في اليوم الأول من رحلةٍ أثرية جديدة إلى كركميش في عام ٢٠١١، عثر نيكولو ماركيتي،
من
جامعة بولونيا، على لوحةٍ حجرية من البازلت، عليها نقوش. وكانت اللوحة قد أُقيمَت في
الأصل
في الموقع قبل ثلاثة آلاف عام، في القرن العاشر قبل الميلاد، على يد ملكٍ، من ملوك الحيثيين
الجُدد، أطلق على نفسه اسمَ سوهي، «حاكم مدينة كركميش، وسيدها».
كان ارتفاع اللوحة المنقوشة التي عَثرَ عليها ماركيتي في ذلك اليوم نحوَ مِترَين
في
الأصل. كان قد أمر ببنائها سوهي الأول تخليدًا لحلِّ نزاعٍ بين أورا-تارهونتا، الملك
العظيم
لأرض كركميش، و«أرض سورا»، والتي عادةً ما يُنظر إليها على أنها إشارةٌ إلى آشور، الأمر
الذي يبدو أنه حدَثَ في وقتٍ سابق.
3 ونصُّ النقش كما يلي: «الملك العظيم أورا-تارهونتا، الملك العظيم، والبطل، ملك
أرض كركميش، ابن سابازيتي، الملك العظيم، والبطل. نشأ نزاعٌ بينه وبين أرض سورا، وواجه
جيشهم. [قَدَّم] إله العواصف العظيم و[الإلهة] كوبابا للملك أورا-تارهونتا حماية قوية،
وأعطاه الدعم والقوة؛ ممَّا مكَّنه من حلِّ النزاع بنفسه. ونَصَبَ سوهي، قريبُ الملك
أورا-تارهونتا العزيز، حاكم مدينة كركميش وسيدها، هذا النُّصبَ التذكاري.»
4
يُعتبر هذا حاليًّا أقدَمَ نقشٍ من العصر الحديدي يُعثَر عليه في موقع كركميش. ومن
المُثير للاهتمام أنَّ هذا النقش نسخةٌ طِبق الأصل تقريبًا من نقشٍ آخَر عَثَر عليه
الأثريون البريطانيون في الموقع قبل ذلك بكثير، ولكنْ يبدو أنَّ أحد أبناء سوهي الأوَّل
كان
قد نصَبَه لاحقًا.
5 ويُمكننا أيضًا أن نوضِّح هذا الأمر بمزيدٍ من التفصيل. فنحن نعرِف ملِكَين
سابقَين لكركميش، وهما كوزي-تيشوب وإيني-تيشوب، حكما خلال القرن الثاني عشر. والآن لدَينا
هذان الملكان الإضافيَّان، سابازيتي وابنه أورا-تارهونتا، اللذان حكَمَا أرضَ كركميش
في
أواخر القرن الحادي عشر قبل الميلاد. وكانوا كلُّهم يحملون لقَبَ «الملك العظيم». ومن
المؤسِف أننا لسنا متأكِّدين من التواريخ الدقيقة لفترة حكم أورا-تارهونتا؛ لذا فإننا
لا
نعرِف أيضًا أي حاكمٍ من حكام آشور كان في السلطة في وقت النزاع المُسجَّل. على الأرجح
كان
آشور ناصربال الأول، الذي حكم من ١٠٤٩ إلى ١٠٣١ قبل الميلاد، أو شلمنصر الثاني، الذي
حكم من
١٠٣٠ إلى ١٠١٩ قبل الميلاد، لكن هذا مجرد تخمين.
ولا يزال الجدل العلمي مُستمرًّا حول الكيفية التي كانت تعمل بها المجموعتان المُختلفتان
من الحكام، «الملوك العظماء» و«سادة المدينة». ونظرًا لأنه يبدو أن اللقب الكامل الذي
استخدمَه سابازيتي وأورا-تارهونتا، وكذلك خلفاؤهما، كان «الملك العظيم، ملك أرض كركميش»؛
فلعلَّهم حكموا المنطقة كلها التي تُسيطر عليها كركميش، حين كان سوهي وأحفاده مجرد حكام
للمدينة نفسها. ذلك هو الموقف المُعتاد الذي يتَّخذه العلماء، أي أن كلتا السلالتَين
كانتا
تحكمان في الوقت نفسه لفترةٍ وجيزة على الأقل؛ حيث إن سوهي يقول إنه «قريبٌ عزيز»
لأورا-تارهونتا. ولكنَّ أليساندرا جيلبرت، الأستاذة بجامعة كا فوسكاري في فينيسيا، اقترحَت
أن سوهي الأول ربما كان في واقع الأمر مغتصِبًا للحُكم، استولى على عرش كركميش، وأنه
هو
وخلفاؤه حكموا المنطقة كلَّها بعد ذلك، وإن كان بهذا اللقب المختلف. ربما يكون هذا صحيحًا؛
لأننا لا نرى كثيرًا من التداخُل، إن وُجِد، فيما يتَّصل بتواريخ الحُكم بين الملوك العظماء
وسادة كركميش بعد القرن العاشر قبل الميلاد. ومما يزيد الأمور تعقيدًا، أنَّ حكام مدينة
ملاطية القريبة، الذين زعموا أيضًا أنهم ينحدِرون من نسل كوزي-تيشوب، «الملك العظيم
لكركميش» حوالي عام ١٢٠٠ قبل الميلاد، أطلقوا على أنفسهم لقب «سادة المدينة» في
ألقابهم.
7 باختصارٍ، تظلُّ العلاقة الدقيقة بين هاتَين المجموعتَين من الحكَّام غير
واضحة.
(١) الحيثيون، والحيثيون الجُدد
لقد انتقلنا فجأةً إلى موضوع كركميش والحكام الحيثيين الجُدد في خِضمِّ الحديث دون
تمهيد؛ لذا دعونا نتراجع قليلًا ونضع كلَّ شيء في سياقه.
ضمْنَ النقوش الآشورية الجديدة التي يذكر فيها تِغلث-فلاسر الأول جبيل وصيدا وأرواد،
والهدايا من الفرعون المصري، التي ناقشناها في الفصل الثاني، يقول أيضًا إنه أصبح
«سيدًا لأرض خاتي كلِّها» ويقول على وجه التحديد إنه تلقَّى رهائن وضرائب وإتاوات
وعوارض أَرز من إيني-تيشوب، «ملك أرض خاتي».
8 وهذا مفيد للغاية لنا؛ لأننا تقابلنا للتوِّ مع إيني-تيشوب، المعروف من
سجلَّات نصيَّة أخرى بأنه ملِكٌ حكَمَ في أواخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد في كركميش
(بخلاف الملك الحيثي الأقدم، الذي يحمل الاسم نفسه، والذي حكَمَ في الأناضول خلال أواخر
العصر البرونزي). ولذلك، يُمكننا أن نربط بين عهدَي هذَين الملكَين من العصر الحديدي،
تِغلث-فلاسر الأول ملك آشور، وإيني-تيشوب ملك كركميش، وأن نكون واثِقين إلى حدٍّ ما من
أنَّ هذه الواقعة وقعَت في نهاية القرن الثاني عشر وبداية القرن الحادي عشر، أي حوالي
عام ١١٠٠ قبل الميلاد.
9 وهذه هي المرة الأولى التي نلتقي فيها بالدولتَين الأناضولية والسورية
الخليفتَين للحيثيين من العصر البرونزي في نصوص تلك الفترة الزمنية، وهي المرة الأولى
التي نرى فيها ورثة إمبراطوريتَي العصر البرونزي يتعاملون مباشرةً ويتنازعون.
لاحظ أن تِغلث-فلاسر يُطلِق على إيني-تيشوب لقبَ «ملك أرض خاتي»، على الرغم من أن
الإمبراطورية الحيثية الفعلية في الأناضول انهارَت واختفَت اختفاءً شِبه تامٍّ في
السنوات التي تلَت عام ١٢٠٠ قبل الميلاد. وقد هُجِرَت العاصمة حاتوسا في البداية ثم
دُمِّرت جزئيًّا، وأُنشئت قرية صغيرة من العصر الحديدي لاحقًا على جزءٍ صغير من المدينة
الأصلية. ولقد لخَّص لورينزو دالفونسو من جامعة نيويورك وزملاؤه الوضع مؤخرًا على النحو
التالي: «حدث تحوُّل عميق في قلب الإمبراطورية السابق حول العاصمة حاتوسا؛ ممَّا أدى
إلى انخفاضٍ كبير في التعقيد السياسي، والتحول إلى اقتصادٍ منزلي قائم على الكفاف،
ونقصِ الأدلة على وجود أيِّ مؤسساتٍ عامة.» وعلاوةً على ذلك، يستشهد جيمس أوزبورن،
الأستاذ في جامعة شيكاغو، بأبحاثٍ حديثة تُفيد بأنه ربما كان هناك «انخفاضٌ كبير في
المُستوطنات بنحو ٩٠٪» في جنوب وسط الأناضول في هذا الوقت، ويقول إنه «على الرغم من
الأدلة على الاستمرارية في مواقع مُعينة … فإن الصورة العامة واحدةٌ وتتمثَّل في
انحدارٍ ملحوظ في التعقيد الاجتماعي حتى القرن التاسع.»
10
ومع ذلك، استمرَّت الحياة في أماكن أخرى في الأناضول، من بينها المناطق الداخلية؛
حيث
استمرَّ المزارعون والقرويون كما كانوا من قبل، ولكنْ ربما تحولوا إلى تربية المزيد من
الماعز والأبقار أكثر من الأغنام، كما وثَّقَت سارة أدكوك في أطروحتها بجامعة شيكاغو،
وكما أثَّر تغيُّر المناخ على السكان في جميع أنحاء المنطقة.
11 (ثمة ملاحظةٌ هامشية، وهي أنه في البر الرئيسي لليونان، أظهرَت الأبحاث
الحديثة أنَّ ما كان يُعتقَد سابقًا أنه تحوُّل مماثِل للماشية في نيتشوريا في إقليم
ميسينيا يحتاج إلى إعادة نظر؛ لأنَّ بقايا أوائل العصر الحديدي في تلك المنطقة لا
تُظهِر حقًّا أنه كانت تجري تربيةُ ماشية أكثر في ذلك الوقت، كما كان يُعتقد سابقًا،
وإنما تُشير إلى أن الأمور ظلَّت بالأساس كما هي في هذه المنطقة من ناحية تربية
الحيوانات خلال كلٍّ من أواخر العصر البرونزي وأوائل العصر الحديدي.)
12
إضافةً إلى ذلك، لدَينا في موقع جورديون الواقع في منطقة وسط الأناضول، أدلة جديدة،
بناءً على إعادة تأريخ بقايا معروفة سابقًا، على أنه كان يوجَد أشخاص يعيشون في الموقع
من القرن الثاني عشر قبل الميلاد فصاعدًا، وعلى إعادة تنظيم الاقتصاد المحلي، حتى مع
انتهاء النفوذ الحيثي على المنطقة. وهذا أمرٌ ذو أهمية كبيرة، خاصة مع وجود أدلةٍ
إضافية الآن، تستنِد إلى علم التأريخ الشجري وتحليل النظائر للخشب من أشجار العرعر التي
كانت تُستخدَم في الموقع، على أن المنطقة عانت من سلسلةٍ من فترات الجفاف في نهاية
أواخر العصر البرونزي، بما في ذلك جفاف دام ثلاث سنوات وأُرجِع تاريخه إلى ١١٩٨–١١٩٦
قبل الميلاد.
13
اشتهرَت جورديون لاحقًا بأنها المنطقة التي حكَمَ فيها الملك الثري ميداس (من
الأساطير اليونانية)، وموقع العقدة الجوردية التي قطعها الإسكندر الأكبر إلى نصفَين،
وأصبحَت تُعرَف بأنها عاصمة الفريجيين بحلول منتصف القرن التاسع قبل الميلاد. يبدو أن
الفريجيين، الذين يعتقد كثيرون أنهم هاجروا إلى هذه المنطقة من أماكن أخرى، كانوا
معروفين لدى الآشوريين باسم مملكة موشكي، على الرغم من أن هذا لا يزال موضع نقاشٍ بين
العلماء. ويزعم تِغلث-فلاسر الأول أنه حاربهم وهزمهم في معركةٍ واحدة على الأقل في
مرحلةٍ مبكرة، ولكنَّهم بعد ذلك لم يجذبوا انتباه الآشوريين جديًّا حتى وقتٍ لاحق في
القرن الثامن قبل الميلاد.
14
وقد توجَّه الاهتمام مؤخرًا إلى المنطقة مرة أخرى بسبب اكتشافٍ جرى عام ٢٠١٩ في منطقة
قونية في تركيا المعاصرة، بالقُرب من موقع تركمان-كاراهويوك. إذ لفَتَ مزارعٌ محليٌّ
انتباه فريق من الأثريين الذين كانوا يُجرون مسحًا في المنطقة إلى نقشٍ يُعرَف بطريقة
غير رسمية باسم نقش هارتابو. كُتِب النقش بالرموز الهيروغليفية للغة اللوفية ونُقِش على
حجر صُلب، وأنشأه ملكٌ محليٌّ يُدعى هارتابو، الذي يَدَّعي أنه غزا إقليم فريجيا في
القرن الثامن قبل الميلاد. ويبدأ النص كالتالي: «عندما غزا الملك العظيم هارتابو، هيرو،
ابن مورسيلي، بلدَ موشكا … سلَّمَ إلهُ العواصف الذي في السماء (و) جميعُ الآلهة ملوﻛَ
(ﻬﺎ) الثلاثة عشر (إلى) جلالته، الملك العظيم هارتابو. وفي عامٍ واحد وَضعَ الملوكَ
الثلاثة عشر وأسلحتَهم [= قوَّاتهم؟] ووحوشهم البرية تحت (سُلطةِ) عشرة حصون
مُحصنة.»
15
حتى في طروادة، على الساحل الغربي للأناضول، حيث ظَنَّ المُنقِّبون السابقون أن هناك
فجوةً في الشغل، مدةَ أربعمائة عام بعد الانهيار، من الواضح الآن أنه كان هناك بعض
الاستمرارية في الشغل، وخاصةً خلال القرن الثاني عشر وحتى القرن الحادي عشر. إضافةً إلى
ذلك، كان هناك دائمًا كثير من المناقشات بشأن هجرةٍ مُحتمَلة إلى المنطقة من تراقيا أو
البلقان مباشرةً بعد تدمير طروادة السابعة. وعلى الرغم من ذلك، فالبقايا التي كانت
مأهولة لا تُقارَن بالمدينة الغنية التي كانت هناك خلال العصر البرونزي.
16
ولذلك، وعلى الرغم من انهيار الإمبراطورية الحيثية ذاتها، يُمكننا أن نرى أنه كان
هناك ناجون وأن الحياة استمرت، خاصةً في المناطق الداخلية، حتى مع اختفاء الحكومة
المركزية، والبيروقراطية والإدارة المرافقتَين لها بشكلٍ أساسي، تاركةً المناطق
المُختلفة لتحكُم نفسها. ومن بين المناطق المُتضرِّرة كانت تلك التي يُشار إليها
أحيانًا باسم «بقايا الدويلات» الصغيرة، وخاصةً فيما يُعرَف الآن بشمال سوريا. هنا، على
سبيل المِثال، نجَت فروع من العائلة الملكية، المنحدرة من الملك الحيثي شوبيلوليوما
الأول، لتحكم في كركميش وحلب خلال القرن الثاني عشر قبل الميلاد وما بعده، كما ذكرنا
للتوِّ. وقد أطلق علماء الآثار على هذه الكيانات السياسية تسميةَ الدويلات الحيثية
الجديدة (أو السور-حيثية)؛ لأن هذه المنطقة هي التي أشار إليها تِغلث-فلاسر والآشوريون
الجُدد باسم «أرض خاتي»، وليس الهضبة الوسطى للأناضول، حيث كانت الإمبراطورية الحيثية
متمركزةً في السابق. وبطبيعة الحال، لم يكن الآشوريون الجُدد وحدَهم هم مَن أشاروا إلى
دويلات المدن الصغيرة هذه وثقافتها بهذه الطريقة؛ لأنهم على الأرجح هم أيضًا «الحيثيون»
المذكورون في الكتاب المقدَّس العبري؛ لأن الحيثيين الأصليين كانوا قد صاروا صفحاتٍ من
الماضي منذ فترةٍ طويلة بحلول الوقت الذي جُمِعَت فيه النسخ الأولى من ذلك النص
الديني.
17
وفي المُجمل، أسَّس هؤلاء الحيثيون الجُدد (أو استمروا في شَغْل) ما يصل إلى خمس عشرة
دويلة مدينة صغيرة في المنطقة التي تُعرَف الآن بشمال سوريا وجنوب شرق تركيا وذلك خلال
العصر الحديدي، من القرن الثاني عشر إلى القرن الثامن قبل الميلاد. هذه هي المنطقة
العامة نفسها التي ضربَتها زلازل عنيفة في فبراير ٢٠٢٣، وأودَت بحياة ما يقرُب من
ستِّين ألف شخص ودمَّرَت المنطقة. كانت مدينة كركميش وإقليمها الذي تحدَّى تِغلث-فلاسر
الأول، من بين أبرز المدن في هذه المنطقة. استُكشِفَت بقايا الموقع ونُقِّبَت على نطاقٍ
واسع لأول مرة في أوائل القرن العشرين بواسطة العديد من الأثريين، من بينهم تي إي لورنس
(الذي خلَّدته هوليود لاحقًا باسم «لورنس العرب»)، والآن تُجرى مجددًا أعمال التنقيب
فيها (منذ عام ٢٠١١)، هذه المرة على يدِ فريقٍ مشتركٍ من علماء الآثار الأتراك
والإيطاليين.
وإذا عُدْنا في الزمن إلى الوراء قليلًا، فسوف يتذكَّر القرَّاء اليقِظون أن كركميش
كان رمسيس الثالث قد ذكرها على وجه التحديد في النقش الذي يعود إلى عامِه الثامن (١١٧٧
قبل الميلاد) باعتبارها واحدةً من المناطق التي اجتاحتها شعوب البحر («لم يستطِع أيُّ
بلدٍ أن يصمد في مواجهة جيوشهم، فاغتُصِبت البلدان بدءًا من خاتي، وكودي، وكركميش،
وأرزاوا، وألشية وما بعدها …»). ومع ذلك، ربما يكون من المُدهش إلى حدٍّ ما أنه لا
يوجَد دليلٌ أثري يُشير إلى أن المدينة عانت من الدمار في ذلك الوقت. وربما كان رمسيس
يُشير بشكلٍ أكثر تعميمًا إلى المنطقة المحيطة بكركميش، وليس إلى المدينة نفسها على وجه
التحديد، وبالفعل ظلَّت هذه المنطقة منطقةً متنازَعًا عليها حتى الجزء الأخير من القرن
الثامن قبل الميلاد. وفي عام ١٩٢٠، كتَبَ السير ليونارد وولي: «… تَسَلَّقِ التَّلَّ
العظيمَ للأكروبوليس، وسوف تفهم على الفور لماذا كانت كركميش منذ العصور السحيقة قلعةً
حصينة في أرضٍ مُضطربة.»
18
إننا نتعلَّم المزيد والمزيد كل عامٍ عن هذه الممالك الحيثية الجديدة (أو السور-حيثية
والسور-أناضولية) الصغيرة. ويرجع هذا إلى حدٍّ كبير إلى الاكتشافات التي يجري التوصُّل
إليها أثناء أعمال التنقيب المُتجدِّدة في مواقع مختلفة، ومنها اكتشافات الفريق التركي
الإيطالي في كركميش، والفريق الأمريكي الألماني في زنجرلي (سمأل القديمة)؛ ولكنْ يرجع
أيضًا إلى التقدُّم المُحرَز في قراءة اللوفية الهيروغليفية. كانت اللغة اللوفية واحدة
من عدة لغات تحدَّث بها الناس في الأناضول خلال العصر البرونزي وما بعده، ولكن الحيثيين
استخدموها أيضًا كنظامِ كتابةٍ تصويري للنقوش الملكية المنحوتة على الآثار الحجرية. وفي
وقتٍ لاحق استخدمها الحيثيون الجُدد على نحوٍ مُماثل لنقوشهم المنحوتة في الحجر
والمُشيَّدة في مُدنهم. ونتيجةً لهذا، نحن سعداء الحظِّ؛ إذ يُمكننا تتبُّع سلالات
وأنساب الحكَّام في عددٍ من مدن العصر الحديدي وممالكه تلك.
19
وسأُقدم مثالًا واحدًا فقط على ذلك، وهو أن المُنقِّبين البريطانيين الأوائل في
كركميش كانوا بحلول عام ١٩١١ قد وصفوا بالفعل العثور على نقوشٍ بارزة وكتابات منقوشة
في
الموقع. كتب دي جي هوجارث، المدير الميداني البريطاني في ذلك الوقت: «في الجدار
السُّفلي الطويل، يبدو أنه قد صُنِعَت سلسلةٌ من ألواح النقوش البارزة الكبيرة، التي
كانت تواجِه الفناء المرصوف بالحصى. وجدنا ثلاثة عشر لوحًا منها سقطَت في الفناء. ستةٌ
منها تُمثِّل عربات حربية في حالة حركة؛ ولوحانِ يُمثلان محاربين على الأقدام؛ وأربعةٌ
تمثِّل شخصيات إلهية وحشية؛ ولوحٌ واحد، يقع في منتصف السلسلة تقريبًا، يحمل نصًّا
منقوشًا طويلًا بأحرُفٍ بارزة، تظهر تحته ثلاثة رءوس ملتحية وست عشرة يدًا مقطوعة. وبما
أن هذه الألواح كانت في الأصل موجَّهةً نحو الخارج، فقد كانت بمثابة بطانة لممرٍّ ضخم
إلى الدرَج، وكانت تؤدي إلى سلسلةٍ من الألواح التي كانت تصطفُّ على الجانب الشمالي من
الدرَج.»
20
نعرف الآن أن شوبيلوليوما الأول كان قد نصَّب أحد أبنائه، بياشيلي (الذي اتخذ اسم
شاري-كوشوخ)، نائبًا للملِك على المدينة في حوالي عام ١٣٤٠ قبل الميلاد. واستمر أحفاد
بياشيلي، بما في ذلك كوزي-تيشوب وإيني-تيشوب، في حُكم المدينة والأراضي المجاورة لها
والقرى المحيطة بها (أي الدويلة المدينة ككل) على مدى الأجيال الخمسة التالية أو نحو
ذلك، حتى زوالها على يد إمبراطورية سرجون الثاني الآشورية الجديدة في عام ٧١٧ قبل
الميلاد. حتى إن بعض الخلفاء اتخذوا لقب «ملك الحيثيين» بمجرد انهيار الإمبراطورية
الحيثية نفسها وانقسام أجزاء منها وانفصالها وتشكيل ممالكها الحيثية الجديدة الصغيرة.
كما نعرِف أن شوبيلوليوما الأول نَصَّبَ أحد أبنائه الآخَرين، الذي يُسمَّى تيليبينو،
ليحكم مدينة حلب ومملكتها، الواقعة على مسافةٍ ليست بعيدةً جدًّا، في الوقت نفسه
تقريبًا (حوالي ١٣٤٠ قبل الميلاد). استمرَّت تلك السلالة أيضًا بعد سقوط الإمبراطورية
الحيثية نفسها.
21
•••
تُنْبِئ تصرفاتُ تِغلث-فلاسر بما سيحدُث مرارًا وتكرارًا في القرون القادمة، وخاصة
هجوم الآشوريين على دويلات المدن والممالك الصغيرة في العصر الحديدي، التي حلَّت محل
إمبراطوريات العصر البرونزي في جميع أنحاء الشرق الأدنى القديم. كانت بعض هذه الدويلات
والممالك الصغيرة قد أُنشِئ في وقتٍ مبكِّر للغاية منذ أواخر القرن الثاني عشر قبل
الميلاد، لكنَّ دويلاتٍ وممالكَ صغيرةً أخرى لم تتأسَّس إلا في القرن الحادي عشر أو
العاشر أو التاسع قبل الميلاد. ومن بينها مجموعة كاملة من الكيانات السياسية والعرقيات
المُختلفة، بعضها الْتقينا به بالفعل والبعض الآخَر سنلتقي به قريبًا: دويلات المدن
السور-أناضولية أو السور-حيثية مثل كركميش وحلب وسمأل (زنجرلي المعاصرة) وتل برسيب فيما
يُعرف الآن بشمال سوريا وعلى الحدود مع تركيا؛ فضلًا عن دويلات مدن أخرى، مثل كيو، التي
كانت تقع في منطقة قِيلِيقِيَة (جنوب شرق تركيا الحالية)؛ ودويلات مدن آرامية مثل دمشق
وحماة فيما يُعرَف الآن بسوريا؛ وجيوب فينيقية في صور وجبيل وصيدا وأرواد وبيروت على
ما
يُعرف الآن بساحل لبنان؛ والمدن الفلستية وممالك إسرائيل ويهوذا فيما يُعرف حاليًّا
بإسرائيل والضفة الغربية؛ وممالك صغيرة أخرى في ذلك العصر مثل عمون وأدوم وموآب في
الأردن الآن.
22 وفي كل هذه الممالك، على الرغم من تخصيصها هنا لكياناتٍ سياسية فردية، من
المُرجَّح أننا كنَّا سنجد مزيجًا من الأعراق المختلفة بين السكان، تمامًا كما نتوقَّع
أن نجد في المدن الحديثة في جميع أنحاء المنطقة في عصرنا الحالي.
لم يكن هذا الوضع مختلفًا تمامًا عمَّا كان عليه الحال في بلاد الشام خلال أواخر
العصر البرونزي، عندما كان كلُّ كيانٍ من الكيانات الكنعانية الصغيرة يحكمه حاكم (أو
ملك صغير) ويدين بالولاء إما للمصريين أو الحيثيين. ولكن، الآن، مع انهيار القوى
الإقليمية في نهاية العصر البرونزي، تمكَّنَت دويلات المدن هذه من ممارسة قدْرٍ أكبر
قليلًا على الأقل من الاستقلال مما كانت تتمتع به سابقًا. استغلَّ الآشوريون في النهاية
هذا الفراغ في السُّلطة وأنشَئوا إمبراطوريةً خاصة بهم، لكنَّ هذا لم يحدُث حتى القرن
التاسع قبل الميلاد، كما رأينا.
(٢) الحيثيون الجُدد في طعينات وكركميش
أظهر السكان الباقون على قيد الحياة في شمال سوريا درجاتٍ متفاوتةً من المرونة خلال
أواخر القرن الثاني عشر وحتى القرن الحادي عشر. لقد كانت فترةً انتقالية لهم جميعًا؛
حيث تحوَّل البعض، وتكيَّف آخَرون أو ببساطة تأقلموا مع الوضع. وكما ذكرَت «هيلين
صادر»، من الجامعة الأمريكية في بيروت، فإن «الانتقال من أواخر العصر البرونزي إلى
العصر الحديدي يختلف من موقعٍ إلى آخَر». ففي بعض الأماكن، جرى انتقالٌ سلِس دون
انقطاع. وفي أماكن أخرى، كان هناك بالتأكيد انقطاع، كما هو الحال في رأس ابن هاني،
مدينة مرفأ أوغاريت، التي لم يُعَد شَغْلها إلا بعد تدميرٍ عنيف من الغزاة أثناء
الانهيار، فضلًا عن أوغاريت نفسها، بالطبع. ولكنْ، كما تُلاحظ صادر، «أُعيد سكنى معظم
المواقع على الفور تقريبًا واستُؤنِفَت الأنشطة الزراعية والصناعية
والتجارية.»
23
على الرغم من أن كركميش لم تُدمَّر، فهناك دلائل تشير إلى أنها عانت من نوع من
الانكماش في هذا الوقت وأن مملكةً قريبة، مقرُّها تلُّ الطعينات، اغتنمَت الفرصة للظهور
والازدهار أيضًا.
24 ترجع معرفتنا بمملكة العصر الحديدي الجديدة هذه، في جزء منها، إلى عمليات
التنقيب في الموقع؛ ولكنْ ترجع أيضًا إلى مزيدٍ من التطوُّرات المثيرة للاهتمام فيما
يتعلَّق بقراءة اللوفية الهيروغليفية وفَهْمها.
وقد أسفرَت التطوُّرات في فكِّ الترميز عن قراءةٍ مُحَدَّثة لاسم مملكة العصر الحديدي
الإقليمية الجديدة هذه، والتي كانت تقع في سهل العمق، أيضًا على الحدود بين تركيا
وسوريا المُعاصرتَين. نشطَت المملكة بشكلٍ خاص من القرن الحادي عشر قبل الميلاد
فصاعدًا، وربما كانت تشمل منطقةً تضمنَت حلب وربما جنوبًا حتى حماة، وقد حدَّد العلماء
سابقًا المملكة باسم «أرض باداستين» (تظهر أيضًا باسم «باداساتيني» و«واداستين» وبصورٍ
مختلفة أخرى). ومع ذلك، قدَّم جيه دي هوكينز من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية
بجامعة لندن وآخرون أدلةً على أن التهجِّي والقراءة الصحيحة من المرجَّح أن تكون
«باليستين» (تظهر على صورة «واليستين» في بعض النقوش) وأن المملكة كانت تُعرف على
الأرجح باسم «أرض باليستين». تشير القراءة الجديدة المقترحة لاسم المدينة، بطبيعة
الحال، إلى كلٍّ من الفلستيين المشهورين بشعوب البحر والاسم الحديث لفلسطين، وقد أثارت
هذه القراءة الجديدة كل أنواع المناقشات بين علماء الآثار في السنوات الأخيرة، ومن
بينهم بعض الذين لم يقتنعوا تمامًا بالاقتراح.
25
كانت عاصمة المملكة تقع في مدينة معروفة أيضًا بمجموعةٍ متنوعة من التهجئات، بما في
ذلك كونولوا، وكومولوا، وكينالوا، وكيناليا، وهو الموقع المعروف الآن باسم تل الطعينات.
جرَت أعمال التنقيب فيها لأول مرة من قِبَل جامعة شيكاغو من عام ١٩٣٥ إلى عام ١٩٣٨
ومؤخرًا (منذ عام ٢٠٠٤) من قِبَل جامعة تورنتو تحت إشراف تيم هاريسون.
يبدو أن طعينات نفسها، الواقعة إلى الشمال الشرقي من أوغاريت وإلى الداخل من الساحل
السوري عند منعطف في نهر العاصي، كانت كيانًا معقدًا إلى حدٍّ ما. وقد ركَّزَت الدراسات
المُتعلقة بثقافتها المادية على الطبيعة غير المحلية (أي، الإيجيَّة) للفخار وغيرها من
الاقتراحات بأنَّ أجانب قد استقروا فيها في وقتِ انهيار العصر البرونزي وبعده مباشرةً.
على العكس من ذلك، فإن النقوش التي عُثر عليها في الموقع «قد سلَّطَت الضوء على
الاستمرارية السياسية للمنطقة، من فترة سيطرة الإمبراطورية الحيثية في أواخر العصر
البرونزي إلى الدول الحيثية الحديثة في العصر الحديدي». وذكر أيضًا المُنقِّبون
أنفُسُهم مؤخرًا، أن «هناك أدلة دامغة على الاستمرارية والتغيير» في الموقع، وهو أمرٌ
ذو أهمية فريدة لنا.
26
كما خَلصوا إلى أنَّ طعينات كانت على اتصال، اقتصاديًّا وكذلك ثقافيًّا، بمجتمعاتٍ
وأفراد كانوا موجودين في مجموعةٍ واسعة من المواقع الجغرافية خلال هذا الوقت، منها
الأناضول وسوريا الداخلية وبلاد الشام ومنطقة بحر إيجه. ونتيجةً لذلك، فهُمْ لا يرَون
طعينات معزولةً، بل «نقطة الْتقاء مجالاتٍ ثقافية متعددة». وتُشير هذه الدراسات، في
الواقع، إلى أنَّ «الطيف المتنوِّع من الروابط الثقافية الذي لُوحِظ في مستويات أوائل
العصر الحديدي في طعينات يعكس بوضوح واقعًا ثقافيًّا أكثر تعقيدًا وغموضًا ممَّا كان
معترَفًا به من قبل.»
27
ونحن نعرف الآن من نقوشٍ مختلفة، كُشفَ عنها في مواقع مثل حلب، وأرسوز، وعين دارة،
وأماكن أخرى، وكذلك في طعينات نفسها، أنَّ أحدَ أقدمِ ملوك «أرض باليستين» كان رجُلًا
يُدعى تايطا الأول، الذي حكم في القرن الحادي عشر قبل الميلاد. وقد عُثر على العديد من
نقوشه خلال مواسم التنقيب في الفترة من ٢٠٠٣ إلى ٢٠٠٥ داخل معبد إله العواصف في حلب.
تبدأ السطور الافتتاحية لأحدِها كما يلي: «أنا الملك تايطا، البطل، ملك [أرض]
باليستين.» ويحتوي نقشٌ ثانٍ مجزَّأ على اسمه إلى جانب إشاراتٍ إلى كلٍّ من كركميش
ومصر، لكنَّ السياق مُتقطع في كلا السطرَين.
وفي نهاية المطاف، تبِعه في الحُكم تايطا الثاني وزوجته كوبابيا في أوائل القرن
العاشر قبل الميلاد، ثم مانانا (الذي أُعيد تحديد زمنه مؤخرًا من القرن التاسع قبل
الميلاد) ثم شوبيلوليوما الأول (الذي اتخذ اسم الملك الحيثي الأسبق) في وقتٍ لاحق من
القرن نفسه. وبحلول أوائل القرن التاسع قبل الميلاد ومُنتصفه، انكمش اسم المملكة
قليلًا، إلى باتين (أو باتينا) بدلًا من باليستين، على الرغم من أنَّ الآشوريين الجُدد
كانوا أحيانًا يسمُّونها أونقي، كما هو مذكورٌ أعلاه، وحَكَمها ملوك مثل هالبارونتيا
وشوبيلوليوما الثاني؛ وربما أطلق الملك الآشوري شلمنصر الثالث على الملك الأخير اسمَ
سابالولمي في نقوشه التي يرجع تاريخها إلى عام ٨٥٨ قبل الميلاد.
28
•••
يبدو أن كركميش عادت إلى الظهور خلال القرن العاشر قبل الميلاد، والذي كان فترةَ
انتعاشٍ للمدينة والأراضي المحيطة بها. هنا، على سبيل المثال، نجد الآن ما يُسمَّى
«بوابة المياه» المَبنية على جانب المدينة المواجِه لنهر الفرات، والتي كانت مُزيَّنة
بأعمدةٍ حجرية منحوتة (ألواح حجرية مُشَكَّلة تُستَخدَم لتبطين الجدران أو الممرات)
يعود تاريخها إلى أواخر القرن الحادي عشر أو أوائل القرن العاشر قبل الميلاد. أثناء
أعمال التنقيب التي أجراها السير ليونارد وولي في الموقع في عام ١٩٢٠، وصَفَ المكان
بطريقةٍ شعرية جدًّا، على النحو التالي:
كان هناك طريقٌ مائل تتخلَّله درجاتٌ يؤدي من الرصيف بين صفوفٍ من المنحوتات.
وفي زاوية جدار النهر كان هناك أسَدٌ، ثم هناك ثيران وأسُود مرةً أخرى، ومجموعة
من الشياطين الحارسة المناسبة للبوابة؛ تميمة معمارية، إنْ جاز التعبير، لإبعاد
الأرواح الشريرة عن المدخل؛ وهناك مشهد للتضحية، ثور وعَنزَة يُقادان إلى
الذبح، وكاهن أو ملِك جالس يقدِّم القرابين للآلهة. كانت عتبات الأبواب
الخارجية مُشكَّلة من أسُود ضخمة من البازلت منحوتة بكامل تفاصيلها، ويبلُغ
طولها اثني عشر قدمًا من الرأس إلى الذيل، مع نقشٍ طويل محفور على جوانبها.
اليوم، أصبحت البوابة أطلالًا متهالِكة، تتناقض بشكلٍ سيئ حقًّا مع المباني
داخل المدينة؛ ولكنْ بصرْف النظر عن الصورة التي تمكَّنَّا من رسمها لما كانت
عليه في أيامٍ أكثر ازدهارًا، فإنها تتمتع بأهميةٍ تاريخية تفتقر إليها الآثار
المحفوظة بشكلٍ أفضل.
29
وفي مكانٍ قريب، يوجَد أيضًا ما يُسمى «جدار المنحوتات الطويل»، والذي يرجع تاريخه
على الأرجح إلى نهاية القرن العاشر قبل الميلاد، والذي يحتوي على «تسلسُل مُثير للإعجاب
من الألواح الكبيرة ذات المَشاهد العسكرية وموكب الآلهة»، كما وصفها ماركيتي. كان هذا
هو «الجدار السفلي الطويل» الذي يحتوي على «سلسلةٍ من النقوش البارزة الكبيرة» التي كتب
عنها هوجارث في عام ١٩١١، كما ورَدَ أعلاه.
30
ولذلك، نعرف الآن أنه بحلول هذه المرحلة من القرن العاشر قبل الميلاد، كانت الحياة
في
كركميش قد عادت إلى النقطة التي كانت فيها جميع مظاهر المجتمع المعقَّد واضحة؛ مبانٍ
ضخمة ومنحوتات، ونقوش، وحكام يحملون ألقابًا، ومستوياتٍ مُتعددة من التسلسل الهرمي
السياسي مع حكَّام أدنى شأنًا يحملون ألقابًا أدنى، ومِهَن مُتخصِّصة مثل مهنة الكهنة،
وعبادة الآلهة والإلهات داخل مبانٍ ومعابد محدَّدة؛ ومنطقة كانت تخضع للحُكم ومن
المُفترض أنها كانت تُنتج سلعًا زراعية وغيرها من المنتجات لإعالة سكَّان المنطقة
والنخبة التي كانت تَحْكُمهم. وعلى الرغم من أنَّ كركميش كانت كيانًا سياسيًّا أصغر
جدًّا من الإمبراطورية الحيثية، بحيث يمكن للمرء أن يقول إنها أنجبَتها؛ فمِن الواضح
أن
كركميش كانت مرةً أخرى مشارِكةً في عالَم الشرق الأدنى القديم. وظلَّ الأمر كذلك حتى
عام ٧١٧ قبل الميلاد، عندما دمَّر الآشوريون الجُدد المدينة.
•••
نعرف أيضًا أن منطقة كركميش كانت من بين المناطق التي خضعَت ودفعَت الجزية لآشور
ناصربال الثاني والآشوريين الجُدد في القرن التاسع قبل الميلاد، حيث يرِد ذِكر «سنجارا،
ملِك أرض خاتي» فيما يتَّصل بأرض كركميش في نقشٍ يرجع تاريخه إلى حوالي عام ٨٧٠ قبل
الميلاد. كما يرِدُ ذِكر سنجارا، الذي يُعتقَد أنه حكَمَ من حوالي ٨٧٥ إلى ٨٤٨ قبل
الميلاد، مرتَين على مجموعةٍ أصغر من أشرطة الأبواب البرونزية من قصر آشور ناصربال
الثاني، في بَلاوات التي عثَرَ عليها رسَّام؛ يحتوي المشهد الأول على التعليق «نَهْبٌ
من سنجارا، حاكم خاتي» حين يقول المشهد الآخَر، وهو مشهد يُظهِر مدينةً تتعرَّض للهجوم:
«أولوبا، مدينة سنجارا، [ملك] أرض خاتي، التي غزوتُها». وهناك شريط آخَر وجَدَه مالوان،
يمتدُّ من المعبد إلى مامو، بناه آشور ناصربال أيضًا في بَلاوات، يُصور الجزية من ملك
كركميش، ولكن من المؤسف أن اسم الملك غير مقروء؛ ومن المُفترَض أنه أيضًا
سنجارا.
31 كما يرِدُ ذِكر الملك نفسه لاحقًا، على لسان شلمنصر الثالث، كما
سنرى.
ومن الصياغة الدقيقة التي استخدمها آشور ناصربال في النقش من عام ٨٧٠ قبل الميلاد،
ومقدار الجزية المذكورة، من الواضح أنَّ كركميش لم تكُن منطقةً نائية فقيرة في ذلك
الوقت.
32 والنصُّ كما يلي:
عبرتُ نهرَ الفرات، الذي كان في حالة فيضان، في طوافات (مصنوعة من جلود
الماعز المنفوخة) (و) اقتربتُ من أرض كركميش. تلقيتُ الجزية من سنجارا، ملك أرض
خاتي، ٢٠ تلنتًا من الفضة، وخاتمًا من الذهب، وسوارًا من الذهب، وخناجر ذهبية،
و١٠٠ تلنت من البرونز، و٢٥٠ تلنتًا من الحديد، و(أحواض) برونزية، ودلاء
برونزية، وأحواضَ استحمام برونزية، وفرنًا برونزيًّا، والعديد من الزخارف من
قصره التي لا يمكن تحديد وزنها، وأَسِرَّة من خشب البقس، وعروشًا من خشب البقس،
وأطباقًا من خشب البقس مزيَّنة بالعاج، و٢٠٠ فتاةٍ مراهقة، وملابس كتانية
مزيَّنة بألوان متعددة، وصوفًا أرجوانيًّا، وصوفًا أرجوانيًّا مائلًا إلى
الحُمرة، ومرمر جيسنوجالو، وأنياب فِيَلة، وعربة من الذهب المصقول، وسريرًا
ذهبيًّا مُزينًا؛ (وهي أشياء) تليق بمكانته. وأخذتُ معي بعضَ عربات مدينة
كركميش وفرسانها ومُشاتها.
33
(٣) أرض أورارتو
يقول آشور ناصربال الثاني أيضًا إنه خرج في حملة بعيدًا إلى الشمال، حيث غزا «أرض
أورارتو». وكان جيشه قد غامر بالوصول إلى الأناضول، حيث واجَهَ قوات الملك الأورارتي
آرامو، الذي كان قد تولَّى الحُكم قُرب نهاية حُكم آشور ناصربال.
34 مِن المحتمَل أنه كانت هناك بالفعل تفاعلات مع هذه المنطقة تعود إلى القرن
الثالث عشر قبل الميلاد، وفقًا للنصوص الآشورية من زمنِ شلمنصر الأول؛ لأنه ادَّعى أنه
غزا أرضًا تُسمَّى أورواتري، والتي قد تكون، أو لا تكون، هي نفسها أورارتو.
35 لكنَّ الأورارتيين الذين واجههم آشور ناصربال الثاني كانوا في الأساس قوةً
جديدة أخرى على الساحة، ينفرد بها العصر الحديدي.
كان الأورارتيون هم المُتلقِّين للعداء الآشوري على الفور تقريبًا. كانت مُدنهم تقع
إلى الشمال مباشرةً من آشور في المنطقة العامة نفسها التي كانت ذات يومٍ تقع فيها
الأجزاء الشرقية من الإمبراطورية الحيثية. ومن منطقة بُحيرة وان، انتشر الأورارتيون في
جميع أنحاء ما هو الآن أجزاءٌ من شرق تركيا وأرمينيا وأذربيجان وشمال غرب إيران. كانت
العلاقات بين الآشوريين والأورارتيين عدائية في جميع الأوقات تقريبًا؛ ويبدو أنهما كانا
في حالة حربٍ دائمة منذ اللحظة التي الْتقيا فيها لأول مرة.
كان الآشوريون هم مَن أطلقوا على هذه المملكة اسم «أورارتو» (ومنها، بالمناسبة،
اشتُقَّ الاسم الحديث لجبل أرارات). ومع ذلك، أطلق الأورارتيون أنفُسُهم على مملكتهم
اسم «بيانيلي». وقد اشتهروا فيما بعد بأشغالهم المعدنية. ويَنسب إليهم العلماء غالبًا
إنشاء مراجلَ برونزيةٍ ضخمة برءوس ثيران أو أسُود أو حيوانات الفَتْخَاء (الجريفين)
الأسطورية (المعروفة باسم «بروتومات») مُتصلة بالحافة، إضافةً إلى دروعٍ برونزية محفورة
ومنقوشة ومزيَّنة بأشكالٍ حيوانية. وقد شقَّت هذه الدروع طريقها إلى شمال سوريا أو
قُلِّدَت، وربما وصلَت غربًا حتى جزيرة كريت، والبر الرئيسي لليونان، وحتى إيطاليا،
خاصةً خلال أواخر القرنَين الثامن والسابع قبل الميلاد.
36
كما ذكر ملوكٌ آشوريون سابقون، مثل توكولتي-نينورتا الأول وتِغلث-فلاسر الأول،
وآشور-بيل-كالا، أنهم شنُّوا حملاتٍ في منطقة تقع على ضفاف بحيرة وان، أطلقوا عليها اسم
«نيري». وعلى الرغم من وجود بعض الخلاف حول ما إذا كانت هذه المنطقة هي نفسها أورارتو،
فإن الأورارتيين أنفُسَهم أشاروا أحيانًا إلى مملكتهم بهذا الاسم (نيري) خلال القرن
التاسع قبل الميلاد، ويبدو بالتأكيد أن أورارتو قد استوعبَتها بحلول القرن الثامن قبل
الميلاد.
37
•••
واصل شلمنصر الثالث الهجوم الآشوري على هذه المملكة الشمالية عندما تولَّى العرش
في
عام ٨٥٨ قبل الميلاد. وتسجل نقوشه ما يصِل إلى أربع حملات على الأورارتيين و/أو إلى
الأراضي الأورارتية. كانت الحملة الأولى قد حدثت بالفعل خلال عامِه الأول على العرش،
عندما قال إنه اقترب من سوجوني، وهو اسم «مدينة آرامو [أو آرام] المُحصَّنة
الأورارتية». حاصرها واستولى عليها وذبح العديد من سكانها، ثم «أقام برجًا من الرءوس
أمام مدينته» قبل حرق أربع عشرة مدينة أخرى في المنطقة.
38
سُجِّلَت هذه الحملة الأولى أيضًا في كلٍّ من السِّجلَّين السُّفلي والعلوي للشريط
الأول على بوابات بَلاوات، وكذلك في نقشٍ أطول محفور مرتَين في موضعَين آخَرين على
البوابة نفسها، أي على الأغطية البرونزية التي أُلحِقَت بحواف مصراعَي (بابي) البوابة
نفسها؛ حيث كان النقشان يلتقِيان عند إغلاق البوابة. يقول نقْشُ السجل السُّفلي للشريط
الأول: «استوليتُ على سوجوني، مدينة آرام في أورارتو»، في حين أنَّ النقش الأقصَر يقول
للسجل العلوي: «أقمتُ تمثال معبود على شاطئ بحر نيري.» وعلى نحوٍ مُماثل، يقول النقش
الأطول على حواف المِصراعَين: «عند مروري بالبحر، صنعتُ تمثالًا ضخمًا لجلالتي (و)
أقمتُه حيث (يقف) تمثال أنوم هيربي … صنعتُ تمثالًا ضخمًا لجلالتي (و) كتبتُ عليه مديح
[آشور، الرب العظيم، سيدي، والأعمال العظيمة التي] كنتُ أُنجزها [بجانب] البحر. أقمتُه
(بجانب البحر).»
39
وهذا يحاكي تصريحًا مشابهًا أدلى به شلمنصر على نقشه الضخم، وهو ثاني النقشَين
اللذَين اكتشفهما عالِم الآثار البريطاني جون تايلور في كورح عام ١٨٦١ وتبرَّع بهما
للمتحف البريطاني بعد عامَين، كما ورَدَ في الفصل الثاني. على هذا النُّصُب، سجَّل
شلمنصر التفاصيل نفسها التي ذكرتُها للتوِّ، ومنها كومة الرءوس وتدمير المدن الأربع
عشرة، وأشار أيضًا إلى أنه سار بجيشه إلى بحر نيري. وأضاف أن التمثال الذي أقامه كان
«على صورتي»؛ تحسُّبًا، لعدم توضيح ذلك سابقًا.
40
تُظهر الصور المُصاحبة في السجل العلوي لشريط بَلاوات الأول أن ما أقامه شلمنصر على
شواطئ البحيرة لم يكن تمثالًا قائمًا بذاته، كما قد يتخيَّل المرء، بل كان في الواقع
صورته (موضَّحة بشكلٍ جانبي كامل من الرأس إلى أخمص القدمَين، مُتجهة إلى اليمين)
منحوتةً في الصخر الحي، تمامًا كما نُقِشَت رءوس أربعة رؤساء أمريكيين في جبل راشمور
في
ساوث داكوتا. ويظهر الملك وهو يقدِّم قربانًا مقدسًا — يسكب سائلًا ما على الأرض —
ويُرافقه كهنة وموسيقيون، إلى جانب مجموعةٍ متنوعة من الحيوانات التي كانت على وشك
التضحية بها. ويُصَوَّر أيضًا الجنود الذين كانوا قد رافقوا الملِك، وكذلك العربات
الحربية والفرسان والمشاة.
41
ويبدو أن شلمنصر كانت لدَيه عادةُ إصدار أوامر بإنشاء مثل هذه الأنصاب التذكارية
لنفسه أثناء الهجوم. وخلال الحملة نفسها، في الواقع، وضع كما في قوله «تمثالًا ملكيًّا
ضخمًا لنفسي … أمام منبع نهر سالوارا، عند سفح سلسلة جبال الأمانوس.» وأقام كما يقول:
«تمثالًا آخَر لجلالتي يوطِّد شهرتي إلى الأبد»، والذي وضعه على شاطئ البحر الأبيض
المتوسط بعد هزيمة «ملوك شاطئ البحر» في منطقة أمورو ومملكة باتين. كان هناك أيضًا
تمثالان آخران على الأقل من هذا القبيل، أقامهما في موضعَين آخَرين أيضًا؛ منهما واحد
على جبل إرتريا بعد أن استولى على مدينةٍ أخرى تابعة لآرام الأورارتية، إضافةً إلى آخَر
بجانب بحر نيري.
42
بعد ستِّ سنوات، خلال حملةٍ أُجرِيَت خلال عامه الملكي السابع، فعَلَ شلمنصر ذلك
مرةً
أخرى. يقول: «لقد سِرتُ بجيشي إلى منبع نهر دجلة، المكان الذي يخرج منه الماء. غسلتُ
سلاح آشور فيه، وقدَّمتُ قرابين لآلهتي، وأقمتُ وليمةً بهيجة. صنعتُ تمثالي الملكي
الضخم وكتبتُ عليه مديحًا لآشور، مولاي، وجميع أعمالي البطولية التي كنتُ قد أنجزتُها
في الأراضي. أقمتُه هناك.» وبعد ثماني سنوات من ذلك، كرَّر الإنجاز، قائلًا: «في سنتي
الخامسة عشرة سِرتُ بجيشي إلى أرض نيري. لقد شيَّدتُ عند منبع نهر دجلة، حيث يخرج ماؤه،
تمثالي الملكي.»
43
الأمر الذي لا يُصَدَّق أن هذين التمثالَين كانا قد عُثِر عليهما، وكانا معروفَين
منذ
بعض الوقت. وأوضح مجددًا أنهما ليسا تمثالَين قائمَين بذاتهما، كما قد تقودنا هذه
العبارات إلى أن نعتقد، بل إنهما أقربُ إلى نقوش الملك والنقوش المصاحِبة المحفورة على
سطحٍ عمودي مكشوف من صخرةٍ طبيعية داخل ما يُسمَّى بنفقِ دجلة، الواقع شمال مدينة ليجا
المعاصرة في تركيا وبالقُرب من نقشٍ بارز مُماثِل نُحِت أثناء حملةٍ سابقة إلى المنطقة
بواسطة تِغلث-فلاسر الأول. وكان تايلور، عالِم الآثار البريطاني، من بين أوائل
المُستكشِفين الغربيين الذين زاروا نفق دجلة. وقد فعَلَ ذلك في عام ١٨٦٢، في العام
التالي للعثور على النقشَين في كورح، ونشَرَ وصفه ومناقشته للصور المنحوتة على الصخور،
فضلًا عن ترجمةٍ أولية للسير هنري رولينسون لأحد النقشَين، في طبعة مجلة «جورنال أوف
ذا
رويال جيوجرافيك سوسايتي أوف لندن» نفسها.
44
وكما ظهر شكل شلمنصر من حملته السابقة على السجل العلوي لشريط بَلاوات الأول، فإن
أحد
هذه النقوش البارزة اللاحقة التي تخصُّ شلمنصر مصوَّرٌ أيضًا على شريط بَلاوات العاشر
(السجلَّين العلوي والسفلي). تحتوي أشرطة بَلاوات على تصاوير لمشاهد أخرى ذات صِلة
أيضًا، حيث يصوِّر السجل السُّفلي على الشريط الأول هجومًا على مدينة سوجوني، على النصف
الأيسر، وآثار المعركة على النصف الأيمن، وأسرى مُتنوعِين مقيَّدين معًا. هذه المَشاهد
على السجلَّين العلوي والسفلي للشريط الأول، مجتمعةً، تُعيد إلى الحياة أحداثَ حملته
في
عام ٨٥٨ قبل الميلاد. وتستمر هذه الأحداث بطريقةٍ قاتمة على الشريط الثاني، حيث النقش
الذي نجده مكتوبًا ونصه: «أَضْرِب … أرض أورارتو» والذي يُظهِر مدينةً أو أكثر من مدن
أورارتو الأخرى وهي محاصرة، وتُنهَب، وتُحرق؛ يُفتَرَض أنها من المدن الأربع عشرة التي
ورَدَ ذِكرها في النقوش الأخرى. نرى الأسرى يُنقلون والغنائم تُحمَل، ومزارع النخيل
تُقطَع، وبعض المُدافِعين يُخَوزَقون على أوتاد خشبية طويلة على الجدران في حين تُسمَّر
رُءوسُ آخَرين إلى الأبراج.
45 يبدو أنَّ شلمنصر لم يكن رحيمًا بالأورارتيين الذين قاوموه خلال هذه الغزوة
الأولى لأراضيهم.
وينطبق الأمر نفسه على حملته التالية عليهم، والتي صُوِّرَت على الشريط السابع من
بوابات بَلاوات. هنا نجد مكتوبًا النقش الذي نصُّه: «مدينة آرام، الأورارتية، التي
استوليتُ عليها.» هذا اختصار مُقتضَب للوصف الأطول على نقش النُّصُب، حيث يصِف قتل ٣٤٠٠
جندي أورارتي؛ «إمطار الدمار عليهم مثل إله العواصف»، وصبغ الجبل مثل الصوف الأحمر
بدمائهم، في حين أن النار تُضرَم في مدن أورارتية مختلفة. كل هذا نراه مصوَّرًا في
السجل العلوي للشريط السابع، إضافةً إلى المهندسين الآشوريين وهم يحفرون نفقًا تحت
أسوار المدينة ويُشعلون النار فيها حين كان سلاحا الفرسان والمشاة الآشوريان يحصدان
المُدافِعين الأورارتيين بلا رحمة.
46
وشنَّ أيضًا حملةً أطول على ملِكٍ أورارتي يُدعى «ساردوري، ابن لوتيبري»، الذي حكم
حوالي ٨٣٤–٨٢٨ قبل الميلاد، والذي نُشير إليه الآن باسم ساردوري الأول. وفي عهد
ساردوري، وجدنا أولَ النقوش المكتوبة باللغة الأورارتية. ومن المثير للاهتمام أنَّ هذه
النقوش كُتبَت باستخدام صياغة اللغة الآشورية الحديثة وخطِّها المسماري؛ لأنها كانت على
ما يبدو من صُنع كاتبٍ آشوري وقَعَ في الأَسْر على يد الأورارتيين خلال القرن التاسع
قبل الميلاد وجُلبَ إلى أراضيهم أسيرَ حربٍ.
47
في الواقع، فيما يخصُّ أقْدَم نقشٍ لساردوري، أخَذَ الكاتب السابق ببساطة نقشًا
ملكيًّا آشوريًّا معروفًا لآشور ناصربال الثاني ونقَشَه كلمةً كلمة على الجانب الأمامي
لستِّ كُتلٍ ضخمة من الحجر، مع تغيير اسم الملك فقط بحيث أظهَرَ ساردوري بدلًا من آشور
ناصربال — «ساردوري، ابن لوتيبري، الملك العظيم، الملك الجبَّار، ملك العالَم، ملك
نيري، الملك الذي لا نظير له، الراعي الرائع، الذي لا يهاب شيئًا في المعركة، الملك
الذي يُخضِع أولئك العصاة له.»
48
في عام ٨٣٠ قبل الميلاد، بدأ شلمنصر قتالَ ساردوري، الذي كان قد تولَّى الحُكم من
الحاكم السابق (آرامو) في الفترة الانتقالية. أسَّس ساردوري سلالةً حكمَت أورارتو على
مدى القرنَين التاليين، بدءًا بابنه إشبويني، ثم حفيده مينوا، وأحفاد أحفادِه إنوشبوا
وأرجيشتي الأول، وحفيد أحفادِ أحفادِه ساردوري الثاني، وهكذا.
49
كان المقر الرئيسي لساردوري يقع في قلعة توشبا (أو توشوبا)، الواقعة على نتوء صخري
بجانب بحيرةِ وان، والتي ورَدَ ذِكرها في عددٍ من الحوليات الآشورية. كان كثير من
المُستوطنات الأورارتية أيضًا عبارةً عن قِلاع تقع على نحوٍ مُماثل في مناطقَ جبلية؛
مما يجعل مهاجمتها أمرًا صعبًا. ومع ذلك، لم تكن مُحصَّنة من الهجمات، ولدينا تمثيلات
تصويرية مثل تلك التي وضَعَها شلمنصر الثالث على الشريط السابع من بوابات بَلاوات،
والتي تُظهِر جنودًا آشوريين يحرقون حصونًا أورارتية مبنية على قِمم الجبال.
50
ولذلك، يُمكننا إضافة أورارتو إلى قائمة الممالك الجديدة التي نشأت خلال هذه القرون،
وملأت الفجوات التي خلَّفَتها الممالك والإمبراطوريات الأكبر، مثل إمبراطورية الحيثيين،
التي لم تنجُ من انهيار أواخر العصر البرونزي. عمومًا، أثبتَت أورارتو أنها الخصم
الأبرع للآشوريين؛ حيث خاضت قِتالًا أكثر من أيِّ مملكةٍ أخرى تقريبًا. وقد اقتُرِح أن
ابتكار شلمنصر لاستخدام سلاح الفرسان في جيشه، والذي لم يكن الآشوريون قد استخدموه
كثيرًا من قبل، ربما جاء من رؤية فرسان أورارتو بين القوات التي واجهوها. وقد اقتُرِح
أيضًا أنَّ الارتفاع اللاحق في كميات النبيذ التي استهلكها الآشوريون في القرن الثامن
قبل الميلاد وما بعده؛ كان نتيجةً لتفاعُلات مع (والاستيراد من) أورارتو، التي كانت
معروفة بأنها منطقة مُنتِجة للنبيذ في ذلك الوقت، مثلما هو حال أرمينيا القريبة في
الوقت الحاضر.
51
(٤) شلمنصر الثالث وشمال بلاد الشام
في عام ٨٥٨ قبل الميلاد، خلال عامِه الأول على العرش، إضافةً إلى حملته على أورارتو،
يصِفُ شلمنصر القتال في منطقة شمال سوريا في مواجَهة عددٍ من ملوك الحيثيين الجدد؛ من
بينهم سنجارا من كركميش، وآخَر يُسمِّيه «سابالولمي، البانتيني». ذُكرَ الملِكان كلاهما
للتوِّ أعلاه؛ من المُحتمَل أن يكون الأخير هو شوبيلوليوما الثاني، الذي حكَمَ خلال
منتصف القرن التاسع قبل الميلاد في أرض باليستين، التي اختُصرَت إلى باتين (باتينا)
بحلول هذا الوقت، بعد الملِكَين الأشهر تايطا الأول والثاني. وقد كشفَت أعمال التنقيب
التي أُجرِيَت في عام ٢٠١٢ في موقع طعينات، الذي حدَّده فريق جامعة تورنتو عاصمةً له،
عن رأس تمثال هذا الملك وجذعه، والذي ربما كان ارتفاعه يبلُغ في الأصل اثني عشر قدمًا
(٣٫٥-٤٫٠ أمتار). ويوجَد على القطعة الكبيرة نقشٌ غير مُكتمل، لم يُنشر بعدُ، ولكنْ
يُقال إنه يتضمن اسم الملك.
52
كما يذكر شلمنصر حملته على سنجارا ملك كركميش على الشريط السادس من بوابات بَلاوات.
ينصُّ النقش ببساطة على ما يلي: «جزيةُ سنجارا ملك كركميش»، وهو ما تُوضِّحه بعد ذلك
المَشاهد في كلٍّ من السجلَّين العلوي والسفلي. في السجل العلوي، نرى شلمنصر واقفًا
أمام خيمته (أو فسطاطه الملكي)، يستقبل بعثةً أرسلها سنجارا، تضمُّ رجالًا يحملون
الجزية، وتشمل أنيابًا من العاج ومراجل برونزية ثقيلة. ربما تكون مدينة كركميش الفعلية
مصورة أيضًا، على مسافةٍ بعيدة عبْر نهر الفرات. في السجلِّ السُّفلي، نرى المعسكر
المُحصَّن للآشوريين على ضفَّة النهر وسنجارا يقدِّم ابنته الصغيرة إلى شلمنصر، مع
خدَمٍ يحملون مَهْرها؛ ومن الواضح أنها جزءٌ من الجزية التي قدَّمها سنجارا.
53 يبدو أن هذا لم يكن غير عادي على الإطلاق؛ حيث يذكر شلمنصر في نقشِه على
النُّصُب أنه أخذ بناتٍ ومهرًا من عددٍ من ملوك الأعداء الآخرين أثناء فترة
حُكمه.
نعرف أن أحد الملوك السور-الحيثيين الآخَرين الذين تحالفوا مع سنجارا في مواجهة
شلمنصر الثالث في عام ٨٥٨ كان رجُلًا يُدعى هايَّا، الذي حكَمَ تقريبًا من ٨٧٠ / ٨٦٠
إلى ٨٤٠ قبل الميلاد في سمأل (زنجرلي المُعاصرة). ذُكرَ هايَّا بالاسم في حوليات شلمنصر
لأعوام ٨٥٨ و٨٥٧ و٨٥٣ قبل الميلاد؛ حيث يُطلَق عليه اسم «هايَّانو» (أو «هايَانو»)
ووصفه على وجه التحديد بأنه «السمألي». بعد الصراع في عام ٨٥٨، يقول شلمنصر: «أخذتُ منه
الكثير من العربات والخيول المدرَّبة على خوض المعارك. نَصبتُ أعمدةً من الجماجم أمام
مدينته، ودمَّرتُ وهدمتُ وأحرقتُ مُدنه.» بعد تلك الهزيمة، استسلم هايَّا رسميًّا
لشلمنصر، مؤكِّدًا ولاءه على مدى السنوات القليلة التالية.
54
ويبدو أن خلفاءه قد تعهَّدوا بالولاء لآشور أيضًا، من بينهم ابنه شائِل (الذي يبدو
أنه كان حاكمًا مشاركًا مدةَ عَقدٍ من الزمن) ثم ابن آخَر يُدعى كولامووا (يُتهجَّى
أحيانًا كيلامووا) الذي تولَّى العرش حوالي عام ٨٤٠ قبل الميلاد وحكَمَ ثلاثين عامًا.
ترك لنا كولامووا عمودًا من البازلت مع تمثيلٍ له منحوت عليه، إلى جانب نقشٍ مكوَّن من
ستة عشر سطرًا مكتوبًا باللغة الفينيقية، ولكنْ باستخدام خطٍّ آرامي. ويعود تاريخه إلى
حوالي عام ٨٢٥ قبل الميلاد، وقد عُرِض في أحد المباني في سمأل وقد عُثِرَ عليه منذ
فترةٍ طويلة على يدِ مُنقِّبين ألمان. وصار موضوعًا للمناقشات منذ ذلك الحين. هنا
يُسجِّل كولامووا اسمَي كلٍّ من هيَّا وشائِل، في حين أنه يقول: «كان بيت والدي وسط
ملوكٍ جبابرة، وكلُّ واحدٍ منهم يمدُّ يدَه للقتال.» ثم يُشير إلى أنه توصَّل عمدًا إلى
اتفاقٍ مع ملك آشوري لم يذكُر اسمَه، ربما شلمنصر الثالث، ومن المُحتمَل أيضًا أن يكون
شمشي-أدد الخامس؛ وعمل معه على وجه التحديد لمُهاجمة عدوٍّ مشترك: «كان ملِكُ
الدانونيين أقوى منِّي. لكنني اشتبكتُ ضدَّه مع ملِك آشور.»
55
(٥) شلمنصر الثالث وسادة كركميش
في نقوشه، يُحصي شلمنصر الثالث أيضًا مجموعةً متنوِّعة من الملوك الآخرين الذين
طالبَهم بالجزية، إما قبل معركة قَرقُور مباشرةً أو بعدَها مباشرةً، في عام ٨٥٣ قبل
الميلاد، إضافةً إلى المُحاربين الرئيسيين الذين هزمهم. ومن بينهم «سنجارا الكركميشي»،
الذي ورَدَ ذِكره هنا مرَّاتٍ عديدة، والذي ظهَرَ أيضًا ستَّ مراتٍ في أماكن أخرى في
حوليات شلمنصر. وفي المرجع الأخير (السنة الحادية عشرة)، والذي يرجع تاريخه إلى ٨٤٨ قبل
الميلاد، يقول شلمنصر إنه استولى على سبعٍ وتسعين مدينة من مدن سنجارا، وهو ما يُشير
مرةً أخرى إلى أن كركميش كانت بحلول ذلك الوقت مملكةً راسخة تضمُّ العديد من المدن
التابعة لها. وهذه هي المرة الأخيرة التي يذكر فيها شلمنصر سنجارا؛ ولهذا السبب، فإن
تاريخ حُكمه عادةً ما يُحدَّد الآن من ٨٧٥ إلى ٨٤٨ قبل الميلاد.
56
ولكنَّ هذا ليس آخِر ما نسمعه عن سنجارا؛ لأنه يُذكر مرةً أخرى في سياقٍ آخَر، في
موطنه كركميش، بعد ستِّين عامًا تقريبًا. أمَرَ أحد أحفاد سنجارا، ويُدعى كاماني، بنقش
هذا النقش الأخير، الذي يرجِع تاريخه إلى ٧٩٠ قبل الميلاد، عندما أصبح ملكًا في كركميش.
لقد نُحِتَ على لوحة من البازلت يزيد ارتفاعها عن مترَين وكُرِّس للإلهة كوبابا، التي
صُوِّرَت في الجزء العلوي منه ودُعيَت «ملكة كركميش». وكجزءٍ من النقش، أدرج كاماني
مكانته ونسبه، وسرد الملوك الذين سبقوه، من بينهم جدُّه الأكبر سنجارا.
57
تتكوَّن اللوحة حاليًّا من ست قطع، عُثِر على أولها في عام ١٨٧٦ وعلى بعضها من قِبَل
المُنقِّبين البريطانيين في السنوات التي تلَت عام ١٩١١. ومؤخرًا، حُدِّدَ موقع إحدى
القِطع واستُعيدَت في عام ٢٠١٥، بعد سرقتها قبل عقود ونقلها على بُعد حوالي ٢٥٠
كيلومترًا. وفي المُجمل، توجَد القطع الست الآن في ثلاثة متاحف مختلفة في ثلاث دول
مختلفة: المتحف البريطاني، ومتحف الفاتيكان، ومتحف غازي عنتاب في تركيا. من الواضح أنها
جميعًا تنتمي إلى الأثر الأصلي نفسه، والتحريات المُتعلِّقة بتعقُّب القطع هي قصةٌ في
حدِّ ذاتها، وقد برع آخَرون في سردِها.
58
وعلاوةً على ذلك، وبمساعدة نقشٍ مُجزأ آخَر، يمكننا أن نوضِّح بقية الصياغة على هذه
اللوحة ونُعيد بناء سلسلة نسب هذه السلالة من السادة الذين استمرُّوا في حُكم كركميش
لأكثر من قرنٍ من الزمان، من ٨٧٥ إلى ٧٦٠ قبل الميلاد: «[أنا كاماني، حاكم،] مدينتَي
كركميش (و) ميليد وسيدهما، ابن أستيرو (وا)، سيد المدينة، [حفيد كوالانا-مووا، سيد
المدينة]، حفيد حفيدِ إيسارويلا-مووا، سيد المدينة، [حفيد حفيدِ حفيدِ] سنجارا
[…]».
59
ومن ثَم، نعرف الآن أن سَنجارا واصَلَ سلسلةَ سادة كركميش. ويمكننا أيضًا أن نستكمِل،
من نقوش أخرى، أسماء مزيد من سادة كركميش الذين حكموا خلال أواخر القرن التاسع وحتى
القرن الثامن قبل الميلاد كجزءٍ من هذا الخط الأُسري. في المُجمل، نعرف الآن ما يقرُب
من اثني عشر حاكمًا من هؤلاء، من عهد سوهي الأول، حوالي ١٠٠٠ قبل الميلاد، وحتى آخِر
حاكم، الذي يُدعى بيسيري، والذي دفع الجزية لتِغلث-فلاسر الثالث في عام ٧٣٨ قبل
الميلاد، ولكنْ أطاح به سرجون الثاني من على عرشه في عام ٧١٧ قبل الميلاد، عندما ضَمَّ
كركميش ودَمجَها في الإمبراطورية الآشورية؛ ممَّا أنهى أخيرًا أربعة قرونٍ من التحوُّل
والتغيير بعد انهيار أواخر العصر البرونزي.
60
يبدو إذن أنه، من أوائل القرن الثاني عشر وحتى أواخر القرن الثامن قبل الميلاد، استمر
وجود تسلسُلٍ هرمي معقَّد للحكومة في كركميش، وظلَّت تحكُم منطقةً مترامية الأطراف
بسلسلةٍ مُتصلة من الملوك، وتُمارس الكتابة، وتبني أبنيةً ضخمة. ويمكن إبداء تعليقاتٍ
مُماثلة، بدرجاتٍ متفاوتة، فيما يتَّصل بالكثير من دويلات المدن الحيثية الجديدة
والسور-أناضولية الأخرى في مختلف أنحاء هذه المنطقة، وأظنُّ أننا يُمكننا أن نتفِق مع
أليساندرا جيلبرت في أنَّ «فترة أوائل العصر الحديدي في المنطقة السور-أناضولية؛ لم تكن
فترةً من النزوح من المدن والركود، بل كانت فترةً انتقالية تميزَت بالاستمرارية، فضلًا
عن تغيُّراتٍ في الهياكل الاجتماعية والسياسية.»
61