الفصل الخامس
في ظلِّ القصور المدمَّرة
(منطقة بحر إيجه)
في سبعينيات القرن التاسع عشر، عندما كان عالِم الآثار الهاوي هاينريش شليمان يُنَقِّب
في
موقع ميسيناي على البر الرئيسي اليوناني، بحثًا عن قبور أجاممنون وأبطال آخرين من حرب
طروادة، وجَدَ شظايا من مزهريةٍ كبيرة محطَّمة داخل مبنًى على الأكْرُوبُول. كان يُعتقد
في
البداية أن المزهرية تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، ولكن تبيَّن في النهاية أنها
تعود
إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد، أي بعد تدمير القصر مباشرةً.
1
على جانبَي المزهرية يمكن رؤية مجموعتَين مختلفتَين من المُحاربين، وهم يسيرون على
ما
يبدو إلى المعركة أو يعودون منها مُرتدِين دروعًا كاملة، وخوذات على رءوسهم، وألبسة واقية
على جذوعهم، ودروعًا واقية لسيقانهم، إضافةً إلى الدروع والرماح. قد يكون من الممكن اعتبار
هذا تمثيلًا دراميًّا للفترة كلها، حيث كان الصراع والدمار من السمات المميِّزة لهذه
السنوات. هناك مزهرياتٌ مجزَّأة أخرى من هذه الفترة الزمنية أيضًا، من مواقع أخرى في
البر
الرئيسي، تُصوِّر إما المحاربين أو السفن أو كليهما؛ مما يُشير إلى أن هذا كان موضوعًا
مُستمرًّا خلال هذه السنوات.
2
ومع ذلك، احتلَّ عدد غير معروف من الناجين أو المُستوطنين أجزاءً من ميسيناي، حتى
بعد
تدمير المدينة. لكنْ بحلول نهاية القرن، هجر هؤلاء السكان القليلون حتى القلعة. وظلَّ
الموقع خاليًا من السكان حتى القرن الثامن قبل الميلاد، عندما بُنِيَ معبدٌ مكرَّس إمَّا
لهيرا أو لأثينا حيث كان القصر قائمًا يومًا ما.
•••
من الواضح الآن أن الأمر استغرق أكثر من قرنٍ حتى تلاشت آخِر آثار المجتمع الميسيني
في
العصر البرونزي وظهرت ثقافة العصر الحديدي التي تلَتها على البر الرئيسي لليونان. ومن
الواضح في بعض الأماكن أن المواقع ظلَّت مأهولةً في القرن الثاني عشر وحتى العقود الأولى
من
القرن الحادي عشر، خلال ما يُسمِّيه علماء الآثار فترةَ ما بعد القصور.
3
ومع ذلك، ليس لدَينا نصوص مكتوبة في اليونان ترجع إلى العقود التي تلَت سقوط القصور
أو
حتى بشكلٍ عام إلى أواخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وحتى الروايات اللاحِقة في أعمال
هوميروس وهسيود وهيرودوت وثوسيديديس التي تناولَت زمنَ حرب طروادة والفترة التي تلَتها
مباشرةً؛ لا يمكن أن تؤخَذ على ظاهرها، لأن هذه مصادر تُلقي نظرةً على الماضي، على عصرٍ
لم
يعُد موجودًا في عصرها.
4 البيانات المُستقاة من الآثار هي أملُنا الوحيد.
لحُسن الحظ، وكما هي الحال في قبرص، هناك ثروة من مثل هذه البيانات من البر الرئيسي
لليونان وكريت، وتشمل المدافن والفخار والتغيرات في أنماط الاستيطان. وهناك الآن مئات
المقالات والعديد من الكتب التي تُناقش موضوعاتٍ إما متعلِّقة تحديدًا بالعصر الحديدي
في
منطقة بحر إيجه أو ذات صِلة به، وتَظهَر بوتيرةٍ أسرع من أيِّ وقتٍ مضى مع زيادة الاهتمام
العلمي وإجراء أعمال تنقيبٍ ومسح أثري جديدة.
5 وقد خضعَت كلُّ هذه المعلومات الحديثة للتأويل وإعادة التأويل، وفي بعض
الأحيان، لعقود من المناقشات والخلافات العلمية؛ مما أدَّى إلى بعض الفهم الجديد بشأن
هذه
القرون.
ونتيجةً لهذا، أصبح لدَينا الآن أيضًا أدلةٌ جيدة على أن بعض السكان الآخَرين في
البر
الرئيسي اليوناني — ليس فقط في المواقع الحضرية مثل ميسيناي ولكنْ أيضًا في المناطق الريفية
— كانوا أيضًا قادرين على الصمود في أعقاب الانهيار. على سبيل المثال، تحتوي المقابر
في
بيراتي، المذكورة في الفصل الثالث، على عددٍ لا يُحصى من الأغراض الجنائزية الصغيرة
المستوردة من قبرص وكنعان والأناضول ومصر، من بينها عناصر ذات خراطيش فرعونية؛ مما يُشير
إلى أنَّ طُرق التجارة لم تكُن قد قُطِعَت بالكامل.
6
وعلى مقربةٍ من ميسيناي، في موقع تيرنز في أرجوليذا، يبدو أن الجدران كانت لا تزال
قائمةً
خلال معظم القرن الثاني عشر، ونُفِّذَت مشاريعُ بناءٍ جديدةٌ واسعةُ النطاق، منها بناء
المبنى «تي» فوق أنقاض قصر العصر البرونزي في القلعة العُليا. إضافةً إلى ذلك، استمرَّت
المدينة السُّفلى («الأونتربيرج») في احتلال الموقع واستخدامه. وربما يكون الأمر الأكثر
إثارةً للدهشة، أنه كانت هناك مدينة سُفلى جديدة مَبنية خارجَ أسوار المدينة خلال هذا
الوقت. لم يجرِ التنقيب إلا في جزءٍ صغير من هذه المدينة السُّفلى حتى الآن، ولكنْ يبدو
أنها كانت رحبة، ومن المُحتمَل أنها بُنِيَت بسبب تدفُّق الوافدين الجُدد إلى المنطقة.
هناك
أيضًا أدلة على وجود العديد من الحِرفيين الذين كانوا لا يزالون يعملون في الموقع خلال
هذا
الوقت، وعلى أن البضائع المستوردة كانت لا تزال تصل، ربما إلى جانب بعض العمَّال المهاجرين
من الشرق الأدنى. ربما أحضر هؤلاء المهاجرون معهم قضيبًا صغيرًا من العاج عُثِر عليه
في
الموقع، يحمل نقشًا مكتوبًا بما يبدو أنه كتابة أوغاريتية. هناك أيضًا كرة طينية صغيرة
منقوشة بعلامات مينوية-قبرصية عُثِر عليها في هذه المستويات في الموقع. ومع ذلك، وعلى
الرغم
من هذا الدليل على الاستمرارية الثقافية؛ فإن توبياس مولينبروخ، الذي نشر مؤلفات كثيرة
عن
هذه الفترة في تيرنز، يُطلِق عليها فترة «التغيير الثقافي الجذري». ولكنْ في نهاية المطاف،
انتهى الأمر إلى هجران الموقع في النهاية بحلول عام ١١٠٠ قبل الميلاد تقريبًا.
7
وفي الجزء الجنوبي من البر الرئيسي، كان تدمير القصر الميسيني في بيلوس شِبه كاملٍ
أيضًا،
كما ناقشنا سابقًا في كتاب «١١٧٧ق.م: عام انهيار الحضارة». ومع ذلك، يوجَد هنا أيضًا
أدلةٌ
على استمرار بعض السكَّان والنشاط. تُشير دراساتٌ جديدة إلى أنَّ بعض الغرَف المعزولة
في
القصر نفسه، ربما منها بعض المخازن وغرفة العرش، ظلَّت قائمة. ويبدو أن هذه الغرف كانت
في
حالةٍ جيدة بما يكفي لإعادة استخدامها من قِبَل الناجين أو المُستوطنين في مرحلة ما بين
وقت
الأزمة وأوائل القرن العاشر قبل الميلاد، وإن كان من غير المُمكن تضييق تاريخ الشغل إلى
أقل
من ذلك.
8
وبشكلٍ عام، فيما يتَّصل بالاتصالات والتجارة الخارجية، لاحظَت سارة موراي، عالِمة
الآثار
بجامعة تورنتو، أن الواردات من شرق البحر الأبيض المتوسط استمرت أيضًا بعد انهيار القصور،
وأننا ينبغي أن نتحدَّث عن التغيرات الكمية والنوعية من العصر البرونزي إلى العصر الحديدي.
وقد اقترحَت أنه حين يكون هناك انخفاض في شدة هذا النوع من الاتصالات، فمِن المُرجَّح
للغاية أن مردَّه إلى الحقيقة التي مفادها أنَّ عدد الأشخاص الذين كانوا يعيشون في اليونان؛
كان، ببساطة، أقلَّ خلال هذه الفترة. لاحظ أيضًا إيان موريس من جامعة ستانفورد أن
«المستوطنات الجديدة التي نشأت متواريةً في ظِل القصور المدمَّرة في القرن الثاني عشر
احتفظَت باتصالاتٍ ضعيفة مع الشرق الأدنى». ومع ذلك، يلاحظ أيضًا أنَّ «التجارة انخفضَت
انخفاضًا حادًّا بعد موجةٍ ثانية من الدمار حوالي عام ١١٠٠ قبل الميلاد».
9
•••
وعلى هذا، فإنَّ الانهيار لم يُشَكِّل في كثيرٍ من النواحي انقطاعًا كاملًا على البر
الرئيسي اليوناني. ولا شكَّ أن هناك درجةً ما من الاستمرارية خلال القرن الثاني عشر قبل
الميلاد وحتى الحادي عشر، مع جهودٍ واضحة للتكيُّف والتحول، حتى مع سقوط القصور واحدًا
تلوَ
الآخَر أثناء الانهيار أو في العقود التي تلَت ذلك. على سبيل المثال، يبدو أن الممارسات
الزراعية استمرَّت على الرغم من ظروف الجفاف المُستمرة. وحتى أنماط الفخار استمرَّت،
بحيث
نرى تعديلات واختلافات في الأشكال والأنماط الميسينية الاعتيادية؛ ومن هنا جاء الوصف
الأثري
غير الأمثل، ولكن الدقيق لهذه المرحلة: تحت الميسينية. وكذلك فإن الاستمرارية في المعتقدات
الدينية واضحة؛ حيث استمرَّت عبادة زيوس وهيرا وبوسيدون وغيرهم ممَّن ورَدَ ذِكرهم في
النصوص المكتوبة بالنظام الخطِّي «بي»، الخاص بالميسينيين طوالَ العصر الحديدي وحتى العصر
الكلاسيكي.
10
ولكنني أتساءل، كيف كانت الحياة في اليونان لأولئك الذين عاشوا في فترةِ ما بعد القصور؟
من الواضح أنَّ الحياة في المراكز الحضرية كانت قد تغيَّرَت بشكلٍ جذري؛ ففي كل هذه المراكز
تقريبًا، ربما باستثناء تيرنز، يبدو أنه لم يكن يعيش بين الأنقاض سوى مُستوطنين غير شرعيين.
وحتى في تيرنز، ليس واضحًا كم كان مِقدار ما ظلَّ مأهولًا مِن الموقع بالفعل. أما فيما
يتعلق بالناس في القرى والبلدات في المناطق الداخلية، فقد خلَصَ معظم العلماء، على أساس
الأدلة الضئيلة التي لدَينا، إلى أنَّ كثيرين منهم كانوا يعيشون حينئذٍ في بيئةٍ اجتماعية
وسياسية واقتصادية أقلَّ تعقيدًا ممَّا كان عليه الحال في السابق؛ وربما كان ذلك بسبب
فقدان
القصور وانهيار النظام الإداري الذي كان قائمًا منذ قرون بحلول تلك النقطة.
في بعض الحالات، يمكننا أن نرى التأثيرات المتوالية التي شعَرَ بها الناس عندما حلَّت
مجتمعات أصغر محلَّ القصور. على سبيل المثال، من الواضح من كتابات هوميروس وهسيود في
القرن
الثامن أن مصطلح
wanax
(
wa-na-ka) من النظام الخطي «بي»، الذي كان يُستخدَم
سابقًا بمعنى «مَلِك» خلال العصر البرونزي؛ لم يعُد يُستَخدَم خلال القرون الأولى من
العصر
الحديدي. وعوضًا عنه، تُستَخدَم حاليًّا كلمة
basileus
(
qa-si-re-u)، باسيليوس، التي كانت تُشير في وقتٍ سابق
إلى «زعيمٍ» من مستوًى أدنى. وبدلًا من المسئولين الإداريين السابقين للقصر، أصبح هناك
الآن
مزيد من المسئولين المحليين. إضافةً إلى ذلك، فُقِدَت أيضًا الكتابة نفسها، مؤقتًا، مع
سقوط
القصور ووفاة الكتَبَة القليلين المُتعلِّمين أو انتقالهم، أو، ببساطة، فقْدِهم وَظائِفَهم؛
حيث لم تعُد هناك حاجة إلى الاحتفاظ بقوائم الجرد والحسابات في القصور، التي كانت الغرضَ
الأساسيَّ للكتابة في اليونان خلال الفترة الميسينية.
11
ومع ذلك، اقترح عدد من العلماء أنه لم يكن الجميع في اليونان يشعرون بالحزن على انهيار
القصور، ورحيل المسئولين الإداريين للقصور، وتوقُّف مشاريع البناء والهندسة الميسينية
الكبرى، مثل بوابة الأسد وجدران التحصين الجديدة، ونفق المياه، ومقبرة خلية النحل الضخمة
المعروفة باسم خزانة أتريوس، والتي بُنِيَت جميعها في ميسيناي حوالي عام ١٢٥٠ قبل الميلاد.
ربما كانت تلك المشاريع واقتصاد القصور سببًا في إفقار الناس «العاديين» قُرب نهاية حقبة
أواخر العصر البرونزي. وربما كان زوال القصور في الواقع سببًا في تحرير هؤلاء الناس من
عبء
هائل؛ بحيث ربما تكون بعض المناطق الريفية قد شهدَت في الواقع فترةً وجيزةً من الرخاء
في
العقود التي أعقبَت الانهيار مباشرةً.
12
ويقترح أليكس نوديل، من كلية كارلتون، في الواقع، أننا ينبغي أن ننظُر إلى فترة القصور
في
اليونان في أواخر العصر البرونزي باعتبارها تجربةً فاشلة وأنَّ الانهيار سمح للأمور بالعودة
إلى طبيعتها، كما كانت الحال في اليونان خلال الجزء الأول من الألفية الثانية قبل الميلاد.
ويقول: «بدلًا من النظر إلى القصور باعتبارها تتويجًا لمسارٍ تطوُّري لتشكيل الدولة أعقبه
انهيار؛ قد نراها شذوذًا تاريخيًّا وتجارب مجتمعية، كانت في نهاية المطاف غير
ناجحة.»
13
ومع ذلك، فمن المُتفق عليه عمومًا أن نهاية الفترة الميسينية في اليونان تمثِّل نهاية
عصر. وكما ذكرَت سيجريد ديجر-جالكوتزي، الأستاذة الفخرية بجامعة فيينا: «لا شكَّ في أن
انهيار الحضارة المتقدمة للقصور الميسينية كان نقطةَ تحوُّل أساسية في التاريخ اليوناني.
فلم يُعَد بناء الهياكل الفخمة، ويبدو أن القليل جدًّا من الفنون والحِرف التصويرية للقصور
قد نجا. وسقطَت الأشكال المعقَّدة للتنظيم السياسي والاجتماعي والاقتصادي وتوارَت في
طيِّ
النسيان. وأصبحَت القصور والملوك والعائلات المالكة مادةً للأساطير اليونانية. وفُقِد
فنُّ
الكتابة لقرون. باختصار، تراجعَت الحضارة اليونانية إلى مستوى مجتمعٍ من مجتمعاتِ ما
قبل
التاريخ.»
14
(١) جزيرة كريت في الوقت نفسه
على النقيض من ذلك، يبدو أن الأمور في جزيرة كريت سارت على نحوٍ أفضل في أعقاب الأزمة
مباشرةً، حتى وإن لم يعُد من الممكن العثور على مظاهر محدَّدة للمجتمع المينوي. تشير
أبحاث حديثة إلى أنه كانت لا تزال هناك علاماتٌ على الحياة في العاصمة كنوسوس، على سبيل
المثال. إضافةً إلى ذلك، رغم مرور قرونٍ منذ أن أصبح المينويون بارزين بما يكفي في
التجارة الدولية — لدرجة أنَّ مجتمعات أخرى ذكرَتهم، كما هو الحال في ألواح ماري في
القرن الثامن عشر قبل الميلاد، أو صُوِّروا في رسوماتِ المقابر المصرية خلال القرن
الرابع عشر قبل الميلاد — فيبدو أن التفاعُلات مع الشرق الأدنى قد استُؤنفَت، وإن كان
على مستوًى أقلَّ من ذي قبل، تمامًا كما وثقَت سارة موراي للبر الرئيسي لليونان خلال
الفترة نفسها.
وقد لاحظت سارو والاس، الباحثة البارزة في مؤسسة جيردا هِنكِل في ألمانيا، مؤخرًا
أن
سكان جزيرة كريت لم يكونوا أقلَّ تأثرًا بأزمة الانهيار من أي شخصٍ آخَر، بل يبدو أنهم
نجحوا على نحوٍ أفضل في اجتياز عملية الانتقال إلى العصر الحديدي من خلال إجراءاتٍ
متعمَّدة وتعديلاتٍ ثقافية واسعة النطاق قلَّلَت من الفوضى. وتقول والاس إن ردَّ فِعلهم
كان بمنزلة استجابةٍ «مُبكِّرة ومتماسِكة ومبدعة» ﻟ «ظروف ازدياد انعدام الأمن والفُرَص
الجديدة المُتزايدة»، والتي أسفرَت عمَّا تُسمِّيه «انهيارًا إيجابيًّا».
15 يبدو أنهم تأقلموا، وربما حتى تبدَّلوا إلى حدٍّ ما، بدلًا من مجرد
التكيُّف.
وعلى المنوال نفسه، أظهرَت عمليات المسح الأثري التي أجراها عالِم الآثار البولندي
كريستوف نوفتسكي على جزيرة كريت — والتي تسلَّق خلالها، بجرأة، الكثير من أعلى قِمم
الجبال من أجل البحث عن بقايا أثرية — أنَّ هناك العديد من المستوطنات الصغيرة التي
أُنشئَت في مواقع دفاعيةٍ عالية في الجبال وبعيدًا عن الساحل في أعقاب الانهيار
مباشرةً، ربما لتجنُّب القرصنة.
16
ومع ذلك، هناك أيضًا أدلَّة على أن الحياة في العديد من المواقع الكريتية الكبرى،
مثل
فايستوس وخانيا، إضافةً إلى كنوسوس، استمرَّت دون انقطاع، رغم أن القصور كانت حينئذٍ
خَرِبة. كان هناك، على ما يبدو، قدْرٌ كبير من الاستمرارية من ناحية الاستيطان الحضري
والاستقرار الاقتصادي والطوائف الدينية والأماكن المُقدسة، وممارسات الدفن، وقد شكَّلَت
جميعها أساسَ استراتيجية الكريتيين الناجحة للبقاء، كما وثَّقَتها والاس
وآخَرون.
17
خلاصة القول، ربما تكون أيامُ مجدِ الحضارة المينوية خلال منتصف الألفية الثانية
قبل
الميلاد؛ قد اختفَت إلى الأبد، لكنَّ كريت نفْسَها وسكَّانها الناجين استمروا خلال
العصر الحديدي، وتأقلموا على الوضع الجديد. ومع ذلك، يمكن للمرء أن يزعُم أن هذا كانت
له تكلفته؛ حيث فقَدَ السكَّان هُويتهم الثقافية باعتبارهم «مينويين»؛ أيْ «شعب كِفتيو»
كما كانوا معروفين لدى المِصريين، و«الكَفتوريين» كما كان يُطلِق عليهم التجَّار في
ماري وأوغاريت خلال أواخر العصر البرونزي. ومع ذلك، ولكي نكون واضِحين تمامًا، ربما
كانوا بالفعل قد بدءُوا في فقدان تلك الهوية الجماعية قبل أن يحتلَّهم الميسينيون حوالي
عام ١٣٥٠ قبل الميلاد؛ وقد اقترحَت ميتاكسيا تسيبوبولو، المُتخصِّصة في العصر البرونزي
والعصر الحديدي في منطقة بحر إيجه ومديرة عمليات التنقيب في موقع بتراس في جزيرة كريت،
مصطلحَ «الميسينيين» لوصف السكان الذين عاشوا في جزيرة كريت خلال المرحلة الأخيرة من
أواخر العصر البرونزي، أي من أواخر القرن الرابع عشر فصاعدًا.
18
(٢) وصول الأبجدية
لقد استكشفنا بالفعل في الفصل الثالث الإجماعَ العام على أنَّ الفينيقيين هم مَن
جلبوا الأبجدية إلى بحر إيجه، على الأقل وفقًا لليونانيين اللاحِقين. ومع ذلك، ليس من
الواضح على الإطلاق متى حدَثَ هذا. أول قطعة أثرية تحمِل نقشًا فينيقيًّا عُثِر عليها
في منطقة بحر إيجه؛ هي وعاءٌ برونزي، من المُرجَّح أنه صُنِعَ في قبرص وعُثِر عليه في
القبر «جيه» في مقبرةِ تيكي في كنوسوس في جزيرة كريت. وقد حُفِرَت على حافة الوعاء
أربعُ كلماتٍ يصعب قراءتها بل ويصعُب أكثر ترجمتها. وقد قُدِّمَت حتى الآن مجموعةٌ
متنوِّعة من الاقتراحات، أرجَحُها أنه «وعاءٌ يخصُّ [أو مملوك ﻟ] فلان، ابن فلان».
عادةً ما يؤرَّخ القبر نفسه حاليًّا على أنه يعود إلى أواخر القرن العاشر قبل الميلاد،
أي ٩٥٠–٩٠٠ قبل الميلاد، ولكنَّ الوعاء كان على الأرجح إرثًا في الوقت الذي دُفِنَ فيه،
حيث يُعتقد أنه يعود إلى وقتٍ أسبق قليلًا؛ إلى حوالي عام ١٠٠٠ قبل الميلاد.
19
يشير النقش الموجود على هذا الوعاء إلى أن الأبجدية ربما وصلَت إلى منطقة بحر إيجه
قبل وقتٍ طويل من حوالي ٨٠٠ قبل الميلاد، وهو التاريخ المُعتاد الذي اقترحه معظم
العلماء في الماضي. ومن المُثير للاهتمام، أنه على الرغم من أن أقدم النقوش اليونانية
ترجع عمومًا إلى النصف الثاني من القرن الثامن، فقد أظهرَت الأبحاث الآن أنه ربما كان
هناك ما يصِل إلى ثلاثة وثلاثين تنويعًا مختلفًا للأبجدية قيد الاستخدام داخل منطقة بحر
إيجه قبل قبول مجموعةٍ قياسية من الحروف. ولذلك يقترح بعض العلماء حاليًّا بحذَر أنَّ
الوصول الأول للأبجدية ربما حدث في مرحلةٍ مبكرة ترجع إلى القرن الحادي عشر قبل
الميلاد، وأن سكان منطقة بحر إيجه ربما ظلُّوا لبعض الوقت يكتبون على موادَّ قابلةٍ
للتلَف مثل الجلود أو الخشب أو الرصاص.
20
ثمَّة جانبٌ جذَّاب في هذا الاقتراح، وهو أن تحديد تاريخ أسبق، من شأنه أنْ يتوافق
مع
الجدول الزمني لتطور الأبجدية واستخدامها في الشرق الأدنى، بدلًا من أن تتأخَّر منطقة
بحر إيجه ثلاثة قرون عن جيرانها في الشرق. ومن أقدم النقوش الفينيقية التي لدَينا في
شرق البحر الأبيض المتوسط نقش أزاربعل، الذي عُثِر عليه في جبيل، ويرجع تاريخه إلى
أواخر القرن الحادي عشر أو أوائل القرن العاشر قبل الميلاد. وقد نُقشت الأسطر الستة من
الكتابة على ملْعَقةٍ برونزية، ولكنْ للأسف، فإن النص مُنقَطِع وغير مُكتمل. ولذلك،
فإننا لسنا متأكِّدين تمامًا ممَّا يقوله، ولكنْ يبدو أنه يتعلَّق بالمال وأرض الأجداد.
وهناك نصٌّ فينيقي آخَر، يرجع تاريخه إلى الوقت نفسه تقريبًا، مكتوبٌ على وعاءٍ برونزي
عُثِر عليه في قبر في كفر فراديم في إسرائيل. تحمل هذه الكأس هويةَ صاحبها بوضوح: «كأس
بيشاح، ابن شيماع.»
21
وقد لاحظَت فيليمين، فال من جامعة لايدن، أنه «بما أن اليونانيين كانوا على اتصالٍ
بالفينيقيين (وشعوب أخرى) الذين استخدموا الكتابة، فمِن غير المعقول أن تكون اليونان،
باعتبارها الوحيدة في المنطقة، قد بقيَت أُمِّيةً لأكثر من ثلاثة قرون، خاصةً وأن هذه
الفترة، كما نعلَم الآن، لم تكن كلُّها قاتمةً ورجعية.» ومن الواضح أنه كانت هناك حاجةٌ
حقيقية إلى نظامِ كتابة جديد في اليونان في ذلك الوقت؛ لأن نظام الكتابة الخطِّي «بي»
كان قد بطَلَ استخدامُه فورَ انهيار نظام القصور الميسيني. إن كان الفينيقيون قد جلبوا
الأبجدية في زمنٍ مُبكِّر يعود إلى القرن الحادي عشر قبل الميلاد، فمن شأن هذا أن يعني
أنه لم تكن هناك سوى فترةٍ وجيزة من الزمن دون كتابة في البر الرئيسي اليوناني، ربما
قرابة قرنٍ أو نحو ذلك، وليس فجوةً استمرَّت أربعة قرون.
22
بغضِّ النظر عن وقت وصول النظام الأبجدي، فقد مثَّل انطلاقةً لليونانيين؛ لأنه مكَّن
الجميع، وأيَّ شخص، من تعلُّم القراءة والكتابة؛ وليس فقط كتَبة القصر الذين كانوا
يؤدُّون أعمال المحاسبة للإدارة. ولكنْ، كيف ولماذا حدَثَ نقْلُ نظام الكتابة الجديد
هذا؟ هل حدث في البداية في مدنِ الموانئ، على سبيل المثال، ليَستخدِمه تجَّار القطاع
الخاص، الذين كانوا يستوردون البضائع؟ هل تعلَّمَه تاجر أو بحَّار يوناني من تاجرٍ
فينيقي؟ كيف انتشر بعد ذلك؟ ولماذا كان هناك العديد من التنويعات الأولية؟ هل كانت هناك
مدارس للكتابة الْتحق بها طلابٌ صغار كثيرون تعلَّموا نظامًا بسيطًا نسبيًّا؟ هل كان
يُستخدَم في المقام الأول في البداية لكتابة اسم الشخص على غرضٍ ما، أو ربما لتمييز
مُمتلكاته، كما هو الحال مع وعاء تيكي، وكما لاحظ أنطونيو كوتسوناس عن الفترة التي كانت
الكتابة اليونانية الأولى تُستخدَم فيها بالتأكيد، أي مِن القرن الثامن قبل الميلاد
فصاعدًا؟
23
اقترح رودولف واختر، من جامعة لوزان، أن الأمر لم يستغرق سوى أسابيع، وليس أشهُرًا
أو
سنوات، حتى تنتشر الأبجدية على مساحةٍ كبيرة من منطقة بحر إيجه بمجرد
اعتمادها/اختراعها. ربما يبدو هذا سريعًا بعضَ الشيء، لكنَّ واتشر يتصوَّر أن الاعتماد
الأصلي قد حدَثَ على الأرجح أثناء «اجتماعٍ غير رسمي إلى حدٍّ ما لبعض التجَّار
اليونانيين والفينيقيين في أيِّ ميناءٍ مُتوسطي»، ويُضيف أن الأمر لم يكن ليتطلَّب سوى
«مجموعة صغيرة لا يزيد عددها عن واحدٍ أو اثنَين من اليونانيين، ويفضَّل أن يكونا
تاجرَين بعيدَين عن الوطن، يجلسان مع فينيقيٍّ أخبرهما عن استخدام نظام الكتابة؛ لكتابة
الرسائل وقوائم الطلبات والمذكرات القصيرة وما إلى ذلك، ثم علَّمَهما سلسلةَ أسماء
الحروف ونقَلَ إليهما الأبجدية. قد نتخيَّل أن مثل هذا الاجتماع قد حدث في مستوطنةٍ
مشتركة لليونانيين والفينيقيين».
24
•••
ومع ذلك، فإن المشكلة الرئيسة في اقتراحِ مثل هذا التاريخ المُبكِّر لوصول الأبجدية
هي، بكل بساطة، الانخفاض الواضح لمستوى تعقيد المجتمع اليوناني في هذه الفترة، والندرة
النسبية للبقايا من سياقات القرن الحادي عشر قبل الميلاد في البر الرئيسي لليونان.
ولكنْ، ربما تكون هذه مجرد مصادَفة من مصادفات حفظ الآثار؛ فكما لاحظ إيان موريس: «كانت
منازل العصور المُظلِمة واهنة، و… لم تصمد أمام الظروف القاسية.» ومن ناحيةٍ أخرى،
يُشير موريس أيضًا إلى أن «عدد المواقع الأثرية المعروفة من القرن الحادي عشر لا يتجاوز
عُشر المواقع الأثرية المعروفة من القرن الثالث عشر.»
25
ويبدو أن اليونان شهدَت انحدارًا آخر خلال القرن الحادي عشر. إذ تتغير أنماط الفخار
تغيرًا كبيرًا جدًّا في هذه المرحلة، وحدثَت هجرةٌ سكانية إضافية في المناطق الريفية
في
اليونان. واختفت تقريبًا كلُّ بقايا «الثقافة المادية» الميسينية في النهاية، ومن
الآمِن إلى حدٍّ ما أن نقول إننا نستطيع أن نُشير إلى منتصف هذا القرن، حوالي عام ١٠٥٠
قبل الميلاد، على أبعدِ تقديرٍ باعتباره الوقت الذي انتهى فيه المجتمع الميسيني كما كان
معروفًا قبلئذٍ.
26
ولكنْ، لم يكن كلُّ شيء سيئًا؛ إذ يُشير موريس إلى أن «ثورة» في اليونان بدأت في
الوقت نفسه تقريبًا، وشملَت تحوُّلًا من البرونز إلى الحديد — وهو ما نراه بالدرجة
الأُولى في الأغراض الجنائزية — وتنوعًا جديدًا في أنواع القبور، وربما منها كثير من
القبور التي أصبحَت «غير مرئية» لنا الآن؛ لأنها كانت لطبقاتٍ دُنيا ولم تترك سوى آثارٍ
قليلة. كما يرى موريس أنَّ هذه الفترة، التي استمرَّت مدةَ القرن ونصف القرن التاليين،
حتى بداية القرن التاسع، أي مِن عام ١٠٥٠ إلى عام ٩٠٠ قبل الميلاد، كانت حقبةَ استقرار؛
لأنها أنهَت الفوضى التي خلَّفها انهيار القصور الميسينية.
27
وبدأت المواقع تُصبح أكبر حجمًا مرةً أخرى، وخاصة على مدار القرن العاشر. على سبيل
المثال، ربما كانت أثينا تتكوَّن من مجموعةٍ من القرى بحلول هذا الوقت (تمامًا كما كانت
إسبرطة في وقتٍ لاحق)، وإن كانت هذه النقطة لا تزال محلَّ خلاف، وربما كان هناك ما
يتراوح ما بين ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف شخصٍ يعيشون في هذه المدينة وحدَها بحلول نهاية
القرن العاشر قبل الميلاد. ذكَرَ موريس أيضًا، في منشوراتٍ من عام ١٩٩٥ وأوائل العقد
الأول من القرن الحادي والعشرين، أنه يرى أن هناك أيضًا مواقع أخرى ذات تعدادٍ سكاني
كبير نسبيًّا، بما في ذلك ٦٠٠–١٢٠٠ شخص عاشوا في أرجوس في إقليم بيلوبونيز وربما
١٢٥٠–٢٥٠٠ عاشوا في كنوسوس على جزيرة كريت.
28
ومع ذلك، يبدو الآن أن موريس نفسه ربما يكون قد قلَّلَ من تقدير الموقف، على الأقل
في
بعض المواقع. فعلى جزيرة كريت، على سبيل المثال، هناك الآن أدلةٌ جديدة على أن كنوسوس
ربما كانت أكبر ممَّا كان في السابق متوقَّعًا في هذا الوقت. كان البعض قد ظنُّوا ذلك
بالفعل، حيث أشار نيكولاس كولدستريم — أحد أكثر العلماء البريطانيين، الذين درسوا العصر
الحديدي في منطقة بحر إيجه وقبرص، تبجيلًا على الإطلاق — إلى حقيقة أن مقابر عديدة في
كنوسوس تعود إلى هذه الفترة الزمنية، وتُغطِّي مساحة خمسة كيلومترات من الشمال إلى
الجنوب. وعلى افتراض أن المقابر كانت على مشارف المدينة، وهو ما يبدو أكثر ترجيحًا؛ فقد
أشار كولدستريم في عام ٢٠٠٦، قائلًا: «إذا كان حجم مجتمعٍ محلي يُقاس عن طريق مقابره؛
فإن كنوسوس اليونانية القديمة ستكون أكبر مدينةٍ في زمنها في منطقة بحر إيجه.»
29
تُشير حاليًّا أعمال المسح الأثري التي أجراها مشروع المواقع الحضرية في كنوسوس منذ
أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى أن هذا قد يكون صحيحًا بالفعل خلال
القرن الحادي عشر قبل الميلاد. وإذا كانت نتائج القائمين على المشروع دقيقة، يبدو أن
كنوسوس كانت أكبر بثلاث إلى أربع مرَّات مما كنا نظنُّ؛ حيث كانت تغطي مساحةً تصل إلى
خمسين وحتى ستين هكتارًا (حوالي ١٥٠ فدانًا)، وهو ما يكفي لإيواء سكَّانٍ يبلغ عددهم
ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف شخص على الأقل. ومع أن هذه المساحة أصغر من تلك التي غطَّتها
كنوسوس خلال العصر البرونزي؛ فإنها كبيرة للغاية بالنسبة لمدينةٍ يونانية من العصر
الحديدي، وأكثر مما كان إيان موريس قد اقترحَه قبل عشرين عامًا.
ونتيجةً لأعمال المسح الأثري الجديدة، أعلَنَ كوتسوناس من جامعة نيويورك مؤخرًا أن
«مدينة كنوسوس تعافت بسرعة من الاضطرابات التي شهدَتها أواخر الألفية الثانية، وازدادت
في الحجم بسرعة، وازدهرَت كمركزٍ عالمي لمنطقة بحر إيجه والبحر الأبيض المتوسط على نحوٍ
أحدث ثورةً في فهمنا لأوائل العصر الحديدي اليوناني.»
30 ومع ذلك، لم يعُد من المُمكن أن نُطلق عليها مدينة مينوية؛ لأن المجتمع
المينوي كان قد اختفى مع المجتمع الميسيني بحلول هذا الوقت، وكانت كريت قد بدأت في
الانتقال إلى مرحلةٍ جديدة في تاريخها. ومع ذلك، لم ينسَ سكان الجزيرة أسلافهم من العصر
البرونزي، كما سنرى بعد قليل.
(٣) «قبور المحاربين» مرةً أخرى
في تسعينيات القرن العشرين، اقترح هيكتور كاتلينج، المدير السابق للمعهد البريطاني
للآثار في أثينا والمعروف بعمله في الأواني البرونزية القديمة، أنَّ ما يُسمَّى بقبور
المحاربين التي عُثر عليها في قبرص وفي أجزاء مختلفة من منطقة بحر إيجه في سياقات
القرنَين الحادي عشر والعاشر قبل الميلاد (المذكورة في الفصل الثالث)، يجب أن تكون
«مرتبطةً بعودة أبطالٍ «هومريين» من طروادة»، من ناحيةٍ، لتفسير الأغراض القبرصية التي
عُثِر عليها في كريت في هذه السياقات. على سبيل المثال، تم التعرُّف على رجُلٍ مدفون
في
القبر رقم ١٨٦ داخل المقبرة الشمالية في كنوسوس على أنه «رجُل مسلَّح، مزوَّد برُمحٍ
برونزي وخنجر حديدي وسكين حديدي وحجرَين لشحذ شفراته.» وأشار كاتلينج تحديدًا إلى
الخنجر والسكين الحديديَّين، فضلًا عن حجرَي الشحذ، على أنهم على الأرجح من قبرص،
مستشهدًا بأغراضٍ شبيهة من القبور في باليبافوس-سكاليس.
31
في قبر آخر (القبر رقم ٢٠١) داخل المقبرة نفسها في كنوسوس، عُثِر على رفات محروقة
لشخصَين بالغَين (ذكر وأنثى) وربما طفل أيضًا. تضمَّنَت الأغراض الجنائزية شظايا من
حاملٍ ثلاثي القوائم من البرونز، حُدِّد أنه قادمٌ من قبرص؛ وعدد من الأسلحة، إضافةً
إلى أشياءَ أخرى. حدَّد كاتلينج قبر الذَّكَر على أنه لمُحارب «كان مسلحًا بالكامل
بسيفٍ ورمح ورءوس أسْهُم ضخمة.» إلى جانب السيف والرمح، كان هناك أيضًا دليلٌ على أنه
دُفن مع درع وخوذة ناب خنزير؛ ومن المُحتمَل أن تكون رءوس الأسهم قد جاءت من سهامٍ صارت
الآن متحلِّلة ربما كانت سابقًا في جعبة، عُثِر أيضًا على بضع شظايا منها.
32
كان كاتلينج منبهرًا بخاصة بوجود خوذة ناب الخنزير، التي لا بدَّ أنها كانت إرثًا
في
ذلك الوقت؛ لأن مثل هذه الخوذات كانت قد بطَلَ استخدامها، وصارت عتيقة الطراز، منذ فترة
طويلة. وخلَصَ قائلًا: «كان محاربنا شخصيةً مبهرَجة، في ضوء مُمتلكاته؛ على الأقل، في
سياق عصور الظلام اليونانية. أعتقد أنه شخصية يمكن العثور على نظراء لها في كتابات
هوميروس، وهناك أوجُه تشابُه معها في اكتشافاتٍ أثرية أخرى.»
33
ثم تابَعَ كاتلينج، ومضى في تقديم اقتراحٍ جريء إلى حدٍّ ما، ألَا وهو أنَّ الأدلة
من
هذه المقبرة في كنوسوس تُشير إلى أن بعض السكان في هذه القبور التي تعود إلى القرن
الحادي عشر قبل الميلاد «ربما كانوا من الناجين ومن أحفاد السلالة المينوية القديمة،
ولكن من المُرجَّح وجود عناصر جديدة بينهم؛ أشخاص من خارج جزيرة كريت، أو عادوا إلى
كريت بعد غيابٍ طويل، ربما قضَوه في شرق البحر الأبيض المتوسط. ربما يكون الوافدون
الجُدد قد فرضوا زعامتهم على السكَّان الأصليين؛ وربما كان فتْحُ مدافن جديدة، ومن
بينها المقبرة الشمالية، من اختيارهم. وأقْتَرِح أنَّ المحاربين الذين دُفِنَ رمادهم
في
[القبرين] ١٨٦ و٢٠١ ربما كانوا من هؤلاء الوافدين الجدد، الذين انفصلوا عن السكَّان
الأصليين بعاداتهم الجنائزية، وخاصةً طقوس حرق الجثث.»
34
إضافةً إلى ذلك، فيما يتعلق بالأغراض الجنائزية المختلفة في هذه المدافن، استشهَدَ
كاتلينج ﺑ «الأوديسة» الخاصة بهوميروس، التي وصفَت رحلات عودة الأبطال المختلفة إلى
اليونان بعد انتهاء حرب طروادة (المعروفة عمومًا باسم
Nostoi، أي «رحلات العودة إلى الوطن») والأغراض
التي أحضروها معهم. في إحدى الحالات، عندما يتحدَّث مينلاوس، زوج هيلين، عن تجواله في
أنحاء شرق البحر الأبيض المتوسط، يقول: «أخذتْني رحلاتي إلى قبرص وفينيقيا، وإلى مصر،
وزرتُ بلاد الإثيوبيين، والسيدونيين والإيرمبيين، ورأيتُ ليبيا» («الأوديسة»، الكتاب
الرابع، الأبيات ٨٣–٨٥). وفي وقتٍ لاحق، يصف مينلاوس وعاءً يوشِك على إعطائه لتليماخوس،
والذي له أيضًا سيرةٌ ذاتية أسطورية: «سأُعطيك وعاءً خُلِط من معدن مطاوِع. إنه من
الفضة الخالصة، وحافاته مَطلية بالذهب، وقد صنعه هيفايستوس بنفسه. لقد حصلتُ عليه من
صديقي الملكي ملك صيدا، عندما آواني بمنزله لمَّا كنتُ في رحلتي إلى الوطن»
(«الأوديسة»، الكتاب الرابع، الأبيات ٦١٥–٦١٩).
35
وهذا هو السبب في أن كاتلينج يربط بين «قبور المحاربين» هذه التي شُوهدَت في قبرص
وكريت والبر الرئيسي لليونان، وأوديسيوس ومينلاوس وغيرهما من «الأبطال» الهومريين الذين
تجوَّلوا في أنحاء شرق البحر الأبيض المتوسط حين كانوا في طريقهم للعودة إلى الوطن من
حرب طروادة. واقْتَرَحَ «أن بعض الكريتيين أمضَوا فتراتٍ طويلةً في قبرص في النصف الأول
من القرن الحادي عشر قبل الميلاد»، وأن «الأبطال/العظماء في قبرَي المقبرة الشمالية ١٨٦
و٢٠١ ربما يكونون قد أمضوا جزءًا من حياتهم في قبرص؛ حيث كانوا ربما من عِرقٍ كريتي،
ووُلِدوا ونشَئوا في قبرص، أو ربما بدَءوا حياتهم في كريت وعادوا إلى هناك بعد غيابٍ
طويل، قضوا جزءًا منه على الأقل في قبرص.»
36
وبينما لا يقبل جميع العلماء اقتراحات كاتلينج، فإن هذه القبور قد تُمثِّل بالفعل
ظهور مجموعةٍ جديدة من النخب المحلية في كلٍّ من قبرص واليونان. على سبيل المثال، يرى
جيمس مولي، الأستاذ الفخري في جامعة بنسلفانيا، أنهم «قادة عسكريون، وأمراء مُحاربون
قُساة مُصمِّمون على صنع شيءٍ جديد من حُطام القديم؛ محاربون لديهم الدافع والطاقة
والطموح للاستيلاء على كلِّ ما يمكنهم الاستيلاء عليه وتشكيل نوعٍ من قاعدة السُّلطة
لأنفسهم.» وقد اقترح آخرون أن هذه الآثار، في قبرص على الأقل، قد تكون «لمحاتٍ من
الأدلة على وجودٍ ونشاطٍ لرجالٍ مسلَّحين ربما شاركوا في صراع سلطة حول التعريف
الإقليمي الجديد للجزيرة.»
37
وفي الآونة الأخيرة، أعاد كوتسوناس النظر في «المحارب» الذي تحدَّث عنه كاتلينج في
مقبرة كنوسوس رقم ٢٠١ وربطه على وجه التحديد بشخصية ميريونس، وهو بطل آخي شاب وأقل
شهرةً من أبطال «الإلياذة»، اشتهر ببراعته في الرماية بالقوس والسهم، وجاء إلى طروادة
تحت قيادة إيدومينيوس، ملك كنوسوس. ويشير كوتسوناس إلى أن المجموعة الكاملة من الأسلحة
وغيرها من الأغراض الجنائزية الأخرى ذات الصلة؛ فريدةٌ من نوعها في هذا المدفن على وجه
الخصوص، من بين جميع القبور التي تم التنقيب عنها في العصر الحديدي في منطقة بحر إيجه،
وأن المجموعة ككُلٍّ تضاهي العُدة الحربية التي أعطاها ميريونس لأوديسيوس في الكتاب
العاشر من «الإلياذة»، والتي تشمل قوسًا وكنانةً وخوذةً من ناب الخنزير وسيفًا
(«الإلياذة»، الكتاب العاشر، الأبيات ٢٦٠–٢٦٥). وكما يُعلِّق كوتسوناس: «هذه الأسلحة
نادرة جدًّا في الملحمة، تمامًا كما هو الحال في السجل الأثري.» ويشير أيضًا إلى أن
ميريونس كان يمتلك خوذةَ ناب الخنزير الوحيدة التي ذكرها هوميروس في «الإلياذة» وأنه
«استثنائي بين اليونانيين في استخدام القوس»، مشيرًا إلى أنَّ ميريونس كان يفوز بمسابقة
الرماية بالقوس والسهم في الألعاب الجنائزية على روح باتروكلوس («الإلياذة»، الكتاب
الثالث والعشرون، الأبيات ٨٥٩–٨٩٥).
38
لا شك في أن هذا ليس ميريونس نفسه المدفون في هذا القبر في كنوسوس، حيث يرى العلماء
أن ميريونس كان بطلًا يونانيًّا قديمًا للغاية، مثل آياس وعدد قليل من المحاربين
الميسينيين الآخرين من حرب طروادة الذين أُدمِجَت قِصصهم السابقة في «الإلياذة» أثناء
تطوير الملحمة بمرور الوقت. ومع ذلك، يقدِّم كوتسوناس اقتراحًا مثيرًا للاهتمام بأنَّ
ما نراه هنا هو دفن أحد السكان البارزين في كنوسوس في العصر الحديدي، حيث «نَظَّمَت
عائلته جنازته كعرضٍ عزَّز ارتباط المُتوفَّى بميريونيس»، البطل من جزيرة
كريت.
39
لم يتحدَّد بعدُ كيف يمكن أن يتناسب اقتراح كوتسوناس أو لا يتناسَب مع تأمُّلات
كاتلينج السابقة حول «الأبطال» الهومريين الذين يتجوَّلون في أنحاء شرق البحر الأبيض
المتوسط أو الكريتيين في العصر الحديدي الذين يقضون وقتًا في قبرص، ولكنْ من المؤكد أنه
باعث على إعمال الفكر، خاصة وأن هذا القبر يحتوي أيضًا على حاملٍ ثلاثي القوائم من
البرونز حُدِّد أنه قادم من قبرص. كما أنه يتناسب بشكلٍ جيد مع تعريف رينفرو لانهيار
النظام، الذي ينظر فيه الناجون إلى العصر السابق بحسد، ويختلقون حكاياتٍ رومانسية عنه،
ربما كما نظَرَ الرجُل المدفون في مقبرة العصر الحديدي هذه، أو عائلته، إلى شخصية العصر
البرونزي ميريونس.
(٤) بطل ليفكاندي
من بين جميع مدافن المحاربين المزعومة، يمكن اعتبار المدفن المعروف باسم «بطل
ليفكاندي» من أكثرها أهمية، على الرغم من أن تاريخه يعود إلى وقتٍ لاحق قليلًا، إلى
حوالي ٩٥٠ قبل الميلاد. تبدأ قصة اكتشافه في عام ١٩٨١، عندما بدأ مالك قطعة أرض تقع في
ليفكاندي على جزيرة وابِيَة في تجريف تلٍّ تُرابي كبير في قطعة الأرض، في محاولة غير
قانونية لبناء منزلٍ صيفي. لحُسن الحظ، أوقفَته السلطات التي سمحَت بعد ذلك للأثريين
ببدء أعمال التنقيب والإنقاذ الأثرية. سرعان ما اكتشفوا مبنًى نصف دائري مصنوع من الطوب
اللبن. يبلُغ طوله من خمسة وأربعين إلى خمسين مترًا (١٥٠ قدمًا) وهو أكبر مبنًى معروف
من هذه الفترة. وبعد أن صار المَبنى غير صالح للاستخدام، غُطِّي عمدًا بكومةٍ ضخمة من
التراب، وهي ما كان مالك الأرض الجديد يحاول إزالتها بجرافته.
40
تحت أرضية المبنى نصف الدائري، اكتشف الأثريون مدفنًا مزدوجًا غير عادي، يحتوي على
بقايا رجُل أُحرِقَت رفاته وامرأةٍ أصغر سنًّا، دُفِنَت ولكنْ لم تُحرَق. يحتوي قبرٌ
ثانٍ قريب على بقايا أربعة خيول، يوجَد لِجامٌ حديدي في فم اثنَين منها. من المُفترَض
أنه قد تمَّت التضحية بالخيول وقت الدفن.
41
كان قد تمَّ لفُّ رماد الرجُل المحروق في نسيجٍ ووُضِع في جرة برونزية من صناعةٍ
قبرصية مزيَّنة بثيران وأسُود ورماة سِهام بشَرٍ حول الحافة وعلى المِقبض. وقد دُفِنَت
رفيقته بالقُرب منه إلى جانب أغراضٍ جنائزية تضمنَت سكينًا حديديًّا بمقبضٍ عاجي ربما
كان مستوردًا من بلاد الشام، وكانت السكين موضوعةً بالقُرب من رأس المرأة. وقد اقترح
البعض أنَّ المرأة قد ضُحِّي بها عند وفاة الرجُل، بناءً على موقع السكين والمؤشرات
التي تُشير إلى أن يدَيها ربما كانتا مُقيدتَين، ولكن لا يوجَد دليل على أيٍّ من
الأمرَين في هذه المرحلة. كانت ترتدي أيضًا قلادة بها دَلَّايَة ذهبية رائعة مستورَدة
من الشرق الأدنى. من الواضح أن هذه قطعةٌ أثرية موروثة؛ لأنها تعود إلى العصر البرونزي.
كانت هناك أيضًا دبابيس ملابس من الذهب والحديد، إضافةً إلى زخارف من صفائح ذهبية ربما
كانت متصلةً بفستانها أو ستُرتها.
42
وآراء العلماء منقسمة حول إن كان المنزل الضخم ذو الشكل الهندسي نصف الدائري؛ قيد
الاستخدام بالفعل، وأن القبور قد حُفِرَت تحت أرضياته، مثلما كان الأطفال يُدفَنون
غالبًا تحت أرضية المنزل؛ أو إن كان المنزل قد بُنِي بعد حفر القبور من أجل تحديد
موقعها. ومهما يكن، فقد دَفَن سكَّان المنطقة المبنى نصف الدائري تحت كومة من التراب
(الكومة نفسها التي أزعجَت المُزارع المعاصر الذي كان يمتلك الأرض)، وظلَّت تُلَّةٌ
جَنَائِزِيَّةٌ — المصطلح الأثري لوصف كومةٍ ترابية مرتفعة فوق قبر — قائمةً لآلاف
السنين. ويُشير علماء كثيرون إلى هذا الترتيب برمَّته باسم «قبر بطل»، والذي يرتبط
عادةً بعبادة الأبطال. وهذا النوع من العبادة معروفٌ بشكلٍ خاص منذ العصر الحديدي في
اليونان، وهو يناسِب هذه الحالة جيدًا.
43
أنا، شخصيًّا، أظنُّ أن المبنى كان موجودًا على الأرجح قبل وفاة الرجُل والمرأة
المدفونَين تحتَه، غير أنني أقول إنه ليس من الواضح إن كان بمثابة منزلٍ خاصٍّ أم مبنًى
إداري. وفي كلتا الحالتَين، تقول إيرين ليموس، من جامعة أكسفورد، التي كانت تدير أعمال
الحفر في ليفكاندي منذ عام ٢٠٠٣: «… ليس هناك شكٌّ في أن الرجُل المدفون في تومبا كان
زعيم ليفكاندي في أوائل القرن العاشر. وقد دُفِنَ الرجل في مبنى تومبا في جنازةٍ هي
الأكثر روعةً حتى الآن في تاريخ اليونان في أوائل العصر الحديدي.»
44
فهل كان حقًّا زعيمَ ليفكاندي خلال هذه الفترة، كما ترى ليموس؟ ولماذا أُحرِقَت جثته
بدلًا من دفنها فحسب؟ وكيف بالضبط أُحرِقَت جثته؟ هل ينبغي أن نتخيل أن الأمر كان يُشبه
مشهدَ محرقةِ جنازة باتروكلوس في الكتاب الثالث والعشرين من «الإلياذة»؟ وعلاوةً على
ذلك، مَن كانت المرأة التي دُفِنَت معه؟ هل كانت زوجته؟ أم عشيقته؟ أم مجرد قربان
عشوائي؟ كل هذه التكهُّنات مطروحة. ولماذا لم تُحرَق جثتها أيضًا؟ هل كانت السكين
الموجودة بالقُرب من رقبتها ذاتَ صِلة بوفاتها؟ لا توجَد إجابات حتى الآن، لكنَّ وجود
مثل هذا المدفن المُعقَّد والغنيِّ داخلَ مثل هذا الهيكل الضخم ومع الأغراض المستوردة؛
يُظهِر انتعاش المجتمع اليوناني، وزيادة التفاوت الاجتماعي، ومرةً أخرى، الروابط
الوثيقة مع منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط.
توجَد أيضًا قبور إضافية من أماكن أخرى فيما يُسمَّى مقبرة تومبا الواقعة بالقُرب
من
«قبر البطل» في ليفكاندي، ويعود تاريخها إلى القرن العاشر قبل الميلاد أيضًا. وقد اقترح
بعض العلماء أن المقبرة نشأت حول تلَّة البطل الجنائزية. وتحتوي هذه القبور أيضًا على
أشياءَ مستوردة مثل إبريق فينيقي وحامل قبرصي بعجلاتٍ مصنوع من البرونز. ليس واضحًا كيف
وصلَت هذه الأشياء المستورَدة إلى ليفكاندي أو مَن أحضرها؛ قد ذهبت آراء مختلفة إلى أن
الفينيقيين أو القبارصة، أو حتى سكَّان جزيرة وَابِيَة المحليين الذين كانوا عائدين من
شرق البحر الأبيض المتوسط، ربما يكونون هم مَن نقلوها.
45
إجمالًا، توضِّح الأدلة من البَر الرئيسي لليونان أنَّ الاتصال بالشرق الأدنى كان
قد
تجدَّد بحلول عام ٩٢٥ قبل الميلاد تقريبًا، وربما قبل ذلك بكثير؛ إذا كان قد فُقِدَ
بالفعل. ويُشير موريس إلى أنَّ «البرونز والذهب والعاج وغيرها من الواردات من الشرق
الأدنى، تعود إلى المقابر اليونانية المركزية، وقد عُثِر أيضًا على المزيد من الفخار
اليوناني خارجَ البلاد.» ويقول، تحديدًا: «بحلول عام ٩٢٥، عاد الفينيقيون يسافرون إلى
وسط البحر الأبيض المتوسط وغربه، وكانوا يتوقَّفون أحيانًا في الطريق في منطقة بحر
إيجه.»
46
وتكتسي بأهميةٍ خاصة دراسةٌ حديثةٌ تقدِّم أدلةً على وجود نحاسٍ بمنطقة وادي فينان
في
الأردن، والذي وصل إلى جنوب غرب اليونان بحلول عام ٩٥٠ قبل الميلاد تقريبًا. لقد ذكرتُ
مناجم النحاس هذه في الفصل الأول، ولكنَّ هذا هو أولُ مؤشِّر على أنَّ أيَّ نحاسٍ
بالمنطقة كان يصل إلى اليونان. ومن المُثير للاهتمام أنه كان يُستخدَم لصُنع مراجل
برونزية في موقع أوليمبيا، الذي انطلقَت منه الألعاب الأولمبية بعد ذلك بحوالي قرنَين
من الزمان.
47 إنَّ استخدام النحاس من فينان بدلًا من قبرص أمرٌ مفاجئ، ولكنْ ربما يكون
مؤشِّرًا آخَر على أنَّ القبارصة تحوَّلوا إلى استخدام الحديد في المقام الأول بحلول
هذه المرحلة.
(٥) السيدة الأثينية الثرية ومقابر أخرى
يجب علينا أيضًا أن نضع في اعتبارنا شيئًا قاله أنتوني سنودجراس في عام ١٩٧١، عندما
اقترح أنَّ النصف الثاني من القرن العاشر قبل الميلاد في اليونان كان في بعض النواحي
«فَجرًا كاذبًا»، مشيرًا إلى أن «التقدم البطيء للثقافة اليونانية في القرن التاسع
وأوائل القرن الثامن أصبح خيبة أملٍ بعد ذلك.»
48 أعتقد أننا قد نكون أكثر تفاؤلًا الآن فنقترح بدلًا من ذلك أن اليونان ربما
كانت قد بدأت طريق التعافي بحلول هذه المرحلة، على الرغم من أنه سيكون طريقًا طويلًا
وشاقًّا.
في هذا السياق، يمكننا الإشارة تحديدًا إلى اكتشافٍ جرى في أثينا، في منطقةٍ على
المنحدَر الشمالي لصخرة الأريوباجوس بالقُرب من الأكْرُوبُول والأجورا الكلاسيكية (وهي
ساحةٌ دائرية شكَّلت مركزًا إداريًّا ودينيًّا وتجاريًّا في الدولة). هنا، في يونيو من
عام ١٩٦٧، كشف علماء آثار أمريكيون عن قبر سيدةٍ سرعان ما أُطلِق عليها «السيدة
الأثينية الثرية». يعود تاريخ القبر إلى منتصف القرن التاسع (حوالي ٨٥٠ قبل الميلاد)،
ويُعطي صورةً لثراء تلك الفترة، أكبر ممَّا كان متوقعًا في السابق. وعندما نشرَت إيفلين
سميثسون، الأستاذة بجامعة بافالو (جامعة ولاية نيويورك)، لأول مرةٍ عن المقبرة في العام
التالي، وصفَتها بأنها «أغنى مقبرةٍ في العصر ما بعد الميسيني في الأجورا، وربما أغنى
مقبرة في أثينا في تلك الفترة.»
49
كان جثمان السيدة في هذا القبر قد أُحرِق، وجُمِعَت بقاياها المحروقة ووُضِعَت في
جرةٍ كبيرة جدًّا مزيَّنة بتصاميمَ هندسية. وقد أُغلِقَت فوهة الجرة بإحكام، بإيلاج
كأسٍ سليمة في وقت الدفن؛ ممَّا منَعَ أي تراب من الدخول إلى الجرة. ومن بين الأغراض
الجنائزية قِطع مجوهراتٍ ذهبية، منها خواتم ذهبية وزوج من الأقراط؛ وخزف وخرز زجاجي
يُعتَقَد أنه جاء من قلادة؛ وختمان مصنوعان من العاج؛ وزوج من المشابك البرونزية؛
وثلاثة أو أربعة دبابيس مُستقيمة (واحد من الحديد، والباقون من البرونز). كما عُثِرَ
على العديد من المزهريات والأوعية الخزفية، إضافةً إلى صندوقٍ خزفي صغير مشهور للغاية،
على غطائه خمسة نماذج لمخازن حبوب.
50
ظَنَّت سميثسون أن المرأة المدفونة في القبر ربما كانت ابنة أو زوجة أحد كبار أعضاء
الطبقة الأرستقراطية. كما اشتبهَت في أن السيدة الأثينية الغنية لم تكن وحدَها في
قبرها، لكنها لم تستطع إثبات ذلك، على الرغم من أن البقايا قد فُحِصَت على يد جيه
لورانس أنجِل، أحد أشهر علماء الأنثروبولوجيا البيولوجية وأكثرهم تبجيلًا في اليونان
في
ذلك الوقت، والذي كُلِّف بدراسة العديد من البقايا البشرية من مقابر أواخر العصر
البرونزي وأوائل العصر الحديدي في هذه المنطقة.
51
ولكن لم تعلن كلٌّ من ماريا ليستون، من جامعة ووترلو، وجون بابادوبولوس، من جامعة
كاليفورنيا في لوس أنجلوس، صحةَ حدس سميثسون إلا في عام ٢٠٠٤، أي بعد أربعين عامًا
تقريبًا من النشر الأَوَّلي. فقد كانت السيدة في الواقع حُبلى وقت وفاتها، وقد جرى الآن
التعرُّف بشكلٍ قاطع على عظام الجنين، مختلطةً بعظامها. وحيث إن المرأة تبدو أنها كانت
ما بين الثلاثين والخامسة والثلاثين من عمرها وأنها كانت تتمتَّع بصحةٍ جيدة؛ فإن
ليستون وبابادوبولوس يقترحان أن ثمة احتمالًا كبيرًا أن تكون قد ماتت أثناء
الولادة.
52
•••
كما جرى الكشف في أثينا عن قبور أخرى تعود إلى القرن التاسع، إضافةً إلى قبر السيدة
الأثينية الغنية، سواءٌ بالقرب من الأجورا الكلاسيكية أو في مقبرة كيراميكوس، من بينها
عدد من المدافن قد نُشِر عنها مؤخرًا و/أو أعيدت دراستها. على سبيل المثال، في المنطقة
العامة نفسها التي توجَد فيها السيدة الأثينية الغنية، يوجَد القبر رقم ١٣، والمعروف
باسم «قبر المحارب». نشر كارل بليجن عن هذا القبر لأول مرة في عام ١٩٥٢، ويرجع تاريخ
عملية دفن الرُّفات المُحترق لهذه الجُثث إلى الفترة الهندسية المبكرة الأُولى، حوالي
٩٠٠–٨٧٥ قبل الميلاد. وبسبب الأسلحة والأدوات العديدة التي وُجِدَت بداخله، والتي كانت
كلها مصنوعةً من الحديد، ظنَّ بليجن أنه كان مدفن «حِرفي-محارب»، بدا أنه كان يبلُغ من
العمر حوالي أربعة وثلاثين عامًا وقتَ وفاته. أطلقَت عليه المناقشات الأحدث ببساطة لقبَ
«محارب»، ويُعتقد الآن أن عمره وقتَ الوفاة كان أقرب إلى أربعين عامًا.
53
وُضِعَت عظام هذا المحارب المحروقة في أمفورةٍ كبيرة يبلُغ ارتفاعها حوالي نصف متر.
وكانت فوهة الجرة مُغطاةً بحجرٍ ميداني كبير، على الرغم من أن التُّراب كان قد دخل على
مرِّ القرون. كان هناك عدد من الأواني الخزفية في المقبرة، وهو أمرٌ مُتوقع، ولكنْ ما
كان غير عادي هو الأسلحة والأدوات التي جُمِعَت على ما يبدو من محرقة الجنازة، ولُفَّت
بقطعة قماش، ووُضِعَت في المقبرة؛ لاحَظَ بليجن أنَّ «آثارًا واضحة لسَدَى ولُحْمَة
النَّسِيجِ كانت مرئيةً على بعض قِطَع الحديد.»
54
إلى جانب رأسَي حربة، وسكينَين، وإزميل، وفأس، كلها من الحديد؛ كان هناك أيضًا سيفٌ
طويل من الحديد كان قد «أُفسِد» طقسيًّا قبل الدفن، من خلال ثنيِه إلى حلقةٍ كاملة
تقريبًا قبل إسقاطه فوق الجزء العلوي من الأمفورة، بحيث يوضع كشريطٍ حول العنق
والمقابض، مُستقرًّا على عواتق الجرة.
55 لا بدَّ أن الرجُل الميت كان شخصًا مهمًّا كما هو واضح؛ لأنه من غير
المُعتاد إرساله إلى الحياة الآخرة مع كل هذه الأشياء الحديدية الجميلة بدلًا من إعادة
استخدامها.
•••
أما فيما يتعلَّق بعمليات الدفن في أماكن أخرى، فقد أشار نيكولاس كولدستريم إلى وجود
تغييرٍ شبهِ عامٍّ نحو حرق الجثث من أجل دفنها في هذا الوقت، ربما للمساعدة في الحفاظ
على المساحة في مقابر العائلات المزدحمة بالفعل. كما لاحظ أن عدد المدافن الجديدة في
المقبرة الشمالية في كنوسوس في كريت يُشير إلى «نموٍّ سريع لعدد السكان» في هذا الوقت.
وتأتي أدلةٌ داعمة لذلك من مُستوطناتٍ جديدة أُنشئت في هذه الفترة، سيُصبح بعضها النواة
لمختلف دويلات المدن التي ازدهرَت في كريت العتيقة.
56
هناك أيضًا عمليةُ دفن مُثيرة للاهتمام في مقبرة تيكي في كنوسوس، المقبرة نفسها التي
احتوت على القبر الذي يحتوي على الوعاء القُبرصي الذي عليه النقش الفينيقي. جرَت عملية
الدفن هذه فيما يبدو أنه كان في الأصل مقبرةَ ثولوس مينوية أُعيد استخدامها لاحقًا
لأجيال من أواخر القرن التاسع إلى أوائل القرن السابع قبل الميلاد. ومن بين العديد من
الأغراض والجرار الجنائزية الموجودة في المقبرة، توجَد قطع من المجوهرات، من بينها عقد
ذهبي جميل مرصَّع بالكريستال والعنبر، ومواد خام دُفِنَت معًا في جرتَين مخفيَّتَين تحت
أرضية المقبرة عند المدخل مباشرةً.
في البداية، افترض البعض أن هذه العناصر كانت مِلكًا لجَوَاهِرِيٍّ أو صائغ ذهب،
ظُنَّ أنه من شمال سوريا، وهاجر إلى جزيرة كريت واستقر في كنوسوس مع عائلته. وقد
استُخدِم هذا الاقتراح الخيالي، الذي قدَّمه منذ فترة طويلة السير جون بوردمان، ودارت
حوله مناقشات منذ ذلك الحين لمناقشة إن كان مهاجرون من الشرق الأدنى، وخاصة الحِرفيين،
قد استقرُّوا في جزيرة كريت خلال هذا القرن. ومع ذلك، فإن إعادة دراسة هذه الأغراض
وسياقها داخل المقبرة ألقى بظلالٍ من الشكِّ على المالك المُفترَض لهذه المجموعة
المُعيَّنة من الأغراض، مع اقتراحاتٍ بأن الأُسرة ربما كانت من النخبة المحلية وليس من
المهاجرين. وحتى من دون الدليل المُتمثل في هذا القبر، فلا يزال من المقبول أنه كان
هناك على الأرجح حِرفيين من الشرق الأدنى يعيشون في جزيرة كريت في هذا الوقت.
57
(٦) النجاة من خلال المرونة والتكيُّف
يرى إيان موريس أن الروابط بين اليونان والشرق الأدنى تضاءلَت مرةً أخرى بين عامي
٨٢٥
و٨٠٠ قبل الميلاد، بحيث أنه «بحلول أوائل القرن الثامن أصبحت القبور أكثر فقرًا وبساطةً
من أي وقتٍ مضى منذ القرن العاشر.» في الواقع، اقترح موريس أن النظام كلَّه في البر
الرئيسي اليوناني «واجه مشكلاتٍ بحلول عام ٩٠٠، وانهار حوالي عام ٧٥٠، مع ظهور نظام
الدويلة المدينة.» ونظرًا لأنه كانت توجَد اتصالاتٌ مع منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط
في هذا الوقت؛ يرى موريس أن هذا يعني أنه «بحلول عام ٨٠٠ قبل الميلاد، كان اليونانيون
قد توافقوا فيما بينهم على علاقة جديدة بالشرق الأدنى.»
58
لكن ذلك الانهيار الثاني ليس واضحًا على الإطلاق؛ لأن لدَينا أدلةً على اتصالات
مُستمرة بين الشرق الأدنى ومنطقة بحر إيجه طوال هذا الوقت. فقد عُثِر على فخار فينيقي
في كنوسوس في جزيرة كريت في سياقات يرجع تاريخها إلى حوالي عام ٨٠٠ قبل الميلاد. كما
عُثِر على أغراض إضافية، وإن كانت في المقام الأول من سياقاتٍ لاحقة في القرن الثامن
قبل الميلاد، في موقع إليوثيرنا في غرب جزيرة كريت. وقد يُشير كلا الأمرَين إلى الوجود
المُستمرِّ لحِرفيين مُقيمين، من الشرق الأدنى، في جزيرة كريت. وعلى العكس من ذلك، فقد
قيل منذ فترةٍ طويلة أيضًا إن أفرادًا من منطقة بحر إيجه ربما كانوا مُقيمين في موقع
مرفأ «المينا»، الواقع فيما يُعرف الآن بمنطقة الساحل الجنوبي الشرقي لتركيا وشمال
سوريا.
59
وفي النهاية، بحلول مُنتصف القرن الثامن قبل الميلاد، حوالي ٧٥٠ قبل الميلاد على
أقرب
تقدير، يُمكننا التحدُّث عن استئناف الثقافة اليونانية على مسارٍ أدَّى إلى أكثر من
مجرد الكفاف الأساسي والكدح من أجل كسب لقمة العيش. يقول جيمس وايتلي، مؤلِّف كتاب عن
اليونان في العصر الحديدي، إن «بحر إيجه هي منطقة حدث فيها تشكيل الدولة … مرتَين:
الأولى حدثَت في العصر البرونزي، وأدَّت إلى حضارات القصور في كريت المينوية واليونان
الميسينية؛ والثانية حدثت في أوائل العصر الحديدي، وأدَّت إلى حضارة اليونان القديمة
والكلاسيكية.»
60
لذلك، يجب علينا أن نُثني على اليونانيين لقُدرتهم على الصمود في شكلٍ ما؛ وذلك لأنه
على الرغم من عدم الاستقرار وانعدام الأمن اللذَين كانا موجودَين خلال هذه القرون في
اليونان؛ فمُجمل الأمر أنهم قد أعادوا البناء في النهاية بدلًا من أن يجري استبدال
أشخاصٍ جُدد بهم. هنا في منطقة بحر إيجه، على الرغم من الاعتقاد الخاطئ الخاص بالغزو
الدوري، فإن عِرق وهوية الناس أنفسهم ربما لم يتغيرا كثيرًا — وهذا يعني أنه لم تكن
هناك بالضرورة هجرات ضخمة وشعوب جديدة قادمة إلى المنطقة في أعقاب الانهيار — بل كانت
الظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية هي التي تغيرت في الغالب؛ تكيَّف السكان الباقون
مع الحقائق القاسية الجديدة لبيئةٍ تُعاني من الجفاف حيث كانت المجاعة وعدم الاستقرار
السياسي أمرًا عاديًّا.
ولكن في القرن الثامن قبل الميلاد، كان اليونانيون في وضعٍ يسمح لهم مرةً أخرى
بالاضطلاع بدورٍ كامل في شبكةٍ دولية من الاتصالات والترابُطات من غرب البحر الأبيض
المتوسط إلى شرقه. لقد كانت رحلةً شاقة عبْرَ القرون — أكثر مشقةً ممَّا كانت عليه
لمُعظم الحضارات والمجتمعات الأخرى التي درسناها هنا — ولكنْ في الأفق، خلال بقية القرن
الثامن، كانت هناك حكاياتٌ الشاعرَين هوميروس وهسيود الراسخة؛ ومناسبة الألعاب
الأوليمبية الأُولى، التي يرجع تاريخها تقليديًّا إلى عام ٧٧٦ قبل الميلاد؛
61 وظهور نظام «الدويلة المدينة» وحركة الاستعمار اليوناني؛ وأشكال جديدة من
صناعة الفخاريات؛ والعديد من الزخارف والتعقيدات المُجتمعية الأخرى التي كانت قد
فُقِدَت مؤقتًا مع انهيار القصور الميسينية قبل حوالي أربعمائة عام.
(٧) تلخيص موجز
باختصار، فشل الميسينيون والمينويون في البر الرئيسي لليونان وكريت في اجتياز
التحوُّل إلى العصر الحديدي مع بقاء مجتمعاتهم على حالها. ورغم وجود استمرارية بين
اليونان في العصر البرونزي واليونان في العصر الحديدي، والحال ذاته لجزيرة كريت؛ فإن
المجتمعات التي نُحدِّدها على أنها مجتمعاتٌ ميسينية ومينوية انتهَت بالتأكيد بحلول
نهاية القرن الحادي عشر قبل الميلاد على أقصى تقدير. واضطرَّ الناجون إلى إعادة البناء،
من الصفر في الأساس، وعلى الرغم من الحالات العرَضية التي تُشير إلى العكس، عندما لم
يكن كلُّ شيءٍ قاتمًا ورجعيًّا، فليس بوُسعنا أن نتحدَّث عن سَلْك الثقافة اليونانية
مسارًا أدَّى إلى أكثر من مجرد الكفاف الأساسي والنضال من أجل لُقمة العيش إلا في القرن
الثامن قبل الميلاد على أقرب تقدير.
وعند هذه المرحلة، وحيث إننا أكملنا الآن فحْصَنا الموجز لكلِّ المُجتمعات التي
تأثرَت تأثرًا مباشرًا بانهيار أواخر العصر البرونزي، وكيف سارت الأمور في القرون التي
أعقبَت ذلك مباشرةً؛ يُمكننا أن نبدأ في تحليل ما تعلَّمناه. وسوف نفعل ذلك في الفصل
التالي والأخير.