من الانهيار إلى الصمود
(١) نهايات وبدايات
بالرسم بضرباتِ فرشاةٍ عريضة، ما نراه بشكلٍ عام من القرن الثاني عشر قبل الميلاد فصاعدًا هو تفتُّت وتدهور في الأمن ومستويات المعيشة المادية في السنوات التي أعقبَت الانهيار مباشرةً، واستمرَّ ذلك حتى القرن العاشر أو نحو ذلك، مع انهيار ممالك العصر البرونزي. وفي المناطق التي تأثرَت إلى أقصى حد، ومنها البر الرئيسي لليونان وكريت والأناضول وجنوب بلاد الشام بشكلٍ خاص، كان هناك انهيار للقصور أو الدول أو الممالك المحلية (بما في ذلك الحكومة والاقتصاد المركزي وما إلى ذلك) حتى لو تمكنَت قطاعاتٌ من السكان من النجاة.
ومع ذلك، فإن إعادة التكامُل تبدأ بعد ذلك خلال القرن التاسع وتستمرُّ حتى القرن الثامن مع غزو الآشوريين لمعظم المنطقة، وازدهار التجارة المتوسطية على يد الفينيقيين والقبارصة، وسقوط المنافِسين المُحتمَلين مثل مملكة إسرائيل الموحدة ودمشق ومصر في النهاية، لتَتْبَعهم لاحقًا مملكة آشور ثم بلاد بابل في أواخر القرنَين السابع والسادس على الترتيب.
(٢) الدورة التكيُّفية وتقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنيَّة بتغيُّر المناخ



•••

المصطلح | تعريف موجز |
---|---|
التكيُّف، ويُعرَف أيضًا بالقدرة على التكيُّف | القدرة على التعامُل مع شيءٍ قد يحدث في المستقبل؛ التعلُّم وإعادة الاختراع من السمات الرئيسية، في حين أنَّ النجاة في الأمد القريب أقل أهميةً. |
مضاد للهشاشة | حالة المجتمع الذي يُظهِر أكثرَ من مجرد المرونة أو القوة ويزدهر بالفعل تحت القَدْر المناسب من الضغط، ويستفيد من الموقف ليس فقط للنجاة ولكنْ للازدهار. |
التأقلُم، ويُعرَف أيضًا بالقدرة على التأقلُم | القدرة على التعامُل مع شيءٍ حدَثَ للتوِّ (أي التركيز على اللحظة الراهنة والنجاة ببساطة). |
الهشاشة، وتُعرَف أيضًا بالهشاشة المجتمعية | أجهزة الدولة الضعيفة أو المُتفكِّكة أو المنهارة. |
المرونة | القدرة على الاستمرار في العمل تحت الضغط، والتكيُّف مع الشدائد، واستعادة القدرة الوظيفية بعد الأزمة. |
التكيُّف التحويلي | يتضمن الإجراءات التي تُغيِّر السمات الأساسية للنظام استجابةً للتأثيرات الفعلية أو المتوقَّعة للأزمة. |
التحوُّل | القدرة على إعادة التنظيم بعد اضطرابٍ، والحفاظ على الهيكل الأساسي والقدرة الوظيفية في مواجهة ضغوط النظام؛ يتَّسم بالقدرة على التعلُّم والتعديل. |
شدة التأثُّر | احتمالية تعرُّض المجتمع لمعاناةٍ سلبية عند تأثُّره بالظواهر المتطرِّفة. |
نوافذ شدة التأثر | الفترات التي تكون فيها المخاطر أعظم بسبب مزيج الظروف. |
أظنُّ أن مصطلحات المرونة هذه يمكن أن تكون مفيدةً للغاية في المساعدة في تفسير سبب سقوط المجتمعات المختلفة في أوقاتٍ مختلفة قليلًا أثناء انهيار أواخر العصر البرونزي، ولماذا تعافى كلٌّ منها بمعدلاتٍ مختلفة (وبطرُق مختلفة) خلال العقود والقرون التالية. ومع ذلك، فإن المُعضِلة العويصة التي يتجاهلها العلماء هي السؤال إن كانت من المشروع محاولةٌ لتفسير هذه الأحداث القديمة باستخدام المصطلحات والأفكار الحديثة؛ المرونة والتحوُّل والتأقلُم والتكيُّف. هل نحن نطرح للنقاش مفاهيم غير مناسبة للعصر ولا تنطبق على العالَم الذي كان قبل ثلاثة آلاف سنة؟
(٣) الفئات والتصنيفات
أعتقد أننا نستطيع أن نطبِّق بنجاح بعض التعريفات والمناقشات الواردة في تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنيَّة بتغيُّر المناخ لعام ٢٠١٢ حول «إدارة مخاطر الظواهر المُتطرفة والكوارث» على التفاصيل التاريخية والأثرية التي تأمَّلناها من القرون التي أعقبَت انهيارَ العصر البرونزي. ورغم أنَّ هذا سيكون بالضرورة خاضعًا لمنظورٍ ذاتي؛ فللمرء أن يزعم، مثلًا، أنَّ الآشوريين والبابليين والمصريين كانوا يتمتعون ﺑ «القدرة على الاستيعاب»، إذا ما استخدمنا لغةَ مؤلفي الهيئة الحكومية الدولية المَعنية بتغيُّر المناخ؛ لأنهم كانوا قادرين على التأقلُم مع الموقف والاستمرار، رغم أن المصريين لم يكونوا ناجحين تمامًا مثل الاثنَين الآخَرين. من ناحيةٍ أخرى، يبدو أن الفينيقيين والقبارصة لم يتمكنوا فقط من المُضيِّ قدمًا والتأقلم مع الموقف، بل ذهبا في الواقع إلى خطوتَين أبعدَ من ذلك، و«تحوَّلا»؛ لأنه يبدو أنهما كانا يتمتعان ﺑ «القدرة على التغيير والتعديل» (مرةً أخرى باستخدام لغة الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ)، وكانا قادرَين على إعادة التنظيم بطُرقٍ جديدة بعد الاضطراب.
•••
يمكننا أيضًا أن نحاول تلخيص ملاحظاتنا من زاويةٍ مختلفة، أي من خلال تقسيم المجتمعات المختلفة التي عانت من الانهيار إلى فئاتٍ وتصنيفها، استنادًا إلى مفاهيم المرونة وشدة التأثر والهشاشة، والتعريفات الإضافية للتأقلم والتكيُّف والتحول، لمعرفة إن كانت تلك الممارسة ستُسفر عن أي شيء مفيد.
ولكنني أودُّ أن أؤكِّد في البداية أنني لا أمنح الدول (أو الممالك أو الإمبراطوريات) امتيازًا باعتبارها الوحدة المرغوبة للتنظيم الاجتماعي السياسي، بل إنني ببساطة أعمل انطلاقًا من الملاحظة التي مفادها أن الممالك والإمبراطوريات التي شكَّلَت شبكة أواخر العصر البرونزي العالمية تحولَت لاحقًا إلى — أو خلفت — ممالك ودويلات مدن في العصر الحديدي، أصغر حجمًا وتقع في المناطق نفسها. ويتلخص هدفنا في تفسير كيفية انتقالنا من وضعٍ إلى آخَر خلال القرون التي أعقبَت انهيار أواخر العصر البرونزي، وهذا ما أظنُّ أنه يُمكننا فعلُه بناءً على المواد التي عُرِضَت في الصفحات أعلاه.
أودُّ أيضًا أن أؤكِّد أن اقتراحاتي غير نهائية بالطبع؛ ويرجع ذلك، من ناحية، إلى الطبيعة المُجزأة وغير المكتملة لأدلتنا، ومن ناحية أخرى لأنَّ بعضها ينطوي على حكمٍ أو وسمِ شيءٍ قد يكون من الصعب تصنيفه تصنيفًا صحيحًا. كما أشير إلى أن عددًا من المجتمعات أو المناطق تقلَّبَت في درجاتِ مرونتها على مرِّ القرون؛ مما يعني أننا بحاجةٍ إلى وضع الفروق الدقيقة وكذلك الصورة الشاملة الواسعة في الاعتبار. ولذلك، ومع عِلمي بأن البعض قد يُفضِّل تصنيفَ مجتمعاتٍ مُعينة في فئاتٍ مختلفة عمَّا فعلتُه هنا؛ فإنني أقترح مبدئيًّا البيانات والملاحظات الموجزة التالية، المدرجة وفقًا لترتيب المرونة.
الفئة | الأساس المنطقي | المنطقة/المجتمع |
---|---|---|
١ | مجتمعات ليست مرنة فحسب، بل ربما حتى مضادة للهشاشة | الكنعانيون الأوسطيُّون (الفينيقيون)؛ قبرص |
٢ | مجتمعات مرنة جدًّا (بدرجات متفاوتة)؛ تتكيَّف، وربما تتحوَّل | مملكة آشور؛ بلاد بابل؛ الحيثيون الجُدد؛ الكنعانيون الشماليون |
٣ | مجتمعات مرنة ولكنْ بصعوبة؛ تتأقلم ولكنَّها لا تتكيَّف بالضرورة | مصر |
٤ | مجتمعات غير مرِنة، ولكنْ مع بعض الاستمرارية لخلفائها، الذين انتعشوا في النهاية | البر الرئيسي لليونان (الميسينيون)؛ كريت (المينويون) |
٥ | مجتمعات غير مرنة؛ إما اختفت أو استُوعِبت | الحيثيون؛ الكنعانيون الجنوبيون |
(٣-١) مجتمعات ليست مرنة فحسب، بل ربما حتى مضادَّة للهشاشة
ورغم أن الكنعانيين الأوسطيين أصبح لديهم الآن اسمٌ جديد، وهو الفينيقيون، فإن الاستمرارية الثقافية جليَّة. فلم يكونوا مَرِنين ومُبتكِرين فحسب أثناء تحوُّلهم من دويلات المدن الكنعانية في أواخر العصر البرونزي إلى الوضع الطبيعي الجديد، بل كانوا في الواقع مُضادِّين للهشاشة وازدهروا في الفوضى التي أعقبَت الانهيار، مُستغلِّين بخاصة نهْبَ أوغاريت ومدن الموانئ الأخرى؛ لأخذ زمام السيطرة على طُرق التجارة عبْرَ البحر الأبيض المتوسط، من أجل مقايضة سلعٍ مثل الصبغة الأرجوانية بالفضة والمعادن الأخرى القادمة من صقلية وسردينيا وإيبيريا — ومن ثَم نَشْر نُسختهم الموحَّدة من الأبجدية.
أظهر سكان قبرص أيضًا مرونةً مثيرة للإعجاب، منها تحويل نظامهم السياسي وانتقال أفرادٍ من السكان إلى مناطقَ جديدة في الجزيرة وإنشاء بلدياتٍ جديدة حسب الحاجة، خاصةً مع تراكُم الرواسب في الموانئ. كما كانوا في طليعة صناعة الحديد الجديدة، إذا كان فهْمُنا الحالي صحيحًا وهو أنَّ الحدَّادين هناك كانوا القادةَ في هذا التحوُّل إلى الحديد كمعدنٍ سائد في ذلك العصر. لم يحافظ الحِرفيون والحدَّادون على استمرار عملهم المُعتاد في صناعة البرونز فحسب، بل كانوا أيضًا مُبتكِرين في تهيئة تقنية استخدام الحديد الجديدة هذه ونشرها. وكانوا أيضًا قادرين على الحفاظ على وجودهم على طُرق التجارة الدولية، التي كانت لا تزال موجودةً، حتى إن كانت في البداية على مستوًى أقلَّ ممَّا كانت عليه خلال أواخر العصر البرونزي.
(٣-٢) مجتمعات مرِنة جدًّا
أرى أن الآشوريين والبابليين يندرِجون ضمن هذه الفئة؛ لأنهم نجحوا في البداية في تحمُّل الانهيار والتكيُّف أثناء التحوُّل من العصر البرونزي إلى العصر الحديدي، مع عدم وجود أيِّ تغييرات تقريبًا في بِنيتهم المجتمعية الأساسية، من الإدارة الحكومية إلى الدِّين (ويشتمل على الآلهة المعبودة). ومع ذلك، تأثر كِلا المجتمعَين بعد ذلك في وقتٍ متأخر بالجفاف والمجاعة والطاعون. وعلى الرغم من أنهم كانوا قادرين على الاستمرار في التأقلُم في تلك المرحلة، فقد استغرق الأمر من الآشوريين قرنَين من الزمان لإعادة تجميع صفوفهم والعودة من جديدٍ وبكل عنفوان، في القرن التاسع قبل الميلاد، واستغرق من البابليين وقتًا أطول من ذلك، في نهاية القرن السابع قبل الميلاد.
في هذه الفئة، أضع أيضًا الحيثيين الجدد الذين عاشوا في شمال سوريا وجنوب شرق الأناضول، وكذلك الكنعانيين الشماليين وغيرهم ممَّن يُحتمَل أنهم قد عاشوا معهم في تلك المناطق. لقد نجحوا جميعًا في تحمُّل التغيير الأَوَّلي وعاشوا في الأقاليم المختلفة التي حكمَتها كركميش وتل الطعينات وممالك أو مدن صغيرة سور-حيثية وسور-أناضولية أخرى في هذه المنطقة خلال العصر الحديدي. كما استمرُّوا في مواجهة العدوان المُتكرِّر من الآشوريين، رغم أن الكنعانيين الذين عاشوا في المناطق الداخلية في أقصى الجنوب مثل دمشق يبدو مُرجحًا أنهم قد اندمجوا في النهاية في عدد من الممالك الآرامية الأصغر التي تأسَّسَت في هذه المنطقة خلال القرن التاسع قبل الميلاد. ومع ذلك، فإن وضع الحيثيين الجُدد في هذه الفئة يعني فصْلَهم عن الكيان الرئيسي للحيثيين، في وسط الأناضول، الذين لم يكونوا بالمرونة نفسها؛ قد يزعم آخَرون أنه ينبغي لنا أن نُبقي المجموعتَين معًا، إلا أنني أظنُّ أنه من الصحيح فصْلُهما؛ نظرًا للتفاوت الكبير في المرونة.
(٣-٣) مجتمعات مرنة ولكن بصعوبة
ضمن هذه الفئة، أودُّ أن أُدرج المجموعات التي كانت قادرةً على التأقلُم والاستمرار في الوجود، ولكنها فشلَت حقًّا في إجراء التحوُّل كما ينبغي؛ حيث انحدرت مجتمعاتها إلى حدٍّ مُعين، وفقدَت أيَّ دور دولي أكبر ربما كانت تلعبه سابقًا. وأقترح أنَّ المثال الرئيسي هنا سيكون المصريين خلال القرون التي أعقبَت الانهيار؛ فعلى الرغم من نجاة مصر، فإنها لم تعُدْ كما كانت مطلقًا، ولم ترتفع قَط إلى المكانة القوية التي احتلَّتها ذات يوم خلال فترة المملكة الحديثة. ولمَّا لم تكن هناك تغييرات جوهرية من حيث حُكم الملك والإدارة، أو حتى في دين المصريين، ترجَّح أن مستوى معيشة الشخص العادي قد انخفض. كما شهدَت مصر أيضًا ارتفاعًا في الفوضى، والتمرد، والادعاءات المُتزامنة بالأحقية في الحُكم من فراعنة متنافِسين، والحرب الأهلية، إلى الحدِّ الذي جعَلَ مصر يحكمها في بعض الأحيان ملوكٌ عديدون في الوقت نفسه؛ ولعبَت بالتأكيد دورًا أقلَّ جدًّا في التجارة الدولية خلال القرون التي أعقبَت الانهيار مقارنةً بما كانت عليه في السابق.
ولكنْ، عندما بدأنا مناقشة مصر سابقًا في هذا الكتاب، لاحظنا أن قسمًا كبيرًا من هذه الفترة، بدءًا بوفاة رمسيس الحادي عشر في عام ١٠٧٠ قبل الميلاد، والتي كانت بمثابة نهاية الأُسرة العشرين والمملكة الحديثة، يُعرَف لدى علماء المصريات باسم الفترة الانتقالية الثالثة، مع وجود منافِسين عديدين يدَّعون أحقيَّتَهم في لقب الفرعون في بعض الأحيان. وكانت فترتان مُماثلتان، تُعرفان باسم الفترة الانتقالية الأولى والثانية على التوالي، قد أعقبتا عصر المملكة القديمة وعصر المملكة الوسطى السابقَين. لذا، فإن ما حدَثَ في مصر في أعقاب الانهيار لم يكن جديدًا من نواحٍ عديدة، بل كان بالأحرى دورةً كانت قد جرَت هناك من قبل؛ أي أن هذه هي نسخة مصر الخاصة من الدورة التكيُّفية.
(٣-٤) مجتمعات غير مرنة ولكنْ مع بعض الاستمرارية الثقافية
هنا أودُّ أن أذكر الكيانات التي فشلت في التأقلُم أو التكيُّف أو التحول من المجتمعات التي كانت عليها ذات يوم؛ ولكنْ مع ذلك، فإن أوجه استمراريتها الثقافية لم تتلاشَ تمامًا. أرى أن هذه من المُحتمَل أن تكون إحدى أكثر الفئات إثارةً للجدل، وموضوعًا مفتوحًا جدًّا للنقاش.
ومع ذلك، يُمكننا أن نقول أيضًا إن اليونانيين الذين نجَوا في نهاية المطاف حوَّلوا ثقافتهم ومجتمعهم وأعادوا تشكيلهما من الأساس. ولم يكن هذا سهلًا ولا سريعًا، ولكننا نستطيع أن نرى تطورًا في أنماط الفخار، وعادات الدفن، وأنواع المنازل، على سبيل المثال؛ فضلًا عن بعض الاستمرارية، في ألقاب بعض الإداريين (مثل باسيليوس) وأسماء الكثير من الآلهة والإلهات، من زيوس وهيرا وما دونهما. ومع ذلك، وكما ذكرنا في بداية هذا الكتاب، من المُستبعَد وجود مَن يَعدُّ نفسه ميسينيًّا بعد حوالي عام ١٠٥٠ قبل الميلاد (وحتى إن كانوا في الواقع قد اعتبروا أنفسهم مجموعةً موحَّدة تُسمَّى الميسينيين، بدلًا من كونهم سكان مملكةٍ مُعينة، مثل ميسيناي أو بيلوس).
وحيث إن الناجين تمكنوا في نهاية المطاف من إعادة البناء والبدء في المُضي من جديد على الطريق الذي سيقودهم إلى اليونان القديمة ثم الكلاسيكية؛ فإنني أقترح أنهم ربما بحلول أواخر القرن التاسع وأوائل القرن الثامن قبل الميلاد كانوا قد تعافوا في النهاية بما يكفي، بحيث يمكن نقْلُهم في تلك المرحلة إلى الفئة الأعلى التالية (رقم ٣). ومع ذلك، فإنهم، في المتوسِّط عبْرَ الزمن، يظلُّون في هذه الفئة (رقم ٤).
وفي هذه الفئة أيضًا، بعد كثيرٍ من المناقشات الداخلية، أودُّ أن أُدرج سكان جزيرة كريت؛ لأنه رغم كونهم أكثر نجاحًا من الميسينيين في التكيُّف، فإنهم فقدوا أيضًا هُويتهم السابقة، أيْ ما نعتبِره «المينويين». وكما أشرنا في الفصل الخامس، فإن المينويين، والمُجتمع المينوي كما كان معروفًا، ولشركائهم التجاريين السابقِين في الخارج أيضًا (أيْ «شعب كِفتيو» عند المصريين و«الكَفتور/الكَفتوريين» عند الكنعانيين والبابليين)؛ لم يعودوا موجودين أصلًا كهُوية مميزة، ربما حتى منذ استيلاء الميسينيين على الجزيرة في منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد؛ رغم أن كثيرًا من السكان استمرُّوا في اجتياز عملية الانتقال إلى العصر الحديدي، وفي النهاية ازدهروا مُجددًا باعتبارهم سكان كريت القديمة.
(٣-٥) المجتمعات غير المرنة – التي اختفَت تمامًا
(٤) فئات أخرى؟
هناك مجموعات أخرى قد تندرج أو لا تندرج تحت أيٍّ من الفئات المذكورة أعلاه، اعتمادًا على كيفية تفسير المرء للبيانات المتاحة. على سبيل المثال، إذا كان الإسرائيليون المُوحِّدون قد وُجِدوا بالفعل في منطقة جنوب بلاد الشام لبعض الوقت بحلول تلك المرحلة ونزلوا ببساطة من المرتفعات التي كانوا يعيشون فيها سابقًا (أي «بني إسرائيل المُستترين»، وفقًا لفينكلشتاين)؛ فيُمكننا فصْلُهم على أنهم ثقافةٌ أخرى من العصر البرونزي في المنطقة، أثبتَت أنها مرنةٌ ومُبتكِرة، في حين أنها كانت تتحول في النهاية إلى مملكة إسرائيل الموحدة ثم إلى المَملكتَين المُنفصلتَين لإسرائيل ويهوذا، وكلُّ ذلك أثناء التحول إلى الوضع الطبيعي الجديد. ومع ذلك، إذا كانوا قد هاجروا مؤخرًا إلى المنطقة بأي وسيلة، مثل الخروج التوراتي على سبيل المثال، فسيُنظَر إليهم باعتبارهم وافدين جُددًا يستغلُّون الفوضى التي أعقبَت الانهيار، وتلك ستكون مسألةً مختلفة تمامًا.
وعلى نحوٍ مماثل، إذا كان ابن يوسف على حقٍّ في أنَّ الأدوميين كانوا في السابق بدوًا رُحَّلًا، لكنهم سكنوا منطقة وادي فينان، ثم استقروا لإنشاء مملكة أدوم، كما ناقشنا في الفصل الأول؛ فهل نعتبر ذلك تحوُّلًا حدَثَ كردِّ فِعلٍ على الانسحاب المصري من المنطقة والأحداث الأخرى ذات الصِّلة خلال فترة انهيار أواخر العصر البرونزي؟ أم نتصوَّر أن المملكة تطوَّرت بطريقةٍ أخرى، كما زعم علماء آخَرون، ومن ثَم نعتبرها ببساطةٍ كيانًا جديدًا تمامًا، نَبتَ في ظِلِّ فراغ السلطة بعد الأحداث العاصفة في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد؟
•••
أودُّ أن أؤكد مرةً أخرى أنَّ تعييني للمجتمعات المختلفة في الفئات الفردية ونظرتي إلى صعودها وهبوطها على مَرِّ القرون هو أمرٌ أوَّلي وغير نهائي، ويعتمد اعتمادًا تامًّا على معرفتنا الحالية وافتراضاتي ومشاعري الحدسية (مهما كانت غير علمية). قد يُشير مزيد من أعمال التنقيب الأثري في النهاية إلى مسارٍ مختلف لبعضها، لكنَّ التصنيفات المقدَّمة هنا تعكس حاليًّا رأيي الخاص بعد مراجعةِ الأدلة المتاحة.
لا شكَّ في أن علماءَ آخَرين سوف يتبنَّون آراءً مختلفة، وربما يرغبون في وضع مصر في فئةٍ مختلفة؛ على سبيل المثال، إما في مرتبةٍ أعلى مع الآشوريين والبابليين وإما في مرتبةٍ أدنى مع الميسينيين والمينويين، وذلك تبعًا لكيفية النظر إلى عواملَ مثل عدم الاستقرار السياسي. باختصار، أرى أن اقتراحاتي هنا هي بدءٌ للمناقشة، وليست إنهاءً لها.
•••
المنطقة/المجتمع | القرن الثاني عشر | القرن الحادي عشر | القرن العاشر | القرنان التاسع والثامن |
---|---|---|---|---|
مملكة آشور | مرنة للغاية؛ غارات آرامية مُستمرة وصراعات عرضية مع البابليين، لكنها لم تتأثر جذريًّا. | تتأقلم، لكن الانحدار يبدأ مع بداية الجفاف والمجاعة والطاعون، والتي تستمر حتى القرن التالي. | يستمر الانحدار؛ تتأقلم وربما تتكيف، لكنها ببساطة تبقى حتى الثلث الأخير من القرن. | التحول إلى الإمبراطورية الآشورية الجديدة؛ بدء غزو الشرق الأدنى. |
- مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا | - مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا | - مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا | - مرحلة الدورة التكيفية: ألفا | |
بلاد بابل | - مرنة للغاية؛ غارات آرامية مستمرة وصراعات عرضية مع الآشوريين، لكنها لم تتأثر جذريًّا. | - مشكلات شبيهة بتلك التي عانى منها الآشوريون؛ تتأقلم مع بداية الجفاف والمجاعة والطاعون. | - الوضع مُماثل لوضع الآشوريين؛ ما زالت تتأقلم وتحاول البقاء فحسب. | - ما زالت تتأقلم وتبقى. |
- مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا | - مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا | - مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا | - مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا | |
كنعان (الشمالية) | - الانتقال متنوع حسب الموقع؛ فبعض المواقع (على سبيل المثال، أوغاريت) هُجِر، ولكنَّ مواقع أخرى كانت مرنةً للغاية وحظيَت باستمرارية. | - مرنة ومتكيفة/متأقلمة؛ من المُرجح أن يكون قد تم بعض الاندماج في كيانات الحيثيين الجُدد السياسية في المنطقة. | - مرنة ومتكيفة/مُتأقلمة كما في القرن السابق. | - مرنة ومتكيفة/متأقلِمة كما في القرن السابق؛ ومن المُرجَّح أن يكون قد تم اندماج في الممالك الآرامية في شمال سوريا في هذا الوقت. |
- مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا. | - مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا. | - مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا. | - مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا. | |
كنعان (الوسطى): صور، صيدا، جبيل، أرواد، إلخ. | - مضادة للهشاشة؛ التحوُّل إلى الفينيقيين، الذين بدَءوا في السيطرة على طُرق التجارة البحرية. | - مضادة للهشاشة؛ المشاريع البحرية تستمر. | - مضادة للهشاشة؛ المشاريع البحرية تستمر؛ يترك الحكَّام في جبيل نقوشًا. | - مضادة للهشاشة؛ المشاريع البحرية تستمر. |
- مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا في البداية، ولكنها تنتقل على الفور تقريبًا إلى ألفا | - مرحلة الدورة التكيفية: ألفا | - مرحلة الدورة التكيفية: ألفا | - مرحلة الدورة التكيفية: ألفا | |
كنعان (الجنوبية) | - مرنة في البداية وقادرة على التكيف؛ ربما تحولَت إلى حدٍّ ما، ولكنها لم تكن مضادة للهشاشة في البداية. | - ربما كانت مرنة، ولكنْ من المُرجَّح أن الفلستيين وغيرهم بدَءوا في استيعابها. | - يمكن تفسير الوضع على أنه تكيُّف من جانب السكَّان الأصليين، ولكن من المُرجح أن الممالك الجديدة التي تأسَّست في المنطقة، بما في ذلك إسرائيل ويهوذا وأدوم وعمون، قد استوعبتها. | - ازدهار ممالك متنوعة جديدة، بما في ذلك إسرائيل ويهوذا. |
- مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا، ولكنها انتقلت على الفور تقريبًا إلى ألفا | - مرحلة الدورة التكيفية: ألفا | - مرحلة الدورة التكيفية: ألفا | - مرحلة الدورة التكيفية: ألفا | |
كريت (المينويون) | - الاستمرارية والتعديلات الثقافية؛ التكيف التحويلي لتجاوز عملية الانتقال. | - المجتمع المينوي في حدِّ ذاته اختفى حاليًّا، ولكنَّ الكريتيين تعافوا وطوَّعوا أنفسهم مع الحقائق الجديدة. | - المجتمع الكريتي يستمر؛ اتصالات مُتجددة مع الشرق الأدنى. | - الكريتيون يزدهرون. |
- مرحلة الدورة التكيفية: في البداية أوميجا، ثم الانتقال إلى ألفا | - مرحلة الدورة التكيفية: ألفا | - مرحلة الدورة التكيفية: ألفا | - مرحلة الدورة التكيفية: ألفا | |
قبرص | قادرة على التكيُّف وربما حتى التحول؛ ربما مضادة للهشاشة؛ إبداع في استخدام الحديد. | مرنة ومزدهرة؛ تظهر مدن جديدة وتستمر المدن القديمة، وإن كان مع بعض التغييرات؛ تشارك بنشاطٍ في التجارة الدولية، وخاصة فيما يتعلق بمنتجات الحديد. | مرونة مستمرة؛ ممَّا يُمهِّد الطريق للتحول النهائي إلى الحقبة القديمة. | القبارصة مزدهرون. |
مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا في البداية، لكنها تنتقل على الفور تقريبًا إلى ألفا | مرحلة الدورة التكيفية: ألفا | مرحلة الدورة التكيفية: ألفا | مرحلة الدورة التكيفية: ألفا | |
مصر | تتأقلم، ولكنْ ليس بنجاح كبير؛ تأثرَت بالجفاف والمجاعة والنهب والمشكلات الاجتماعية والسياسية. | تستمر مشكلات المرونة، وخاصة مع التفتُّت السياسي، ولكن ربما بدأت في التكيف واستئناف بعض التجارة قُرب نهاية القرن. | ظهور المزيد من المرونة وإجراء تحسينات على العلاقات الدولية؛ العودة إلى القوة العسكرية والدبلوماسية في زمن شيشنق. | الانحدار مرةً أخرى، مع مشكلات سياسية وفراعنة متنافِسين؛ استولى عليها في نهاية المطاف ملوك كوش من النوبة وحكموها منذ منتصف القرن الثامن. |
مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا | مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا | مرحلة الدورة التكيفية: في البداية أوميجا، ولكن الانتقال إلى ألفا في زمن شيشنق | مرحلة الدورة التكيفية: العودة إلى أوميجا | |
الحيثيون | ينتهي المجتمع الحيثي عمليًّا في وسط الأناضول. | اختفى الحيثيون. | اختفى الحيثيون. | اختفى الحيثيون. |
مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا | ||||
الحيثيون الجُدد | استمرار الممالك الحيثية الجديدة في شمال سوريا (شمال كنعان) وجنوب شرق الأناضول. | درجات متفاوتة من التحول والتكيف والتأقلم بين المدن والأقاليم الحيثية الجديدة المختلفة. | فترة من النهضة؛ يترك الحكام الحيثيون الجدد نقوشًا. | ازدهار كركميش ومدن حيثية جديدة أخرى. |
مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا. | مرحلة الدورة التكيفية: ألفا. | مرحلة الدورة التكيفية: ألفا. | مرحلة الدورة التكيفية: ألفا. | |
البر الرئيسي لليونان (الميسينيون/اليونانيون) | درجة ما من الاستمرارية، وإن كانت على مستوًى اجتماعي سياسي أدنى بالفعل. | المجتمع الميسيني في حدِّ ذاته انتهى بحلول عام ١٠٧٠–١٠٥٠ قبل الميلاد؛ يستمر السكان في البر الرئيسي لليونان على مستوًى اجتماعي وسياسي أدنى. | يبدأ المجتمع اليوناني في إعادة البناء من الصفر، ويبدأ عملية التحوُّل والتعافي. | اليونانيون يستعيدون عافيتهم. |
مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا | مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا | مرحلة الدورة التكيفية: في البداية أوميجا، والانتقال إلى ألفا | مرحلة الدورة التكيفية: ألفا |
ما يتجلَّى من كل ما سبق، بدءًا بالمحتوى الوارد في الفصول من الأول إلى الخامس، وبالاستمرار وصولًا إلى التحليلات التي قُدِّمَت للتوِّ؛ أنَّ كلَّ حالةٍ كانت فريدةً من نوعها. ومن بين المجتمعات التي كانت نشطةً خلال أواخر العصر البرونزي في منطقة بحر إيجه أو شرق البحر الأبيض المتوسط، بعضٌ كان أكثر نجاحًا في تحمُّل العاصفة من بعض. والأسئلة حول كيف و/أو لماذا كان كلٌّ منها شديدَ التأثر، أو عكس ذلك، في المقام الأول؛ وكيف و/أو لماذا نجح أو فشل كلٌّ منها في التحوُّل إلى الوضع الجديد؛ ليست سهلةَ الإجابة. في الواقع، في بعض الحالات قد نكون غير قادرين على إجابة مثل هذه الأسئلة على الإطلاق؛ بسبب الطبيعة المُجزأة لبياناتنا؛ فنحن غالبًا ما نعتمد اعتمادًا كبيرًا على اكتشافات المقابر والفخار، والتغيرات الملحوظة في أنماط الاستيطان، وما إلى ذلك، كما أشرنا عدةَ مرَّات أعلاه. إننا مثل المُحقِّقين الجنائيين الذين يحاولون إعادة بناء العديد من مسارح الجرائم القديمة، والتي أصبحَت كلها مُعَلَّقةً منذ زمنٍ بعيد؛ ويتبادر إلى الذهن مسلسلات «سي إس آي» و«إن سي آي إس» و«كولمبو» و«كوجاك»، ولكن حتى أولئك المُحقِّقين التلفزيونيين لن يكونوا قادرين على حلِّ أيٍّ من هذه القضايا بحيث تُتاح فرصةٌ كبيرةٌ لإقناع هيئة المُحلفين بالتوصُّل إلى حُكمٍ بالإجماع؛ حتى هيركيول بوارو أو شيرلوك هولمز سيجدان صعوبةً في إنجاز ذلك.
مجددًا، تذكَّرْ أننا مُقيدون جدًّا بحقيقة أنَّ أيًّا من هذه المجتمعات لم يترك أيَّ سجلاتٍ تذكُر على وجه التحديد أنه كان هناك تغيير في نظامهم العالمي. لا شيءَ من قَبيل «في زمن والدي (أو جَدي)، كنا على اتصال بالحيثيين (أو المصريين أو …)، لكننا لم نعُد نراهم هنا»، على سبيل المثال. قد يكون السبب في ذلك بسيطًا مثل حقيقة أن لدَينا عددًا قليلًا جدًّا من السجلَّات المكتوبة التي يرجع تاريخها إلى ما بعد الانهيار مباشرةً؛ تذكَّر أنه كانت هناك فترة في مملكة آشور استمرَّت حوالي خمسة وسبعين عامًا، من عام ١٢٠٨ قبل الميلاد فصاعدًا، لدَينا منها قليل من السجلَّات، للسنوات الخمس والعشرين الأولى، ثم لا سجلَّات ملكية على الإطلاق مدة خمسين عامًا تقريبًا (١١٧٩–١١٣٣ قبل الميلاد). ليس لدَينا أي شيءٍ ذي صلة على وجه التحديد من المُجتمعات الأخرى خلال تلك الفترة أيضًا؛ ولم يذكُر المصريون حتى أيَّ شيءٍ كارثي بشكلٍ خاص بعد ادعاءات رمسيس الثالث المَزهوة بانتصاره على شعوب البحر في عام ١١٧٧ قبل الميلاد، باستثناء بعض المشكلات الداخلية مثل إضراب للعمَّال ثم اغتياله في النهاية. بطبيعة الحال، كان من شأن معظم المراكز التي كانت ستحتفظ بمثل هذه السجلات، ومنها أوغاريت وحاتوسا وميسيناي، أن تكون قد تأثرَت توًّا تأثرًا شديدًا أو تعرضَت للغزو أو هُجرَت في ذلك الوقت؛ لذلك ينبغي ألَّا يكون هذا الافتقار إلى المراجع المكتوبة مفاجئًا.
(٥) شدة التأثر والهشاشة
وبصرف النظر عن التحديات التي تواجههم، يبدو أن الآشوريين لم يفقدوا تمامًا السمات التي تُميِّز مجتمعهم، ولم يضطروا إلى إعادة بناء مجتمعهم بالكامل أو حتى تحويله بقدْرٍ كبير. ورغم أن الفترة التي أعقبَت الانهيار لم تكن ممتعةً للآشوريين، وربما انعكس ذلك في عدم وجود نقوش ملكية لمُعظم القرن الثاني عشر قبل الميلاد، فقد خرجوا سالمين في القرن التاسع قبل الميلاد ومُستعدِّين لتوطيد هيمنتهم الجديدة في جميع أنحاء الشرق الأدنى مدة ثلاثة قرون أخرى، حتى عام ٦١٢ قبل الميلاد.
كان عالمهم قد تغيَّر بالطبع. فقد اختفى معظم الملوك العظماء الآخرين وتبدَّدَت العلاقات الدولية التي كانت قائمةً في العصر البرونزي. وأصبحت النقوش الملكية، عندما نجِدها، معنيةً الآن بالحملات العسكرية فقط تقريبًا، وليس بالتجارة الدولية. ومع ذلك، فإن كثيرًا من السِّمات المُميزة التي يُستشهَد بها عادةً باعتبارها سمةً من سمات عصرٍ من عصور الظلام — ومنها حالات فقدان الإدارة المركزية والاقتصاد، فضلًا عن اختفاء النُّخَب التقليدية والكتابة — لم تظهر في مملكة آشور (أو بلاد بابل، في هذا الصدد) في العصر الحديدي.
ولكنْ مجددًا، لماذا كان هذا هو الحال؟ ولماذا صمدوا أكثر من غيرهم؟ هل كان ذلك بسبب موقعهم عند مُلتقى نهرَي دجلة والفرات؛ حيث لم يتأثروا على الفور بالجفاف أو المجاعات التي أسهمَت في سقوط شركائهم التجاريين وأعدائهم على حدٍّ سواء؟ وهل كانوا بعيدِين عن ساحل البحر الأبيض المتوسط بما يكفي لتجنُّب التعرُّض لهجمات شعوب البحر التي دمرَت الممالك الساحلية؟ وربما كان ذلك بسبب الحظ السعيد المُتمثل في وجود الزعيم المناسب أو الزعماء المناسبين في وقت الحاجة؛ أو بسبب وجود هياكل إضافية كافية، يُمكنها تولِّي مسئولية إدارة دولتهم وسياساتهم؛ أو وجود جيشٍ قادر على محاربة الغزاة و/أو غزو الآخرين للاستيلاء على الموارد التي يحتاجون إليها مع انهيار التجارة الدولية — أو كل ما سبق؟ أو ربما كانوا محظوظين فحسب.
كما أرى أن كلًّا من الاستجابة والقدرة على الصمود المَعنيتَين تعتمد على ما انهار بالضبط في كل حالة. على سبيل المثال، يمكن للمرء أن يزعم أن سقوط المجتمعَين الميسيني والحيثي كان الأشدَّ؛ لأنَّ كلًّا منهما فقَدَ إدارته المركزية واقتصاده المركزي؛ هذا هو الحال بالتأكيد في حالة الحيثيين، الذين فقدوا إمبراطوريتهم، وربما أيضًا في حالة الميسينيين؛ حيث كان لكلِّ مملكةٍ من الممالك الصغيرة إدارتها المركزية واقتصادها؛ على سبيل المثال، في ميسيناي وثيفا وبيلوس. ولكنْ يمكن للمرء أن يزعم أيضًا أن المراكز الميسينية لم تكن مكتفيةً ذاتيًّا بالقدْر الكافي، وكانت تعتمِد بشكلٍ كبير على واردات المواد الخام مثل النحاس والقصدير والذهب. ويمكن قول الشيء نفسه عن الآخرين أيضًا، من بينهم الحيثيون.
وعلى النقيض من ذلك، لم يفقد الآشوريون والبابليون والمصريون سلالاتهم الملكية في وقت الانهيار، ولا إداراتهم المركزية، ولا اقتصاداتهم؛ لقد عانوا فقط من الاضطرابات التي يمكن التغلُّب عليها من خلال المرونة. لم يحتاجوا إلى إعادة البناء كما كان اليونانيون مُجبَرين على أن يفعلوا. وفي حالة الآشوريين، تمكنوا أيضًا من الاستيلاء، عن طريق الغزو أو الجزية، على المواد الخام التي كانوا في حاجةٍ إليها.
المجتمع أو الحضارة التي تحولوا إليها | المجتمع أو الحضارة التي اندمجوا فيها أو حلَّت محلَّهم | |
---|---|---|
الآشوريون | الآشوريون الجدد | — |
البابليون | البابليون الجدد | — |
الكنعانيون الأوسطيون | الفينيقيون | — |
الكنعانيون الجنوبيون | — | إسرائيل، يهوذا، أدوم، موآب، عمون، فلستيا |
القبارصة | القبارصة القدماء | — |
المصريون | المصريون | — |
الحيثيون (والكنعانيون الشماليون) | الحيثيون الجدد (في شمال كنعان وجنوب شرق الأناضول) | أورارتو (في شرق الأناضول)؛ الفريجيون (في وسط/غرب الأناضول) |
الميسينيون والمينويون | اليونانيون والكريتيون القدماء | — |
قد يكون من المُثير للاهتمام أيضًا التأمُّل أكثر في النتائج البديلة التي كان يمكن أن تحدُث، لو أن الأمور سارت على نحوٍ مختلف في حالة بعض المجتمعات، والتساؤل إن كان بإمكان أيٍّ منها تجنُّب مصيره. هناك الكثير من «كان سيحدث كذا، وكان من المُمكن أن يحدث كذا، وكان ينبغي أن يحدُث كذا، وكان يجب أن يحدُث كذا» في هذه المسألة، ولكن من المؤكَّد أنه لو لم تكن العائلة الملكية الحيثية تُعاني من مشكلاتٍ داخلية، ولو لم تنقل عاصمتها إلى مكان آخَر، لمَا انهارت سريعًا وتمامًا هكذا. وبالمِثل، لو كان الميسينيون أكثر اكتفاءً ذاتيًّا، وأقلَّ اعتمادًا على الآخَرين في الحصول على المواد الخام، ولو كانوا قد خفَّفوا من استخدام منتجات البناء والهندسة الاستغلالية التي أثَّرَت على الطبقات الدنيا؛ لكانوا قد نجَوا أيضًا بشكلٍ أفضل.
وعلاوةً على ذلك، ماذا لو لم يَنْهَر مجتمع أو أكثر؟ هل كان النظام كله سينجو لو أن الحيثيين فقط كانوا قد قضَوا نَحْبَهم؟ أم الميسينيون فقط؟ ماذا كان سيحدث لو لم تُدمَّر أوغاريت أو لو لم ينسحب المصريون من منطقة جنوب كنعان؟
كل هذا يصعب نمذجته أو التنبؤ به، حتى في ضوء ما حدث بعد ذلك؛ بسبب تنوُّع العوامل ذات الصِّلة، المعروفة وغير المعروفة. إننا نُعاني من حقيقة أننا لا نزال لا نعرف على وجه التحديد ما الذي أدى إلى انهيار كل مجتمعٍ من المجتمعات؛ من بين ذلك هل كان الانهيار حقًّا نتيجةً لمجموعةٍ من العوامل، كما اقترحتُ في السابق. على سبيل المثال، هل اجتاحت شعوب البحر الميسينيين، أم سحقَتهم الانتفاضات الداخلية في القصور المختلفة؟ أم أن الجفاف هو الذي أدَّى إلى انهيارهم؟ أم كل ما سبق أم شيء آخر تمامًا؟
(٦) الانهيار والتحول
كيف يُمكننا تلخيص كل هذا في جملةٍ واحدة؟ من الواضح أن الجميع في هذه المنطقة كانوا يحاولون التعافي من الانهيار نفسه، ولكنَّ كلَّ مجتمع اتَّبع مساره المنفرد للتعافي، أو لم يفعل. ربما يكون من المفيد أن نتصوَّر الانهيار كجدارٍ أو حاجزٍ بين العصر البرونزي والعصر الحديدي، ولكنَّ هذا الجدار أو الحاجز كان مَساميًّا وسمح لبعض خيوط الاستمرارية بالمرور عبْرَه، بدلًا من حجب كل شيءٍ تمامًا. أو بدلًا من ذلك، يُمكننا أن نتصوَّر كل هذا كسباقِ عَدْوٍ تنافُسي، مثل سباقات الألعاب الأوليمبية، سواء في العصور القديمة أو عصرنا الحالي. بدأ جميع المشاركين في الوقت نفسه ومن خط البداية نفسه، من حيث الاضطرار إلى التعافي في وقتٍ واحد من الانهيار؛ لكنَّهم وصلوا إلى خط النهاية وهم يتعثرون، حيث عبَرَ كلٌّ منهم نقطة النهاية في وقتٍ مختلف، وبعضهم لم يُنهِ السباق على الإطلاق.
(٧) ميسينيون أم فينيقيون؟
ختامًا لمَا تقدَّم، ينبغي أن نطرح مجموعةً أخيرة من الأسئلة: هل تحمِل لنا هذه القصة التي تروي الأحداث التي وقعَت قبل ثلاثة آلاف عام أيَّ دروس إضافية في وقتنا الحاضر؟ وهل هناك ما يمكن تعلُّمه من القصة الدرامية الإجمالية التي تتحدَّث عن نهضة شبكة البحر الأبيض المتوسط العالمية وإحيائها بعد أربعة قرونٍ فقط من انهيار العصر البرونزي؟ وهل هناك إجابةٌ سهلة على السؤال عما ينبغي لنا أن نفعله إذا انهار مجتمعنا/حضارتنا؟
لا شكَّ في أن هناك دروسًا يجب تعلُّمها، ولكنْ من المؤسِف أنه لا توجَد إجابة سهلة لمَا ينبغي فِعله؛ لأن هذا يعتمد في نهاية المطاف أيضًا على الضغوط أو الدوافع التي قد تكون مُتضمَّنة. وبغضِّ النظر عن ذلك، فإن المنطق يُملي علينا أن نحتفِظ بخُطط طوارئ متعددة، بحيث إذا فشلَت الأنظمة الأساسية للإدارة أو التجارة أو الإنتاج الزراعي أو الخدمات المصرفية، فهناك نظامٌ ثانٍ، أو حتى ثالث، يمكن تطبيقه دون تأخير غير مُبرَّر في كل حالة. باختصار، نحن بحاجة إلى وجود نُظم إضافية كافية للرجوع إليها إذا فشلَت الأنظمة الأساسية. ونحن بحاجة أيضًا إلى أن نكون مرِنين بما يكفي لتحمُّل أي ضرباتٍ قد تأتي؛ ومُكتفين ذاتيًّا بما يكفي للبقاء صامِدين حتى لو سقط شركاؤنا التجاريون (أو عندما يسقطون)؛ ومُبتكِرين بما يكفي للتكيُّف أو التحوُّل حسب الضرورة؛ وأقوياء بما يكفي للتصدِّي لأيِّ غزوٍ أو هجوم من جانب العدو، حتى في الوقت الذي نترنَّح فيه بالفعل. ولكنَّ كل هذه التوصيات هي توصياتٌ منطقية، ربما يقترِحها آخرون حتى من دون دراسةِ ما حدَثَ في أعقاب انهيار أواخر العصر البرونزي.
فيما يتعلق بأولئك الذين ينظرون بيأس إلى الهاوية الحالية المُتمثلة في الاحتباس الحراري العالمي، والعنف الذي لا نهاية له، ونقص الموارد، والجفاف، والتلوث؛ قد يكون مما يبعث بعض الطمأنينة أن نعرف أنه إذا طوَّرنا استراتيجيات المرونة الصحيحة، فقد نتمكَّن من تقليل الضرَر وكذلك تسريع التعافي بعد انهيار المجتمع. على أقل تقدير، يُمكننا أن نأمُل في أن يكون هناك شخصٌ ما مُتبقٍّ لاستدراك الأمر والاستمرار.
١ | ضع خُطط طوارئ مُتعددة وأنظمة إضافية يمكنك الرجوع إليها إذا فشلَت خُططك الأساسية. |
٢ | كن مرِنًا بما يكفي لتحمُّل أي ضربات قد تأتي، وقويًّا بما يكفي لتحمُّل أي غزوات أو هجمات من العدوِّ. |
٣ | كن مُكتفيًا ذاتيًّا قَدْر الإمكان، ولكنْ لا تتردَّد في طلب المساعدة من الأصدقاء عند الحاجة. |
٤ | كن مبتكرًا ومبدعًا، ومُستعدًّا للتحول بسرعة والتكيُّف أو التحول، بدلًا من مجرد التأقلم. |
٥ | استعدَّ للظروف الجوية القاسية: إذا حدثَت، فستكون مُستعدًّا؛ وإذا لم تحدُث، فلن يكون الأمر مُهمًّا. |
٦ | تأكَّد من وجود موارد مائية يمكن الاعتماد عليها. |
٧ | حافظ على سعادة الطبقة العاملة. |
سيتعيَّن علينا ترك الأمر لأكاديميي القرن القادم أو ما بعده لإعداد تقريرٍ مُفصَّل وتحليلٍ لكيفية استجابتنا … وهل كنا ناجِحين أم لا.