الفصل الثالث

العهد التركماني (٨١٣–٩١٤)

القبائل التركمانية تتشعب عن القبائل التركية الكثيرة العدد، ومواطنهم الأصلية بين بلخ وبحر الخزر وديار الروس وإيران، وأكثرهم في الأصل أهل خيام يعيشون عِيشةَ البداوة، وكانت بعض بطونهم تقتني الشياه السُّود فلقَّبوه بذلك، فأطلق عليهم اسم «قره قوينلو»، وبعضهم يظن أنَّ شارة الشاة السوداء التي كانت على أعلامهم في قديم الدهر هي السبب في هذا اللقب.

وممن اشتهر من رجال هذه القبيلة السلطان قره يوسف المذكور الذي استولى على ملك السلطان أحمد الجلائري كما مرَّ آنفًا، وفي سنة ٨٢٣ تُوفِّي الأمير قره يوسف، ولما شاع موته طمع الناس بابنه محمد شاه صاحب بغداد. وفي سنة ٨٣٦ تمكَّن قائد يُقَال له إسبان من الاستيلاء على بغداد خلسة، وفرَّ منها السلطان محمد شاه، ثم كانت بينهما حروب انتهت بقتل السلطان محمد شاه سنة ٨٣٧ في بلدة الشيخان، وكانت سيرته في صدر المدة التي حكم فيها بغداد محمودة، ولكنه في السنين الأخيرة من حكمه ضعف واستكان، واختلت الأمور عليه، وفي يوم الثلاثاء ٢٨ من ذي القعدة سنة ٨٤٨ تُوفِّي الأمير إسبان في بغداد، وكان له ولد صغير اسمه فولاذ، استقرَّ رأي الأمراء والحاشية على توليته وحكم بغداد باسمه، ولم يكن إسبان يَمُتُّ إلى قره قوينلو بنسب، وكان شديد الوطأة على الناس، ملحًّا في جمع المال، وبعضهم ينطقه أصبهان. ولعل الأصل كذلك فحرفته العامة، وانتقل أمر بغداد بعده إلى شبه الفوضى، ولم يَزَل التنازع قائمًا بين المتغلبة، وبغداد تتحمل أثقل أعباء هذا النزاع إلى أن تسلط عليها جهانشاه ابن السلطان قره يوسف سنة ٨٥٠، وولى عليها ولده محمدي ميرزا، وكان صغيرًا فعهد بتدبير المملكة إلى الأمير عبد الله، وفي ١١ من رمضان سنة ٨٥٢ عزل السلطان جهانشاه ابنه محمدي ميرزا، وعهد بولاية بغداد إلى ابنه بيير بوداق، فأقام بها مدة ثم سافر إلى تبريز، ثم عاد إليها مراغمًا لأبيه جهانشاه؛ فجهز أبوه جيشًا كثيفًا وحاصره فيها سنة ٨٦٩، فدام الحصار نحوًا من سبعة عشر شهرًا، أخرج في أثنائها بيير بوداق أكثر سكان بغداد إلى خارج السور بعد أن صادرهم ونهب ما عندهم، وانتهى الأمر بتسليم المدينة إلى جهانشاه وقتل ولده بيير بوداق سنة ٨٧٠، فولَّى على بغداد بيير محمد الطواشي ورجع إلى تبريز، فحصلت بينه وبين السلطان حسن الطويل من قبيلة آق قوينلو — تركمانية أيضًا — وقائع انتهت بقتل جهانشاه سنة ٨٧٢، فسار حسن الطويل نحو بغداد وحاصرها في ٢٠ رجب سنة ٨٧٢، وكان فيها بيير محمد الطواشي الذي ولَّاه جهانشاه. وفي ١٥ من رمضان ترك حصار بغداد وذهب إلى تبريز، وفي ٢ من رجب سنة ٨٧٣ تُوفِّي بيير محمد الطواشي والي بغداد، وأوصى بالولاية إلى حسين بن علي بن زينل، وكان من أهل السيرة الحسنة والأخلاق الفاضلة. وفي ٢ من ربيع الآخر سنة ٨٧٤ تُوفِّي حسين بن علي وخلفه أخوه منصور بن زينل، وتُوفِّي في العام نفسه، وفي ١٤ من جمادى الآخرة سنة ٨٧٤ استولى جيش السلطان حسن الطويل على بغداد بقيادة ابنه مقصود، وبذلك ابتدأ حكم الدولة التركمانية الثانية المعروفة بآق قوينلو، وكانت تحكم بغداد بواسطة ولاة تُعيِّنهم، وكان أكثرهم من أبناء السلطنة، وكانت بغداد تُدار على وجه يشبه الاستقلال، أو ما يُسمِّيه أبناء هذا العصر «اللامركزية»، ويُقال في سبب تسميتها «آق قوينلو» ما قِيلَ في قره قوينلو، وكانت تقيم في جهة ديار بكر.

وأول من اشتهر من رجالها في التاريخ السياسي أحمد بك وبيير علي بك وقره عثمان، وهو من مشاهير الشجعان، ثمَّ حفيده حسن الطويل بن علي، الذي استولى على بغداد وكان مشهورًا بالعدل والشهامة وشدة البأس في الحروب، وباستيلائه على بغداد استولى على العراق كله، كما كان قد استولى على الكثير من بلاد إيران، واستقرَّ الأمن وسادت الطمأنينة في بغداد وما حولها. وفي ٢٧ رمضان سنة ٨٨٢ تُوفِّي السلطان حسن الطويل، وخلفه على الملك ولده الأكبر خليل، وفي سنة ٨٨٣ قُتِل السلطان خليل وخلفه على الملك أخوه يعقوب بك، وكان على بغداد والٍ اسمه «كَلابي» فعزله السلطان يعقوب في ١٥ من ذي الحجة سنة ٨٨٣، وفي ١١ من صفر سنة ٨٩٦ تُوفِّي السلطان يعقوب وخلفه على الملك ابنه بايسنقر، وفي سنة ٨٩٨ قُتِل بايسنقر واستولى على الملك رستم بك، وتُوفِّي رستم في شهر ذي القعدة سنة ٩٠٢ وتولى مكانه أحمد بادشاه، وكان رستم هذا شديد الميل إلى النساء، فاستولين على عقله وعبثن بإدارة ملكه. ولم يزل أمراء آق قوينلو يقتتلون فيما بينهم حتى ظهرت الدولة الصفوية عليهم وغلبتهم على أمرهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤