الفصل الثالث
البحر الأبيض المتوسط أصبح بحيرةً فينيقية
(فينيقيا وقبرص)
لقد تعلمَت أجيال من تلاميذ المدارس، على الأقل في الولايات المتحدة، أن الفينيقيين
يشتهرون بنظام الكتابة الخاص بهم. اعتُمِد نظام الكتابة هذا (وكُيِّف) في منطقة بحر إيجه،
ثم في وقتٍ لاحق في إيطاليا، ليُشكِّل الأساس لمَا نعرفه الآن بالأبجدية اليونانية
والأبجدية اللاتينية (حيث تُستخدَم اللاتينية اليوم لكتابة الإنجليزية والفرنسية والألمانية
والإيطالية والإسبانية والتشيكية والتركية والعديد من اللغات الأخرى). كما استُخدِم على
نطاقٍ واسع في كنعان في العصر الحديدي؛ فسرعان ما طُوِّرَت إصداراتٌ معدَّلة واستُخدِمَت
لكتابة النقوش بالعبرية القديمة والآرامية والموآبية والعمونية والأدومية. وتشمل اللغات
الحديثة الأخرى، التي تَستخدِم أنظمة الكتابة التي تعتبر مشتقةً بشكلٍ مباشر أو غير مباشر
من الفينيقية، والسريانية، والعربية (من خلال الآرامية النبطية)، وحتى السيريلية (أساسًا
عن
طريق الأبجدية اليونانية).
1
بدأ الثناء أولًا باليونانيين اللاحِقين. على سبيل المثال، قال هيرودوت إن الفينيقيين
«جاءوا مع قدموس من فينيقيا إلى الأرض التي تُسمَّى الآن بيوتيا»، أي أنهم استقروا في
وسط
اليونان، وأسَّسوا مدينة ثيفا. وعلاوةً على ذلك، قال: «هؤلاء الفينيقيون الذين جاءوا
مع
قدموس … جلبوا معهم إلى هِلَّس، من بين العديد من أنواع التعلُّم الأخرى، الأبجدية، التي
لم
تكن معروفةً قبل ذلك، على ما أظن، لليونانيين». وتابَعَ: «مع مرور الوقت، تغيرَت أصوات
وأشكال الحروف. في هذا الوقت كان اليونانيون الذين استقرُّوا حولَهم في الغالِب أيونيين،
وبعد أن تعلَّموا الحروف من الفينيقيين، استخدموها مع بعض التغييرات في الشكل. وبهذا
أطلقوا
على هذه الحروف اسم الفينيقية، وهو أمر عادل تمامًا؛ نظرًا لأن الفينيقيين هم الذين جلبوها
إلى اليونان.»
2
وقد أدلى مؤلِّفون قدماء آخرون بتصريحاتٍ مُماثلة، بما في ذلك ديودوروس الصقلي، وهو
مؤرخ
يوناني وُلِدَ في صقلية وكتب أثناء القرن الأول قبل الميلاد. يقول: «عندما أحضر قدموس
من
فينيقيا الحروف، كما يُطلَق عليها، كان لينوس [وهو عالِم محلي] أولَ مَن نقلَها إلى اللغة
اليونانية، وأعطى اسمًا لكل حرف، وحدَّد شكله. والآن تُسمَّى الحروف، كمجموعة، «فينيقية»؛
لأن الفينيقيين هم من جلبوها إلى اليونان.»
3
ومع ذلك، فإنه يقول أيضًا: «وردًّا على أولئك الذين يقولون إن السوريين هم مكتشفو
الحروف،
حيث تعلَّمها الفينيقيون من السوريين ثم نقلوها إلى اليونانيين، وأن هؤلاء الفينيقيين
هم
أولئك الذين أبحروا إلى أوروبا مع قدموس، وأن هذا هو السبب في أن اليونانيين يُسمُّون
الحروف «فينيقية»؛ يرى آخرون، من ناحية أخرى، أن الفينيقيين لم يكونوا أولَ من قام بهذا
الاكتشاف، ولكنَّهم غيَّروا أشكال الحروف، ومن ثم استفادت غالبية البشرية من طريقة كتابتها
كما ابتكرَها الفينيقيون، ولذلك نالت الحروف التسميةَ التي ذكرناها أعلاه.»
4
يتفق معظم العلماء المُعاصرين مع ديودوروس الصقلي. فبدلًا من اختراع الأبجدية، فالأرجح
أن
الفينيقيين قاموا ببساطة بتوحيدها. وعلاوةً على ذلك، يزعم بعض العلماء أنها لم تكن في
الواقع أبجدية، كما نُعَرِّفها حاليًّا، بل كانت ما يُعرف باسم «أبجد»؛ الذي يحتوي فقط
على
الحروف الساكنة ولا يحتوي على أحرف مُتحركة. كان اليونانيون هم مَن عدَّلوا النص الفينيقي؛
بحيث مُيِّزَت كلٌّ من الحروف المتحركة الطويلة والقصيرة، ومن ثَم ابتكروا ما نعرفه الآن
باسم الأبجدية اليونانية. ما كان مُهمًّا في توحيد الفينيقيين للأبجدية ونشرِهم لها،
وما
جعلها ثوريةً للغاية، هو أن الكتابة الأبجدية ليست مُعقدة مثل أنظمة الكتابة غير الأبجدية
في بلاد الرافدين ومصر القديمة. وهذا بدَوره كان يعني أن معدلات معرفة القراءة والكتابة
يمكن أن ترتفع، حيث يمكن لأي شخص، من أدنى مستويات المجتمع إلى أعلاها، أن يتعلَّم الآن
كيفية القراءة والكتابة بسهولة أكبر. باختصار، لم تعُدْ إجادة القراءة والكتابة مقتصرةً
بالضرورة على قِلةٍ مختارة، كما كان الحال أثناء العصر البرونزي.
5
وكثيرًا ما ننسِب إلى الفينيقيين الفضلَ في تصنيع الصبغة الأرجوانية والإبحار في
البحر
الأبيض المتوسط لقرونٍ دون أن يُدانيهم أحد تقريبًا، وتأسيسهم المُستعمرات والتجارة مع
الناس من قبرص إلى شمال أفريقيا وإسبانيا. وكانت قرطاج أشهر المدن التي أسَّسوها، والتي
ستتحدَّى روما بعد مئات السنين، أثناء الحروب البونيقية، في حين كانت الصبغة التي صنعوها
موضع تقديرٍ على مرِّ القرون. على سبيل المثال يقول سترابو: «كان الفينيقيون في العموم
مُتفوِّقين على جميع الشعوب في جميع العصور، وبواسطة مصابغهم للون الأرجواني؛ فقد أثبَتَ
الأرجواني الصوري أنه الأجمل على الإطلاق، ويُصطاد المحار بالقُرب من الساحل، ويمكن الحصول
على الأشياء الأخرى اللازمة للصباغة بسهولة، ومع أن العدد الكبير من ورش الصباغة يجعل
المدينةَ مكانًا ليس من المُستحبِّ العيش فيه، فإنه يجعل المدينة غنيةً من خلال المهارة
الفائقة لسكَّانها.»
6
ومع ذلك، وكما حدث مع الأبجدية، ربما يكون الفينيقيون قد أتقنوا ببساطةٍ صُنع الصبغة
الأرجوانية، وليس «اختراعها». هناك الآن أدلةٌ على أن تلك الصبغة كانت بالفعل تُصنع
وتُستخدَم في منطقة بحر إيجه في العصر البرونزي وكذلك في قبرص قبل قرون، من أوائل الألفية
الثانية فصاعدًا، ثم استُخدِمَت هناك وفي الشرق الأدنى طوال أواخر العصر البرونزي.
7
•••
لم يكن «الفينيقيون» هو الاسم الذي أطلقوه على أنفُسِهم، بالطبع، ولكنَّ ذلك هو الاسم
الذي أطلقه عليهم اليونانيون اللاحقون، ومنهم هوميروس في كلٍّ من «الإلياذة» و«الأوديسة».
وكما كتبَت المؤرخة جوزفين كوين من أكسفورد مؤخرًا: «كانت تسمية «الفينيقيون» تسميةً
استخدمها الكتَّاب اليونانيون لوصف البحَّارة الشامِيِّين الذين تحدَّثوا لهجاتٍ مُماثلة
من
لغةٍ مختلفة تمامًا عن لُغتهم. لم يكن المصطلح يدلُّ على الكثير فيما يتَّصل بالروابط
الثقافية أو الروابط ذات الصِّلة بأجداد هؤلاء الناس، ويبدو أنه لم يكن يعني شيئًا للناس
أنفُسِهم؛ فعلى حدِّ عِلمنا، لم يسبق لأحدٍ من المدن الساحلية أو مُستعمراتهم الخارجية
أن
وصَفَ نفسه بأنه «فينيقي».»
8
بدلًا من تسمية أنفُسِهم بالفينيقيِّين (كما فعَلَ اليونانيون)، ربما استمرَّ سكَّان
الساحل هؤلاء في تسمية أنفُسِهم بالكنعانيين (كما فعَلَ أقاربهم الناطقون بالعبرية؛ انظر،
على سبيل المثال، سِفر التكوين، الإصحاح ١٠: الآيات ١–٢٠)، على الرغم من أن هذا محلُّ
جدلٍ
علمي. والأرجح أنهم عرفوا أنفُسَهم باعتبارهم سكان دويلاتٍ، مدن محدَّدة ومنفصِلة، متاخِمةٍ
للبحر الأبيض المتوسط؛ في المقام الأول صور وصيدا وبيروت وجبيل وأرواد. تقع أراضيهم
المشتركة بالأساس فيما يُعرَف الآن بلبنان، لكنَّ سيطرتهم امتدَّت شمالًا إلى ما نُسمِّيه
اليوم سوريا وصولًا إلى جنوب عكَّا فيما يُعرف الآن بشمال إسرائيل.
9
أيًّا كان الاسم الذي نُطلقه عليهم، أو يُطلقونه على أنفسهم، من الواضح أن الفينيقيين
لم
يكونوا وافدين جُددًا إلى المنطقة، مثلما اقتُرِح سابقًا في الماضي. عِوضًا عن ذلك، أصبح
من
المقبول عمومًا الآن أن أغلبية سكان هذه المدن، إن لم يكن جميعهم، كانوا من الكنعانيين
الذين نجوا من انهيار العصر البرونزي في هذه المنطقة الساحلية المركزية من بلاد الشام.
كانت
كلٌّ من هذه المدن موجودةً في العصر البرونزي في كنعان، واستمرَّت في الازدهار خلال العصر
الحديدي. ورغم أن الأدلة لا تزال شحيحةً من المواقع الأكبر، ويرجع هذا جزئيًّا إلى صعوبات
الوصول إلى البقايا المدفونة تحت المدن الحديثة؛ يبدو أنَّ بيانات عمليات التنقيب من
المواقع الأصغر حجمًا تُشير حاليًّا إلى أن سكان المنطقة نجحوا في الانتقال بسلام. وربما
كانوا في الواقع من بين أكثر الشعوب مرونةً وقدرةً على الصمود التي ندرسها في هذا الكتاب؛
لأنهم لم يستمروا على ما يبدو في بناء دول المدن الكنعانية الأولية فحسب، بل ازدهروا
حتى في
الفراغ الذي خلَّفَه الانهيار.
10
في واقع الأمر، يبدو أن سكان هذه المدن إمَّا تحوَّلوا عن الدور الذي لعبه أسلافهم
في هذه
الكيانات السياسية نفسها خلال أواخر العصر البرونزي، أو ربما توسَّعوا فيه ببساطة. وتولَّوا
الآن دورًا جديدًا (أو ربما أكبر) باعتبارهم باعةً وتجارًا مُستقلِّين، ينقلون أنواعًا
عديدة من البضائع عبر البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجه وما حولهما. وكما وصفَت كارول بيل،
مؤرخة التاريخ القديم وعالمة الآثار البريطانية، الأمر: «تحوَّلَت مشاريع فينيقيا التجارية
إلى الغرب، ومن وجهة نظرٍ اقتصادية على الأقل؛ البحر الأبيض المتوسط أصبح بُحيرةً
فينيقية.»
11
وقد شرح كريستوفر مونرو من جامعة كورنيل هذا الأمر، مشيرًا إلى أن الفينيقيين بدَءُوا
في
الإبحار في «طُرقٍ متعدِّدة موجودة سابقًا، عبر موانئ متعدِّدة معروفة للبحَّارة لفترةٍ
طويلة.» ويَتصوَّر أنَّ هذه الطرق والموانئ كانت تُشكِّل في الأساس «شبكةَ معلوماتٍ تجارية
أنتجتها قرون من المغادرة، ليست فقط من صور، ولكن أيضًا من صيدا وأرواد وجبيل وأوغاريت
وكتيون وما إلى ذلك»؛ ولذلك يُنسَب إلى الفينيقيين الفضلُ في «إنشاء أكبرِ شبكةِ معلومات
رآها العالَم على الإطلاق بحلول القرن العاشر قبل الميلاد.»
12
ولذلك، يُمكننا أن نقترح أن الناجين الكنعانيين في هذه المدن، الذين تم تحديدهم الآن
من
خلال مدينة مُحددة (مثل صيدا) أو ببساطة أطلق عليهم اليونانيون الاسم العام «الفينيقيين»
منذ عهدٍ مبكِّر من زمن الملاحم الهومرية، كانوا أكثر من مجرد أُناس صامِدين في مواجهة
الانهيار. ربما يكون من الأفضل الإشارة إليهم باعتبارهم «مُضادِّين للهشاشة»، مُستعيرين
المصطلح من «نسيم نقولا طالب». وهو الرجُل نفسه الذي روَّج لعبارة «البجعة السوداء»،
المستخدَمة لوصف حدثٍ غير متوقَّع، مثل انهيار العصر البرونزي. وبحسب طالب، يمكن استخدام
مصطلح «مضاد للهشاشة» لوصف موقف يُظهِر فيه الكيانُ أكثرَ من مجرد المرونة أو القوة؛
بل،
وفي الواقع، «يزدهر تحت القَدْر المناسب من الضغط»، مستفيدًا من الموقف، ليس فقط للبقاء،
ولكنْ للازدهار. يصف طالب الأنظمة المضادة للهشاشة على وجه التحديد بأنها «الكيانات التي
تستفيد من الفوضى.»
13 وفي حالة الفينيقيين، يبدو أنهم استغلُّوا الفوضى بفاعلية، والأهمُّ من ذلك
استغلوا تدمير أوغاريت في شمال سوريا، للاستيلاء على طرق التجارة البحرية إلى الغرب،
عبْرَ
بحر إيجه إلى اليونان ومن ثَم إلى إيطاليا وصقلية وسردينيا.
ربما كانوا يرتحِلون أيضًا إلى الشرق للتجارة هناك، حيث توجَد بعض الدلائل على أن
القِرفة
ربما كانت تصِل من جنوب شرق آسيا؛ وعُثِر على آثارٍ في حوالي عشر قوارير فينيقية من هذه
الفترة، وُجدَت في ثلاثة مواقع مختلفة فيما يُعرف الآن بشمال إسرائيل، منها تل دور. ومن
الواضح الآن، في الواقع من مجموعة متنوعة من الاكتشافات الحديثة في مواقع مثل تل دور
وتل
إيراني وتل الصافي، أنه رغم أنَّ التجارة كانت أقلَّ جدًّا في جنوب بلاد الشام في العصر
الحديدي الأول مقارنةً بأواخر العصر البرونزي، فإنها لم تتوقف.
14
(١) قبرص والتحول إلى تكنولوجيا الحديد
أما عن قبرص، فلا شك أن الجزيرة وسكانها واجهوا خلال القرن الثاني عشر قبل الميلاد
الكثير من الظروف نفسها التي واجهتها أماكن أخرى في الشرق الأدنى القديم، في أعقاب
الانهيار مباشرةً. ومع ذلك، ورغم تعقيد الموقف، يبدو أن سكان الجزيرة كانوا أيضًا
يتمتعون بالقدر نفسه من المرونة مثل الفينيقيين، ليس فقط في التأقلم والتكيُّف، بل
أيضًا في إظهار الإبداع والتحوُّل إلى الوضع الجديد على الفور تقريبًا. ربما كان بقاؤهم
يرجع جزئيًّا إلى الثروة والمكانة المُتراكمتَين من خلال تطوير صناعة الحديد، والتي
يجِب تصنيفها مع الأبجدية، باعتبارها واحدةً من أعظم ابتكارات هذا العصر.
يُمكننا أن نرى هذا بعيدًا في موقع بيراتي، الواقع على البر الرئيسي لليونان على
بُعد
عشرين ميلًا شرق أثينا على الجانب الآخَر من شِبه جزيرة أتيكا، بالقُرب من بورتو رافتي
الحديثة. توجَد هنا مقبرةٌ كبيرة ومعروفة جدًّا يعود تاريخها إلى القرن الثاني عشر قبل
الميلاد. ومن بين الأغراض الجنائزية التي تركَتها الأُسَر المفجوعة في مدافن أحبائها
سكاكين حديدية بمسامير برونزية. وكان قد عُثِر على سكاكين مُماثلة في مواقع تيليسوس في
جزيرة كريت وليفكاندي في جزيرة وابِيَة وعلى عددٍ قليل من الجزر مثل ناكسوس وثاسوس.
وتُعدُّ هذه السكاكين الثنائيةُ المعدن من أقدَمِ الأمثلة على التُّحَف المصنوعة من
الحديد والتي عُثِر عليها في منطقتَي بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسط. ويبدو أنها
جميعها صُنعَت في قبرص وصُدِّرَت من هناك إلى وجهاتٍ مختلفة، تتراوح بين منطقة بحر إيجه
وجنوب بلاد الشام.
15
وقد أدَّت هذه الاكتشافات إلى تغييرٍ كبير في تفكيرنا؛ حيث يُقترَح الآن كثيرًا أنَّ
الحدَّادين المُبتكرين في قبرص هم المسئولون على الأرجح عن التحول من البرونز إلى
الحديد في هذا الوقت، وليس الدوريون أو شعوب البحر كما اقترحَت أجيالٌ سابقة من
الباحثين. في الواقع، وصَفَت سوزان شيريت، عالمة الآثار التي تعمل حاليًّا في جامعة
شيفيلد، القبارصةَ بأنهم «عباقرة»؛ لمَا تراه، فيما يتعلق بدورهم الرائد في نشر هذه
الأشياء والتكنولوجيا المُستخدَمة فيها.
16
صحيح أن المؤلفين اليونانيين اللاحقين، مثل سترابو، وزينوفون، وأبولونيوس الرودسي،
يذكرون تقنية الحديد فيما يتصِل بشعب أطلقوا عليه أسماء مختلفة، منها الخالدِيُّون، أو
الخاليبِيُّون، أو الكاردوخيون، الذين كانوا يعيشون ويعملون في الأناضول، على شواطئ
بُنْطُس، المعروف أيضًا باسم البحر الأسود، ولكن من المرجَّح أن ذلك يمثِّل الوضع بعد
قرون، إنْ صحَّ ذلك أصلًا.
17 في كل الأحوال، ربما ليس من الضروري المُضي بعيدًا إلى هذا الحد، سواء من
حيث التسلسُل الزمَني أو الجغرافي.
إننا نعرف، على سبيل المثال، أن الحديد كان مألوفًا بالفعل لدى القوى الحاكمة خلال
العصر البرونزي، كما يتبيَّن من الأغراض الحديدية الفردية التي عُثر عليها في سياقاتٍ
تعود إلى القرون التي سبقَت الانهيار في مصر، والأناضول، واليونان، وبلاد الرافدين،
وأماكن أخرى (على الرغم من أن الحيثيين لم يكن لدَيهم احتكارٌ أوَّلي للحديد، كما كان
يُعتقد في السابق). ومع ذلك، فإن الكثير من هذه الأغراض، وربما مُعظمها، كان مصنوعًا
من
الحديد الموجود في النيازك، ومن بينها الخنجر، ذو المِقبض الذهبي والشفرة الحديدية،
الذي عُثِر عليه في مقبرة توت عنخ آمون، والذي ربما كان في الأصل هدية زفاف من توشراتا،
ملك ميتاني، إلى الفرعون أمنحتب الثالث قبل عقود.
18 لم تنتشِر الأشياء الحديدية المُصنَّعة من رواسب خام الحديد الأرضية على
نطاقٍ واسع في الاستخدام اليومي إلا بعد الانهيار.
وبما أن الحدَّادين في قبرص وأماكن أخرى لم يبدَءُوا على ما يبدو في العمل على نطاقٍ
واسع مع الحديد إلا عندما اضطرُّوا تمامًا إلى ذلك؛ فقد فضَّلَت الفرضيات العلمية
السابقة — لتفسير الشعبية المتزايدة للحديد في السنوات التي أعقبَت الانهيار —
اقتراحًا، مفاده أنه ربما كان هناك نقصٌ مؤقَّت في القصدير أو حتى النحاس، أي مكونات
البرونز، مما استلزم اللجوء إلى الموارد المحلية. وكان هذا سيُصبح صحيحًا بشكلٍ خاصٍّ
إذا قُطعَ أيٌّ من طرق التجارة، مثل تلك التي يُجلَب عبرها القصدير من أفغانستان أو أي
مكانٍ آخر في آسيا الوسطى، أو تأثر بانهيار اقتصادات القصور في أواخر العصر
البرونزي.
19
وهكذا، قبل عدَّة عقود، خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، كان العلماء
يُصرِّحون بالفعل بأن التحوُّل إلى الحديد لم يكن تقدمًا حقيقيًّا بل كان أشبهَ بردِّ
فعلٍ على «الظروف الصعبة» (أي الافتقار إلى الوصول إلى القصدير و/أو النحاس). وأشار
هؤلاء العلماء أيضًا إلى أن التأثير الأعظم الأوَّلي للتأكيد الجديد على الحديد؛ كان
على الحِرَف والزراعة، أي المحاريث والمناجل والأزاميل والمناشير، وليس على الأسلحة
والقتال.
20
ولكنْ، في الآونة الأخيرة اقترح آخرون أنه حتى لو كانت هناك اضطراباتٌ في سلسلة
التوريد، فربما لم يكن هناك نقصٌ حادٌّ في البرونز أو النحاس أو القصدير، كما كان
يُفترَض سابقًا، وأن النحاس كان لا يزال يُستَخرَج من قبرص طوال العصر الحديدي، على
الرغم من أن السكان ربما كانوا يرسلون معظمه غربًا، على سبيل المثال، إلى سردينيا. على
سبيل المثال، صرحَت فاسيليكي كاسيانيدو، المُتخصِّصة في علم الآثار المعدنية
والتكنولوجيا القديمة في جامعة قبرص: «في وقت «سنوات الأزمة» … تمكنَت قبرص من ركوب
العاصفة والنجاة. بلغ التجار القبارصة أسواقًا جديدة تطلبَت كمياتٍ كبيرةً من النحاس،
مثل سردينيا، وبحثوا عن مصادر جديدة للقصدير والمعادن النفيسة، التي تعطلَت إمداداتها
من الشرق.»
21
ومن ثَم، ربما كان التحول إلى الحديد نتيجةً لقرارٍ اقتصادي بسيط، خاصةً مع بدء زيادة
مكانة الحديد. ولقد زعَمَ عالِم الآثار ناثانيال إرب ساتولو من جامعة كرانفيلد أن «في
مناطق كثيرة، لم يكن اعتماد الحديد يعني التخلي عن البرونز. ففي بعض المناطق على الأقل،
ربما كان الحديد المُبكِّر بمثابة إضافةٍ إلى اقتصاد المعادن المتوسع، وليس بديلًا عن
البرونز.» وكان خام الحديد متاحًا بسهولةٍ في العديد من المناطق، من بينها إيطاليا،
وعلى البر الرئيسي لليونان، وهو ما كان من شأنه أن يفيد مع انتشار
التكنولوجيا.
22
وربما لم يكن التحوُّل إلى إنتاج الحديد صعبًا كما قد يتصوَّر البعض، وخاصة إذا كانت
التكنولوجيا الجديدة قد نشأت كمُنتجٍ ثانوي لاستخراج خام النحاس الغني بالحديد وصهره،
كما اقترح البعض. وتقول كاسيانيدو إن «علماء المعادن القبارصة، مدعومون بما يقرُب من
ألف عام من الخبرة في صهر خام الكبريتيد، وربما جرى خلال هذه الألف عام إنتاجُ بعض
الحديد عن طريق المصادفة مع النحاس، ربما صادفوا هذه المادة الجديدة وأجرَوا عليها
بالتأكيد تجارب، مُستخدِمين أدوات حِرفتهم ومهاراتها.» ومع ذلك، يُلاحِظ أنه بمجرد أن
يُصبح الحديد جاهزًا للعمل، فإن ذلك ينطوي على عمليةٍ مختلفة تمامًا عن العمل مع
النحاس؛ لأن «الحديد يعتمد على تشكيل معدنٍ صُلب ميكانيكيًّا وتقسيته عن طريق الكربنة
والتبريد، ويعتمد النحاس على صبِّ معدنٍ سائل وتقسيته عن طريق الطَّرق على
البارد.»
23
ومع ذلك، يبدو أن العمل مع الحديد قد انتشر في قبرص بسرعةٍ كبيرة. في الواقع، ليس
من
المُستبعَد أن يكون تصدير الأشياء الحديدية، فضلًا عن نشر المعرفة بالتكنولوجيا
المطلوبة، أحدَ العوامل التي سمحَت للقبارصة بالبقاء والنجاة من الانهيار بل والازدهار
إلى حدٍّ ما بعد ذلك، كما اقترحَت كاسيانيدو. حتى إنه قد اقتُرِح أنَّ القبارصة ربما
جلبوا هذه المعرفة طوال الطريق إلى إيطاليا وصقلية وسردينيا، حيث كانت طُرق التجارة بين
قبرص وغرب البحر الأبيض المتوسط لا تزال تعمل في هذا الوقت.
24
ومع ذلك، فقد تأثرت هذه المناطق الغربية، بما في ذلك على الأرجح سردينيا، أيضًا
بانهيار العصر البرونزي. ويبدو الآن واضحًا، على سبيل المثال، أن حضارة تيراماري في
وادي بو في شمال إيطاليا كانت قد عانت أيضًا من أزمةٍ وانهيارٍ في نهاية القرن الثالث
عشر وبداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وأنه ربما كانت هناك هجرةٌ ضخمة للناس من
الجزء الجنوبي من هذه المنطقة، التي هُجرَت بعد ذلك قرونًا عديدة، وإعادة تنظيمٍ لعدد
المُستوطنات في الجزء الشمالي من هذه المنطقة وحجمها.
25
لذا، بينما تظلُّ أسباب التحول إلى الحديد موضع نقاش، فإن الدوافع المحتمَلة المقترحة
الآن أكثر دقة عمومًا من ذي قبل. ومع ذلك، فمن الواضح أن الاستخدام الواسع النطاق
للحديد لم يحدُث قبل الانهيار، ويبدو أنه كان استجابةً للأحداث وليس سببًا. ويُنظَر
إليه أيضًا على أنه حَدثَ في أوقات مختلفة في مناطق مختلفة، وإن لم يكن قبل الجزء
الأخير من القرن الثاني عشر أو حتى النصف الأول من القرن الحادي عشر، حيث انتشرَت
التكنولوجيا، وأتقنها الحدَّادون في كل منطقةٍ بدَورهم. ربما كانت قبرص هي الأُولى، أو
على الأقل واحدة من أوائل الدول التي ازدهرَت فيها أعمال الحديد، ولكنْ سرعان ما
انتشرَت في البر الرئيسي لليونان وأماكن أخرى أيضًا، ولا شك أن هذا التطوُّر تحسَّن
بفضل توافُر خام الحديد في كل أراضي منطقة البحر الأبيض المتوسط والشرق الأدنى
تقريبًا.
•••
وبناء على ذلك، ومن خلال ما نستطيع أن نستنتجه، ربما ازدهر القبارصة إلى حدٍّ ما
وسْطَ الفوضى، وربما مثل الفينيقيين تمامًا. وكما كتبَت كارول بيل: «كانت قبرص وفينيقيا
قادرتَين على اغتنام الفرصة عندما حاقَت الأزمة بالمنطقة. فبفضل عدم وجود إعاقةٍ من
أجندات إمبراطورية، والاعتياد بالفعل على العمل في بيئةٍ تجارية لامركزية، ظلَّ الباعة
والتجار من هاتَين المنطقتَين قادرين على مُواصَلة أنشطتهم التجارية، وكان هدفهم
الأساسي توليدَ عائدات كافية لمواصلة التجارة.»
26
ولكننا نتحرك هنا إلى المجهول قليلًا، حيث لا نملك نقوشًا مُطَوَّلة أو سجلاتٍ مكتوبة
مُفصلة أخرى من الجزيرة تُعطينا معلومات محدَّدة عن تاريخ هذه الفترة. ولا نستطيع إلا
أن نُخمِّن الظروف السياسية والاقتصادية الفعلية في الجزيرة في هذا الوقت، استنادًا إلى
الأدلة الأثرية التي عُثِر عليها. ومع ذلك، هناك في الواقع قدْرٌ لا بأس به من
المعلومات التي يُمكننا استخلاصُها من هذه الاكتشافات في قبرص؛ منها التغيُّرات في
عادات الدفن و/أو الأغراض الجنائزية، وأنواع جديدة من الفخار، والتخلِّي المفاجئ عن
مواقع، أو إنشاء مواقع جديدة مختلفة، على الرغم من وجود المزيد من المعلومات عن بعض
الفترات أكثر من فتراتٍ أخرى.
وبوجهٍ عام، تغيَّر فهْمُنا لقبرص في أعقاب الانهيار مباشرةً، وفي القرون التي تلَت
ذلك، تغيرًا كبيرًا في العقود القليلة الماضية فحسب. على سبيل المثال، فإن قبرص رغم
أنها تأثرَت تأثرًا جليًّا بالمشكلات التي كانت تحدُث في أماكن أخرى في منطقة البحر
الأبيض المتوسط في ذلك الوقت، وعلى الرغم من حالات الدمار المُتنوعة والأدلة على
اضطراباتٍ في مواقعَ مُحددة في أوائل القرن الثاني عشر، منها كتيون وإنكومي
وما-بالايوكاسترو وبيلا-كوكينوكريموس وكالافاسوس-أيوس ديميتريوس وسيندا وماروني، فمن
المُتَّفق عليه عمومًا الآن أنه لم يكن هناك حقًّا انهيار شامل على مستوى الجزيرة.
وعلاوةً على ذلك، فإن أي تغييرات سكانية في قبرص، مما كان العلماء القدامى يعتبرونه في
السابق غزواتٍ وفتوحات، يُنظَر إليها الآن على أنها أكثر تعقيدًا.
27
حاليًّا يزعم بعض العلماء — مثل ماريا أياكوفو من جامعة قبرص — أنه على الرغم من
المشكلات، فإن ما نراه هنا في قبرص هو تواصُل من العصر البرونزي إلى العصر الحديدي،
وأننا ينبغي ألَّا نفترِض انقطاعًا كبيرًا بين الفترتَين على الجزيرة، ولكنْ ربما يكون
الأمر أشبَهَ بعملية إعادة توجيه. وتزعم أياكوفو أن قبرص تأثرَت بالانهيار بدرجةٍ أقل
من مناطق أخرى في بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسط وأنَّ شعبها كان قادرًا على
التكيُّف مع الواقع الجديد بسرعةٍ كبيرة. لا يتفق الجميع اتفاقًا تامًّا مع هذا، واقترح
آخرون أن الجزيرة وسكانها ربما يكونون قد تأثروا بدرجةٍ أكبر؛ المشكلة في الوقت الحالي
هي أن الأدلة الأثرية المُتاحة حاليًّا ليست قاطعةً على وجه التحديد في اتجاهٍ أو
آخر.
28
بغضِّ النظر عن ذلك، فإن كل هذا يُمثِّل أيضًا تحولًا كبيرًا في التفكير العلمي.
ففي
السبعينيات وحتى أوائل التسعينيات من القرن الماضي على الأقل، كانت المُناقشات لا تزال
تدور حول وجود موجةٍ واحدة أو موجتان من الهجرة إلى قبرص من منطقة بحر إيجه في نهاية
العصر البرونزي والعقود الأولى من العصر الحديدي. كان يُظَن أن جميع التطورات التي
تحققَت خلال هذه الفترة، وربما من بينها تطور تكنولوجيا الحديد، ينبغي أن تُعزى إلى
وصول الميسينيين النازحين الذين وصلوا كلاجئين أو ما شابَه ذلك. حاليًّا، يتعرَّض مفهوم
الهجرة للانتقاد والتوبيخ باعتباره موقفًا استعماريًّا، وربما كان هذا صحيحًا.
29
وقد حلَّت محلَّ هذا الاقتراح اقتراحات، أو هي في طور الاستبدال، مفادها أن السكان
في
قبرص بعد الانهيار كانوا من طبيعةٍ هجينة، أي تجمُّعًا من أعراق وجنسياتٍ أصلية مختلفة،
إن صحَّ التعبير. ومن ثَم، يصعب بعض الشيء أن نتحدَّث بتعميمٍ عن «القبارصة» خلال هذه
القرون؛ حيث كان بلا شك أشخاص من أعراقٍ مختلفة عديدة، يعيشون على الجزيرة في هذا
الوقت، من بينهم اليونانيون والفينيقيون، إضافةً إلى السكان المحليين.
30 لذا، فإن استخدام مصطلح «القبارصة» خلال هذه الفترة يجب أن يُفهَم على أنه
لا يشمل الناجين المحليين من أواخر العصر البرونزي فحسب، وإنما أيضًا أيَّ وافِدين جُدد
ربما وصلوا في أعقاب ذلك.
•••
على الرغم من أن قبرص كلها نجَت من الانهيار، فهناك أيضًا أدلة أثرية تُشير إلى
أنه
في أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الحادي عشر قبل الميلاد، هُجِر العديد من المدن
القبرصية التي كانت مُهمَّة خلال العصر البرونزي، وإن كان ذلك عادةً لأسبابٍ بسيطة
وواضحة إلى حدٍّ ما. في هذا الوقت، على سبيل المثال، هُجِرَت تكية هالة سلطان، التي
كانت طوال أواخر العصر البرونزي ميناءً مزدهرًا يمتلك اتصالاتٍ دولية شرقًا وغربًا،
وذلك عندما تراكمت الرواسب في مَرفَئه. ومن المنطقة المحيطة بهذا الموقع، جمع كانيفسكي
وفريقه بياناتِ حبوب اللقاح التي تُظهِر أن المناخ قد تَغيَّر ليُصبح أكثر جفافًا، وأن
المنطقة تعرضَت للجفاف خلال الفترة من حوالي ١٢٠٠ إلى ٨٥٠ قبل الميلاد. ولا يُعرَف إن
كانت آثار تغيُّر المناخ هي التي تسبَّبت في تراكم الرواسب في المرفأ، ولكنْ بغضِّ
النظر عن ذلك، يُعتقَد أن سكان المدينة انتقلوا بأعدادٍ كبيرة إلى كتيون القريبة.
وينطبق الشيء نفسه على إنكومي، التي انتقل سكانها إلى مدينةٍ جديدة تُسمَّى سالاميس،
على بُعد ثلاثة كيلومترات فقط، بعد أن امتلأ مرفؤهم بالرواسب أيضًا في بداية القرن
الحادي عشر قبل الميلاد.
31
ونرى حوادثَ مُماثلةً أيضًا في مستوطناتٍ كبرى أخرى مثل كالافاسوس-أيوس ديميتريوس
وماروني-فورنيس، كانت مزدهرة إلى ذلك الوقت. ونظرًا لموقعها القريب من مناجم النحاس في
هذه المناطق من قبرص؛ فقد اقترح بعض العلماء أنَّ هجْرَ هذه المدن ربما حدث بسبب
انخفاضٍ (مؤقَّتٍ ربما) في الطلَب على النحاس في أماكن أخرى من البحر الأبيض المتوسط
(على الرغم من أننا رأينا للتوِّ أن آخَرين يُشيرون إلى عدم وجود انخفاضٍ في الطلب على
النحاس).
32
ومع ذلك، يبدو أن مواقعَ أخرى، مثل إيداليون، التي أصبحَت فيما بعد ذات أهمية كبرى،
قد تأسَّسَت في الوقت نفسه تقريبًا، ربما للاستفادة من زوال المدن الأخرى. كما تأسست
مدن موانئ جديدة، مثل أماثوس، في فترة الانتقال إلى الألفية الأُولى قبل الميلاد،
وازدهرَت مدن أخرى، مثل كتيون وبافوس، مُستفيدةً من التغييرات الهائلة التي حدثَت خلال
تلك الفترة.
33
ونتيجةً لكل هذا، يتفق معظم العلماء أيضًا على أنه يكاد يكون من المؤكَّد أن عمليات
إعادة التنظيم السياسي حدثَت خلال هذه الفترة؛ مما أدى في النهاية إلى إنشاء دويلات
المدن التي يُمكننا رؤيتها على الجزيرة بحلول القرنَين التاسع والثامن قبل الميلاد، إن
لم يكن قبل ذلك.
(٢) «مقابر المُحاربين» وسيخ أوفيلتاس
خلال العقود السابقة، كان هناك أيضًا الكثير من المناقشات بين علماء الآثار ومؤرخي
التاريخ القديم فيما يتعلق بالهجرات المُحتمَلة، و/أو استعمار اليونانيين للجزيرة في
أعقاب الانهيار. وقد اجتذبَت قطعةٌ واحدة على وجه الخصوص، وهي سيخ برونزي (سيخ شواء في
الأساس)، قدْرًا كبيرًا من الاهتمام في هذا الصدد؛ لأنها تحمل أقدم اسمٍ يوناني معروف
عُثِر عليه في الجزيرة؛ «أوفيلتاس». وهو اسم رجُل، مكتوب باستخدام خمس علاماتٍ مقطعية
قبرصية مينوية، باللهجة الأركادية القبرصية اليونانية، وفي حالة الإضافة (بمعنى «مِلك»،
أو «ينتمي إلى» أوفيلتاس). لذلك، عادةً ما يُفَسَّر على أنه اسم مالك سيخ
الشواء.
عُثِر عليه في القبر رقم ٤٩ داخل مقبرة سكاليس في باليبافوس («بافوس القديمة»). وهو
قبرٌ ثري جدًّا يعود تاريخه إلى النصف الثاني من القرن الحادي عشر قبل الميلاد. اكتشفه
عالِم الآثار القبرصي الشهير فاسوس كاراجورجيس، الذي عمل لعقودٍ من الزمن مديرًا لهيئة
الآثار في الجزيرة. داخل القبر، الذي احتوى على «هيكلَين بشريَّين سليمَين تقريبًا»
مُلقَيَين على الأرض، مع شظايا من جمجمةٍ ثالثة عُثِر عليها في مكانٍ قريب، كان هناك
ثلاث أمفورات كبيرة (الأمفورة هي جرَّةٌ خزفية ذات حامل من الجانبَين كان اليونان
القدامى يستعملونها)، ومصفاة برونزية كبيرة، ووعاء برونزي كبير، وأربعة أوعية برونزية
أصغر، وحامل برونزي ثلاثي القوائم، ورأس حربة برونزي، وثلاثة أسياخ برونزية، من بينها
سيخ أوفيلتاس المنقوش.
34
ورغم أن هذا قد يبدو ملاحظةً جانبية غير ذات صلة، فمن المناسب أن نلاحظ في هذه
المرحلة أن العديد من أساطير تأسيس مدن العصر الحديدي في قبرص، وخاصة بافوس وسالاميس،
شملَت بعض الأبطال الأقل شهرةً من حرب طروادة، وكذلك الفينيقيين. على سبيل المثال،
تَنسِب قصة تأسيس بافوس الفضلَ إلى أغابينور، الذي كان ملك تيجيا في أركاديا في البر
الرئيسي لليونان. في حين أن مثل هذه القصص عن التأسيس لا أساس لها من الصحة في العادة؛
فعلى سبيل المثال، كانت بافوس موجودةً بالفعل منذ فترةٍ طويلة قبل هذه الفترة؛ فمن
المؤكَّد أن هذه معلومةٌ مُثيرة للاهتمام، نظرًا لاستخدام اللهجة الأركادية القبرصية
لكتابة اسم أوفيلتاس على السيخ البرونزي الذي عُثِر عليه في مقبرة باليبافوس-سكاليس
(بمعنى أنه كان هناك بعض الاتصال بين أركاديا وقبرص في هذا الوقت تقريبًا، ولو بشكلٍ
غير مباشر فقط).
وعلى نحوٍ مُماثل، يُفترَض أن مدينة سالاميس في قبرص أسسها تيوكر (توكر)، الذي وُصِف
في «الإلياذة» لهوميروس بأنه رامي سِهام أسطوري. لم يكن الأخ غير الشقيق لآياس فحسب،
بل
كان أيضًا ابن تيلامون، الذي كان ملك جزيرة سالاميس في اليونان، وهو ما قد يُفسر تشابُه
الأسماء. كما يُخبرنا فيرجيل في «الإنيادة» (الكتاب الأول، الأبيات من ٦١٩ إلى ٦٢٦) أن
تيوكر حصل على مساعدةٍ من ملكٍ لصيدا يدعى بيلوس، أي، فينيقي لا نعرف اسمه لولا
ذلك.
35 مرة أخرى، لا يُمكننا أن نأخذ هذه الأمور على ظاهرها، ولكنْ من المُثير
للاهتمام أن نرى انعكاس الفينيقيين واليونانيين والقبارصة في هذه القصص.
ومع ذلك، فإن المقبرة مع سيخ الشواء البرونزي لأوفيلتاس غير عادية أيضًا من جانبٍ
آخر؛ لأنها تُعَد من بين ما يُسمَّى بمقابر المحاربين التي عُثِر عليها في قبرص وكريت
والبر الرئيسي لليونان في هذا الوقت، والتي يرجع تاريخها إلى الفترة من مُنتصف القرن
الحادي عشر إلى أوائل القرن العاشر قبل الميلاد. كانت هذه المقابر تحتوي دائمًا تقريبًا
على هدايا غالية الثمَن، مدفونة مع الميت، الذي غالبًا ما تكون جثته قد أُحرِقَت. ومن
بين الأغراض الجنائزية في هذه المدافن أسلحة وأوانٍ معدنية وحوامل ثلاثية القوائم
وأسياخ، كلها مصنوعة من البرونز أو الحديد. في كثير من الأحيان يكون هناك أيضًا امرأة
مدفونة مع المحارب، على الرغم من أنه في معظم الحالات لا تكون جثتها مُحترقة، وعلاقتها
بالرجُل ليست واضحة دائمًا.
36
وفي قبرص، عُثر على مثل هذه القبور في مقابر في باليبافوس-سكاليس، وسالاميس،
ولابيثوس-كاستروس، وكوريون-كالوريزيكي، وأماثوس. وفي جزيرة كريت، عُثر عليها في المقبرة
الشمالية في كنوسوس، وكذلك في أماري، حيث احتوت باطِيَة أمفورية برونزية على رمادٍ من
حرق جثث. وفي البَر الرئيسي لليونان، قد يكون هناك أحد هذه القبور في تيرنز، إضافةً إلى
قبرٍ معروف جدًّا في ليفكاندي في جزيرة وابية. وسنعود إلى هذه القبور في منطقة بحر إيجه
في الفصل الخامس.
37
•••
عمومًا، يبدو أن دور قبرص كقائدة في التجارة الدولية استمر خلال هذا القرن. وكما
ذكرَت نوتا كورو من جامعة أثينا، وهي مُتخصصة في الاتصالات الفينيقية مع منطقة بحر
إيجه، سبق أن ذكرتُها: «ظلَّت الشبكات البحرية القديمة في البحر الأبيض المتوسط نشِطةً
في أيدي القبارصة، الذين واصلوا خلال القرن الحادي عشر قبل الميلاد حتى رحلاتهم الطويلة
إلى الخارج، وإن كان على نطاق أصغر بكثير من ذي قبل.»
38
وبحلول هذا الوقت، كان القبارصة يُصَدِّرون بجدية أغراضًا حديدية، وخاصة السكاكين
والسيوف. ورغم ظهور مثل هذه الأسلحة الحديدية لأول مرة في قُبرص في القرن الثاني عشر،
كما ذُكِر أعلاه، فالسكاكين الحديدية موجودة الآن بكمياتٍ أكبر بكثيرٍ في جزيرة كريت،
والبر الرئيسي اليوناني، وسوريا، وجنوب بلاد الشام، في سياقاتٍ ترجع إلى القرن الحادي
عشر قبل الميلاد.
39
إضافةً إلى الأسلحة والأدوات الحديدية، عُثِر على أغراضٍ برونزية قبرصية مُكتملة،
مثل
الأوعية والحوامل في سياقاتِ القرن الحادي عشر قبل الميلاد في منطقة بحر إيجه، وخاصة
في
جزيرة كريت. وتشمل هذه الأغراض باطِيَة أمفورية برونزية وأشياءَ أخرى مُستمدة من قُبرص
في قبرٍ في موقع أماري، المذكور أعلاه؛ وحاملًا برونزيًّا في المقبرة الشمالية في
كنوسوس؛ وأشياءَ أخرى مثل أوعية برونزية ذات مقابض على شكل زهرة اللوتس. كما عُثرَ على
أغراضٍ قبرصية من هذا التاريخ في أماكن بعيدة مثل سردينيا وصقلية ومنطقة وَلْبَة في
إيبيريا.
40
وعلى هذا المنوال نفسه، اقترح جان بول كرييلارد، عالِم الآثار بجامعة أمستردام، في
عام ١٩٩٨ أن «أعضاء النخبة القبرصية كانوا على اتصالٍ بأفراد رفيعي المستوى في سردينيا
ومن خلالهم كانوا على صلةٍ بمناطق بعيدة في أماكن أخرى في الغرب» وأن شبكة التجارة
الدولية على مستوى البحر الأبيض المتوسط بدأت بالفعل في التبلور مرةً أخرى، على الأقل
على مستوى النخبة، بهدف الحصول على «سلعٍ غريبة ذات قيمة جوهرية ورمزية
عالية.»
41
ولكنْ، ماذا عن القبارصة الذين لا ينتمون إلى النخبة؟ وكيف كان حال سكان قبرص
العاديين في هذا الوقت، أي المزارِعين والتجَّار والحدَّادين وعمَّال المناجم وغيرهم
ممَّن شكَّلوا الطبقتَين الوسطى والدنيا؟ من الصعب بكل صراحةٍ أن نقول أي شيءٍ عنهم
خلال تلك الفترة؛ لأننا ببساطة لا نملك أدلةً كافية في هذا الوقت للتعليق بطريقة أو
بأخرى، ولكنْ على أقل تقدير، من المُحتمَل جدًّا أن الناس الذين يعيشون في مستوطناتٍ
أصغر، بعيدًا عن مراكز المدن، ربما لم يلاحظوا الكثير من التغيير، على الأقل من حيث
البنية السياسية، على الرغم من أنهم ربما يكونون قد اضطُروا إلى التعامُل مع ظروفٍ أكثر
جفافًا.
42 وفيما يتعلق بأولئك الذين يعيشون في المناطق الحضَريَّة، وخاصةً في المراكز
الجديدة التي تأسَّست في هذا الوقت، وفيما يتعلَّق بالنخبة، ربما بدا الأمر في الواقع
وكأنَّ الجزيرة كانت مُستمرَّةً في إظهار المرونة والتحوُّل في مواجهة الظروف
المُعاكِسة. وأيًّا كان ما نعتقِده بشأن «مقابر المحاربين» التي عُثِر عليها في قبرص
وفي منطقة بحر إيجه؛ فإن البضائع القبرصية التي صُدِّرَت شرقًا وغربًا في هذا الوقت
تُشير إلى أنَّ القبارصة ظلُّوا قوةً فعَّالة على طُرق التجارة الدولية وأنهم استمروا
في الازدهار في أعقاب الانهيار.
(٣) الفينيقيون المغامرون في القرن الحادي عشر
يبدو أن الفينيقيين كانوا على اتصالٍ بهذه المناطق في هذا الوقت أيضًا. وبينما ينبغي
علينا أن نُفكر في كون القبارصة والفينيقيين يتعاونون أو يتنافسون على الأسواق الغربية
في ذلك الوقت؛ فإن كورو ترفض هذا الاحتمال. وتقول: «إن غياب الأغراض الشرق أوسطية خلال
الفترة نفسها في منطقة بحر إيجه يُعزِّز السيناريو القائل بأن القبارصة كانوا الزوار
الوحيدين المُحتمَلين ﻟ… كريت و… البر الرئيسي اليوناني.»
43 ومع ذلك، يبدو أن هذا موضوعٌ آنَ أوانُ طرحه لمزيد من المناقشة.
إننا نعرف أن الفينيقيين كانوا على اتصالٍ بمصر في هذه المرحلة، وهو أمرٌ غير مفاجئ.
وعلى وجه الخصوص، لدَينا التفاصيل من قصةٍ تُعرَف باسم «حكاية وِن آمون»، والتي كُتبَت
على لفافة بردية اكتُشِفَت في عام ١٨٩٠ داخل الجرَّة نفسها في موقع الحيبة في مصر، مثل
قائمة آمون-إم-أوبت.
كان وِن آمون كاهنًا مصريًّا أُرسِل من معبد آمون في الكرنك للحصول على خشب الأَرز
اللبناني لصُنع قاربٍ جديد كان مِن المُقرَّر بناؤه وتكريسه للإله آمون رع. ويرجَّح أن
رحلته جرَت حوالي عام ١٠٧٥ قبل الميلاد، خلال العقود الأولى من القرن الحادي
عشر.
44 تبدأ القصة المُسجَّلة على المخطوطة على النحو التالي:
في السنة الخامسة، الشهر الرابع من الموسم الثالث، اليوم السادس عشر، غادَرَ
وِن آمون، شيخُ بوابة معبد آمون، [ربِّ العروش] في الأرضين، للحصول على أخشاب
للزَّوْرق النهري العظيم والنبيل لآمون رع، ملك الآلهة … وفي اليوم الذي وصلتُ
فيه إلى تانيس، في المكان [الذي يوجَد فيه] سمندس وتانيت آمون، أعطيتُهما
الخطابات من آمون رع، ملك الآلهة، وقد قُرئت في حضرتَيهما … أرسلَني سمندس
وتانيت آمون مع قائد السفينة مِنجيبِت، وتوجَّهنا إلى البحر السوري
العظيم.
45
أبحَرَ وِن آمون أولًا إلى مدينة دور، التي تقع الآن في شمال إسرائيل، والتي وصفها
بأنها بلدةٌ «تجيكرية». يقول: «وصلتُ إلى دور، وهي بلدةٌ تجيكرية. وكان لدى بِدِر،
أميرها، خمسون رغيفًا، وجرَّة واحدة من النبيذ، وفخذُ ثورٍ أحضرها لي.» كان التجيكر
أحدَ شعوب البحر المذكورة في الهجوم على مصر في عهد رمسيس الثالث، والذي وطَّنهم بعد
ذلك في «معاقل تحت إمرتي». كانوا أيضًا إحدى المجموعات الثلاث المذكورة في قائمة
آمون-إم-أوبت.
لم يُقدِّم موقع تل دور، جنوب مدينة حيفا المعاصرة، والذي كان الأثريون يُجرون فيه
باستمرار تقريبًا عمليات تنقيب منذ عام ١٩٩٠ والذي سأذكُره مرةً أخرى في الصفحات
القادمة، الكثير من الأدلة على أنه معقل لشعوب البحر المهزومة، على الرغم من مناقشةِ
قصة وِن آمون كثيرًا. بدلًا من ذلك، يحتوي الموقع على الكثير من الفخار الفينيقي في
المستويات الأثرية للقرن الحادي عشر، مما أضاف الكثير إلى معرفتنا ﺑ «فينيقيا
الجنوبية». وفي الآونة الأخيرة، عثَرَ علماء الآثار البحرية من جامعة حيفا على أدلةٍ
تُشير إلى وجود ميناء يعود إلى العصر الحديدي في دور، كان مستخدمًا خلال القرنَين
الحادي عشر والعاشر قبل الميلاد. وقد أظهرَت عمليات التنقيب تحت الماء التي أُجرِيَت
في
السنوات القليلة الماضية أنَّ ما كان يُعتقد أنه شعابٌ مرجانية طبيعية؛ هو في الواقع
جزءٌ من حجرٍ صخري جيد البناء، كان يُستَخدَم رصيفَ ميناء أو حاجزَ أمواج.
46
ولسوء حظِّ وِن آمون، بينما كان راسيًا في ميناء دور، سرَقَ بحَّارٌ من سفينته
الأغراض الثمينة المُخصَّصة لدفع ثمَنِ الأخشاب. وشملَت هذه الأغراض إناءً ذهبيًّا
وأربعَ جرار فضِّية، وحافظةً تحتوي على قطع من الفضة. وبعدما أبلغ وِن آمون عن السرقة
لأمير دور، الذي لم يتلقَّ منه أيَّ تعاطُف أو رضًا، مضى أبعدَ شمالًا في الأراضي
الفينيقية، إلى مدينة جبيل. وهناك الْتقى بأمير المدينة، رجُلٌ يُدعى تجيكر-بعل، الذي
كان باديَ العِداء، وربما كان هذا انعكاسًا لتغيُّر وضع مصر الدولي. كان على بعثة وِن
آمون أن تنتظِر حتى تُرسَل من مصر أغراضٌ بديلة لتلك التي سُرقَت حتى يمكن دَفْع ثمَن
الأخشاب وقطَع الأشجار. وعندما وصلَت الأغراض أخيرًا، كانت تتضمن أربعة أوعية ذهبية
وإناءً ذهبيًّا آخر؛ وخمسة أوعية من الفضة؛ وعشر قطع من الملابس؛ وخمسمائة حصيرةٍ من
الكتان الناعم (أو لفَّات ورق البردي)؛ وخمسمائة جِلدِ ثور؛ وخمسمائة حبل؛ وعشرين كيسًا
من العدس؛ وخمس سِلال من الأسماك.
47
يقول وِن آمون: «ففرح الأمير، وأرسل ثلاثمائة رجُل وثلاثمائة ثورٍ وعيَّنَ مُشرِفين
مسئولين عنهم لقطع الأخشاب. فقطعوها، وبقيَت هناك طوال فصل الشتاء. وفي الشهر الثالث
من
الموسم الثالث، نُقِلَت إلى شاطئ البحر.» ويُخبرنا وِن آمون أن الخشب حُمِّل على سفينة،
وأن الأمير «ودَّعني من هناك عند ميناء البحر» عائدًا إلى مصر.
ومع ذلك، لم تكن تلك نهاية مِحَن وِن آمون ومصاعبه. انحرفَت السفينة عن مسارها على
الفور تقريبًا ورسَت في النهاية في قبرص. كاد بعض أهل البلدة التي وجد نفسه فيها
حينئذٍ، والتي لم يذكر اسمها، يقتلون وِن آمون؛ ولم يُنقِذه إلا مجيء أميرتها، هاتيبا،
لمساعدته وإصدارها أمرًا بالقبض على هؤلاء الأشخاص. تنقطع مخطوطة البردي والقصة عند هذه
النقطة. لا نعرف كيف انتهَت، على الرغم من أنَّ وجود القصة يُشير إلى أن وِن آمون
تمكَّن في النهاية من العودة إلى مصر.
كانت «حكاية وِن آمون» هذه موضوعًا للعديد من المناقشات العلمية على مدار القرن
الماضي. لا يزال غير واضح إن كان السِّجل الرسمي لرحلةٍ تاريخية فِعلية أم قطعةٍ من
خيال سردي. ولكنَّ تفاصيل الرواية تبدو صادقةً للغاية وتتناسب بشكلٍ جيد مع أجواء
العصر، عندما استمرَّت مكانةُ مصر على المسرح الدولي في التراجُع وواجهَت تشرذمًا
سياسيًّا، حتى إنها عادةً ما تُعتبر انعكاسًا للحقبة العامة قُرب نهاية عهد رمسيس
الحادي عشر، آخِر فراعنة الأسرة العشرين (على الرغم من أنها ربما تكون قد دُوِّنَت
بُعَيد ذلك، إما خلال الأسرة الحادية والعشرين أو الثانية والعشرين).
48
(٤) الأراضي الفينيقية والاتصالات الخارجية
تشكِّل الأراضي الفعلية للفينيقيين موضوعًا ذا أهمية متزايدة لعلماء الآثار ومؤرخي
العصور القديمة هذه الأيام. وجزءٌ من المشكلة هو أن المدن القديمة الأكبر في لبنان تقع
عمومًا تحت نظيراتها الحديثة، ونتيجةً لذلك، من الصعب التنقيب عنها. كما أدَّت
الاضطرابات السياسية المُتكرِّرة في لبنان المعاصرة إلى إبطاء وتيرة التنقيب عن المدن
الفينيقية الرئيسة. ونتيجةً لهذا، تضاءلَت فرصة استرجاع موادَّ من هذه الفترة في لبنان
من مواقعَ أخرى غير صور وبيروت وجزيرة أرواد وتل عرقة (عِرقاتا القديمة). وهناك أيضًا
سربتا، وهو موقعٌ تمَّ تحديده على أنه صِرْفَة التوراتية، ويقع على الساحل بين صيدا
وصور، والذي أجرى فيه جيمس بريتشارد وجامعة بنسلفانيا عملياتِ تنقيبٍ في سبعينيات القرن
العشرين. وقد ألقَت عمليات التنقيب المتنوِّعة هذه بعضَ الضوء على الثقافة المادية
الفينيقية، وخاصة الفخار، ولكنْ ليس بالقدر الكافي.
49
ومع ذلك، فإننا نعرف الآن أن الأراضي الفينيقية في ذلك الوقت امتدَّت أيضًا إلى
الجنوب، إلى ما يُعرف الآن بإسرائيل المعاصرة. هذه هي المنطقة التي يشير إليها بعض
العلماء حاليًّا باسم «فينيقيا الجنوبية»، حيث قدمَت مواقعُ مثل تل دور أدلةً على
الفخار الفينيقي وبقايا أخرى في مستويات العصر الحديدي، من بينها كنوز الفضة التي تشير
إلى اتصالاتٍ فينيقية مع إسبانيا. في دور، عُثِر على كنزٍ يبلغ وزنه ثمانية كيلوجرامات
ونصف من الفضة المطليَّة مُخبَّأ في إبريقٍ خزفي مُغطًّى بوعاء. وقد سُجِّل أنه عُثِر
عليه بالقُرب من مبنًى يحتوي على فخار يوناني من جزيرة وَابِيَة، في سياقٍ أُرجِع
تاريخه مبدئيًّا إلى أواخر القرن الحادي عشر أو أوائل القرن العاشر قبل الميلاد، ولكنْ
يُعتقد الآن أنه يعود إلى النصف الثاني من القرن العاشر.
50
ويبدو أن الفضة الموجودة في هذه الكنوز، في دور وأماكن أخرى، تأتي من مزيجٍ من
المصادر، من بينها تبرز بشدَّة إيبيريا (إسبانيا). وربما تكون قِطعٌ أخرى قد أتَت من
الأناضول وسردينيا. وهذا أمرٌ بالِغ الأهمية؛ لأن كثيرًا من الكنوز في إسرائيل، التي
يرجع تاريخها إلى ١٢٠٠–٩٥٠ قبل الميلاد، يحتوي على فضةٍ ممزوجة بالنحاس. ويفسِّر مؤلفو
الدراسة التي قادَتها تسيلا إيشيل في جامعة حيفا هذا التخفيفَ بأنه ربما كان هناك نقصٌ
في الفضة بعد الانهيار في نهاية أواخر العصر البرونزي، وأن هذا هو السبب وراء هذا البحث
المكثَّف عن مصادرَ جديدة في الأناضول وغرب البحر الأبيض المتوسط، والتي قد بدأ
الاستيراد منها بحلول منتصف القرن العاشر قبل الميلاد.
51
إن فكرة أن الفينيقيين ربما كانوا يستوردون الفضة من إسبانيا في وقتٍ مبكِّر من القرن
الحادي عشر قبل الميلاد وبالتأكيد بحلول القرن العاشر قبل الميلاد؛ لا تستند فقط إلى
تحليلات لمصدر الفضة الموجودة في كنوز العصر الحديدي في بلاد الشام، مثل تلك الموجودة
في دور، بل وإلى الفخار الفينيقي الموجود بالفعل في موقع وَلْبَة في إسبانيا، والذي
يزعم البعض أن تاريخه يعود إلى القرن الحادي عشر قبل الميلاد. وكان اكتشاف مصدرٍ جديد
للفضة في إسبانيا واستغلاله؛ حدثًا رئيسيًّا في ذلك الوقت. وكما ناقَشَ ميتشل ألين في
أطروحته المُقدَّمة إلى جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس عام ١٩٧٧، فقد أتاح هذا
للفينيقيين نطاقًا كبيرًا؛ مما جعلَهم أثرياء بما يكفي لإنشاء مُستعمراتٍ في جميع أنحاء
البحر الأبيض المتوسط، وخاصة للمساعدة في حمايتهم من استيلاء الآشوريين على مُدُنهم من
خلال دفْعِ الجزية إذا لزم الأمر.
52
إضافةً إلى ذلك، إن موقع تل شيقومونا القريب من مدينة حيفا المعاصرة، قد قدَّم الآن
أدلةً جيدة على إنتاج الصبغة الأرجوانية من القرن العاشر قبل الميلاد على الأقل،
واستمراره حتى القرن السابع قبل الميلاد. وقد أُعيد مؤخرًا فحص الاكتشافات من الموقع،
الذي جرى التنقيب فيه لأول مرة في ستينيَّات القرن العشرين وسبعينياته، وخاصة قِطع
الفخار العديدة، والتي لا تزال ملطَّخة باللونَين الأرجواني والأزرق من الداخل. ويظنُّ
جولان شالفي وأيليت جِلْبُوع، وكلاهما من جامعة حيفا، أنَّ الموقع كان مشاركًا بنشاطٍ
في صناعة الصبغة. وعادةً ما نجد في مثل هذه المواقع أو بالقُرب منها أكوامًا من الأصداف
المسحوقة من الحلزون البحري، والتي كانت جزءًا لا يَنفصِم من عملية التصنيع، ولكنْ هنا
في شيقومونا توجَد أدلةٌ إضافية، مثل شَقَفات الفخار هذه، والتي قد تساعد في إلقاء
المزيد من الضوء على الفينيقيين وإنتاج الصبغة الأرجوانية، ومن بين ذلك هذه المنطقة من
«فينيقيا الجنوبية».
53
إذا كان الفينيقيون يسافرون إلى أقصى الغرب حتى إسبانيا، فقد كان لزامًا عليهم القيام
بالرحلة على مراحل، منها التوقُّف في قبرص وفي منطقة بحر إيجه، وربما الرسو في مواقع
الموانئ في جزيرة كريت والبر الرئيسي لليونان. ومن الأمور ذات الصِّلة في هذا الصدد،
الواردات الفينيقية التي يرجع تاريخها إلى هذه الفترة، والتي كان قد عُثِر عليها في
قبرص، وخاصةً في سياقات المقابر على الجانب الغربي من الجزيرة، مثل منطقة باليبافوس.
وقد اقترحَت كارول بيل على وجه التحديد أن الفينيقيين ربما استخدموا غربَ قبرص «نقطةَ
انطلاقٍ للرحلات نحو الغرب». ولكنْ في الوقت الحاضر لا يوجَد سوى القليل من بقايا
المواد في منطقة بحر إيجه من الاتصالات الفينيقية خلال القرن الحادي عشر قبل
الميلاد.
54 وهذا لا يعني أن مثل هذه الاتصالات لم تحدُث، وخاصة إذا كانت السفن
الفينيقية متجهةً إلى الغرب إلى إيبيريا، ولكنْ يتعيَّن علينا أن ننتظِر لنرى ما ستكشف
عنه عمليات التنقيب المستقبلية.
(٥) الفينيقيون والقبارصة واليونانيون
تشير أوجه التشابُه بين الخزف اليوناني المحلي والفخار الذي استُخرِج في صور في
سبعينيات القرن العشرين إلى أن سكان صور هم على وجه التحديد الذين بدَءُوا المغامرات
البحرية إلى منطقة بحر إيجه وما بعدَها غربًا خلال القرن العاشر قبل الميلاد.
55 تكتب كورو، المُتخصِّصة في الاتصالات الفينيقية التي تُدرِّس في جامعة
أثينا: «يُعتبر الآن نوعُ السفر قبل الاستعماري، الصغير النطاق، للفينيقيين في بداية
العصر الحديدي المُبكر، أمرًا مُرجَّحًا جدًّا؛ ربما في القرن العاشر عندما تغيَّر
التنظيم الاجتماعي والسياسي للفينيقيين تغيرًا جذريًّا.»
وتتابِع: «كان القرن العاشر فترةً حاسمةً لفينيقيا؛ لأنه كان الوقتَ الذي نجح فيه
حاكِمُ صور، حيرام الأول، في توحيد المدن الساحلية تحت قيادته في نوعٍ من الاتحاد
التجاري، وإن لم يكن بَعدُ سياسيًّا. كانت حيرام أولَ مَن نظَّم السياسة التجارية
للفينيقيين وشرع في رحلاتهم التجارية الخارجية في البحر الأبيض المتوسط في حوالي نهاية
القرن العاشر قبل الميلاد.» ومن الأمور ذات الأهمية الخاصة إعلانُها أنه «الآن، أيْ في
النصف الثاني من القرن العاشر، يحاول كلٌّ من الفينيقيين واليونانيين من جديد، بعد
نهاية العصر البرونزي، عبور مسافاتٍ طويلة للتجارة.»
56
إن جزيرة وابية، وتحديدًا ليفكاندي، وكذلك كنوسوس وكوموس في جزيرة كريت، هي المناطق
في بحر إيجه التي أنتجَت أقدم القطع الأثرية الفينيقية حتى الآن. في كوموس على الساحل
الجنوبي لجزيرة كريت، عُثِر على ما يقرُب من مائتَين إلى أكثر من ثلاثمائة قطعة فخَّار
فينيقية (وفقًا لتقارير مختلفة) في الحرم اليوناني في الموقع. يرجع تاريخ الحرم إلى
النصف الثاني من القرن العاشر قبل الميلاد (على الرغم من أن القطع الفخارية قد تعود إلى
أواخر القرن التاسع قبل الميلاد، وفقًا لأحدث التحليلات للخزف).
57
خلال هذا القرن، ازداد عدد الأغراض الفينيقية التي عُثِر عليها في جزيرة كريت والبر
الرئيسي لليونان. واقترح بعض العلماء أنه بحلول هذا الوقت، كانت هذه المنطقة تُستخدَم
نقطةَ انطلاق للسفن الفينيقية المُتَّجِهة إلى الغرب، نحو قرطاج أو حتى نحو إسبانيا.
حتى إن علماء آخَرين اقترحوا أنه بحلول هذه المرحلة كان هناك مهاجرون فينيقيون أو
سوريون شماليون أو من الشرق الأدنى يعيشون في مواقع مثل كنوسوس وكوموس في كريت أو في
ليفكاندي أو أثينا في البر الرئيسي لليونان.
58
وفي المقابل، هناك عددٌ من القطع الفخارية اليونانية من هذه الفترة الزمنية التي
كان
قد عُثِر عليها في مواقع مختلفة في بلاد الشام، ومنها جبيل وصور وسربتا، وكذلك أبعدَ
جنوبًا في إسرائيل الحالية، ومنها تل دور. ومع ذلك، ومن خلال الأدلة الموجودة في
ليفكاندي، يبدو أن الفينيقيين ربما كانوا قد انضموا حينئذٍ إلى القبارصة في الإبحار
غربًا، وبدء اتصالاتٍ مُستمرة مع منطقة بحر إيجه وما بعدها. غالبًا ما يُعثَر على
أغراضٍ من قبرص والشرق الأدنى معًا في سياقاتِ منطقة بحر إيجه، مثل الوعاء القبرصي الذي
يحمل نقشًا فينيقيًّا من مقبرة تيكي في كنوسوس، وشقفات الفخار الفينيقية التي عُثِر
عليها في كوموس. هناك أيضًا أغراض قبرصية أخرى عُثِر عليها على جزيرة كريت في فورتيتسا،
وفي المقبرة الشمالية في كنوسوس.
59
عادةً ما يُنظر إلى القرن العاشر على أنه استمرارٌ لفترة الانتقال في قبرص، لكنَّ
دراساتٍ قليلةً هي التي تناقش هذه الفترة بقدرٍ كبير من التفصيل؛ حيث لا تتوفر سوى
بياناتٍ قليلة على وجه التحديد في الوقت الحاضر. وإذا ذُكِرَت أصلًا، فعادةً ما يكون
ذلك بالتزامُن مع التطورات التي حدثَت خلال القرن الحادي عشر والتي رأيناها أعلاه،
وتمهيدًا للتغييرات التي ستحدُث في القرن الثامن قبل الميلاد، أو على وجه التحديد من
حيث الأدلة الجنائزية من المقابر المُختلفة.
60
(٦) ملوك جبيل وصور
لا نعرف أسماء أيٍّ من الحكَّام في قبرص خلال هذه الفترة، باستثناء الإشارة الأدبية
للملكة (أو الأميرة) هاتيبا من «حكاية وِن آمون»، لكنَّ لدينا نقوشًا تقدِّم أسماءَ ستة
ملوك لجبيل، حكموا خلال القرن العاشر وأوائل القرن التاسع قبل الميلاد: أحيرام،
وإيثبعل، ويِحِمْلِك، وأبيبعل، وإليبعل، وشيبيت بعل.
61 في الواقع، قد تكون جبيل، من بين جميع المدن الفينيقية، أكثر مدينة نعرف
عنها معلومات فيما يتعلق بحكَّامها خلال القرن العاشر قبل الميلاد.
كانت جبيل نشِطة منذ فترةٍ طويلة على الساحة الدولية. في أوائل القرن الرابع عشر
قبل
الميلاد، أرسل ملكها، ريب عدي، عشرات الرسائل إلى الفرعون أمنحتب الثالث وابنه أخناتون،
واحتُفِظ بها في أرشيفهما في تل العمارنة في مصر، حيث اكتُشِفَت في عام ١٨٨٧.
62 وكانت جبيل أيضًا وجهةَ وِن آمون تقريبًا عام ١٠٧٥ قبل الميلاد، عندما كان
يحكمها تجيكر-بعل (المعروف أيضًا باسم زكار-بعل).
والآن لدينا هذه الأسماء الستة الإضافية، والتي جاءت إلينا من النقوش التي تركها
حكام
جبيل أنفُسُهم. ومجموعتهم كانت معروفةً، وتَناقَشَ العلماء بشأنها لأكثر من قرنٍ من
الزمن. وفي كلِّ حالة، يُقال لنا اسم الملك الحالي، ثم نسَبُه الذي يعود إلى جيلٍ واحد
أو أكثر. على سبيل المثال، نعرف عن الملك المُسمَّى أحيرام وابنه إيثبعل من نقشٍ محفور
على غطاء تابوت صنعه إيثبعل لأحيرام عندما مات. وقد اكتُشِف ذلك الغطاء قبل مائة عام،
في عام ١٩٢٢، عندما كشف انهيار أرضي عن المقبرة الملكية في جبيل. إضافةً إلى تحديد هوية
الملِك الراحل وإعطاء الفضل لابنه لصُنع التابوت، ثمة لعنة مُتضَمَّنة في النقش:
«التابوت الذي صنعه إيثبعل، ابن أحيرام، ملك جبيل، لأحيرام، والده، عندما وضعه في
أبديته. وإذا جاء ملك من الملوك، أو حاكم من الحكام، أو قائد جيش إلى جبيل، وكشَفَ عن
هذا التابوت، فلْيُمَزَّق صولجان حُكمه، ولْيُقلَب عرش مملكته، ولْيفرَّ السلام من
جبيل. وأما هو، فلْتُمحَ سجلاته الملكية من تاريخ جبيل.»
63
للأسف، لا توجَد صلةٌ معروفة على وجه التحديد بين هذين الملِكَين والأربعة التالِين.
ومع ذلك، بناءً على نمطِ الحروف المُستخدمة في النقوش المختلفة، يُعتقد أن هذين الاثنين
هما الأقدم في قائمتنا المعروفة للملوك؛ حيث حكَمَا حوالي عام ١٥٠٠ قبل الميلاد، و٩٧٥
قبل الميلاد على الترتيب.
64
ذُكِر ثلاثة من الملوك الأربعة الآخَرين في نقشٍ «عُثِر عليه بالقُرب من الجدار
المُتصل بأكروبوليس جبيل» ونُشِر في عام ١٩٤٥. يُعرَف النقش باسم نقش شيبيت بعل، ونصُّه
كالتالي: «الجدار الذي بناه شيبيت بعل ملِكُ جبيل، ابن إليبعل ملك جبيل، ابن يِحِمْلِك
ملك جبيل لبعلةِ جبيل، سيدته. فلْتُطِل بعلة جبيل أيام شيبيت بعل وأعوامه على جبيل.»
ومن ثَم، لدينا تسلسُل من ثلاثةِ أجيال من الحكَّام، بدءًا من يِحِمْلِك، ثم ابنه
إليبعل، يليه حفيده شيبيت بعل. وقد قيل إنهم حكموا خلال النصف الأخير من القرن العاشر
قبل الميلاد.
65
وترتيب الملوك هذا يؤكِّده نقشٌ آخَر عُثِر عليه في جبيل محفورًا على جذعِ تمثالٍ
نصفي للفرعون المصري أوسركون الأول، الذي ورَدَ ذِكره في الفصل الأول باعتباره حاكمًا
لمصر في الفترة من حوالي ٩٢٤ إلى ٨٨٩ قبل الميلاد. وقد نُشِر هذا النقش لأول مرة في عام
١٩٢٥ ويُعرَف باسم نقش إليبعل، ونصُّه كالتالي: «[التمثال] الذي صنعه إليبعل ملك جبيل،
ابن ﻳِﺤِ[ﻤْﻠِﻚ مَلِك جبيل] لبعلة جبيل، سيدته. فلْتُطِل بعلة [جبيل] [أيامَ] إليبعل
وسنوات حُكمه على [جبيل].» وهذا لا يُعطينا تسلسُل الجيلَين المُكوَّنَين من يِحِمْلِك
يليه ابنه إليبعل فحسب، بل يُخبرنا أيضًا أنَّ إليبعل حكَمَ في الوقت نفسه تقريبًا الذي
حكَمَ فيه أوسركون الأول؛ ممَّا يُعطينا التواريخ التقريبية لحُكم إليبعل. ونحصل على
هديةٍ إضافية تتمثَّل في معرفة اسم واحدةٍ من آلهة جبيل، بعلة، التي ورَدَ ذِكرها في
كلٍّ من هذَين النقشَين.
66
لدينا أيضًا نقشٌ تركه يِحِمْلِك، يُسجِّل بناءه لمعبدٍ في جبيل؛ ممَّا يوفر نظرةً
ثاقبة إضافية إلى آلهة وإلَهات ذلك الوقت. نُشِر نقشُ يِحِمْلِك لأول مرة في عام ١٩٣٠،
ونصُّه كالتالي: «المعبد [حرفيًّا: «البيت»] الذي بناه يِحِمْلِك، ملك جبيل. لقد رمَّم
جميع المعابد الساﻗ[ﻄﺔ]. فلْيُطِل بعل شامين وبعلة جبيل وجماعة آلهة جبيل المقدسة أيام
يِحِمْلِك وأعوامه على جبيل؛ لأنه الملك البار والعادل أمام آلهة جبيل
المقدسة.»
67
وأخيرًا، لدينا أيضًا نقشُ أبيبعل، الذي وُجد على تمثالٍ للفرعون شيشنق الأول، والد
أوسركون، الذي حكَمَ مصر حوالي ٩٤٥–٩٢٤ قبل الميلاد، والذي ورَدَ ذِكره أيضًا في الفصل
الأول. وإذا كانت الترميمات في الأجزاء المفقودة من هذا النقش صحيحةً، يبدو أنَّ
يِحِمْلِك كان له أيضًا ابنٌ آخَر؛ أبيبعل، الذي ادَّعى أيضًا أنه خَلَفَه على العرش.
نُشر النقش لأول مرة في عام ١٩٠٣، ونصُّه كالتالي: «[التمثال الذي] أحضره أبيبعل ملك
[جبيل ابن يِحِمْلِك ملك] جبيل من مصر لبعلة [جبيل، سيدته. فَلْتُطِل بعلة جبيل أيامَ
أبيبعل وأعوامَه] على جبيل.» وكما حدَثَ مع نقش إليبعل على تمثال أوسركون الأول، فمن
المُرجَّح أن يُعطينا نقشُ أبيبعل على تمثال شيشنق الأول التواريخَ التقريبية لحُكم
أبيبعل.
68
للوهلة الأولى، يبدو أن النقوش التي كتَبَها هؤلاء الحكَّام المجهولون لا تُشير إلى
الكثير بخلاف نَسَبهم، ولكنْ في الواقع من المُفيد للغاية الحصول على هذا القَدْر من
المعلومات، خاصةً أنها تُظهِر لنا أن حُكم مجموعةٍ وراثية من السلالات الحاكمة استمرَّ
خلال العصر الحديدي في جبيل. لسوء الحظ، ليس لدَينا قائمةٌ بالحكَّام المعاصرين لصور
من
خلال الاكتشافات الأثرية (حتى الآن)، لكننا نعرِف حيرام ملك صور، الذي تناولناه في
الفصل الأول وذكرناه مرةً أخرى قبل بضع صفحاتٍ فقط، والذي حكَمَ على الأرجح حوالي
٩٧٠–٩٣٦ قبل الميلاد. هناك أيضًا آخَرون ذكَرَهم مؤلِّفون يونانيون ورومانيون لاحقون.
فوفقًا للمؤرخ الروماني فلافيوس يوسيفوس، على سبيل المثال، الذي كتَبَ في منتصف القرن
الأول الميلادي، كان خَلَفا حيرام اللذان حكَمَا صور هما بعل-معزر [بعل-آزور]
وعبدي-عشتارت [عبدستراتوس]، وكلاهما كان في نهاية القرن العاشر، كما ذُكِر أعلاه. وقَدْ
تبِعَهم مُغتصِبٌ للعرش يُدعى ميثوساستراتوس ثم إيش-عشتارت وعشتار (ت)-إمن في بداية
القرن التاسع قبل الميلاد، إذا كان بوُسعنا أن نثِقَ فيما يقوله يوسيفوس.
69
•••
قد يُخبرنا الكتاب المقدَّس أيضًا باسم ملِك آخَر كان يحكم صور في هذا الوقت تقريبًا،
حيث تتحدَّث الرواية التوراتية عن ملكٍ لصور يُدعى إيثبعل، حكم من أوائل القرن التاسع
قبل الميلاد إلى منتصفه، بعد سلفَيه إيش-عشتارت وعشتار (ت)-إمن. يجب توخِّي الحذَر حتى
لا نخلط بين هذا الملك والملك السابق لمدينة جبيل الذي يحمل الاسم نفسه، والذي ذكرناه
للتوِّ، والذي حكَمَ في أوائل القرن العاشر بعد والده أحيرام مباشرةً.
70
وفقًا للرواية في سِفر الملوك الأول، الإصحاح ١٦: الآيات ٢٩–٣٢، دخَلَ إيثبعل ملِكُ
صور في تحالُف مع عُمري، ملك مملكة إسرائيل الشمالية (الذي حكم حوالي ٨٨٤–٨٧٣ قبل
الميلاد)، وقَدَّم ابنته، إيزابِل السيئة السمعة، للزواج من ابن عُمري، أخاب (الذي
حكَمَ حوالي ٨٧١–٨٥٢ قبل الميلاد). تزوجَت ابنتهما عَثليا بدورها من الملك يهورام ملك
يهوذا (سِفر الملوك الثاني، الإصحاح ٨: الآيات ١٦–١٨). إنَّ ممارسة إيزابِل لدين صور
(وجبيل) الوثني في إسرائيل التوحيدية أمرٌ مؤكَّد ومشهور، من خلال المقاطع التوراتية
التي تصِفُ المعركة بين كهَنةِ بعل والكهنة الإسرائيليين على جبل الكرمل (سِفر الملوك
الأول، الإصحاح ١٨: الآيتان ١٩ و٢١؛ وسِفر الملوك الثاني، الإصحاح ٩).
71
أما عُمري، الذي الْتقَينا به لفترةٍ وجيزة في نهاية الفصل الأول، فقد أسَّس خلال
حُكمه عاصمةَ مملكة إسرائيل الشمالية في موقع السامرة (التي أطلَقَ عليها هيرودس الكبير
فيما بعدُ سبسطية)، والتي تقع الآن في الضفة الغربية إلى الشمال الغربي من نابلس. هنا
بنى قصرًا، أكمله ابنه أخاب لاحقًا، وظلَّ قائمًا مدةَ قرنٍ ونصف تقريبًا، حتى الدمار
النهائي للمدينة وإدماج المملكة في الإمبراطورية الآشورية الجديدة حوالي ٧٢٠ قبل
الميلاد.
وقد نَقَّب فريقٌ أمريكي من علماء الآثار بقيادة جورج رايسنر من جامعة هارفارد في
الموقع وقصره لأول مرة من عام ١٩٠٨ إلى عام ١٩١٠. وبعد ذلك، حفرَت البعثة المشتركة
بقيادة عالِم الآثار البريطاني جون كروفوت، والتي ضمَّت أثريِّين من المدرسة البريطانية
للآثار في القدس وصندوق استكشاف فلسطين والجامعة العبرية في القدس، في الموقع من عام
١٩٣١ إلى عام ١٩٣٥. وكان من بين أعضاء هذه البعثة الأخيرة كاثلين كينيون، التي كانت في
ذلك الوقت في ريعان شبابها، والتي اشتهرَت بدورها كمُنَقِّبةٍ في أريحا والقدس بعد ذلك
بعدَّة عقود. وفي أنقاض القصر، عُثِر على مزهريةٍ من المرمر منقوشة عليها خرطوشة
أوسركون الثاني، التي سبق ذِكرها أعلاه، إضافةً إلى ما يقرُب من ألف قطعة من العاج،
والتي عادةً ما يُشار إليها الآن بعاجيَّات السامرة. وتعود هذه القطع إلى القرن التاسع
أو الثامن قبل الميلاد، وأغلبها الآن معروضٌ في متحف إسرائيل في القدس.
72
•••
كما يَنسِب يوسيفوس الفضلَ إلى إيثبعل ملك صور (الذي يُسمِّيه يوسيفوس إيثوبعل)
باعتباره أول ملكٍ فينيقي يُنشئ مستعمراتٍ في أماكن أخرى في البحر الأبيض المتوسط، منها
كتيون في قبرص. وفي الواقع، يبدو أنَّ علم الآثار، كما أشار العديد من العلماء، يؤكِّد
أن كتيون هي أقدم مستعمَرة فينيقية في الجزيرة، رغم أنَّ سكانها لم يتركوا وراءهم
الكثير من الآثار.
73
ومن ناحية أخرى، أُثبِتَت البقايا الأثرية في كلٍّ من سردينيا وإسبانيا، ومنها
وَلْبَة، يبدو الآن أن هناك أيضًا وجودًا فينيقيًّا دائمًا في تلك المناطق بحلول أوائل
القرن التاسع قبل الميلاد (على النقيض من الاتصالات التجارية الأقدم والأكثر زوالًا في
القرون السابقة المذكورة أعلاه)؛ ربما استجابةً للحاجة المُستمرة إلى الفضة من تلك
المناطق. وهناك أيضًا النقش الفينيقي المعروف، والمُثير للجدل، من موقع نورا في
سردينيا، والذي عُثِر عليه منذ فترةٍ طويلة، في عام ١٧٧٣. وهو ربما يُخَلِّد ذكرى بناء
معبد في ذلك المكان، وقد يعود تاريخه إلى نهاية القرن التاسع قبل الميلاد.
74
ويذكُر يوسيفوس أيضًا أنَّ إيثبعل أسَّس سلالةً حكمَت صور طوال القرن التالي. ورغم
أننا لا نستطيع أن نجزم بصحَّة الرواية أو موثوقيتها؛ فإن يوسيفوس يذكر خلفاء إيثبعل
وهُمْ بعل-معزر الثاني، وماتان الأول، وبومايون [بيجماليون]، الذين حكموا من منتصف
القرن التاسع إلى أوائل القرن الثامن قبل الميلاد. ويذكر نقشٌ لملك الإمبراطورية
الآشورية الجديدة شلمنصر الثالث، الذي الْتقَينا به في الفصل الثاني، على وجه التحديد،
أنه في عامه الثامن عشر من الحكم (٨٤١ قبل الميلاد) تلقَّى جِزية من «بعل-معزر ملك
صور». ولا بدَّ أن يكون هذا هو الملك نفسه، بعل-معزر الثاني، الذي ذكره يوسيفوس، وهو
ما
يُعطينا تفاصيل أكثر من مجرد «الصوريين والصيداويين» الذين يُذكَرون عادةً في النُّسَخ
المختلفة من نقش شلمنصر. فكما أشار ناداف نعمان من جامعة تل أبيب، فإن هذا يمنحنا أيضًا
مزيدًا من الثقة في دقة قائمة يوسيفوس؛ لأن قائمة شلمنصر معاصرة للفترة الزمنية لملك
صور هذا و(من المفترض أنها) مصدرٌ مُستقل.
75
وثمة إضافةٌ هامشية مثيرة للاهتمام، فوفقًا للتقاليد الرومانية التي أتَت بعدها بزمنٍ
طويل، وتشمل يوسيفوس وكذلك الشعراء أوفيد وفيرجيل (انظر «الإنيادة»)، يُقال إن أخت
بيجماليون إليسا (المعروفة أيضًا باسم ديدو) هي التي فرَّت من صور بعد أن قَتَل
بيجماليون زوجَها؛ ثم أسَّسَت بعد ذلك مدينة قرطاج فيما يُعرف الآن بشمال إفريقيا حوالي
عام ٨١٤ قبل الميلاد. ورغم أن هذا قد يكون ليس أكثر من أسطورة أو خرافة تأسيسية؛ فإن
البقايا الأثرية في قرطاج تُشير إلى أن تاريخ تأسيسها يرجع إلى أواخر القرن التاسع قبل
الميلاد (حوالي ٨٣٥–٨٠٠ قبل الميلاد).
76
وقد رُبِطَت هذه الأسطورة أيضًا باكتشافٍ حديث جرى عن طريق الخطأ بواسطة غوَّاصة
الأبحاث النووية الأمريكية «إن آر-١» في عام ١٩٩٧ أثناء البحث عن «داكار»، وهي غوَّاصة
إسرائيلية فُقِدَت في ستينيَّات القرن الماضي. ورغم فشل الطاقم في العثور على «داكار»؛
فقد اكتشف أفراده بقايا سفينتين من العصر الحديدي يعود تاريخهما إلى القرن الثامن قبل
الميلاد؛ وكانت كلتاهما قد غرقَت على بُعد أكثر من ثلاثين ميلًا من ساحل قطاع غزة،
وتقعان الآن على عُمق أربعمائة متر تحت سطح البحر الأبيض المتوسط.
77
وفي عام ١٩٩٩، عاد بوب بالارد، الذي ربما يكون معروفًا أكثر باعتباره مُكتشِف
«تيتانيك»، ولاري ستاجر، الذي كان آنذاك أستاذًا في جامعة هارفارد ومديرًا لعمليات
التنقيب في موقع عسقلان، إلى المنطقة للمزيد من الاستكشاف للسفينتَين، المُلقَّبتَين
ﺑ «تانيت» و«إليسا»، كجزءٍ من مشروع «عسقلان في أعماق البحار». وباستخدام نظام مركباتٍ
تُدار عن بُعد، يُعرف باسم ميديا/جيسون، تمكَّنا من مسح خريطة لكلٍّ من تانيت وإليسا
ورسمِها، وتسجيلِ مئات الأمفورات في قاع البحر في كِلا الموقعَين؛ كان من الممكن رؤية
٣٨٥ أمفورة على بقايا تانيت أو بالقُرب منها و٣٩٦ في موقع إليسا. ومِن المُرجَّح أن
طُول تانيت كان نحو أربعة عشر مترًا، وعرضها ستة أمتار ونصف المتر، في حين كانت إليسا
أكبرَ قليلًا؛ حيث بلغ طُولُها نحو أربعة عشر مترًا ونصف المتر، وعرضها نحو سبعة
أمتار.
ومن أجل أخْذِ عيِّنات، واختبار بعض البقايا الأثرية، أحضَرَ الفريق ست عشرة أمفورة
من تانيت وثماني أمفورات من إليسا، إضافةً إلى أنواع أخرى من الفخار مثل أواني الطهي
والأوعية. ويمكن التعرُّف بسهولة على جميع الأمفورات على أنها فينيقية، أُنتِجَت في
«واحدةٍ أو أكثر من مدن الموانئ الفينيقية»، ويرجع تاريخها، على أُسسٍ طرازية، إلى
حوالي عام ٧٥٠ قبل الميلاد. في مقالهما اللاحق، الذي نُشِر في «أمريكان جورنال أوف
أركيولوجي» في عام ٢٠٠٢، استشهد بالارد وستاجر بإليسا (ديدو) و«بومياتون» (بومايون
[بيجماليون]) في مناقشاتهما، وافترضا أن السفن ربما كانت تُبحر من عسقلان إلى مصر؛ ومن
ثَم إلى مستعمرة قرطاج الفينيقية التي كانت قد تأسَّست حديثًا.
(٧) اتصالات مستمرة في القرنَين التاسع والثامن قبل الميلاد
أما قبرص، فقد استمرَّت صادراتها في الوصول إلى منطقة بحر إيجه خلال القرن التاسع،
بدءًا من السكاكين الحديدية إلى الخرَز الذهبي والإكليل، وخاصة في المواقع الكريتية،
مثل كنوسوس وكوموس وإليوثيرنا. وكما تقول نوتا كورو: «بحلول منتصف القرن التاسع، كانت
الاتصالات المُنتظمة في البحر الأبيض المتوسط قد تعافت بشكلٍ كامل، وكان عددٌ من
الشبكات القبرصية والقبرصية الشامية نشِطًا بالفعل في كريت.»
78
وتلاحَظَ أيضًا أنه، منذ أواخر القرن التاسع فصاعدًا، أصبحت الزيارات القبرصية إلى
كريت أكثر انتظامًا وأن عدد الواردات القبرصية ارتفع. وتقول إن هذا «يتزامن أيضًا مع
بداية الرحلات الفينيقية المُنتظمة في وسط البحر الأبيض المتوسط وتأسيس قرطاج». وهذا
من
شأنه أن يُفسِّر الزيادة المفاجئة في الواردات الفينيقية إلى كريت في هذا الوقت أيضًا،
حيث كانت كريت على طريق التجارة هذا، وربما كان هناك «بعض الشبكات القبرصية الفينيقية
المشتركة النشطة في كريت في الفترة الهندسية في ذلك الوقت.»
79
لكنْ في الوقت نفسه، تتناقَصُ القطع الأثرية القبرصية في البَر الرئيسي لليونان،
حتى
مع استمرار القطع الأثرية من الشرق الأدنى في الظهور في العديد من المواقع اليونانية،
ومنها القطع التي تتراوح بين الأوعية البرونزية والقطع الخزفية إلى القطع المصنوعة من
الذهب والعاج. وربما يكون الفينيقيون قد استولوا على الطُّرق المؤدية إلى البَر الرئيسي
لليونان بحلول هذه النقطة ومنعوا التجارة مع القبارصة، كما اقترح البعض، على الرغم من
أنَّ هذا قد يبدو غريبًا بعض الشيء؛ لأن التجارة المُتزامِنة مع جزيرة كريت، لم تكن
محظورةً على ما يبدو. ومَهْما يكُن من أمر، فإن كرييلارد يلاحظ أنه الآن فقط، «في
القرنَين التاسع والثامن قبل الميلاد على وجه الخصوص، وصَلَ التبادُل بين المناطق [مرةً
أخرى] إلى مستوًى من التعقيد يمكن مقارنته بمستوى أواخر العصر البرونزي.»
80
•••
كما نعرف، وكما أكَّدنا في الكتاب السابق، «١١٧٧ق.م.» من المُرجَّح أنَّ الجفاف لعب
دورًا كبيرًا في انهيار أواخر العصر البرونزي. ولكنْ، يبدو أنَّ الجفاف قد انتهى أخيرًا
في كلِّ هذه المناطق، في قبرص وفي مختلف أنحاء شرق البحر الأبيض المتوسط، خلال منتصف
القرن التاسع، وربما ننظر إلى هذا باعتباره أحدَ الأسباب المُحتمَلة لهذه الفترة من
التبادل المُتجدِّد. ففي نهاية المطاف، حلَّت محلَّ ظروف الجفاف، التي اضطرَّت الشعوبَ
إلى التكيُّف معها على مدى القرون القليلة الماضية، ظروفٌ أكثر دِفئًا ورطوبة، استمرَّت
لبقية العصر الحديدي، وربما ساعدَت المُجتمعات على استعادة شبابها. فقد أشارت عمليات
المسح الأثرية، على سبيل المثال، إلى أنه منذ أواخِر القرن التاسع فصاعدًا، توجَد أدلة
على مستوطناتٍ جديدة وإعادة استيطان لمناطق مهجورة سابقًا في قبرص، وهو ما يعكس بلا شكٍ
أنواعًا جديدة من استخدام الأراضي والتعامُل مع ظروف المناخ المُتغيِّرة.
81
ثم استُؤنِف إنتاج النحاس بكمياتٍ كبيرة في قبرص خلال القرن الثامن قبل الميلاد.
وفي
هذه الفترة أيضًا، إن لم يكن قبل ذلك بقليل، كانت أغلب المدن المُهمة في قبرص قد تأسسَت
أو أُعيد تأسيسها أو برزَت في الصدارة، ربما كتشكيلاتٍ اجتماعية سياسية جديدة، كما
اقترح البعض، واستمرَّت حتى القرن الرابع قبل الميلاد أو بعدَه. وتشمل هذه التشكيلات
الجديدة الممالكَ القبرصية السبع التي ورَدَ ذِكْر ملوكها على لوحةٍ تذكارية أقامها
الملك الآشوري الجديد سرجون الثاني في كتيون في أواخر القرن الثامن (حوالي ٧٠٩ قبل
الميلاد) والممالك القبرصية العشر التي وردَت أسماؤها على منشورٍ طيني من آسرحدون؛ ملك
الإمبراطورية الآشورية الجديدة في بداية القرن السابع (حوالي ٦٧٤ قبل
الميلاد).
82
في ذلك التاريخ اللاحق، دُمِجَت قبرص في الإمبراطورية الآشورية الجديدة، على الرغم
من
عدم وجود دليلٍ على أنها تعرضَت لغزوٍ فعلي. واستمرَّت الجزيرة في الازدهار حتى العصر
الروماني وخلاله كمُورِّدٍ رئيسي للنحاس، الذي استمرَّ الطلب عليه على مرِّ
القرون.
(٨) تلخيص موجِز
أثبت كلٌّ من القبارصة والفينيقيين قدرتهم على الصمود وكذلك الإبداع خلال القرون التي
أعقبَت انهيار أواخر العصر البرونزي. لقد استغلَّ الفينيقيون بخاصة نهْبَ أوغاريت
وغيرها من المدن الساحلية للفوز بالسيطرة على طُرُق التجارة عبْرَ البحر الأبيض
المتوسط، ونشروا نُسختهم من الأبجدية، وقايضوا سلعًا تجاريةً مثل الصبغة الأرجوانية
بالفضة ومعادن أخرى قادمة من أماكن بعيدة، مثل صقلية وسردينيا وإيبيريا. وفعَلَ
القبارصة الشيءَ نفسه من حيث نشْرُ السلع الحديدية وتكنولوجيا الحديد في الشرق وكذلك
في
الغرب. وأزعُمُ أنَّ المُجتمعَين، معًا، كانا هما اللذين صمَدَا بنجاح في مواجهة التحول
إلى الوضع الطبيعي الجديد؛ بل يمكن وصفُ كلِّ مجتمعٍ منهما بأنه مُجتمعٌ مضادٌّ
للهشاشة؛ حيث ازدهر خلال الفوضى التي أعقبَت الانهيار. ولكنْ لا يمكن قولُ الشيء نفسه
عن الحيثيين في وسط الأناضول، كما سيتَّضح في الفصل التالي.