الفصل السادس

من الانهيار إلى الصمود

من منظور البعض، كانت النهاية مفاجِئة؛ فقَدْ نهَبَ غزاةٌ مدينتهم، أو أسقَطَ زلزالٌ جدرانَ منزلٍ على رءوس ساكنيه. ومن منظورِ آخَرين، كانت كارثةٌ تحدُث بإيقاعٍ بطيء؛ حيث أثر الجفاف على المحاصيل وأبادَت المجاعة السكَّان. ولم ينجُ أحد في منطقة بحر إيجه أو شرق البحر الأبيض المتوسط من آثار انهيار أواخر العصر البرونزي. فقد تأثَّر الجميع تقريبًا بطريقةٍ أو بأخرى: الأغنياء والفقراء، والأرستقراطيون والفلاحون، والضحايا والناجون، وأولئك الذين تغيرَت حياتهم تغيرًا كبيرًا أو قليلًا. لقد تغيرَت الحياة التي عرفوها، والتي عرفوها منذ قرونٍ من قبل، تغيرًا لا رجعةَ فيه. كان على أولئك الذين نجَوا من كوارث ذلك العصر أن يتكيَّفوا ويُواصلوا الحياة ويجدوا طريقةً ما للمواصلة، حتى مع استمرار الجفاف، واختفاءِ طرقِ التجارة أو وقوعها فريسةً لقطَّاع الطُّرق والمُغيرين، وندرةِ الموارد الأساسية.1
وسواءٌ نظرنا إلى هذا باعتباره انهيارًا، أو تحولًا، أو كليهما؛ فمِن الواضح أن العالَم المترابِط كما عرفه سكانه خلال أواخر العصر البرونزي لم يعُد موجودًا.2 سقط الكثير من الإمبراطوريات والممالك الكبرى التي كانت قد ازدهرَت خلال الألفية الثانية قبل الميلاد مثل أحجار الدومينو. وكما رأينا خلال الفصول السابقة، فقد أدى هذا إلى إعادة تشكيل المناطق، حيث حلَّت محلَّ بعضها كيانات أصغر، منها تلك المعروفة من الكتاب المقدس العبري باسم بني إسرائيل، وأهل يهوذا، والفينيقيين، والموآبيين، والعمونيين، والأدوميين، فضلًا عن كيانات أخرى من بينها الآراميون والحيثيون الجدد. وذلك واضح ولا جدال فيه.
لقد قال عالما الآثار باتريشيا ماكاناني ونورمان يوفي إنَّ دراسة أيِّ انهيارٍ مجتمعي تُشبه مشاهدةَ صورة رقمية منخفضة الدقة: «إنها جيدة عندما تكون صغيرة ومضغوطة وتُشاهَد عن بُعد، ولكنها تتفكك إلى أجزاءٍ منفصلة عند فحصها عن قُرب.»3 وذلك صحيحٌ بالتأكيد، لكنني أظنُّ أن الانهيار وتداعِياته يمكن أيضًا مقارنتهما بشكلٍ أكثر منطقيةً بلوحةٍ من المدرسة الانطباعية. فعند النظر إليها من مسافةٍ بعيدة، تَكون صورةُ ما حدثَ واضحة: لقد انهارَت شبكة البحر الأبيض المتوسط العالمية، وكان هناك تغيير أو انتقال دراماتيكي من العصر البرونزي إلى العصر الحديدي الذي تلاه. ولكنْ، عندما نقترب أكثر، كما فعَلْنا في الفصول السابقة، تُصبح الأشياء أكثر تفصيلًا؛ تصبح البُقَع الفردية من الطلاء (أي المجتمعات) أكثر تميزًا للعين؛ تبدأ القيم المتطرِّفة والاستثناءات في الظهور؛ وتصبح الصورة الإجمالية أقلَّ توحيدًا، مع احتمالٍ لأنْ يَتيه المُشاهِد في التفاصيل ويَغفل عن الصورة الكاملة. إن ما يبدو انهيارًا لشخصٍ ينظر من مسافة بعيدة؛ يتحوَّل إلى مجرد تحوُّلات مجتمعية لمُشاهِد آخَر يقف على بُعد بوصاتٍ قليلة من المشهد. ومع ذلك، فإن كلًّا منهما مُحِقٌّ بطريقتِه الخاصة.

(١) نهايات وبدايات

بالرسم بضرباتِ فرشاةٍ عريضة، ما نراه بشكلٍ عام من القرن الثاني عشر قبل الميلاد فصاعدًا هو تفتُّت وتدهور في الأمن ومستويات المعيشة المادية في السنوات التي أعقبَت الانهيار مباشرةً، واستمرَّ ذلك حتى القرن العاشر أو نحو ذلك، مع انهيار ممالك العصر البرونزي. وفي المناطق التي تأثرَت إلى أقصى حد، ومنها البر الرئيسي لليونان وكريت والأناضول وجنوب بلاد الشام بشكلٍ خاص، كان هناك انهيار للقصور أو الدول أو الممالك المحلية (بما في ذلك الحكومة والاقتصاد المركزي وما إلى ذلك) حتى لو تمكنَت قطاعاتٌ من السكان من النجاة.

ومع ذلك، فإن إعادة التكامُل تبدأ بعد ذلك خلال القرن التاسع وتستمرُّ حتى القرن الثامن مع غزو الآشوريين لمعظم المنطقة، وازدهار التجارة المتوسطية على يد الفينيقيين والقبارصة، وسقوط المنافِسين المُحتمَلين مثل مملكة إسرائيل الموحدة ودمشق ومصر في النهاية، لتَتْبَعهم لاحقًا مملكة آشور ثم بلاد بابل في أواخر القرنَين السابع والسادس على الترتيب.

بعبارة أخرى، وللتأكيد على الجانب المادي للأشياء، بوجهٍ عام شهدَت الفترة من القرن الثاني عشر إلى القرن العاشر قبل الميلاد انخفاضاتٍ حادةً في عدد السكان، وهجرًا للمدن، وعنفًا، وهجراتٍ محتمَلة، وانهيارًا لطرق التجارة، وأمراضًا، ووفيات مبكرة، وانخفاضًا في الناتج الاقتصادي، ومستويات معيشة أدنى، وفقدانًا أو انحدارًا في المهارات المتقدِّمة، على الرغم من أن المدى يتباين اعتمادًا على المكان الذي ينظُر إليه المرء في المنطقة. وعلى النقيض من ذلك، شهدَت الفترة من بداية القرن التاسع قبل الميلاد فصاعدًا انعكاسَ العديد من هذه الاتجاهات. وبحلول النصف الثاني من القرن الثامن قبل الميلاد، بدأنا نشهد حياةً جديدة وابتكاراتٍ جديدة في العديد من المجالات، وبدأ عالَم مُترابِط ترابطًا كاملًا يتشكَّل مُجدَّدًا لأول مرة منذ قرونٍ عديدة.4
ولكن العديد من الأمور تظلُّ غير واضحة، منها مدى الدور الذي لعبَته الهجرة في شتَّى أنحاء المنطقة، وإن كانت التقلُّبات في عدد السكان التي شهدَتها بعض المناطق خلال هذه القرون، مثل البر الرئيسي لليونان، لها علاقة بالهجرة بقدْرِ ما كانت لها علاقة بالزوال الفعلي للبشر. ولا يزال التحقيق في مثل هذه الهجرات المُحتملة أثناء انهيار أواخر العصر البرونزي وبعده جاريًا حتى اليوم، وقد يكون من الجيد أن نتذكَّر أننا في بداية هذا الكتاب ناقشنا الغزو الدوري وأن الراجح كونه هجرة أكثر من كونه غزوًا فعليًّا. كما أننا أوردنا بطريقةٍ عابرة الفرضية القائلة بأن العمونيين ربما يكونون قد هاجروا من الأناضول في أعقاب انهيار أواخر العصر البرونزي. وقد اقتُرِحَت احتمالاتٌ أخرى أيضًا، منها هجرات مُفترضة للمُتحدِّثين باللغة اللوفية إلى شمال كنعان وللفريجيين إلى وسط الأناضول. وحتى هيرودوت كان مقتنعًا بحدوث هجرةٍ من ليديا (في تركيا المعاصرة) إلى إيطاليا بسبب الجفاف حوالي عام ١٢٠٠ قبل الميلاد، وهو ما فسَّر له أصل الإتروريين.5
وبمناسبة الحديث عن الجفاف، لا يسعني إلا أن أتساءل عن مدى الدور الذي لعبه تغيُّر المناخ في التعافي؛ حيث يُمكننا أن نرى عدَّة فترات تحسُّن في الطقس قد تكون مرتبطةً بشكلٍ مباشر أو غير مباشر بالتطوُّرات في المناطق المختلفة. على سبيل المثال، لاحظنا، أولًا، ظروفًا مناخيةً أكثر رطوبةً قليلًا في جنوب بلاد الشام خلال الفترة من حوالي ١١٥٠ قبل الميلاد إلى ٩٥٠ قبل الميلاد، والتي سمحَت بدورها ﺑ «الزراعة المُكثَّفة للزيتون والحبوب» وربما تكون قد منحَت الإسرائيليين وغيرهم فرصةً لإقامة ممالكهم؛6 وثانيًا، تحولًا إلى حقبةٍ أكثر رطوبة بكثيرٍ في بلاد الرافدين من حوالي ٩٢٥ قبل الميلاد فصاعدًا، ربما تكون قد أتاحت للآشوريين الجُدد إعادةَ تجميع صفوفهم والبدء في غزو الأراضي المُحيطة؛ وثالثًا، تغييرًا عامًّا من ظروفٍ قاحلة إلى ظروفٍ أكثر دفئًا ورطوبة في المنطقة كلها، ومنها قبرص وربما اليونان أيضًا، من حوالي ٨٥٠ قبل الميلاد فصاعدًا، وهو ما قد ساعد جميع المناطق والمجتمعات على البدء (أو الاستمرار) في الارتقاء مرةً أخرى إلى التعافي الكامل.

(٢) الدورة التكيُّفية وتقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنيَّة بتغيُّر المناخ

عند هذه المرحلة قد نجد لبعض الدراسات الحديثة فائدةً إضافية، من حيث المقارنة والتحليل، من بينها دراسات لمجتمعاتٍ أخرى في أوقاتٍ مختلفة وأماكن مختلفة. على سبيل المثال، يزعم بعض العلماء أن الانهيار هو ببساطة جزء من الإيقاع الطبيعي للأشياء التي تمرُّ بها كل إمبراطورية أو مجتمع؛ أي أنه جزء من دورةٍ لا نهائية من الصعود والسقوط، والانهيار، وإعادة الهيكلة، والانبعاث، وإعادة البناء. يمكن للمرء أن يفكر في الأمر بلغةِ بيتٍ آخَر من المسرحية الموسيقية «هاملتون»: «تعلو محيطات؛ وتسقط إمبراطوريات»، لكنَّ هذا العلو والسقوط معروف رسميًّا في أدبيات المرونة والصمود باسم «الدورة التكيُّفية» ويُرسَم على شكل رقم ٨ على جانبه، مع أربع مراحل.7
قد تكون لجزأين من هذا المفهوم، مرحلتَي ألفا وأوميجا، أهميةٌ خاصة للمساعدة في تفسير ما نراه أثناء الانهيار وفي أعقابه مباشرةً. تُعرَّف مرحلة أوميجا (Ω) بأنها جزء «الانهيار والتحرُّر الفوضوي» من الدورة التكيُّفية، حين يُنظَر إلى مرحلة ألفا (α) باعتبارها «مرحلة إعادة التنظيم». يمكن أن تحدُث مرحلة إعادة التنظيم إمَّا بسرعةٍ وإمَّا ببطء، ولكنَّ الأهم من ذلك أنها أيضًا المرحلة «التي تكون خلالها الابتكارات والفرص الجديدة مُمكنة». المرحلتان الأخريان، وهما «مرحلة النمو والاستغلال (r)» و«مرحلة الحفظ (K)» هما ما سنراهما بمجرد اكتمال إعادة التنظيم، ولكنَّ هذا لن يستمرَّ إلا بمجيء مرحلة «الانهيار والتحرُّر» التالية، فتبدأ الدورة من جديد.8
وفي رأيي أن النظام ذا الطابع الدولي الذي كان قائمًا خلال أواخر العصر البرونزي في منطقتي بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسط يُلائم دورةً تكيفية. يمكن للمرء أن يزعم بسهولةٍ أن سنوات الترابُط والازدهار في منطقتَي بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسط والتي استمرَّت من حوالي ١٧٠٠ قبل الميلاد إلى ١٢٠٠ قبل الميلاد يمكن اعتبارها مرحلة النمو والاستغلال، إضافةً إلى مرحلة الحفظ. يمكن اعتبار الانهيار نفسه بمنزلة مرحلة أوميجا أو مرحلة التحرُّر اللاحقة، في حين أن الآثار الناجمة خلال قرون العصر الحديدي، والتي ندرسها هنا، هي مرحلة ألفا أو مرحلة إعادة التنظيم التي تلَت ذلك مباشرةً.9
fig17
شكل ٦-١: الدورة التكيُّفية، من كتاب هولينج وجندرسون ٢٠٠٢: شكل ٢-١؛ كتاب «النظام الشامل: فَهْم التحوُّلات في الأنظمة البشرية والطبيعية»، تحرير لانس إتش جندرسون وسي إس هولينج؛ حقوق الطبع والنشر ٢٠٠٢ لدار نشر آيلاند برس؛ أعيد إنتاجُها بإذن من دار نشر آيلاند برس، واشنطن.
إن هذا الوصف المُوجَز لتغيُّر النظام يُتيح لنا أيضًا مقارنة انهيار أواخر العصر البرونزي مباشرةً بحالاتٍ أخرى في مواضع أخرى زمنيًّا ومكانيًّا، مثل انهيار الإمبراطورية الرومانية أو انهيار حضارة المايا. ولكننا نحتاج أيضًا إلى التساؤل عمَّا إذا كانت المجتمعات الفردية داخل النظام الأوسع قد اتبعَت مثلَ هذه الدورة أيضًا. بعبارةٍ أخرى، هل اتبعَت أيٌّ من مجتمعات أواخر العصر البرونزي أو المناطق التي شهدَت الانهيار أيضًا دورةً تكيفية فردية خاصة بها أثناء العصر البرونزي وبعده؟10
أعتقد أنَّ الإجابة هي نَعمْ. لقد زعم إيان موريس، في الواقع، أنَّ «اليونان بين عامي ١٥٠٠ و٥٠٠ قبل الميلاد، كانت واحدةً من أشْهَر حالات انهيار مجتمع معقَّد وتجدُّده». ومستشهدًا بأنتوني سنودجراس، وضَعَ في الأساس دورةً تكيفية لليونان: «لقد أفسحَت فترة القصور المُعقدة (حوالي ٢٠٠٠–١٢٠٠ قبل الميلاد) المجال لعصرٍ مظلِم كئيب (حوالي ١٢٠٠–٧٥٠)، لتحلَّ محلَّه مباشرةً الحضارتان القديمة (حوالي ٧٥٠–٤٨٠) والكلاسيكية (حوالي ٤٨٠–٣٢٣) الجديدتان والرائعتان.»11 إن التمثيل البياني لهذه العملية يجعل من السهل تصوُّرها.
fig18
شكل ٦-٢: إعادة تَصوُّر للدورة التكيُّفية، مع توضيح المراحل من منظور أواخر العصر البرونزي، والانهيار الخاص به، والعصر الحديدي. الرسم بواسطة جلينيس فوكس؛ مقتبَس من دراسة ريدمان وكينزج ٢٠٠٣: الشكل رقم ٣.
يعتقد موريس أيضًا أن اليونان كانت مثالًا للتجديد «الأصيل»؛ لأنها كانت حالةً لتحوُّل النظام كلِّه.12 ومع ذلك، فإنني أميل أكثر إلى رؤية الأمر باعتباره إعادة بناء. فعلى عكس المُجتمعات الأخرى، مثل الفينيقيين والقبارصة الذين حوَّلوا أنفسهم، كان على اليونانيين إعادة تشكيل مجتمعهم بالكامل تقريبًا من الأسفل إلى الأعلى أثناء العصر الحديدي (المعروف عند موريس باسم عصر الظلام). ومع ذلك، على الرغم من اختلاف المصطلحات الخاصة بنا؛ فإننا، أنا وموريس، نصِفُ إلى حدٍّ كبير العمليةَ نفسها.
إذا كانت كل منطقة أو مجتمع يخضع لدورة تكيفية خاصة به، فهذا يعني أننا بحاجةٍ إلى إدخال مفهوم «النظام الشامل» panarchy ذي الصلة. يقرُّ هذا المفهوم بأن كلَّ مكوِّن من المكونات الفردية داخل نظامٍ معقد شامل؛ يمرُّ بدورة تكيفية هو أيضًا في دورات تكيفية خاصة به، إضافةً إلى كونه جزءًا من التقدُّم الشامل الأكبر، وأن كلَّ مكوِّن من المكونات الفردية يتحرَّر ثم يُعيد تنظيم نفسِه (مرحلتَي أوميجا وألفا) بمعدلات مختلفة وبطُرق مختلفة. بعضها أبطأ، وبعضها أسرع؛ لكنَّ كلًّا منها يؤثر على الآخَر وعلى النظام ككل، وخاصة إذا كانت هناك مشكلات مُتزامِنة مع المكوِّنات المختلفة.13
fig19
شكل ٦-٣: إعادة تصوُّر للدورة التكيفية الخاصة تحديدًا باليونان، من أواخر العصر البرونزي والعصر الحديدي إلى العصرَين القديم والكلاسيكي. الرسم بواسطة جلينيس فوكس؛ مقتبَس من دراسة ريدمان وكينزج ٢٠٠٣: شكل رقم ٣.
بعبارةٍ أخرى، إذا تصوَّرنا نظامًا معقدًا من التروس والدواليب، كلها متشابِكة وتعمل معًا لإنشاء آلةٍ عاملة، مثل ساعة جيب على سبيل المثال، ولكنْ مع دوران كلٍّ منها بسرعته الخاصة؛ فقد يكون ذلك بمثابة تصوُّرٍ صحيح لنظامٍ شامل. في حالتنا، سيكون النظام الكُلي هو العصر البرونزي في هذه المنطقة كلها، في حين أنَّ التروس أو الدواليب الفردية ستكون الميسينيين والمينويين والحيثيين والمصريين والمجتمعات المكوِّنة الأخرى. في بعض الأحيان، إذا حدث خطأ ما في أحد التروس/الدواليب أو أكثر (أي المجتمعات المختلفة)، فقد تبدأ الآلة كلها في التعثر والتوقف، أو حتى التوقُّف المفاجئ، وسوف تحتاج إلى إعادة تشغيلها مرةً أخرى.14 وأودُّ أن أُشير إلى أن هذا هو بالضبط ما حدث في نهاية أواخر العصر البرونزي في منطقتَي بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسط.

•••

وأودُّ أيضًا أن أقترح أن ننظر إلى المنشورات المختلفة المَعنية بالقدرة على التكيف مع الأزمات والتخفيف من حدَّتها في العصر الحديث في أعقاب الكوارث الأكثر حداثة، مثل إعصار كاترينا في نيو أورلينز؛ لأنها تحتوي أيضًا على مفاهيم ذات صلةٍ يمكن تطبيقها على ما رأيناه في أعقاب انهيار العصر البرونزي. ومِن الأهمية بمكان، في رأيي، التقارير المُختلفة التي أعدَّتها الهيئة الحكومية الدولية المَعنية بتغيُّر المناخ التابعة للأمم المتحدة، والتي تأسَّسَت في عام ١٩٨٨ وفازت بجائزة نوبل للسلام في عام ٢٠٠٧.15
ورغم أن تقارير الهيئة الحكومية الدولية المَعنية بتغيُّر المناخ نادرًا ما تتضمَّن أمثلة من الماضي في تقاريرها، أو تأخذ آراء علماء الآثار في الاعتبار أثناء مراجعاتها؛16 فإنها تتضمَّن نظراتٍ مفصَّلة للكوارث الحديثةِ العهد، مثل موجات الجفاف والفيضانات والزلازل، من أجل تحديد الكيفية التي تمكَّنَت بها المُجتمعات المتضرِّرة من التعامُل معها بنجاح أو غير ذلك، تمامًا مثلما نودُّ أن نفعل في حالة المُجتمعات في أعقاب انهيار العصر البرونزي. وقد يُساعدنا استخدام هذه التقارير في أن نستجمِع أفكارنا بطريقةٍ مثمرة، رغم أننا بحاجة إلى الحذَر من خلق مفارقاتٍ وتبريرات مُستبعَدة عند نقْلِ أفكارنا وتعريفاتنا وتفسيراتنا من القرن الحادي والعشرين إلى زمنٍ وَلَّى، يرجع إلى حوالي ثلاثة آلاف عامٍ مضَت، وهو ما قد يكون ممارسةً سليمة، أو قد لا يكون كذلك.
وأعتقِد أن التقرير الأكثر فائدةً هو التقرير المكوَّن من ٥٩٤ صفحةً، الذي أصدرَته الهيئة الحكومية الدولية المَعنية بتغيُّر المناخ في عام ٢٠١٢، بعنوان «إدارة مخاطر الظواهر المُتطرِّفة والكوارث للنهوض بعملية التكيُّف مع تغيُّر المناخ». والعنوان المختصَر للتقرير هو «التقرير الخاص عن الظواهر المتطرفة». كان هذا أولَ تقرير صادر عن تلك الهيئة يتناول بشكلٍ صريح كلًّا من تغيُّر المناخ وإدارة مخاطر الكوارث في الوثيقة نفسها، ويقدِّم تعريفاتٍ أولية للمفاهيم التي تجري مناقشتها، من بينها عددٌ من المُصطلحات التي استشهدتُ بها في نقاطٍ مختلفة في الفصول السابقة، مثل «التأقلم»، و«التكيف»، و«التحول». وقد طُوِّرَت المفاهيم المختلفة بشكلٍ أكبر، مع بعض التعديلات والتحديثات للتعريفات، في التقارير اللاحقة للهيئة الحكومية الدولية المَعنية بتغيُّر المناخ، ومنها تقريرَا التقييم الخامس والسادس، الأحدث عهدًا (٢٠١٤ و٢٠٢١ / ٢٠٢٢ على الترتيب)، وقد أوردتُ ذلك حيثما كان مناسبًا أدناه، لكنَّ تقرير عام ٢٠١٢ لا يزال هو الأكثر فائدةً لأغراضنا.17
fig20
شكل ٦-٤: غلاف «التقرير الخاص عن الظواهر المُتطرفة»، ٢٠١٢ الخاص بالهيئة الحكومية الدولية المَعنية بتغيُّر المناخ التابعة للأمم المتحدة. الصورة بإذنٍ من الهيئة الحكومية الدولية المَعنية بتغيُّر المناخ.
أولًا وقبل كلِّ شيء، ورغم أن المؤلِّفين مُهتمون بالعالَم الحديث ولا يُضَمِّنون أمثلةً من العالَم القديم في تقريرهم؛ فمِن الواضح من تعريفاتهم أنهم بلا شك سيعتبرون انهيار أواخر العصر البرونزي ما يُسمُّونه حدثًا «ذا تأثيرٍ شديد»؛ لأنه أدَّى إلى «عواقب بالِغة الأهمية، وطويلة الأمد عادةً على المجتمع أو البيئة الطبيعية أو النُّظم البيئية». وكما يلاحظون، يمكن أن تَنتُج مثل هذه «التأثيرات الشديدة» عن مجموعةٍ متنوعة من الأسباب، من بينها «ظاهرة مُتطرِّفة واحدة، أو ظواهر متطرفة أو غير متطرفة مُتتالية، من بينها أحداث غير مناخية (على سبيل المثال، حرائق غابات، تليها أمطار غزيرة تؤدي إلى انهيارات أرضية وتآكُل للتربة)، أو ببساطة استمرار الظروف، مثل تلك التي تؤدي إلى الجفاف.»18
وعلى هذا النحو، فإنهم سيتَّفقون بلا شكٍّ على أن انهيار أواخر العصر البرونزي يمكن اعتباره «كارثة» بالمعنى التقني الحديث؛ لأنهم يعرِّفون الكوارث بأنها «تأثيرات حادَّة يُعاني منها المجتمع، وقد ترتبط أيضًا بتأثيراتٍ حادة على البيئة المادية والنظم البيئية.» ويُشير المؤلفون على وجه الخصوص إلى أن «الكارثة تحدُث عندما يكون التأثير من النوع الذي يتجاوز القُدرة المحلية على التأقلُم معه أو من النوع الذي يعطِّل بشدة الأنشطة العادية.» وفي وقتنا الحاضر، كما كان الحال في العصور القديمة، فإن مثل هذه الكوارث «تحدث أولًا على المستوى المحلي وتؤثِّر على السكَّان المحليين»، وبعد ذلك «يمكن أن تتراكم هذه التأثيرات المحلية لتؤدي إلى عواقبَ قومية ودولية.»19
وبناءً على ما سبق، ينظر المؤلفون في تقريرهم الصادر عن الهيئة الحكومية الدولية المَعنية بتغيُّر المناخ في عام ٢٠١٢ أيضًا في «تخفيف الكوارث»، والذي يُشير إلى «الإجراءات التي تُحاول الحدَّ من المزيد من الظروف المعاكِسة بمجرد حدوث الكارثة». وتدور هذه الإجراءات حول محاولاتِ تجنُّب «كارثةٍ ثانية»، كما يُسمُّونها. وكثيرًا ما يحدُث هذا في أعقاب الكارثة الأولية، وعادة ما يكون إما بسبب استجابةٍ غير كافية للكارثة الأولى أو لبعض الظروف غير المُتوقَّعة الإضافية. ويُشيرون إلى أن نتائج الكوارث الأولى أو الثانوية تشمل في كثيرٍ من الأحيان الهجرة، والضعف الاقتصادي (في كلٍّ من القطاعَين العام والخاص)، وتزايد العنف، وتأثيرات على العمل وسُبل العيش على المستويَين الفردي والمجتمعي.20 ويُمكننا أن نرى كل هذا أثناء انهيار العصر البرونزي وبعده؛ ففي حالتنا الخاصة قد تكون «الكارثة الأولى» أيًّا من عوامل الضغط التي تناولناها في كتاب «١١٧٧ق.م: عام انهيار الحضارة»، مثل تغيُّر المناخ، أو الجفاف، أو المجاعة، أو الأمراض، أو الزلازل؛ حين تكون «الكارثة الثانية (أو الثانوية)» الانهيار اللاحق لمجتمعٍ واحد أو أكثر أو للشبكة المترابطة نفسها؛ مما يؤدي إلى النتائج الملموسة التي لاحظوها بالضبط.
جدير بالذِّكر أن التعليقات العامة حول قُدرة المجتمع على الاستجابة لكارثةٍ ما، فضلًا عن قُدرته على التعافي والتغيير، والتي تعتمِد على مدى تأثُّر المجتمع بالكارثة، تشكِّل أهميةً خاصة في تقرير عام ٢٠١٢. وبالاقتران مع التعافي من الكوارث الشديدة، وبخاصة فكرة إعادة تنظيم الناجين للموارد في نظامٍ جديد للاستفادة من الفُرَص التي تخلقها الكارثة، فإن مفهوم «نظرية المرونة» (أو «تفكير المرونة») يُستخدَم الآن بشكلٍ مُتكرر، من ذلك استخدامه من قِبَل بعض علماء الآثار.21
ومع ذلك، يجب أن نفهم بوضوح أن مفهوم المرونة له مجموعةٌ متنوِّعة من المعاني المتمايزة، اعتمادًا على التخصُّص المُستخدَم فيه. لقد عَرَّف تقرير المجلس الوطني الأمريكي للبحوث لعام ٢٠١١ المرونةَ بأنها القدرة على «الاستمرار في العمل تحت الضغط، والتكيُّف مع الشدائد، واستعادة القدرة الوظيفية بعد الأزمة»، في حين أن مجموعة أخرى من العلماء عرَّفتها مؤخرًا بأنها «قدرة المجتمع على مواجهة التهديد، والنجاة والتعافي، أو ربما بتعبير أدق، التعافي وصولًا إلى حالة طبيعية [جديدة].» كِلا التعريفَين المذكورين أعلاه ملائمان لأولئك الذين يدرسون العصور القديمة، وأيضًا لأولئك الذين يبحثون ويعملون على الكوارث الأحدث عهدًا.22
ويشير مؤلِّفو تقرير الهيئة الحكومية الدولية المَعنية بتغير المناخ على وجه الخصوص إلى أنه ليس كل المجتمعات تمتلك القدرة على التأقلُم أو التحوُّل أثناء الكارثة أو بعدها. فبعضها لا يستطيع التأقلُم إلا بصعوبة بالِغة، بل إنه قد لا يستطيع ذلك. لذلك، يؤكِّدون على الفرق بين «التأقلم»، الذي يعكس القدرة على التعامُل مع شيء حدَثَ للتوِّ (أي التركيز على اللحظة الراهنة والنجاة ببساطة)، على عكس «التكيف»، الذي يعكس القُدرة على التعامُل مع شيء قد يحدُث في المستقبل و«حيث التعلم وإعادة الاختراع من السمات الرئيسية، والنجاة في الأمد القريب أقل أهميةً.»23
وكما يشيرون، فالمجتمع الذي يتأقلم ببساطة مع كارثةٍ ما يحاول عادةً امتصاص الضربات والحفاظ على الوضع الراهن، في حين أن المجتمع الذي يحاول بنشاطٍ التكيفَ؛ سوف يعكف على تطبيق تغييرات، بل تعديل الأوضاع وإعادة التنظيم إلى حدٍّ مُعين، بحيث يكون أكثر استعدادًا للمرة التالية التي يحدُث فيها شيء مُشابِه.24 وأظن أن الأمر هنا يصبح مثيرًا للاهتمام بشكلٍ خاصٍّ لنا؛ حيث يُمكننا الآن أن نرى بوضوح أنه كانت هناك مجموعةٌ متنوعة من الاستجابات من جانب المجتمعات التي تأثرَت بانهيار العصر البرونزي، من بينها تلك التي يُمكننا وصفها إما بأنها تتأقلم بنجاح، وإما بأنها تتأقلم على نحوٍ أكثر نجاحًا آخِذةً في التكيُّف.
ومع ذلك، فإن كلَّ هذا لا يزال أدنى بخطوةٍ واحدة من «التحول» الفعلي. وكما لاحظ مؤلِّفو تقرير الهيئة الحكومية الدولية المَعنية بتغير المناخ؛ فإن المُجتمعات الأكثر مرونةً هي تلك القادرة على التعلم وتعديل أوضاعها بسرعة، ومن ذلك إعادة التنظيم بعد اضطراب، وفي الوقت نفسه الاستمرار في الحفاظ على هياكلها الأساسية وقُدرتها الوظيفية حتى أثناء الحدث (أو الكارثة) المَعنيِّ. ويشار إلى التعديلات التي تُجرى باسم «التغييرات التحويلية» ويمكن أن تكون تدريجيةً (أي بخطواتٍ صغيرة)، أو أكثر جذرية.25 لقد رأينا هذا في حالةٍ واحدة على الأقل، إن لم يكن اثنتَين، في الفصل الثالث، وبالتحديد، مع الفينيقيين وكذلك القبارصة.
ويستحضر مؤلفو تقرير الهيئة الحكومية الدولية المَعنية بتغيُّر المناخ أيضًا مفهومَ «شدة التأثر» باعتباره قد يكون مفيدًا عند النظر في سبب نجاح بعض المجتمعات وفشلِ أخرى في التعافي، في أعقاب كارثةٍ أو تأثيرٍ متطرِّف. إنهم يرَون أن شدة التأثر «تُحدِّدها الأوضاع القائمة»، وهو ما أودُّ أن أقترحه؛ إنه كان الحال نفسه في نهاية فترة أواخر العصر البرونزي، ويشيرون بشكلٍ خاص إلى افتقاد القدرة على التأقلُم أو التكيف في مثل هذه المواقف. وسوف أتناول هذا بمزيدٍ من التفصيل بعد قليل، لكنَّ مؤلفي التقرير لاحظوا أيضًا أنه قد تكون هناك «نوافذُ شدَّة تأثُّر»، أي فترات تشكِّل فيها المخاطر الخارجية (أو حتى الداخلية) تهديدًا أعظم من المُعتاد.26 ومرة أخرى، أود أن أُشير إلى أن هذا كان الحال بالتأكيد حوالي عام ١٢٠٠ قبل الميلاد، عندما حدثَت «العاصفة المثالية» للكوارث حسبما أعتقِد.
وأودُّ كذلك أن أُشير إلى أن مفهوم الهشاشة، الذي تناوله التقرير نفسه الصادر في عام ٢٠١٢، قد يلعب دورًا هنا أيضًا؛ لأن الباحِثين بدَءوا الآن يقترِحون أن الهشاشة المجتمعية («أجهزة الدولة الضعيفة أو المُتفكِّكة أو المنهارة») قد تكون مرتبطةً بشدة التأثر، أو حتى مقدِّمة لها. وفي هذا الصدد، اقترح البعض أن المدن أو المجتمعات قد تكون في بعض الأحيان أكثر هشاشةً وعُرضةً للخطر مما تبدو عليه، ويرجع هذا جزئيًّا إلى أن نجاحها الظاهري حتى تلك النقطة؛ يُغطي ويُخفي عدم الاستقرار (وعادةً ما يتَّضح هذا بعد فوات الأوان). ورغم أن كل شيءٍ قد يبدو على ما يُرام، فإن الهياكل الأساسية أو ربما الفرعية في الواقع متفسِّخة وضعيفة؛ حيث إنَّ أدنى هبَّة ريح أو ضغط يكفي لبدء عملية الانهيار. وأعتقد بشدة في أنَّ هذا ربما كان الحال فيما يتعلق بكلٍّ من الميسينيين والحيثيين.27
جدول ٦-١: المصطلحات والتعريفات المتعلقة بالمرونة.*
المصطلح تعريف موجز
التكيُّف، ويُعرَف أيضًا بالقدرة على التكيُّف القدرة على التعامُل مع شيءٍ قد يحدث في المستقبل؛ التعلُّم وإعادة الاختراع من السمات الرئيسية، في حين أنَّ النجاة في الأمد القريب أقل أهميةً.
مضاد للهشاشة حالة المجتمع الذي يُظهِر أكثرَ من مجرد المرونة أو القوة ويزدهر بالفعل تحت القَدْر المناسب من الضغط، ويستفيد من الموقف ليس فقط للنجاة ولكنْ للازدهار.
التأقلُم، ويُعرَف أيضًا بالقدرة على التأقلُم القدرة على التعامُل مع شيءٍ حدَثَ للتوِّ (أي التركيز على اللحظة الراهنة والنجاة ببساطة).
الهشاشة، وتُعرَف أيضًا بالهشاشة المجتمعية أجهزة الدولة الضعيفة أو المُتفكِّكة أو المنهارة.
المرونة القدرة على الاستمرار في العمل تحت الضغط، والتكيُّف مع الشدائد، واستعادة القدرة الوظيفية بعد الأزمة.
التكيُّف التحويلي يتضمن الإجراءات التي تُغيِّر السمات الأساسية للنظام استجابةً للتأثيرات الفعلية أو المتوقَّعة للأزمة.
التحوُّل القدرة على إعادة التنظيم بعد اضطرابٍ، والحفاظ على الهيكل الأساسي والقدرة الوظيفية في مواجهة ضغوط النظام؛ يتَّسم بالقدرة على التعلُّم والتعديل.
شدة التأثُّر احتمالية تعرُّض المجتمع لمعاناةٍ سلبية عند تأثُّره بالظواهر المتطرِّفة.
نوافذ شدة التأثر الفترات التي تكون فيها المخاطر أعظم بسبب مزيج الظروف.
المصادر: تقرير المجلس الوطني الأمريكي للبحوث لسنة ٢٠١١، وتقرير الهيئة الحكومية الدولية المَعنية بتغيُّر المناخ الخاص عن الظواهر المُتطرِّفة لسنة ٢٠١٢، وتقرير التقييم الخامس للهيئة الحكومية الدولية المَعنية بتغيُّر المناخ لسنة ٢٠١٤، وكتاب طالب ٢٠١٤.
ومع ذلك، ربما كان العكس صحيحًا في حالة الفينيقيين؛ حيث يبدو أنهم كانوا «مضادِّين للهشاشة»، كما ناقشنا في الفصل الثالث. ويبدو بالتأكيد أن الفينيقيين لم يستغلوا فقط تدمير أوغاريت، ولكن أيضًا توقُّف النفوذ المصري والحيثيِّ في منطقتهم والفوضى العامة في ذلك الوقت؛ للسيطرة على طرق التجارة المؤدية إلى الجنوب والغرب، أيْ إلى مصر وقبرص واليونان وكريت وصقلية وسردينيا وإيطاليا وإيبيريا، بعد عام ١٢٠٠ قبل الميلاد مباشرةً.28 ثم أثْرَوا أنفسهم من خلال سيطرتهم على طرق التجارة هذه لعدة قرون بعد ذلك.
ثمة طريقةٌ أخرى مُمكنة لوصف الدور الذي لعبه الفينيقيون بعد انهيار أواخر العصر البرونزي، وهي الاستعانة بكلٍّ من نظرية المرونة والدورة التكيُّفية؛ فقد وُصِفَت مرحلة «ألفا»، أو إعادة التنظيم داخل الدورة كما ذكرنا، بأنها فترةٌ «يُعاد فيها تنظيم الموارد في نظام جديد للاستفادة من الفُرَص.»29 ولذلك، فإنني أنظر إلى الفينيقيين باعتبارهم مُضادِّين للهشاشة ومثالًا رئيسيًّا للابتكار الذي يمكن أن يحدُث أثناء مرحلة ألفا من الدورة التكيفية.

أظنُّ أن مصطلحات المرونة هذه يمكن أن تكون مفيدةً للغاية في المساعدة في تفسير سبب سقوط المجتمعات المختلفة في أوقاتٍ مختلفة قليلًا أثناء انهيار أواخر العصر البرونزي، ولماذا تعافى كلٌّ منها بمعدلاتٍ مختلفة (وبطرُق مختلفة) خلال العقود والقرون التالية. ومع ذلك، فإن المُعضِلة العويصة التي يتجاهلها العلماء هي السؤال إن كانت من المشروع محاولةٌ لتفسير هذه الأحداث القديمة باستخدام المصطلحات والأفكار الحديثة؛ المرونة والتحوُّل والتأقلُم والتكيُّف. هل نحن نطرح للنقاش مفاهيم غير مناسبة للعصر ولا تنطبق على العالَم الذي كان قبل ثلاثة آلاف سنة؟

ربما نفعل هذا، لكنْ رغم إمكان وقوع مثل هذه الأخطاء؛ فإنني أرى أنه من المُفيد أن نُحاول معالجة كل الأسئلة التي طرحناها أعلاه من خلال النظر إلى نجاح المجتمعات المختلفة أو فشلها من منظور المرونة، وحسب نظرية المرونة. وكما أشارت إيريكا ويبرج من جامعة أوبسالا، فإن نظرية المرونة قد تُساعدنا في التوصل إلى رؤيةٍ أدقَّ لهذه الفترة؛ ممَّا يُتيح لنا تحديد «ما الذي استلزمه «الانهيار» بالضبط ولمَن.»30

(٣) الفئات والتصنيفات

أعتقد أننا نستطيع أن نطبِّق بنجاح بعض التعريفات والمناقشات الواردة في تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنيَّة بتغيُّر المناخ لعام ٢٠١٢ حول «إدارة مخاطر الظواهر المُتطرفة والكوارث» على التفاصيل التاريخية والأثرية التي تأمَّلناها من القرون التي أعقبَت انهيارَ العصر البرونزي. ورغم أنَّ هذا سيكون بالضرورة خاضعًا لمنظورٍ ذاتي؛ فللمرء أن يزعم، مثلًا، أنَّ الآشوريين والبابليين والمصريين كانوا يتمتعون ﺑ «القدرة على الاستيعاب»، إذا ما استخدمنا لغةَ مؤلفي الهيئة الحكومية الدولية المَعنية بتغيُّر المناخ؛ لأنهم كانوا قادرين على التأقلُم مع الموقف والاستمرار، رغم أن المصريين لم يكونوا ناجحين تمامًا مثل الاثنَين الآخَرين. من ناحيةٍ أخرى، يبدو أن الفينيقيين والقبارصة لم يتمكنوا فقط من المُضيِّ قدمًا والتأقلم مع الموقف، بل ذهبا في الواقع إلى خطوتَين أبعدَ من ذلك، و«تحوَّلا»؛ لأنه يبدو أنهما كانا يتمتعان ﺑ «القدرة على التغيير والتعديل» (مرةً أخرى باستخدام لغة الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ)، وكانا قادرَين على إعادة التنظيم بطُرقٍ جديدة بعد الاضطراب.

وعلاوةً على ذلك، فيما يتصل بالقبارصة والفينيقيين، ينبغي لنا أن نلاحظ أن مؤلفي تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ لعام ٢٠١٢ يُشيرون إلى أن القدرة على التكيف، ومن ثَم التحول، يمكن وصْفُها أيضًا بالقدرة على الابتكار وتوقُّع مواقفَ مُستقبَلية. ويقولون إن مثل هذه الابتكارات يمكن أن تكون اجتماعيةً وتكنولوجية، وتدريجية أو جذرية، كما ذكرنا.31 وأودُّ أن أُشير إلى اعتماد كلٍّ من الحديد والأبجدية، وانتشارهما باعتبارهما اثنَين فقط من الابتكارات الأوضح خلال هذه القرون.

•••

يمكننا أيضًا أن نحاول تلخيص ملاحظاتنا من زاويةٍ مختلفة، أي من خلال تقسيم المجتمعات المختلفة التي عانت من الانهيار إلى فئاتٍ وتصنيفها، استنادًا إلى مفاهيم المرونة وشدة التأثر والهشاشة، والتعريفات الإضافية للتأقلم والتكيُّف والتحول، لمعرفة إن كانت تلك الممارسة ستُسفر عن أي شيء مفيد.

ولكنني أودُّ أن أؤكِّد في البداية أنني لا أمنح الدول (أو الممالك أو الإمبراطوريات) امتيازًا باعتبارها الوحدة المرغوبة للتنظيم الاجتماعي السياسي، بل إنني ببساطة أعمل انطلاقًا من الملاحظة التي مفادها أن الممالك والإمبراطوريات التي شكَّلَت شبكة أواخر العصر البرونزي العالمية تحولَت لاحقًا إلى — أو خلفت — ممالك ودويلات مدن في العصر الحديدي، أصغر حجمًا وتقع في المناطق نفسها. ويتلخص هدفنا في تفسير كيفية انتقالنا من وضعٍ إلى آخَر خلال القرون التي أعقبَت انهيار أواخر العصر البرونزي، وهذا ما أظنُّ أنه يُمكننا فعلُه بناءً على المواد التي عُرِضَت في الصفحات أعلاه.

أودُّ أيضًا أن أؤكِّد أن اقتراحاتي غير نهائية بالطبع؛ ويرجع ذلك، من ناحية، إلى الطبيعة المُجزأة وغير المكتملة لأدلتنا، ومن ناحية أخرى لأنَّ بعضها ينطوي على حكمٍ أو وسمِ شيءٍ قد يكون من الصعب تصنيفه تصنيفًا صحيحًا. كما أشير إلى أن عددًا من المجتمعات أو المناطق تقلَّبَت في درجاتِ مرونتها على مرِّ القرون؛ مما يعني أننا بحاجةٍ إلى وضع الفروق الدقيقة وكذلك الصورة الشاملة الواسعة في الاعتبار. ولذلك، ومع عِلمي بأن البعض قد يُفضِّل تصنيفَ مجتمعاتٍ مُعينة في فئاتٍ مختلفة عمَّا فعلتُه هنا؛ فإنني أقترح مبدئيًّا البيانات والملاحظات الموجزة التالية، المدرجة وفقًا لترتيب المرونة.

جدول ٦-٢: الفئات العامة للمرونة لمختلف المناطق/المجتمعات في القرون التي أعقبَت الانهيار.
الفئة الأساس المنطقي المنطقة/المجتمع
١ مجتمعات ليست مرنة فحسب، بل ربما حتى مضادة للهشاشة الكنعانيون الأوسطيُّون (الفينيقيون)؛ قبرص
٢ مجتمعات مرنة جدًّا (بدرجات متفاوتة)؛ تتكيَّف، وربما تتحوَّل مملكة آشور؛ بلاد بابل؛ الحيثيون الجُدد؛ الكنعانيون الشماليون
٣ مجتمعات مرنة ولكنْ بصعوبة؛ تتأقلم ولكنَّها لا تتكيَّف بالضرورة مصر
٤ مجتمعات غير مرِنة، ولكنْ مع بعض الاستمرارية لخلفائها، الذين انتعشوا في النهاية البر الرئيسي لليونان (الميسينيون)؛ كريت (المينويون)
٥ مجتمعات غير مرنة؛ إما اختفت أو استُوعِبت الحيثيون؛ الكنعانيون الجنوبيون

(٣-١) مجتمعات ليست مرنة فحسب، بل ربما حتى مضادَّة للهشاشة

هناك مثالان رئيسيان هنا، كما أرى الأمر. الأول: هو المجتمعات الكنعانية في وسط بلاد الشام التي تطورت أو تحوَّلت إلى حدٍّ كبير، حتى إننا نُطلق عليها الآن «الفينيقية» للإشارة إلى هذا التحول. والثاني: هو سكان قبرص. فقد تحوَّلوا وازدهروا وسط الفوضى، وفي بعض الحالات أخذوا أدوارًا كان يلعبها آخَرون قبلهم وأظهروا ابتكاراتٍ مثل توحيد الأبجدية، وإنتاج الصبغة الأرجوانية، واستخدام الحديد لصنع أسلحة وأدوات. وكما قالت كارول بيل: «كان التجار القبارصة ونظراؤهم الفينيقيون … في وضعٍ جيد سَمحَ لهم بالاستفادة من الفُرَص التي نشأت عن الأحداث الكارثية في نهاية العصر البرونزي.»32

ورغم أن الكنعانيين الأوسطيين أصبح لديهم الآن اسمٌ جديد، وهو الفينيقيون، فإن الاستمرارية الثقافية جليَّة. فلم يكونوا مَرِنين ومُبتكِرين فحسب أثناء تحوُّلهم من دويلات المدن الكنعانية في أواخر العصر البرونزي إلى الوضع الطبيعي الجديد، بل كانوا في الواقع مُضادِّين للهشاشة وازدهروا في الفوضى التي أعقبَت الانهيار، مُستغلِّين بخاصة نهْبَ أوغاريت ومدن الموانئ الأخرى؛ لأخذ زمام السيطرة على طُرق التجارة عبْرَ البحر الأبيض المتوسط، من أجل مقايضة سلعٍ مثل الصبغة الأرجوانية بالفضة والمعادن الأخرى القادمة من صقلية وسردينيا وإيبيريا — ومن ثَم نَشْر نُسختهم الموحَّدة من الأبجدية.

أظهر سكان قبرص أيضًا مرونةً مثيرة للإعجاب، منها تحويل نظامهم السياسي وانتقال أفرادٍ من السكان إلى مناطقَ جديدة في الجزيرة وإنشاء بلدياتٍ جديدة حسب الحاجة، خاصةً مع تراكُم الرواسب في الموانئ. كما كانوا في طليعة صناعة الحديد الجديدة، إذا كان فهْمُنا الحالي صحيحًا وهو أنَّ الحدَّادين هناك كانوا القادةَ في هذا التحوُّل إلى الحديد كمعدنٍ سائد في ذلك العصر. لم يحافظ الحِرفيون والحدَّادون على استمرار عملهم المُعتاد في صناعة البرونز فحسب، بل كانوا أيضًا مُبتكِرين في تهيئة تقنية استخدام الحديد الجديدة هذه ونشرها. وكانوا أيضًا قادرين على الحفاظ على وجودهم على طُرق التجارة الدولية، التي كانت لا تزال موجودةً، حتى إن كانت في البداية على مستوًى أقلَّ ممَّا كانت عليه خلال أواخر العصر البرونزي.

(٣-٢) مجتمعات مرِنة جدًّا

من الأمثلة الرئيسية للمجتمعات التي أثبتَت أنها مرنة جدًّا الآشوريون والبابليون. لقد تعامل كِلا المجتمعَين وتكيَّفا حسب الضرورة، وعدَّلا أوضاعهما حسب الموقف (أو المواقف) الجديد الذي وجدوا أنفسهم فيه. وقد شمل هذا التعامل إما مع أعداء قدامى (مثل العيلاميين في حالة البابليين) وإما مع خصومٍ جُدد (مثل الآراميين والأورارتيين في حالة الآشوريين)، فضلًا عن أخذ ما يحتاجون إليه ببساطة من الآخرين.33

أرى أن الآشوريين والبابليين يندرِجون ضمن هذه الفئة؛ لأنهم نجحوا في البداية في تحمُّل الانهيار والتكيُّف أثناء التحوُّل من العصر البرونزي إلى العصر الحديدي، مع عدم وجود أيِّ تغييرات تقريبًا في بِنيتهم المجتمعية الأساسية، من الإدارة الحكومية إلى الدِّين (ويشتمل على الآلهة المعبودة). ومع ذلك، تأثر كِلا المجتمعَين بعد ذلك في وقتٍ متأخر بالجفاف والمجاعة والطاعون. وعلى الرغم من أنهم كانوا قادرين على الاستمرار في التأقلُم في تلك المرحلة، فقد استغرق الأمر من الآشوريين قرنَين من الزمان لإعادة تجميع صفوفهم والعودة من جديدٍ وبكل عنفوان، في القرن التاسع قبل الميلاد، واستغرق من البابليين وقتًا أطول من ذلك، في نهاية القرن السابع قبل الميلاد.

في هذه الفئة، أضع أيضًا الحيثيين الجدد الذين عاشوا في شمال سوريا وجنوب شرق الأناضول، وكذلك الكنعانيين الشماليين وغيرهم ممَّن يُحتمَل أنهم قد عاشوا معهم في تلك المناطق. لقد نجحوا جميعًا في تحمُّل التغيير الأَوَّلي وعاشوا في الأقاليم المختلفة التي حكمَتها كركميش وتل الطعينات وممالك أو مدن صغيرة سور-حيثية وسور-أناضولية أخرى في هذه المنطقة خلال العصر الحديدي. كما استمرُّوا في مواجهة العدوان المُتكرِّر من الآشوريين، رغم أن الكنعانيين الذين عاشوا في المناطق الداخلية في أقصى الجنوب مثل دمشق يبدو مُرجحًا أنهم قد اندمجوا في النهاية في عدد من الممالك الآرامية الأصغر التي تأسَّسَت في هذه المنطقة خلال القرن التاسع قبل الميلاد. ومع ذلك، فإن وضع الحيثيين الجُدد في هذه الفئة يعني فصْلَهم عن الكيان الرئيسي للحيثيين، في وسط الأناضول، الذين لم يكونوا بالمرونة نفسها؛ قد يزعم آخَرون أنه ينبغي لنا أن نُبقي المجموعتَين معًا، إلا أنني أظنُّ أنه من الصحيح فصْلُهما؛ نظرًا للتفاوت الكبير في المرونة.

(٣-٣) مجتمعات مرنة ولكن بصعوبة

ضمن هذه الفئة، أودُّ أن أُدرج المجموعات التي كانت قادرةً على التأقلُم والاستمرار في الوجود، ولكنها فشلَت حقًّا في إجراء التحوُّل كما ينبغي؛ حيث انحدرت مجتمعاتها إلى حدٍّ مُعين، وفقدَت أيَّ دور دولي أكبر ربما كانت تلعبه سابقًا. وأقترح أنَّ المثال الرئيسي هنا سيكون المصريين خلال القرون التي أعقبَت الانهيار؛ فعلى الرغم من نجاة مصر، فإنها لم تعُدْ كما كانت مطلقًا، ولم ترتفع قَط إلى المكانة القوية التي احتلَّتها ذات يوم خلال فترة المملكة الحديثة. ولمَّا لم تكن هناك تغييرات جوهرية من حيث حُكم الملك والإدارة، أو حتى في دين المصريين، ترجَّح أن مستوى معيشة الشخص العادي قد انخفض. كما شهدَت مصر أيضًا ارتفاعًا في الفوضى، والتمرد، والادعاءات المُتزامنة بالأحقية في الحُكم من فراعنة متنافِسين، والحرب الأهلية، إلى الحدِّ الذي جعَلَ مصر يحكمها في بعض الأحيان ملوكٌ عديدون في الوقت نفسه؛ ولعبَت بالتأكيد دورًا أقلَّ جدًّا في التجارة الدولية خلال القرون التي أعقبَت الانهيار مقارنةً بما كانت عليه في السابق.

ولكنْ، عندما بدأنا مناقشة مصر سابقًا في هذا الكتاب، لاحظنا أن قسمًا كبيرًا من هذه الفترة، بدءًا بوفاة رمسيس الحادي عشر في عام ١٠٧٠ قبل الميلاد، والتي كانت بمثابة نهاية الأُسرة العشرين والمملكة الحديثة، يُعرَف لدى علماء المصريات باسم الفترة الانتقالية الثالثة، مع وجود منافِسين عديدين يدَّعون أحقيَّتَهم في لقب الفرعون في بعض الأحيان. وكانت فترتان مُماثلتان، تُعرفان باسم الفترة الانتقالية الأولى والثانية على التوالي، قد أعقبتا عصر المملكة القديمة وعصر المملكة الوسطى السابقَين. لذا، فإن ما حدَثَ في مصر في أعقاب الانهيار لم يكن جديدًا من نواحٍ عديدة، بل كان بالأحرى دورةً كانت قد جرَت هناك من قبل؛ أي أن هذه هي نسخة مصر الخاصة من الدورة التكيُّفية.

(٣-٤) مجتمعات غير مرنة ولكنْ مع بعض الاستمرارية الثقافية

هنا أودُّ أن أذكر الكيانات التي فشلت في التأقلُم أو التكيُّف أو التحول من المجتمعات التي كانت عليها ذات يوم؛ ولكنْ مع ذلك، فإن أوجه استمراريتها الثقافية لم تتلاشَ تمامًا. أرى أن هذه من المُحتمَل أن تكون إحدى أكثر الفئات إثارةً للجدل، وموضوعًا مفتوحًا جدًّا للنقاش.

إنَّ المثال الأساسي هنا، في رأيي، هو الميسينيون في البر الرئيسي لليونان، الذين كانوا يَبْدون أشدَّ تأثرًا وأكثر هشاشةً ممَّا كان متوقعًا.34 وعلى الرغم من اختفائهم كمجتمع، فإن هناك استمرارية كافية مع خلفائهم، ومعاودة للظهور في نهاية المطاف بحلول القرن الثامن قبل الميلاد، لدرجة أنني أضعهم في هذه الفئة بدلًا من أدنى فئة. وفيما يلي ما يستنِد إليه رأيي هذا.
لا يكاد يوجَد شكٌّ في أن المجتمع الميسيني انتهى حوالي عام ١٠٥٠ قبل الميلاد على أبعدِ تقدير. ونظرًا لانخفاض مستوى المعيشة في اليونان بعد الانهيار، يُمكننا أن نفترض أنهم لم يكونوا مرِنين جدًّا، على الأقل في البداية، وأن الحياة كما عرفوها خلال العصر البرونزي كانت قد انتهت فعليًّا. ولكن ينبغي لنا أن نلاحِظ أنه حتى لو قُلْنا إن مجتمع العصر البرونزي في اليونان انهار تمامًا، فإن الحياة استمرَّت بالفعل لعددٍ كبير من الناس، وخاصة في المستويات الدُّنيا من المجتمع، وإن هناك بالتأكيد استمرارية بين العصر البرونزي والعصر الحديدي في البر الرئيسي لليونان.35

ومع ذلك، يُمكننا أن نقول أيضًا إن اليونانيين الذين نجَوا في نهاية المطاف حوَّلوا ثقافتهم ومجتمعهم وأعادوا تشكيلهما من الأساس. ولم يكن هذا سهلًا ولا سريعًا، ولكننا نستطيع أن نرى تطورًا في أنماط الفخار، وعادات الدفن، وأنواع المنازل، على سبيل المثال؛ فضلًا عن بعض الاستمرارية، في ألقاب بعض الإداريين (مثل باسيليوس) وأسماء الكثير من الآلهة والإلهات، من زيوس وهيرا وما دونهما. ومع ذلك، وكما ذكرنا في بداية هذا الكتاب، من المُستبعَد وجود مَن يَعدُّ نفسه ميسينيًّا بعد حوالي عام ١٠٥٠ قبل الميلاد (وحتى إن كانوا في الواقع قد اعتبروا أنفسهم مجموعةً موحَّدة تُسمَّى الميسينيين، بدلًا من كونهم سكان مملكةٍ مُعينة، مثل ميسيناي أو بيلوس).

وحيث إن الناجين تمكنوا في نهاية المطاف من إعادة البناء والبدء في المُضي من جديد على الطريق الذي سيقودهم إلى اليونان القديمة ثم الكلاسيكية؛ فإنني أقترح أنهم ربما بحلول أواخر القرن التاسع وأوائل القرن الثامن قبل الميلاد كانوا قد تعافوا في النهاية بما يكفي، بحيث يمكن نقْلُهم في تلك المرحلة إلى الفئة الأعلى التالية (رقم ٣). ومع ذلك، فإنهم، في المتوسِّط عبْرَ الزمن، يظلُّون في هذه الفئة (رقم ٤).

وفي هذه الفئة أيضًا، بعد كثيرٍ من المناقشات الداخلية، أودُّ أن أُدرج سكان جزيرة كريت؛ لأنه رغم كونهم أكثر نجاحًا من الميسينيين في التكيُّف، فإنهم فقدوا أيضًا هُويتهم السابقة، أيْ ما نعتبِره «المينويين». وكما أشرنا في الفصل الخامس، فإن المينويين، والمُجتمع المينوي كما كان معروفًا، ولشركائهم التجاريين السابقِين في الخارج أيضًا (أيْ «شعب كِفتيو» عند المصريين و«الكَفتور/الكَفتوريين» عند الكنعانيين والبابليين)؛ لم يعودوا موجودين أصلًا كهُوية مميزة، ربما حتى منذ استيلاء الميسينيين على الجزيرة في منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد؛ رغم أن كثيرًا من السكان استمرُّوا في اجتياز عملية الانتقال إلى العصر الحديدي، وفي النهاية ازدهروا مُجددًا باعتبارهم سكان كريت القديمة.

ومع ذلك، سأكون أول مَن يُشير إلى أن هذا حُكم شخصي؛ لأن سكان كريت كانوا قادرين بالتأكيد على إجراء تعديلاتٍ ثقافية. ورغم أنهم لم يعودوا إلى مستويات المشاركة المينوية السابقة في التجارة الدولية خلال هذه القرون، فقد تمكنوا من ضمان قدْرٍ من الاستمرارية؛ ممَّا أدى في النهاية إلى نشوء دويلات المدن القديمة على الجزيرة، ويمكن أيضًا اعتبارهم قد انتعشوا بما يكفي للارتقاء في النهاية إلى الفئة الأعلى التالية (على الرغم من أنَّ المتوسط على مَرِّ القرون يُبقيهم في هذه الفئة الحالية). وعلى حدِّ وصف سارو والاس، قد يَعتبر المرءُ هذا «انهيارًا إيجابيًّا»، رغم أنني أودُّ أن أشير مرةً أخرى إلى أنه جاء على حساب فقدان هويتهم باعتبارهم «مينويين» (إما على أيدي الميسينيين وإما نتيجةً للانهيار).36

(٣-٥) المجتمعات غير المرنة – التي اختفَت تمامًا

في هذه الفئة الأخيرة، أودُّ أن أضع المجتمعات التي لم تكن مرنةً واختفَت تمامًا، وإن كان من المُحتمل أن بعض الجيوب الصغيرة قد بقيت في المناطق النائية. وهنا نجد الحيثيين وإمبراطوريتهم، الذين فشلوا في الأساس في اجتياز عملية التغيير إلى العصر الحديدي وتنازلوا عن أراضيهم لممالك جديدة، من بينها الأورارتيون في شرق الأناضول وفي نهاية المطاف الفريجيون في وسط/غرب الأناضول، كما أشرتُ في الفصل الرابع. ولكنْ، حتى هنا لا بدَّ أن أكون أكثرَ دقةً؛ لأنني قد سبق أن وضعتُ وناقشتُ أعلاه المجموعات اللاحقة الصغيرة التي نجَت كدويلات مدن حيثية جديدة في الأناضول السورية وشمال بلاد الشام، واستمرَّت في اتباع التقاليد الحيثية في الكتابة والعمارة والأنظمة الإدارية مع إنشاء أنظمتها المستقلة الخاصة. وإضافةً إلى ذلك، رغم أن الحيثيين ربما يكونون قد حكموا معظم الأناضول؛ فإن انهيارهم المجتمعي لم يَعْنِ بالضرورة الموت التلقائي لكلِّ مَن كان يعيش في المنطقة كلها، وخاصة في المناطق الداخلية في مواقعَ مثل تشادير.37
وعلاوةً على ذلك، وبينما أُدرك تمامًا أن هذه ستكون قضيةً تستحقُّ نقاشًا مستمرًّا، فقد وضعتُ أيضًا الكنعانيين الذين عاشوا في جنوب بلاد الشام في هذه الفئة؛ لأنني أراهم بوجهٍ عام إَّما تغلبَت عليهم الممالك الجديدة التي نشأت في المنطقة أو اندمجوا فيها، ومنها إسرائيل ويهوذا، وكذلك فلستيا وأدوم وعمون وموآب. ومع ذلك، فإن هذا يوضِّح بعض المشكلات التي تنطوي عليها محاولة تعيين تسمياتٍ لحالاتٍ مُتغيرة؛ ففي كتابه الأخير عن جنوب غرب كنعان في العصرَين البرونزي والحديدي، زعم إيدو كوخ، من جامعة تل أبيب، أن «المجتمع المُتجدِّد في العصر الحديدي الأول في جنوب غرب كنعان تتبدَّى فيه الاستمرارية والتحول.» ولكنه في الوقت نفسه، يعترِف بأن «البنية الاجتماعية التي نشأت في جنوب غرب كنعان بعد الانهيار، خلال العصر الحديدي الأول، كانت مختلفةً عن سابقتها»؛ وأن «مراكز جديدة … حلَّت محلَّ المراكز التقليدية»؛ وأن «نمط استيطان مختلف قد نشأ.»38
باختصار، حسب تفسيري الموقف كما نفهمه حاليًّا، بينما كان الكنعانيون العرقيون الأفراد (وحتى المجتمعات المحلية الصغيرة) ربما مرِنين إلى حدٍّ ما، لم يعُد من الممكن تحديد المجتمع الكنعاني، ودويلات المدن الكنعانية المنفردة، بشكلٍ قاطع مع استمرار الانتقال إلى العصر الحديدي في جنوب بلاد الشام، حتى مع تأثيرها بلا شكٍّ على الممالك الجديدة التي نشأت في المنطقة. يُمكن تفسير هذا إما على أنه تحوُّل ومرونة عالية من ناحية، وإما على أنه اندماج داخل الممالك الجديدة ومرونة مُنخفضة من ناحيةٍ أخرى. ومع ذلك، كما لم نعُدْ نرى أيَّ ميسينيين أو مينويين يمكن التعرُّف عليهم في منطقة بحر إيجه في أواخر العصر الحديدي؛ فإننا لم نعُد نتحدَّث عمومًا عن الكنعانيين في بلاد الشام في أواخر العصر الحديدي، بل نتحدَّث عن الإسرائيليين واليهوذيين والعمونيين والأدوميين والموآبيين، وهكذا. ولذلك اخترتُ تفسير هذا الموقف باعتباره اندماجًا، وإن كان مع بعض البقايا والتأثيرات الثقافية، ووضعتُ هؤلاء الكنعانيين الجنوبيين في هذه الفئة. وقد يُفضِّل آخَرون رؤيةَ هذا باعتباره تحولًا ناجحًا ووضعهم في فئةٍ أعلى.39

(٤) فئات أخرى؟

هناك مجموعات أخرى قد تندرج أو لا تندرج تحت أيٍّ من الفئات المذكورة أعلاه، اعتمادًا على كيفية تفسير المرء للبيانات المتاحة. على سبيل المثال، إذا كان الإسرائيليون المُوحِّدون قد وُجِدوا بالفعل في منطقة جنوب بلاد الشام لبعض الوقت بحلول تلك المرحلة ونزلوا ببساطة من المرتفعات التي كانوا يعيشون فيها سابقًا (أي «بني إسرائيل المُستترين»، وفقًا لفينكلشتاين)؛ فيُمكننا فصْلُهم على أنهم ثقافةٌ أخرى من العصر البرونزي في المنطقة، أثبتَت أنها مرنةٌ ومُبتكِرة، في حين أنها كانت تتحول في النهاية إلى مملكة إسرائيل الموحدة ثم إلى المَملكتَين المُنفصلتَين لإسرائيل ويهوذا، وكلُّ ذلك أثناء التحول إلى الوضع الطبيعي الجديد. ومع ذلك، إذا كانوا قد هاجروا مؤخرًا إلى المنطقة بأي وسيلة، مثل الخروج التوراتي على سبيل المثال، فسيُنظَر إليهم باعتبارهم وافدين جُددًا يستغلُّون الفوضى التي أعقبَت الانهيار، وتلك ستكون مسألةً مختلفة تمامًا.

وعلى نحوٍ مماثل، إذا كان ابن يوسف على حقٍّ في أنَّ الأدوميين كانوا في السابق بدوًا رُحَّلًا، لكنهم سكنوا منطقة وادي فينان، ثم استقروا لإنشاء مملكة أدوم، كما ناقشنا في الفصل الأول؛ فهل نعتبر ذلك تحوُّلًا حدَثَ كردِّ فِعلٍ على الانسحاب المصري من المنطقة والأحداث الأخرى ذات الصِّلة خلال فترة انهيار أواخر العصر البرونزي؟ أم نتصوَّر أن المملكة تطوَّرت بطريقةٍ أخرى، كما زعم علماء آخَرون، ومن ثَم نعتبرها ببساطةٍ كيانًا جديدًا تمامًا، نَبتَ في ظِلِّ فراغ السلطة بعد الأحداث العاصفة في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد؟

ينطبق وضع مُماثل على الشعوب الأخرى في المنطقة. على سبيل المثال، لم تُحسَم بعدُ مسألة إن كان العمونيون قد هاجروا إلى المنطقة أثناء انهيار أواخر العصر البرونزي، من أماكن بعيدة مثل الأناضول؛ أم هاجروا من أماكن أخرى في كنعان في ذلك الوقت؛ أم كانوا بالأساس من السكَّان الأصليين ونجَوا من الانهيار في المكان نفسه الذي كانت تقع فيه مملكة عمون في العصر الحديدي.40 لقد اقتُرِحَت جميع الاحتمالات. وإذا كان الاحتمال الأخير صحيحًا، فيمكن وضعهم في الفئة ٢؛ وإذا كان أيٌّ من الاحتمالَين الآخَرين صحيحًا، فعلينا أن نفكر في الموضع الذي ينبغي أن نضعهم فيه؛ أو حتى إن كان يصحُّ اعتبارهم جزءًا من المعادلة هنا.
وينطبق الشيء نفسه على موآب والموآبيين، الذين ربما يكونون قد أسَّسوا مملكتهم لأول مرةٍ حوالي عام ١٣٠٠ قبل الميلاد، إن لم يكن قبل ذلك، ولكنهم ربما لم يدخلوا المنطقة قبل عام ١٢٠٠ قبل الميلاد، بل حتى لم يؤسِّسوا مملكتهم قبل القرن الحادي عشر قبل الميلاد. مرةً أخرى، اقتُرِحَت جميع الاحتمالات، ومرة أخرى، لا تزال مسألة الكيفية التي يُمكننا بها تصنيفهم، أو حتى إن كان ينبغي لنا تصنيفهم، مطروحةً للمناقشة في الوقت الحالي.41

•••

أودُّ أن أؤكد مرةً أخرى أنَّ تعييني للمجتمعات المختلفة في الفئات الفردية ونظرتي إلى صعودها وهبوطها على مَرِّ القرون هو أمرٌ أوَّلي وغير نهائي، ويعتمد اعتمادًا تامًّا على معرفتنا الحالية وافتراضاتي ومشاعري الحدسية (مهما كانت غير علمية). قد يُشير مزيد من أعمال التنقيب الأثري في النهاية إلى مسارٍ مختلف لبعضها، لكنَّ التصنيفات المقدَّمة هنا تعكس حاليًّا رأيي الخاص بعد مراجعةِ الأدلة المتاحة.

وإنني أيضًا أظن أنَّ من المُفيد تذكُّر أنَّ وضع كلِّ مجتمع من تلك المجتمعات تغيَّر بمرور الوقت، وهو ما حاولتُ إظهاره في الجدول رقم ٦-٣؛ حيث أشير إلى رأيي حول وضع كل مجتمع قرنًا بعد قرن. قد يكون هذا مفيدًا فائدةً خاصةً؛ نظرًا لأننا سلكنا النهج الجغرافي في الفصول السابقة بدلًا من أن نسلك نهج التسلسُل الزمني.

لا شكَّ في أن علماءَ آخَرين سوف يتبنَّون آراءً مختلفة، وربما يرغبون في وضع مصر في فئةٍ مختلفة؛ على سبيل المثال، إما في مرتبةٍ أعلى مع الآشوريين والبابليين وإما في مرتبةٍ أدنى مع الميسينيين والمينويين، وذلك تبعًا لكيفية النظر إلى عواملَ مثل عدم الاستقرار السياسي. باختصار، أرى أن اقتراحاتي هنا هي بدءٌ للمناقشة، وليست إنهاءً لها.

•••

جدول ٦-٣: المرونة، أو عدم المرونة، حسب المنطقة/المجتمع والقرن قبل الميلاد، مع الإشارة أيضًا إلى مراحل الدورة التكيفية.
المنطقة/المجتمع القرن الثاني عشر القرن الحادي عشر القرن العاشر القرنان التاسع والثامن
مملكة آشور مرنة للغاية؛ غارات آرامية مُستمرة وصراعات عرضية مع البابليين، لكنها لم تتأثر جذريًّا. تتأقلم، لكن الانحدار يبدأ مع بداية الجفاف والمجاعة والطاعون، والتي تستمر حتى القرن التالي. يستمر الانحدار؛ تتأقلم وربما تتكيف، لكنها ببساطة تبقى حتى الثلث الأخير من القرن. التحول إلى الإمبراطورية الآشورية الجديدة؛ بدء غزو الشرق الأدنى.
- مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا - مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا - مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا - مرحلة الدورة التكيفية: ألفا
بلاد بابل - مرنة للغاية؛ غارات آرامية مستمرة وصراعات عرضية مع الآشوريين، لكنها لم تتأثر جذريًّا. - مشكلات شبيهة بتلك التي عانى منها الآشوريون؛ تتأقلم مع بداية الجفاف والمجاعة والطاعون. - الوضع مُماثل لوضع الآشوريين؛ ما زالت تتأقلم وتحاول البقاء فحسب. - ما زالت تتأقلم وتبقى.
- مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا - مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا - مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا - مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا
كنعان (الشمالية) - الانتقال متنوع حسب الموقع؛ فبعض المواقع (على سبيل المثال، أوغاريت) هُجِر، ولكنَّ مواقع أخرى كانت مرنةً للغاية وحظيَت باستمرارية. - مرنة ومتكيفة/متأقلمة؛ من المُرجح أن يكون قد تم بعض الاندماج في كيانات الحيثيين الجُدد السياسية في المنطقة. - مرنة ومتكيفة/مُتأقلمة كما في القرن السابق. - مرنة ومتكيفة/متأقلِمة كما في القرن السابق؛ ومن المُرجَّح أن يكون قد تم اندماج في الممالك الآرامية في شمال سوريا في هذا الوقت.
- مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا. - مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا. - مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا. - مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا.
كنعان (الوسطى): صور، صيدا، جبيل، أرواد، إلخ. - مضادة للهشاشة؛ التحوُّل إلى الفينيقيين، الذين بدَءوا في السيطرة على طُرق التجارة البحرية. - مضادة للهشاشة؛ المشاريع البحرية تستمر. - مضادة للهشاشة؛ المشاريع البحرية تستمر؛ يترك الحكَّام في جبيل نقوشًا. - مضادة للهشاشة؛ المشاريع البحرية تستمر.
- مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا في البداية، ولكنها تنتقل على الفور تقريبًا إلى ألفا - مرحلة الدورة التكيفية: ألفا - مرحلة الدورة التكيفية: ألفا - مرحلة الدورة التكيفية: ألفا
كنعان (الجنوبية) - مرنة في البداية وقادرة على التكيف؛ ربما تحولَت إلى حدٍّ ما، ولكنها لم تكن مضادة للهشاشة في البداية. - ربما كانت مرنة، ولكنْ من المُرجَّح أن الفلستيين وغيرهم بدَءوا في استيعابها. - يمكن تفسير الوضع على أنه تكيُّف من جانب السكَّان الأصليين، ولكن من المُرجح أن الممالك الجديدة التي تأسَّست في المنطقة، بما في ذلك إسرائيل ويهوذا وأدوم وعمون، قد استوعبتها. - ازدهار ممالك متنوعة جديدة، بما في ذلك إسرائيل ويهوذا.
- مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا، ولكنها انتقلت على الفور تقريبًا إلى ألفا - مرحلة الدورة التكيفية: ألفا - مرحلة الدورة التكيفية: ألفا - مرحلة الدورة التكيفية: ألفا
كريت (المينويون) - الاستمرارية والتعديلات الثقافية؛ التكيف التحويلي لتجاوز عملية الانتقال. - المجتمع المينوي في حدِّ ذاته اختفى حاليًّا، ولكنَّ الكريتيين تعافوا وطوَّعوا أنفسهم مع الحقائق الجديدة. - المجتمع الكريتي يستمر؛ اتصالات مُتجددة مع الشرق الأدنى. - الكريتيون يزدهرون.
- مرحلة الدورة التكيفية: في البداية أوميجا، ثم الانتقال إلى ألفا - مرحلة الدورة التكيفية: ألفا - مرحلة الدورة التكيفية: ألفا - مرحلة الدورة التكيفية: ألفا
قبرص قادرة على التكيُّف وربما حتى التحول؛ ربما مضادة للهشاشة؛ إبداع في استخدام الحديد. مرنة ومزدهرة؛ تظهر مدن جديدة وتستمر المدن القديمة، وإن كان مع بعض التغييرات؛ تشارك بنشاطٍ في التجارة الدولية، وخاصة فيما يتعلق بمنتجات الحديد. مرونة مستمرة؛ ممَّا يُمهِّد الطريق للتحول النهائي إلى الحقبة القديمة. القبارصة مزدهرون.
مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا في البداية، لكنها تنتقل على الفور تقريبًا إلى ألفا مرحلة الدورة التكيفية: ألفا مرحلة الدورة التكيفية: ألفا مرحلة الدورة التكيفية: ألفا
مصر تتأقلم، ولكنْ ليس بنجاح كبير؛ تأثرَت بالجفاف والمجاعة والنهب والمشكلات الاجتماعية والسياسية. تستمر مشكلات المرونة، وخاصة مع التفتُّت السياسي، ولكن ربما بدأت في التكيف واستئناف بعض التجارة قُرب نهاية القرن. ظهور المزيد من المرونة وإجراء تحسينات على العلاقات الدولية؛ العودة إلى القوة العسكرية والدبلوماسية في زمن شيشنق. الانحدار مرةً أخرى، مع مشكلات سياسية وفراعنة متنافِسين؛ استولى عليها في نهاية المطاف ملوك كوش من النوبة وحكموها منذ منتصف القرن الثامن.
مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا مرحلة الدورة التكيفية: في البداية أوميجا، ولكن الانتقال إلى ألفا في زمن شيشنق مرحلة الدورة التكيفية: العودة إلى أوميجا
الحيثيون ينتهي المجتمع الحيثي عمليًّا في وسط الأناضول. اختفى الحيثيون. اختفى الحيثيون. اختفى الحيثيون.
مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا
الحيثيون الجُدد استمرار الممالك الحيثية الجديدة في شمال سوريا (شمال كنعان) وجنوب شرق الأناضول. درجات متفاوتة من التحول والتكيف والتأقلم بين المدن والأقاليم الحيثية الجديدة المختلفة. فترة من النهضة؛ يترك الحكام الحيثيون الجدد نقوشًا. ازدهار كركميش ومدن حيثية جديدة أخرى.
مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا. مرحلة الدورة التكيفية: ألفا. مرحلة الدورة التكيفية: ألفا. مرحلة الدورة التكيفية: ألفا.
البر الرئيسي لليونان (الميسينيون/اليونانيون) درجة ما من الاستمرارية، وإن كانت على مستوًى اجتماعي سياسي أدنى بالفعل. المجتمع الميسيني في حدِّ ذاته انتهى بحلول عام ١٠٧٠–١٠٥٠ قبل الميلاد؛ يستمر السكان في البر الرئيسي لليونان على مستوًى اجتماعي وسياسي أدنى. يبدأ المجتمع اليوناني في إعادة البناء من الصفر، ويبدأ عملية التحوُّل والتعافي. اليونانيون يستعيدون عافيتهم.
مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا مرحلة الدورة التكيفية: أوميجا مرحلة الدورة التكيفية: في البداية أوميجا، والانتقال إلى ألفا مرحلة الدورة التكيفية: ألفا

ما يتجلَّى من كل ما سبق، بدءًا بالمحتوى الوارد في الفصول من الأول إلى الخامس، وبالاستمرار وصولًا إلى التحليلات التي قُدِّمَت للتوِّ؛ أنَّ كلَّ حالةٍ كانت فريدةً من نوعها. ومن بين المجتمعات التي كانت نشطةً خلال أواخر العصر البرونزي في منطقة بحر إيجه أو شرق البحر الأبيض المتوسط، بعضٌ كان أكثر نجاحًا في تحمُّل العاصفة من بعض. والأسئلة حول كيف و/أو لماذا كان كلٌّ منها شديدَ التأثر، أو عكس ذلك، في المقام الأول؛ وكيف و/أو لماذا نجح أو فشل كلٌّ منها في التحوُّل إلى الوضع الجديد؛ ليست سهلةَ الإجابة. في الواقع، في بعض الحالات قد نكون غير قادرين على إجابة مثل هذه الأسئلة على الإطلاق؛ بسبب الطبيعة المُجزأة لبياناتنا؛ فنحن غالبًا ما نعتمد اعتمادًا كبيرًا على اكتشافات المقابر والفخار، والتغيرات الملحوظة في أنماط الاستيطان، وما إلى ذلك، كما أشرنا عدةَ مرَّات أعلاه. إننا مثل المُحقِّقين الجنائيين الذين يحاولون إعادة بناء العديد من مسارح الجرائم القديمة، والتي أصبحَت كلها مُعَلَّقةً منذ زمنٍ بعيد؛ ويتبادر إلى الذهن مسلسلات «سي إس آي» و«إن سي آي إس» و«كولمبو» و«كوجاك»، ولكن حتى أولئك المُحقِّقين التلفزيونيين لن يكونوا قادرين على حلِّ أيٍّ من هذه القضايا بحيث تُتاح فرصةٌ كبيرةٌ لإقناع هيئة المُحلفين بالتوصُّل إلى حُكمٍ بالإجماع؛ حتى هيركيول بوارو أو شيرلوك هولمز سيجدان صعوبةً في إنجاز ذلك.

مجددًا، تذكَّرْ أننا مُقيدون جدًّا بحقيقة أنَّ أيًّا من هذه المجتمعات لم يترك أيَّ سجلاتٍ تذكُر على وجه التحديد أنه كان هناك تغيير في نظامهم العالمي. لا شيءَ من قَبيل «في زمن والدي (أو جَدي)، كنا على اتصال بالحيثيين (أو المصريين أو …)، لكننا لم نعُد نراهم هنا»، على سبيل المثال. قد يكون السبب في ذلك بسيطًا مثل حقيقة أن لدَينا عددًا قليلًا جدًّا من السجلَّات المكتوبة التي يرجع تاريخها إلى ما بعد الانهيار مباشرةً؛ تذكَّر أنه كانت هناك فترة في مملكة آشور استمرَّت حوالي خمسة وسبعين عامًا، من عام ١٢٠٨ قبل الميلاد فصاعدًا، لدَينا منها قليل من السجلَّات، للسنوات الخمس والعشرين الأولى، ثم لا سجلَّات ملكية على الإطلاق مدة خمسين عامًا تقريبًا (١١٧٩–١١٣٣ قبل الميلاد). ليس لدَينا أي شيءٍ ذي صلة على وجه التحديد من المُجتمعات الأخرى خلال تلك الفترة أيضًا؛ ولم يذكُر المصريون حتى أيَّ شيءٍ كارثي بشكلٍ خاص بعد ادعاءات رمسيس الثالث المَزهوة بانتصاره على شعوب البحر في عام ١١٧٧ قبل الميلاد، باستثناء بعض المشكلات الداخلية مثل إضراب للعمَّال ثم اغتياله في النهاية. بطبيعة الحال، كان من شأن معظم المراكز التي كانت ستحتفظ بمثل هذه السجلات، ومنها أوغاريت وحاتوسا وميسيناي، أن تكون قد تأثرَت توًّا تأثرًا شديدًا أو تعرضَت للغزو أو هُجرَت في ذلك الوقت؛ لذلك ينبغي ألَّا يكون هذا الافتقار إلى المراجع المكتوبة مفاجئًا.

(٥) شدة التأثر والهشاشة

أخيرًا، أظن أنه يمكننا أيضًا استكشاف وتطبيق المفهومَين الإضافيين لشدة التأثر والهشاشة من نظرية المرونة، والتي قدمتُها قبل بضع صفحات، من خلال النظر مرة أخرى في المحتوى المقدَّم في الفصول أعلاه. على سبيل المثال، يبدو من الواضح تمامًا أن المجتمع الميسيني كان شديدَ التأثر. انهارت جميع الممالك التي نعرفها من هوميروس وغيره من المؤلفين، وكذلك من الآثار القديمة — أثينا، وميسيناي، وبيلوس، وثيفا — وأصبحَت الحياة محليةً أكثر منها عالمية. ومع ذلك، عاود الناجون الظهور في نهاية المطاف لِلَعب دورٍ أكبر على الساحة الدولية بدايةً من القرن الثامن قبل الميلاد، في طريقهم إلى حياة جديدة مثل اليونانيين في العصر الكلاسيكي.42
والسؤال الواضح الذي يجب طرحه في هذه المرحلة؛ هو لماذا كان الميسينيون شديدي التأثر أو هشِّين إلى هذا الحد؟ وهل كانوا أكثر تأثرًا وهشاشة من مجتمعات أخرى؟ وعلاوةً على ذلك، هل عانى الجميع داخل مجتمعهم بالدرجة نفسها؟ هل أثَّر الانهيار على الطبقة الدنيا أو الفلاحين في ريف ميسيناي بالطريقة نفسها التي أثَّر بها على النُّخَب في القصور في ميسيناي؟ هل كان هؤلاء الفلاحون قادرين ببساطة على تجاهُل الأمور ومواصلة الزراعة على مستوى الكفاف في حين أن أفراد العائلة المالكة والنخبة من الإداريين استسلموا أو فرُّوا في مواجهة مشكلاتِ سلسلةِ التوريد في العصر البرونزي؟43 كل هذه المسائل محلُّ نقاشٍ علمي، ويبدو أنه ليس في الأفق حلٌّ واضح.
ومع ذلك، وكما أشرتُ في الفصل الخامس، اقترح عدد قليل من العلماء أن اقتصاد القصور الذي انتهجه الميسينيون لم يعُد مناسبًا للمستويات الدنيا من المجتمع وأن المشاريع الكبيرة المتنوعة، سواء كانت معماريةً أو جغرافية، مثل تجفيف حوض كوبايس، ربما أدَّت إلى إفلاس النظام جذريًّا وتسبَّبت في معاناةٍ شديدة لأولئك الذين لم يكونوا من بين النخبة الذين يعيشون في المراكز الفخمة. على سبيل المثال، اقترحَت إيريكا ويبرج ومارتن فيني أن الانهيار ربما وفَّر بالفعل لغير النُّخَب في البر الرئيسي اليوناني «الفرصةَ السانحة اللازمة للهروب من هيكل اجتماعي وسياسي غير مُستدام.»44
ويتفق جوزيف ماران، الذي أدار أعمال التنقيب في تيرنز لعدة عقود، مع هذا الاقتراح ويُضيف أنه ربما كانت هناك أيضًا مشكلات أخرى طويلة الأمد ومنهجية، منها الصراعات بين النُّخَب في مراكز العاصمة المختلفة، والتي أوهنَت الميسينيين جميعًا، و«التناقُضات الداخلية التي تراكمَت منذ فترة طويلة في سياسات حكومات القصور.» ويشير أيضًا إلى إمكانية حدوث تمرداتٍ داخلية «يدعمها ويُنظِّمها أعضاءٌ محرومون من حقوقهم، من الطبقة الثانية أو الثالثة من النخبة، قد يستعينون بأجزاءٍ من البنية التحتية العسكرية للقصور ويجعلونها تنقلِب على الحكَّام.»45
ولذلك، ربما كان الميسينيون مُهيَّئين للسقوط مَهْما حَدَث، وربما خلقَت المشكلات المختلفة التي نشأت أثناء «العاصفة المثالية» للانهيار، وربما حتى قبل ذلك إلى حدٍّ ما، نقطةَ تحوُّلٍ مجتمعية ثَبتَ أنه من المُستحيل أن يتعافى منها الميسينيون.46 وهذا يعني أنه لم يكن انهيارهم، ولا عدم قدرتهم على التعافي، نتيجةً لمصادفةٍ عشوائية؛ بل قابِلًا للتوثيق ومن المُمكن جدًّا توقُّعه عند إمعان النظر لاحقًا.
وقد تُطرح الأسئلة نفسها بشأن الحيثيين في الأناضول، الذين خاضوا معارك مع مصر للسيطرة على منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط خلال أواخر العصر البرونزي. اختفى أيضًا أثر مجتمعهم اختفاءً جذريًّا، ما عدا دويلات المدن الصغيرة، التي نجَت في جنوب شرق الأناضول وشمال سوريا. هل واصَلَ الناس في المناطق الريفية حياتهم ببساطة أم أن حياتهم تعطلَت بقدْرِ ما تعطلَت حياة أولئك الذين عاشوا في العاصمة حاتوسا؟ يتواصل الجدل هنا أيضًا، على الرغم من أنَّ أطروحة الدكتوراه الأخيرة التي قدمَتها سارة أدكوك في جامعة شيكاغو بحثَت في مثل هذه الأسئلة بالضبط؛ إذ تساءلَت: «في حالة الحيثيين، على سبيل المثال، ماذا كان يعني لسكَّان تشادير الريفية [وهي مدينة في المناطق الداخلية] أن تفقد الإمبراطورية تماسُكها؟ هل تعطلَت أنماط حياتهم، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تفاعلوا؟» وكما لاحظ ميجيل سينتينو وزملاؤه في مشروع «المخاطر النظامية العالمية» في معهد الدراسات الدولية والإقليمية بجامعة برينستون مؤخرًا، فإن «انهيار شخصٍ ما قد يكون فرصةً لشخصٍ آخَر.»47
للمرء، بالتأكيد، أن يزعم أنَّ الحيثيين كانوا على شفير الانهيار على أي حال. فهناك دلائل على وجود صراعاتٍ داخلية داخل العائلة المالكة، من بينها المطالبات بالعرش، وعلى أنهم تخلَّوا عن عاصمتهم السابقة مرةً أخرى (بعد أن فعلوا ذلك سابقًا لفترةٍ قصيرة خلال القرن الثالث عشر قبل الميلاد) وكانوا الآن مُتمركزين في مكانٍ ما في تارخونتاشا بدلًا من حاتوسا. كل هذا من شأنه أن يُسهم أيضًا في هشاشتهم وضعفهم وافتقارهم إلى المرونة وعدم قُدرتهم اللاحقة على التعافي من الانهيار.48
على نقيض ذلك، يبدو أنَّ الآشوريين في شمال بلاد الرافدين لم يكونوا عرضةً للخطر أو هشِّين مثل الميسينيين أو الحيثيين؛ فقد تمكنوا من النجاة من الانهيار سالمين إلى حدٍّ ما. لماذا كان ذلك؟ ما الذي كان مختلفًا بشأنهم؟ أشار الباحث نيكولاس بوستجيت من جامعة كامبريدج إلى الفترة كلها من عام ١٢٠٠ إلى عام ٩٠٠ قبل الميلاد باعتبارها مجرد «ركود» للآشوريين.49 وربما يكون هذا التفسير إيجابيًّا أكثر من اللازم، كما قال البعض، ولكنهم كانوا بالتأكيد مَرِنين في السنوات التي أعقبَت الانهيار مباشرةً. فقد تمكنوا من النجاة على الرغم من حقيقةٍ مفادها أنه من الواضح أن المناخ استمرَّ في لعب دورٍ في المنطقة حتى القرن الحادي عشر وما بعده، مع فتراتٍ طويلة من شُح الأمطار وتغيُّر مجرى نهر الفرات نفسه، وكلُّ هذا أسهم في الجفاف وفقْدِ المحاصيل ونقْصِ الحبوب والمجاعة. كما كانت هناك أوبئة أثَّرت ليس فقط على الآشوريين في الشمال، ولكن أيضًا على البابليين في جنوب بلاد الرافدين.50 ومع ذلك فقد صمدوا.

وبصرف النظر عن التحديات التي تواجههم، يبدو أن الآشوريين لم يفقدوا تمامًا السمات التي تُميِّز مجتمعهم، ولم يضطروا إلى إعادة بناء مجتمعهم بالكامل أو حتى تحويله بقدْرٍ كبير. ورغم أن الفترة التي أعقبَت الانهيار لم تكن ممتعةً للآشوريين، وربما انعكس ذلك في عدم وجود نقوش ملكية لمُعظم القرن الثاني عشر قبل الميلاد، فقد خرجوا سالمين في القرن التاسع قبل الميلاد ومُستعدِّين لتوطيد هيمنتهم الجديدة في جميع أنحاء الشرق الأدنى مدة ثلاثة قرون أخرى، حتى عام ٦١٢ قبل الميلاد.

كان عالمهم قد تغيَّر بالطبع. فقد اختفى معظم الملوك العظماء الآخرين وتبدَّدَت العلاقات الدولية التي كانت قائمةً في العصر البرونزي. وأصبحت النقوش الملكية، عندما نجِدها، معنيةً الآن بالحملات العسكرية فقط تقريبًا، وليس بالتجارة الدولية. ومع ذلك، فإن كثيرًا من السِّمات المُميزة التي يُستشهَد بها عادةً باعتبارها سمةً من سمات عصرٍ من عصور الظلام — ومنها حالات فقدان الإدارة المركزية والاقتصاد، فضلًا عن اختفاء النُّخَب التقليدية والكتابة — لم تظهر في مملكة آشور (أو بلاد بابل، في هذا الصدد) في العصر الحديدي.

على سبيل المثال، استمرَّ استخدام نظامهم في الكتابة المسمارية. وظلَّت النقوش الضخمة تُحفَر على الحجر وتُعَلَّق في القصور والمدن المختلفة، كما كانت خلال القرون السابقة من العصر البرونزي؛ وكانت الرسائل والوثائق لا تزال تُسجَّل على ألواحٍ طينية؛ وظلَّت الهويات الفردية تُسَجَّل على أختامٍ أسطوانية. وعلاوةً على ذلك، استمرَّت النخبة العُليا، أي الملك وأفراد عائلته، إلى جانب أتباعهم وخَدَمهم، كما كانت قبل عام ١١٧٧ قبل الميلاد، دون انقطاعٍ كبير. وكذلك كان حال المسئولين الحكوميين والإداريين، والطبقات المُجتمعية المختلفة، والاقتصاد المركزي.51 وعلى الرغم من التقلُّبات الكبيرة في المناخ والهجمات الخارجية، تمكَّن الآشوريون من شقِّ طريقهم عبر القرون دون تغييرٍ جوهري من حيث الهياكل والمعايير المجتمعية.

ولكنْ مجددًا، لماذا كان هذا هو الحال؟ ولماذا صمدوا أكثر من غيرهم؟ هل كان ذلك بسبب موقعهم عند مُلتقى نهرَي دجلة والفرات؛ حيث لم يتأثروا على الفور بالجفاف أو المجاعات التي أسهمَت في سقوط شركائهم التجاريين وأعدائهم على حدٍّ سواء؟ وهل كانوا بعيدِين عن ساحل البحر الأبيض المتوسط بما يكفي لتجنُّب التعرُّض لهجمات شعوب البحر التي دمرَت الممالك الساحلية؟ وربما كان ذلك بسبب الحظ السعيد المُتمثل في وجود الزعيم المناسب أو الزعماء المناسبين في وقت الحاجة؛ أو بسبب وجود هياكل إضافية كافية، يُمكنها تولِّي مسئولية إدارة دولتهم وسياساتهم؛ أو وجود جيشٍ قادر على محاربة الغزاة و/أو غزو الآخرين للاستيلاء على الموارد التي يحتاجون إليها مع انهيار التجارة الدولية — أو كل ما سبق؟ أو ربما كانوا محظوظين فحسب.

ولكن يبدو أن حقيقة تمكُّنهم من الاستمرار وإثبات قُدرتهم على الصمود؛ لم يكن لها علاقةٌ كبيرة بالمصادفة، ولا بكونهم أفضلَ استعدادًا من بعض الآخَرين.52 وإنما، ربما يكونون قد أثبتوا قدرتهم على الصمود بسبب أربعة أشياء تمكنوا من الاحتفاظ بها لأيِّ سبب كان: حكومتهم المركزية، التي لا تزال بقيادة الملك؛ واقتصادهم الأساسي؛ ونظام الكتابة لديهم؛ وجيشهم.

كما أرى أن كلًّا من الاستجابة والقدرة على الصمود المَعنيتَين تعتمد على ما انهار بالضبط في كل حالة. على سبيل المثال، يمكن للمرء أن يزعم أن سقوط المجتمعَين الميسيني والحيثي كان الأشدَّ؛ لأنَّ كلًّا منهما فقَدَ إدارته المركزية واقتصاده المركزي؛ هذا هو الحال بالتأكيد في حالة الحيثيين، الذين فقدوا إمبراطوريتهم، وربما أيضًا في حالة الميسينيين؛ حيث كان لكلِّ مملكةٍ من الممالك الصغيرة إدارتها المركزية واقتصادها؛ على سبيل المثال، في ميسيناي وثيفا وبيلوس. ولكنْ يمكن للمرء أن يزعم أيضًا أن المراكز الميسينية لم تكن مكتفيةً ذاتيًّا بالقدْر الكافي، وكانت تعتمِد بشكلٍ كبير على واردات المواد الخام مثل النحاس والقصدير والذهب. ويمكن قول الشيء نفسه عن الآخرين أيضًا، من بينهم الحيثيون.

وعلى النقيض من ذلك، لم يفقد الآشوريون والبابليون والمصريون سلالاتهم الملكية في وقت الانهيار، ولا إداراتهم المركزية، ولا اقتصاداتهم؛ لقد عانوا فقط من الاضطرابات التي يمكن التغلُّب عليها من خلال المرونة. لم يحتاجوا إلى إعادة البناء كما كان اليونانيون مُجبَرين على أن يفعلوا. وفي حالة الآشوريين، تمكنوا أيضًا من الاستيلاء، عن طريق الغزو أو الجزية، على المواد الخام التي كانوا في حاجةٍ إليها.

ويشير مؤلفو تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ لعام ٢٠١٢ أيضًا إلى أن «الظواهر المتطرفة ستكون لها تأثيراتٌ أكبر على القطاعات ذات الروابط الوثيقة بالمناخ، مثل المياه والزراعة والأمن الغذائي … على سبيل المثال … هناك ثقة عالية في أن التغيرات في المناخ لدَيها القدرة على التأثير بشكلٍ خطير على أنظمة إدارة المياه.»53 ولذلك، قد يكون من الجدير بالذِّكر أنه من بين المُجتمعات الأربعة التي أعتبرها الأعلى من حيث شدة التأثر بين «القوى العظمى» في أواخر العصر البرونزي — وهي المصريون والآشوريون والبابليون والحيثيون، استنادًا جزئيًّا إلى مكانتهم كما هو موضَّح في رسائل تل العمارنة في القرن الرابع عشر قبل الميلاد — كانت ثلاثةٌ منها تقع على أنظمةٍ نهرية؛ كان المصريون لديهم النيل، حين كان لدى كلٍّ من الآشوريين والبابليين نهرا دجلة والفرات. من ناحية أخرى، لم يكن لدى الحيثيين مثل هذا النظام النهري الكبير والموثوق به في مُحيطهم؛ لم يكن لديهم سوى نهر قيزيل إرماك (خالِص) كمورد مُماثل؛ وهم الوحيدون من بين الأربعة الذين انهاروا تمامًا.
جدول ٦-٤: مصير الحضارات/المجتمعات في القرون التي أعقبت الانهيار.
المجتمع أو الحضارة التي تحولوا إليها المجتمع أو الحضارة التي اندمجوا فيها أو حلَّت محلَّهم
الآشوريون الآشوريون الجدد
البابليون البابليون الجدد
الكنعانيون الأوسطيون الفينيقيون
الكنعانيون الجنوبيون إسرائيل، يهوذا، أدوم، موآب، عمون، فلستيا
القبارصة القبارصة القدماء
المصريون المصريون
الحيثيون (والكنعانيون الشماليون) الحيثيون الجدد (في شمال كنعان وجنوب شرق الأناضول) أورارتو (في شرق الأناضول)؛ الفريجيون (في وسط/غرب الأناضول)
الميسينيون والمينويون اليونانيون والكريتيون القدماء
وإضافةً إلى ذلك، أودُّ أن أقترح، كما فعل آخرون في السابق، أن صعود كيانات العصر الحديدي السياسية الصغيرة، والتي تتراوح بين الممالك الآرامية وإسرائيل ويهوذا، ربما كان ببساطةٍ مسألةَ خروجٍ لممالكها من تحت ظِل الإمبراطوريات العظيمة مثل الحيثيين والمصريين والآشوريين والبابليين، كما يقول رينفرو إنه يحدُث بعد انهيارِ نظامٍ ما، وظهور مؤسسات تجارية خاصة صغيرة تحلُّ محل المشاريع التي كانت تُديرها الدولة في العصر البرونزي. ولكن قد يكون الأمر أيضًا أشبه بالعودة إلى الحال التي كانت عليها الأمور في وقتٍ سابق في الألفية الثانية قبل الميلاد في كلٍّ من كنعان واليونان، خلال العصر البرونزي الأوسط.54 هذه أيضًا أمور تستحقُّ النظر في المُستقبل والمزيد من النقاش.

قد يكون من المُثير للاهتمام أيضًا التأمُّل أكثر في النتائج البديلة التي كان يمكن أن تحدُث، لو أن الأمور سارت على نحوٍ مختلف في حالة بعض المجتمعات، والتساؤل إن كان بإمكان أيٍّ منها تجنُّب مصيره. هناك الكثير من «كان سيحدث كذا، وكان من المُمكن أن يحدث كذا، وكان ينبغي أن يحدُث كذا، وكان يجب أن يحدُث كذا» في هذه المسألة، ولكن من المؤكَّد أنه لو لم تكن العائلة الملكية الحيثية تُعاني من مشكلاتٍ داخلية، ولو لم تنقل عاصمتها إلى مكان آخَر، لمَا انهارت سريعًا وتمامًا هكذا. وبالمِثل، لو كان الميسينيون أكثر اكتفاءً ذاتيًّا، وأقلَّ اعتمادًا على الآخَرين في الحصول على المواد الخام، ولو كانوا قد خفَّفوا من استخدام منتجات البناء والهندسة الاستغلالية التي أثَّرَت على الطبقات الدنيا؛ لكانوا قد نجَوا أيضًا بشكلٍ أفضل.

وعلاوةً على ذلك، ماذا لو لم يَنْهَر مجتمع أو أكثر؟ هل كان النظام كله سينجو لو أن الحيثيين فقط كانوا قد قضَوا نَحْبَهم؟ أم الميسينيون فقط؟ ماذا كان سيحدث لو لم تُدمَّر أوغاريت أو لو لم ينسحب المصريون من منطقة جنوب كنعان؟

كل هذا يصعب نمذجته أو التنبؤ به، حتى في ضوء ما حدث بعد ذلك؛ بسبب تنوُّع العوامل ذات الصِّلة، المعروفة وغير المعروفة. إننا نُعاني من حقيقة أننا لا نزال لا نعرف على وجه التحديد ما الذي أدى إلى انهيار كل مجتمعٍ من المجتمعات؛ من بين ذلك هل كان الانهيار حقًّا نتيجةً لمجموعةٍ من العوامل، كما اقترحتُ في السابق. على سبيل المثال، هل اجتاحت شعوب البحر الميسينيين، أم سحقَتهم الانتفاضات الداخلية في القصور المختلفة؟ أم أن الجفاف هو الذي أدَّى إلى انهيارهم؟ أم كل ما سبق أم شيء آخر تمامًا؟

اعتمادًا على العامل (العوامل) أو الضغط (الضغوط) أو مجموعة العوامل والضغوط، ربما نستطيع أن نقترح حلولًا ممكنةً مختلفة ربما استخدموها في محاولةٍ لتجنُّب انهيار مجتمعاتهم، ولكنَّ هذا يُشكل مادةً خصبةً للتكهُّنات. وهو أيضًا جوهر التفكير الاحتمالي والأساس الذي تُكتب منه روايات الأحداث التاريخية البديلة.55 وبصرف النظر عن ذلك، يُمكننا أن نتخيل السيناريوهات التي نرغب فيها، ولكنْ على حدِّ تعبير عمر الخيام: «يد الخُطَى تمضي ولا ترجعُ، ولا الفطنةُ تجدي ولا تنفعُ، وإن القلمَ إن خَطَّ سطرًا فما يمحوه شيءٌ، لا ولا الدمعُ.»

(٦) الانهيار والتحول

قبل قرابة ثلاثين عامًا، قال عالِم الاجتماع المحترم شموئيل آيزنشتات بوضوح إن «الدول والحضارات القديمة لا تنهار على الإطلاق، إذا كان «الانهيار» يعني النهاية الكاملة لتلك الأنظمة السياسية والأُطر الحضارية المصاحِبة لها.»56 أودُّ أن أختلِف مع تصريحه؛ لأن هذا في الواقع ما حدث بالضبط لكلٍّ من الميسينيين والحيثيين. حتى لو ظلَّت بقايا، كما في حالة الحيثيين الجُدد، وحتى لو كان لا يزال هناك بعض الاستمرارية في الفترة التالية، كما كانت الحال في اليونان مع أسماء الآلهة، على سبيل المثال؛ فإن انهيار العصر البرونزي شَهدَ بالتأكيد النهاية الكاملة للأنظمة السياسية والإطار الحضاري المصاحب لكلٍّ من الحيثيين والميسينيين.
ولكن آيزنشتات استطرد قائلًا: «الانهيار ليس حالةً شاذَّة … فهو لا يُمثِّل في شكلٍ درامي نهايةَ المؤسسات الاجتماعية، بل يُمثل على الدوام تقريبًا بداية مؤسَّسات جديدة.»57 وأنا أَميل إلى الموافقة على هذا الرأي، إلا أنني أودُّ أن أُعيد صياغته على النحو التالي: «قد ينطوي الانهيار على نهاية المؤسَّسات الاجتماعية القديمة وبداية مؤسسات جديدة.»
وبينما بات من الواضح الآن أنَّ انهيار العصر البرونزي كان معقدًا، فمِن الواضح أيضًا أن الانبعاث كان أكثر تعقيدًا؛ فالعبارات التعميمية الشاملة ببساطةٍ لا تُجدي نفعًا. والزعم، كما فعل البعض، بأن الانهيار لم يحدث، بل كان مجرد تحوُّل أو انتقال، ليس فقط غير كافٍ، بل وربما يكون ضارًّا إلى حدٍّ ما؛ لأن استخدام المصطلحات الأخيرة المُملَّة وغير الحسَّاسة فقط، ينطوي على خطر تمويه أهمية العنصر البشري في كل هذا أو التقليل منه، وخاصة فيما يتَّصل بالمعاناة والبؤس اللذَين ربما يكونان قد أثَّرا على كثيرين خلال ذلك الوقت.58
في الفصول السابقة، تأمَّلنا ثمانية أمثلة مختلفة، لكلٍّ منها طريقٌ مُنفصل للعودة إلى النجاح (أو الفشل). لا شك أن نمط الحياة كما كان موجودًا من القرن الخامس عشر إلى القرن الثالث عشر انتهى بعد فترةٍ وجيزة من عام ١٢٠٠ قبل الميلاد. لا جدال في ذلك، في المُجمل. لكنَّ كل منطقة تأثرَت على نحوٍ مختلف؛ سقطَت كلٌّ منها في وقتٍ مختلف قليلًا، وإن كان خلال الفترة العامة نفسها؛ واتخذَت كل منها مسارًا مختلفًا نحو التعافي.59 وكما رأينا، كانت هناك مرونة من جانب البعض، مثل الآشوريين. وكان هناك تحوُّل من جانب آخَرين، مثل القبارصة. وكان هناك أيضًا انهيار كامل، مثل الحيثيين. لذلك أودُّ أن أقترح، كما فعل آخرون سابقًا، أن الانتقال من العصر البرونزي إلى العصر الحديدي في منطقتَي بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسط؛ كان وقتًا للانهيار ووقتًا للتكيف و/أو التحول، اعتمادًا على المكان الذي ينظر إليه المرء في المنطقة. لقد كان الأمر عبارة عن مرحلتَي ألفا وأوميجا (أو بالأحرى أوميجا تليها ألفا)، إذا ما أردنا التعبير عن الأمر بمفردات الدورة التكيفية.

كيف يُمكننا تلخيص كل هذا في جملةٍ واحدة؟ من الواضح أن الجميع في هذه المنطقة كانوا يحاولون التعافي من الانهيار نفسه، ولكنَّ كلَّ مجتمع اتَّبع مساره المنفرد للتعافي، أو لم يفعل. ربما يكون من المفيد أن نتصوَّر الانهيار كجدارٍ أو حاجزٍ بين العصر البرونزي والعصر الحديدي، ولكنَّ هذا الجدار أو الحاجز كان مَساميًّا وسمح لبعض خيوط الاستمرارية بالمرور عبْرَه، بدلًا من حجب كل شيءٍ تمامًا. أو بدلًا من ذلك، يُمكننا أن نتصوَّر كل هذا كسباقِ عَدْوٍ تنافُسي، مثل سباقات الألعاب الأوليمبية، سواء في العصور القديمة أو عصرنا الحالي. بدأ جميع المشاركين في الوقت نفسه ومن خط البداية نفسه، من حيث الاضطرار إلى التعافي في وقتٍ واحد من الانهيار؛ لكنَّهم وصلوا إلى خط النهاية وهم يتعثرون، حيث عبَرَ كلٌّ منهم نقطة النهاية في وقتٍ مختلف، وبعضهم لم يُنهِ السباق على الإطلاق.

(٧) ميسينيون أم فينيقيون؟

ختامًا لمَا تقدَّم، ينبغي أن نطرح مجموعةً أخيرة من الأسئلة: هل تحمِل لنا هذه القصة التي تروي الأحداث التي وقعَت قبل ثلاثة آلاف عام أيَّ دروس إضافية في وقتنا الحاضر؟ وهل هناك ما يمكن تعلُّمه من القصة الدرامية الإجمالية التي تتحدَّث عن نهضة شبكة البحر الأبيض المتوسط العالمية وإحيائها بعد أربعة قرونٍ فقط من انهيار العصر البرونزي؟ وهل هناك إجابةٌ سهلة على السؤال عما ينبغي لنا أن نفعله إذا انهار مجتمعنا/حضارتنا؟

قبل نحو عَقدٍ من الزمن، خلَصَ تقرير الهيئة الحكومية الدولية المَعنية بتغيُّر المناخ لعام ٢٠١٢، الذي استشهدتُ به مِرارًا وتكرارًا أعلاه، إلى أن «إمكانية التأثيرات العالمية المُتسلسلة للظواهر المُتطرفة تستمر في النموِّ مع تزايُد ترابُط اقتصاد العالَم.»60 ويبدو من المناسب أن أقتبس ذلك هنا، في الفقرات الأخيرة من هذا الكتاب؛ لأنني أزعم مرةً أخرى أن نقاط ضَعفنا وهشاشتنا المجتمعية قد انكشفَت فجأةً عندما تفشَّى كوفيد-١٩ لأول مرة في جميع أنحاء العالَم في عام ٢٠٢٠ ثم مرة أخرى عندما تطوَّرت المشكلات المتعلقة بسلسلة التوريد العالمية لاحقًا خلال الجزء الأخير من عام ٢٠٢١. إنني لا أُبالغ عندما أقول إنني شعرتُ حقًّا في بعض الأحيان وكأننا أنفُسنا على وشك انهيارٍ مُجتمعي، «سيأتي قريبًا إلى منطقةٍ قريبة منك»، كما يقولون في الأفلام. متى سيحدُث ذلك؟ ما نقطة التحول لدَينا؟ لا أستطيع أن أجزم، كما هو واضح، ولكنني أظنُّ أن الأمر سيحدث عاجلًا وليس آجلًا — فالأمر يتعلَّق بالتوقيت وليس بالاحتمالية — وأننا سوف نحتاج إلى الاستفادة من الدروس التي تعلَّمناها من أولئك الذين نجَوا من انهيارٍ مجتمعي منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، من بينها كيفية التحوُّل بدلًا من مجرد التأقلم أو التكيف واعتماد إبداعاتٍ واختراعات جديدة حسب الحاجة.

لا شكَّ في أن هناك دروسًا يجب تعلُّمها، ولكنْ من المؤسِف أنه لا توجَد إجابة سهلة لمَا ينبغي فِعله؛ لأن هذا يعتمد في نهاية المطاف أيضًا على الضغوط أو الدوافع التي قد تكون مُتضمَّنة. وبغضِّ النظر عن ذلك، فإن المنطق يُملي علينا أن نحتفِظ بخُطط طوارئ متعددة، بحيث إذا فشلَت الأنظمة الأساسية للإدارة أو التجارة أو الإنتاج الزراعي أو الخدمات المصرفية، فهناك نظامٌ ثانٍ، أو حتى ثالث، يمكن تطبيقه دون تأخير غير مُبرَّر في كل حالة. باختصار، نحن بحاجة إلى وجود نُظم إضافية كافية للرجوع إليها إذا فشلَت الأنظمة الأساسية. ونحن بحاجة أيضًا إلى أن نكون مرِنين بما يكفي لتحمُّل أي ضرباتٍ قد تأتي؛ ومُكتفين ذاتيًّا بما يكفي للبقاء صامِدين حتى لو سقط شركاؤنا التجاريون (أو عندما يسقطون)؛ ومُبتكِرين بما يكفي للتكيُّف أو التحوُّل حسب الضرورة؛ وأقوياء بما يكفي للتصدِّي لأيِّ غزوٍ أو هجوم من جانب العدو، حتى في الوقت الذي نترنَّح فيه بالفعل. ولكنَّ كل هذه التوصيات هي توصياتٌ منطقية، ربما يقترِحها آخرون حتى من دون دراسةِ ما حدَثَ في أعقاب انهيار أواخر العصر البرونزي.

إن النتيجة الرئيسية التي يمكن استخلاصها من كلِّ هذا هي أنه من الواضح أن النجاة من مثل هذا الانهيار مُمكنة، شريطة أن نتمتَّع بالقدْر الكافي من المرونة والقدرة على التأقلم أو التكيف أو التحول حسب الضرورة. إن الانهيار المجتمعي لا يأخذ الجميع معه دائمًا، وغالبًا ما تستمرُّ الثقافات، حتى لو على مستوًى أبسط أو ربما في نسخةٍ جديدة.61 وحتى في حالة أولئك الأكثر تضررًا، غالبًا ما تكون هناك فترة من إعادة التكوين بعد أسوأ الأوقات؛ تؤدي إلى استئناف الحياة والازدهار والسعادة (كما يقول المصريون القدماء).
ولذلك، إذا انتهت حضارتنا التي تسودها العولمة، فإن كيفية تعامُلنا مع ذلك ستعتمد على مدى شمول الانهيار ومدى استعدادنا له سابقًا. ولنأمُل ألَّا يصل الأمر إلى هذا الحد، ولكن تذكَّروا بدلًا من ذلك كلمات جون وودِن، المدرب الذي عمل لفترةٍ طويلة في فريق كرة السلَّة بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس (وربما بنجامين فرانكلين من قبله): «إذا فشلتَ في الاستعداد، فأنت تستعدُّ للفشل.»62

فيما يتعلق بأولئك الذين ينظرون بيأس إلى الهاوية الحالية المُتمثلة في الاحتباس الحراري العالمي، والعنف الذي لا نهاية له، ونقص الموارد، والجفاف، والتلوث؛ قد يكون مما يبعث بعض الطمأنينة أن نعرف أنه إذا طوَّرنا استراتيجيات المرونة الصحيحة، فقد نتمكَّن من تقليل الضرَر وكذلك تسريع التعافي بعد انهيار المجتمع. على أقل تقدير، يُمكننا أن نأمُل في أن يكون هناك شخصٌ ما مُتبقٍّ لاستدراك الأمر والاستمرار.

أفكر هنا أيضًا في أستاذٍ للإدارة والتسويق في جامعة ولاية لويزيانا يُدعى ليون ميجينسون الذي أعاد صياغة كتاب «أصل الأنواع» لتشارلز داروين في عام ١٩٦٣ على النحو التالي: «ليس أكثر الأنواع ذكاءً هو الذي يبقى على قيد الحياة؛ وليس أقوى الأنواع هو الذي يبقى على قيد الحياة؛ ولكنَّ النوع الذي يبقى على قيد الحياة هو النوع الذي يكون أكثر قدرةً على التكيُّف ومجاراة البيئة المُتغيرة التي يجد نفسه فيها.»63 ويبدو هذا بالتأكيد منطبقًا على ما رأيناه خلال قرونِ العصر الحديدي في منطقتَي بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسط، وسيكون من الجيد أن نضعه في الاعتبار من أجل المُستقبل أيضًا.
جدول ٦-٥: الدروس المجتمعية المستفادة من انهيار أواخر العصر البرونزي وما بعده.
١ ضع خُطط طوارئ مُتعددة وأنظمة إضافية يمكنك الرجوع إليها إذا فشلَت خُططك الأساسية.
٢ كن مرِنًا بما يكفي لتحمُّل أي ضربات قد تأتي، وقويًّا بما يكفي لتحمُّل أي غزوات أو هجمات من العدوِّ.
٣ كن مُكتفيًا ذاتيًّا قَدْر الإمكان، ولكنْ لا تتردَّد في طلب المساعدة من الأصدقاء عند الحاجة.
٤ كن مبتكرًا ومبدعًا، ومُستعدًّا للتحول بسرعة والتكيُّف أو التحول، بدلًا من مجرد التأقلم.
٥ استعدَّ للظروف الجوية القاسية: إذا حدثَت، فستكون مُستعدًّا؛ وإذا لم تحدُث، فلن يكون الأمر مُهمًّا.
٦ تأكَّد من وجود موارد مائية يمكن الاعتماد عليها.
٧ حافظ على سعادة الطبقة العاملة.
إذن، هل نحن ميسينيون أم فينيقيون؟ هل نحن أكثر ضعفًا وهشاشة اليوم ممَّا قد نرغب في الاعتراف به؟ إذا رأينا المشكلات تستمر في التأثير علينا، فهل سنتحول؟ هل سنكون مبتكِرين ومُبدعين؟ هل سنزدهر في محيطٍ من الفوضى؟ أم سنُظهر ببساطةٍ القدرةَ على التأقلم أو التكيف، ونحاول فقط مجاراة الموقف؟ أو ما هو أسوأ من ذلك، هل سنختار ألَّا نفعل أيَّ شيءٍ ونخاطر بالتعرُّض لفشلٍ متتالٍ وانهيار مُمَنهَج، مكرِّرين ما حدَثَ قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام؟64

سيتعيَّن علينا ترك الأمر لأكاديميي القرن القادم أو ما بعده لإعداد تقريرٍ مُفصَّل وتحليلٍ لكيفية استجابتنا … وهل كنا ناجِحين أم لا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥