرائيل الشمالية في الوقت نفسه تقريبًا، ومن المُحتمَل جدًّا أن ذلك كان يشمل مَجِدُّو وحاصور.87

ومن المُثير للاهتمام على نحوٍ خاص، إضافةً إلى ذِكر بيت داود، أنَّ نقش حَزَائِيل في تلِّ دان يذكر ملكَين محدَّدَين، هما: يهورام ملك إسرائيل، وأخزيا ملك يهوذا، اللذَين كانا يحكمان في زمن حَزَائِيل واللذَين وقعا ضحية لحملاته على ما يبدو؛ لأنه يقول إنه قتَلَ كليهما. ومن المُثير للاهتمام أن هذا النقش يتشابَه مع مناقشة في الكتاب المُقدس العبري؛ حيث قُتِل المَلِكان أنفسهما (يهورام وأخزيا) ليس على يدِ حَزَائِيل، وإنما على يد ضابطِ جيش غير مُخلِص يُدعى يَاهُو؛ وهو يَاهُو نفسه الذي ذُكر اسمُه سابقًا في مناقشة المنحل في موقع تل الصارم (تل رحوف) والذي ذكرتُه للتوِّ مرةً أخرى أعلاه.

وفقًا للرواية التوراتية، وقعَت اغتيالات يَاهُو في أعقاب معركةٍ جرَت في راموت جلعاد، والتي اغتصب بعدَها على الفور العرش في إسرائيل، وتولَّى منصب الملك بعد ذلك مباشرةً. كما قُتِلَت والدة يهورام، إيزابِل السيئة السمعة، أرملة الملك أخاب وابنة إيثبعل، الملك الفينيقي لصور، أثناء هذا التمرُّد (انظر سِفر الملوك الثاني، الإصحاح ٩: الآيات ١٤–١٦، و٢٢–٢٨، و٣٢–٣٧، والإصحاح ١٠: الآيات ١–١٧؛ وسِفر أخبار الأيام الثاني، الإصحاح ٢٢: الآيات ٥–٩).

وليس واضحًا لماذا تحتوي قصة يَاهُو في الكتاب المقدس العبري، وفي النقش الموجود في تلِّ دان الذي أقامَه حَزَائِيل، على العديد من العناصر المُتشابهة، ومع ذلك تَحدَّدت هوية قاتلَين مُختلفَين للملكَين. وقد قيل إن يَاهُو ربما كان يتصرَّف نيابةً عن حَزَائِيل، ولكنَّ هذا لا يزال موضعَ خلافٍ علمي، وخاصة أن الرواية التوراتية لا تذكُر حَزَائِيلَ ولا يذكُر نقش حَزَائِيل يَاهُو.88
ومع ذلك، يُصبح شلمنصر الثالث ذا صلةٍ هنا مرةً أخرى؛ لأنه يبدو أنه تغلَّب على حَزَائِيل بعد ذلك مباشرة تقريبًا، في عام ٨٤١ قبل الميلاد. فأثناء حملةِ عامِه الثامن عشر في الحُكم، يقول شلمنصر: «لإنقاذ حياته، هرب [حَزَائِيل] (لكنني) طاردتُه. وسجنتُه في دمشق، مدينته الملكية، (و) قطَّعتُ حدائقه.» ويقول أيضًا إنه قتَلَ ١٦ ألفًا من رجال حَزَائِيل المُقاتلين وأسَرَ ١١٢١ من عرباته الحربية و٤٧٠ من سلاح الفرسان في ذلك العام، ولكنْ بعد ذلك اضطرَّ إلى محاربته مرةً أخرى بعد ثلاث سنوات، في عام ٨٣٨ قبل الميلاد.89

•••

يُقتَرَح الآن أن حَزَائِيلَ تعافى من هزيمته (هزائمه) على يد شلمنصر الثالث، وربما أحدث دمارًا في مملكة يهوذا الجنوبية خلال العقود التالية، ومن ذلك موقع تل الصافي (جت التوراتية)، إحدى المدن الفلستية الخمس الأصلية، حيث اكتشف الأثريون خندقًا ضخمًا محفورًا في الصخر يبلُغ طوله حوالَي كيلومترَين ونصف. وقد أُثبِت غزو جت على يد حَزَائِيل في (سِفر الملوك الثاني، الإصحاح ١٢: الآية ١٧): «حينئذٍ صَعِدَ حَزَائِيلُ مَلِكُ أَرَامَ وَحَارَبَ جَت وَأَخَذَهَا»، قبل أن يُقال لنا إنه زحف أيضًا نحو أورشليم، ولم ينسحب إلا بعد أن رشاه الملك يَهُوآش ملك يهوذا (سفر الملوك الثاني، الإصحاح ١٢: الآية ١٨).90
كما حُدِّد زمن دمارٍ هائل في هذا الوقت نفسه، مما أدى إلى نهاية الطبقة الرابعة في تل الصارم، مسقط رأس يَاهُو المحتمَل. وقد قيل إن هذا كان أيضًا على يد حَزائِيل وقواته الغازية. كان الضرَر الذي حدث كبيرًا لدرجة أن التلة السفلية في الموقع لم تُشغل مرةً أخرى أبدًا؛ ولم يستمر السكن في التلَّة العُليا إلا مدةَ قرنٍ آخر، حتى دُمِّرَت هي الأخرى، هذه المرة على يد تِغلث-فلاسر الثالث والآشوريين الجُدد في عام ٧٣٢ قبل الميلاد.91
وقد قيل أيضًا إن حملة حَزَائِيل في الجنوب ربما كانت تهدف إلى السيطرة على تجارة النحاس، وخاصة المصادر في أدوم. صحيح أن أنشطة تعدين النحاس في وادي عربة ووادي فينان توقفَت فجأةً في هذا الوقت، ولكنَّ عودة النشاط في المناجم في قبرص ربما كان لها تأثير، إضافةً إلى أنشطة حَزائِيل؛ اقتُرِح مؤخرًا أيضًا أن نقص الوقود المتاح للأفران ربما كان السببَ الحقيقي وراء إغلاق المناجم في هذا الوقت.92
في مرحلةٍ ما، يبدو أن حَزَائِيلَ خرج أيضًا في حملات إما إلى الشمال وإما إلى الشرق، ويُعتقَد أنه بعد ذلك نَقشَ أشياءَ مختلفة وأهداها إلى معبد هَدَد في دمشق. وقد استُخِرج العديد من هذه الأشياء حاليًّا في سياقات أثرية، ولكنها بعيدة جدًّا عن دمشق. أول ما عُثِر عليه، منذ حوالي قرنٍ من الزمان، هو غِمامة حصان برونزية عُثرَ عليها داخل معبد أبولو في إريتريا على البر الرئيسي لليونان، دون باقي الأماكن. كانت القطعة توضع في الأصل بجوار عين الحصان وتُستَخدَم لتركيز نظرِه إلى الأمام مباشرةً أثناء المعركة، ومن المُرجَّح أن يكون أحد المُتعبِّدين قد أهدى القطعةَ إلى المعبد في مرحلةٍ ما خلال أواخر القرن الثامن قبل الميلاد. ترك شخصٌ مختلف قطعةً مُثلثة من البرونز تُعرَف باسم «واقي الجبهة»، والتي تحمي جبهة الحصان، في هيرايون (معبد هيرا) على جزيرة ساموس، في سياقٍ يرجع تاريخه إلى أوائل القرن السادس قبل الميلاد. الأرجح أن القطعتَين من مجموعة زخارف الحصان نفسها؛ حيث إنه منقوش عليهما بشكلٍ مُتطابق باللغة الآرامية: «ما أعطاه هَدَد لسيدنا حَزائِيل من عُمقي [أو عَمقي] في العام الذي عبَرَ فيه سيدنا النهر.» ليس من الواضح كيف وصلَت أيٌّ من هاتَين القطعتَين إلى بحر إيجه بعد فترةٍ طويلة من تصنيعهما الأَوَّلي، ولكن اقتُرِح أنهما ربما نُهِبَتا من معبد هَدَد عندما غزا تِغلث-فلاسر الثالث دمشقَ في عام ٧٣٢ قبل الميلاد.93
أيضًا ذكرَت نوتا كورو، من جامعة أثينا، أن هناك «مبخرة برونزية غير منشورة من معبد أبولو في دلفي» قد يكون عليها نقشٌ مُماثل. وهناك أيضًا غِمامة حصان برونزية ثانية، عثَرَ عليها الأثريون في المنطقة نفسها في إريتريا، وفي سياق يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وإن كانت غير منقوشة، وربما تكون من مجموعةٍ مُنفصلة، حيث يُقال إن كلتا الغمامتَين للعين اليُمنى.94
ومع ذلك، هناك أيضًا اختلافات في الرأي بشأن كيفية تفسير النقش على بعض هذه القطع: أيهما جاء من عُمقي/عَمقي، حَزائِيل أم عُدة الخيول؟ وإذا كانت العُدة هي التي جاءت من عُمقي، يمكن للمرء أن يفترِض أن حَزائِيلَ خرج بحملةٍ إلى شمال سوريا؛ لأن منطقة تل الطعينات كان الآشوريون الجُدد في هذه المرحلة يسمُّونها أحيانًا أونقي/عُمقي. ومع ذلك، فإن عَمقي هو أيضًا اسم كان يُستخدَم لمنطقةِ البقاع في لبنان خلال العصر البرونزي، ولذلك من المُمكن أن يكون هذا مجرد وصفٍ لأصول حَزائِيل؛ «حَزَائِيل من عَمقي». وهذا يعني أنه ببساطة خرَجَ بحملةٍ عامة عبْرَ نهر الفرات بدلًا من المُضي أبعد شمالًا.95 في الوقت الحالي، من المُستحيل الاختيار بين أحد هذَين الاحتمالَين.

(٩) اختتام الأمور

بعد أقلَّ من عامٍ من تولِّي يَاهُو عرشَ إسرائيل، التي حكمها من ٨٤١ إلى ٨١٤ قبل الميلاد، كان عليه أيضًا مواجهة شلمنصر الثالث، تمامًا كما فعَلَ حَزَائِيل، واستسلم على الفور. على نُصُبٍ حجريٍ يبلُغ ارتفاعه ستة أقدام يُعرَف باسم المسلَّة السوداء، وجَدَه لايارد في نمرود/كالح وهو الآن في المتحف البريطاني، يظهر يَاهُو راكعًا في خضوع أمام شلمنصر. في التعليق المرفق، وُصِفَ يَاهُو بأنه «من بت عُمري» (أي «بيت عُمري») وتمَّ إدراجه على أنه يقدِّم الجزية، والتي تضمنَت «فضةً وذهبًا وصَحفةً ذهبية ووعاءً ذهبيًّا وأوانيَ ذهبية ودِلاءً ذهبية وصفيحًا وصولجانات الملك (و) رِماحًا.» ومن المُدهِش، كما أشارت تامي شنايدر من جامعة كليرمونت للدراسات العُليا في كاليفورنيا وآخرين غيرها، أن هذه الواقعة المُتمثلة في ركوع يَاهُو أمام شلمنصر وتقديم الجزية لم يرِدْ ذِكرها في أيِّ مكانٍ في الكتاب المقدس العبري.96
fig13
شكل ٢-٤: المسلة السوداء لشلمنصر الثالث، وخُضُوع يَاهُو. المتحف البريطاني رقم ١١٨٨٨٥. الصورة بإذنٍ من المتحف البريطاني.
بعد بضعة عقود، تولَّى أداد-نيراري الثالث عرش آشور، وحكم من ٨١٠ إلى ٧٨٣ قبل الميلاد. ويَزعُم أنه حقَّق انتصاراتٍ مهمة خلال حُكمه، ومن بين ذلك عدد من الانتصارات التي جرَت فيما يعرف حاليًّا بسوريا وإسرائيل. وفي أحد النصوص، المعروف باسم لوح تل الرماح، يصف أداد-نيراري إخضاع «أراضي أمورو (و) خاتي بتمامها»؛ أي معظم سوريا. ويقول على وجه التحديد إنه تلقى جزيةً ضخمةً من ملِك دمشق، والتي تضمنَت ألفي تلنت (وحدة قياس قديمة للوزن) من الفضة، وألف تلنت من النحاس، وألفَي تلنت من الحديد، و«٣ آلاف ثوب من الكتان مزخرَفة بألوانٍ متعددة». وفي الجملة التالية المنقوشة على اللوح، يتفاخر قائلًا: «تلقيتُ جزية يُوآش، السامري» (أي، يُوآش/يَهُوآش، ملك إسرائيل، الذي حكم من حوالي ٨٠٤ إلى ٧٨٩ قبل الميلاد)، والتي لم تُذكر أيضًا في أي موضع في الكتاب المقدس، وكذلك من «شعب صور (و) صيدا»؛ لذلك يبدو، من الواضح، أن حملته امتدَّت بعيدًا إلى الجنوب.97
وفي نصٍّ ثانٍ، يُعرَف باسم نقش كالح، عُثِر عليه في نمرود، يزعم أداد-نيراري أنه تلقَّى مبالغَ أكبر من الجزية، من ملك دمشق: «٢٣٠٠ تلنت من الفضة، و٢٠ تلنتًا من الذهب، و٣ آلاف تلنت من البرونز، و٥ آلاف تلنت من العاج، وثيابًا كتانية مُزخرفة بألوان مُتعددة، وسريرًا من العاج، (و) سريرًا مُطعَّمًا بالعاج.» كما يقول على وجه التحديد إن جميع الملوك في بلاد بابل قد أصبحوا تابعين له وأنه غزا (أو أخضع) الساحل السوري كله، وجنوب الشام كله، ومنه «صور وصيدا وحُمري [السامرة/إسرائيل] وأدوم وفلسطيا، حتى البحر الكبير في الغرب (أي البحر الأبيض المتوسط).» وحسبما نعلم، يبدو أن هذا هو أول إشارة في نقش آشوري إلى «فلسطيا»، أي، فلستيا والفلستيين أنفسهم. يُمكننا أن نلاحظ أيضًا أنه يذكر أدوم على وجه التحديد، إضافة إلى مملكة إسرائيل الشمالية، وكذلك صور وصيدا.98

•••

كانت هذه مجرد بداية للتوسُّع الإمبراطوري الآشوري، والذي نعرفه بتفصيلٍ كبير. فبعد بضعة عقود فقط من حُكم أداد-نيراري، هاجَمَ ملوك آشوريون، من بينهم تِغلث-فلاسر الثالث وشلمنصر الخامس وسرجون الثاني، مملكةَ إسرائيل الشمالية ثم دمَّروها في النهاية بحلول عام ٧٢٠ قبل الميلاد. بعد ذلك بوقتٍ قصير، هاجم سنحاريب مملكة يهوذا الجنوبية في عام ٧٠١ قبل الميلاد، وخلال ذلك الوقت، دُمرت مدينة لخيش وحوصرت القدس. هذه الأحداث موصوفة في كلٍّ من الكتاب المقدس العبري والنقوش الآشورية، لكنها خارج حدود مناقشاتي هنا، لذا سيتعين عليَّ ترك قِصتها لوقتٍ آخَر.

وسَّع ملوكُ الآشوريين الجدد اللاحقون حُكم الإمبراطورية إلى مصر وشِبه الجزيرة العربية وإيران وتركيا، إذا أردنا أن نصوغ الأمر بمُصطلحاتٍ جغرافية وسياسية حديثة، ولكنهم في نهاية المطاف سقطوا في أيدي الإمبراطورية البابلية الجديدة التي عادت إلى الظهور في نهاية القرن السابع قبل الميلاد، مثلما سيسقط البابليون الجُدد في نهاية المطاف في أيدي الفُرس في وقتٍ لاحق من القرن السادس قبل الميلاد. وتقع تلك الأحداث أيضًا خارج نطاق القصة التي أرويها هنا، ولكننا نستطيع أن نرى بالفعل أن الممالك والإمبراطوريات العديدة في أواخر العصر البرونزي نجحَت في التغلُّب عليها، في نهاية المطاف في الألفية الأولى، إمبراطورياتٌ أكبر — آشور، ثم بابل، وفارس، واليونان، ثم روما — امتدَّت أراضيها عبر الشرق الأدنى القديم واحدة تلوَ الأخرى.

(١٠) تلخيص موجِز

إذن، باختصار، ما الذي تعلَّمناه من هذا الفحص السريعِ الوتيرة لبلاد الرافدين في القرون التي أعقبَت انهيار أواخر العصر البرونزي؟

باختصار، من الواضح أن الآشوريين والبابليين نجحوا في البداية في الصمود في وجه الانهيار وفترة التحوُّل من العصر البرونزي إلى العصر الحديدي، لكنَّ الحضارتَين تأثرتا بعد ذلك بالجفاف والمجاعة والطاعون قبل أن تعودا إلى الواجهة مرةً أخرى. استغرق الأمر من الآشوريين قرنَين من الزمان للعودة، بقوة، في أواخر القرن العاشر وأوائل القرن التاسع قبل الميلاد، حيث تحسَّن الطقس وأصبح أكثر رطوبةً وبالتبعية خفَّف من ظروف الجفاف، على الرغم من أن البابليِّين اضطُروا إلى انتظار دورهم حتى قُرب نهاية القرن السابع قبل الميلاد.99

نجَت عيلام في البداية دون أن يلحق بها أذًى تقريبًا، إلا أنها سُحِقَت وأُقصيَت بشكلٍ أساسي كقوةٍ على يد البابليين بحلول نهاية القرن الثاني عشر؛ تشير المصادر الحالية إلى أنها لم تعُدْ حتى نحو نهاية القرن الثامن قبل الميلاد، كما ذكرنا. يجب أن نعترِف أيضًا بالآراميين، الذين استغلُّوا الفوضى التي أعقبَت الانهيار لتأسيس أنفسهم كحضور في جميع أنحاء الشرق الأدنى القديم خلال هذه القرون.

وبالطبع، خلال بناء إمبراطوريتهم، أثَّر الآشوريون على جميع المجتمعات الأخرى التي ناقشناها في هذا الكتاب تقريبًا و/أو غزوها، ومنها الفينيقيون والقبارصة. وهما ما سنتناولهما في الفصل التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥