الفصل الثالث

المدارس

كانت المساجد — والمساجد الجامعة على الأخص — مباءة لأشياخ العلم، ومُرادًا لتلاميذهم، فكان الشيخ يجلس إلى سارية من سواري المسجد، ويُحلِّق أمامه الطلبة، فيقول وهم يسمعون أو يقرأ أحدهم وهو يسمع ويشرح ويوضح، فكان كل مسجد بمثابة جامعة تتألَّفُ من عدة كليات، فإن المسجد الجامع الواحد قد يَضمُّ من حلقات العلم العدد العديد. فهناك حلقات لتدريس علم الكلام، وهناك لتعليم الفقه، وأخرى لرواة الحديث. وهكذا تجد المسجد الواحد يشتمل على حلقات كثيرة لعلوم كثيرة ما بين شرعية ولسانية وكونية، وفي جنب هذه المؤسسات مدارس لا تكاد تُحصَى عدًّا، ويقصر التعليم فيها على مبادئ القراءة والكتابة وبسائط علم اللغة والحساب، ويُعنَى فيها عناية خاصة بتدريس القرآن الكريم، يُطلَق عليها اسم الكتاتيب — الواحد منها كتَّاب — وهي بمثابة المدارس الأولية اليوم. وهذه الكتاتيب قد تكون في المساجد وقد تكون في البيوت الخاصة، والقائمون على التعليم فيها يُقال لهم المعلمون، ومن هنا يُفهَم أن التعليم ينقسم في تلك العصور إلى قسمين: أوليٍّ، وعالٍ. أما التعليم الذي نُسمِّيه اليوم بالتعليم الثانوي فإنه يندمج في التعليم العالي اندماجًا تامًّا.

وهنالك مدارس كثيرة لتأديب الجواري وتثقيفهن، والجارية التي تتأدب وتتهذب تغلو قيمتها وتعلو مكانتها.

وأول مَنْ نعلمه أمَرَ ببناء مدرسة مستقلة عن الجوامع في بغداد أحمد بن طلحة الموفق الملقب بالمعتضد (المتوفى سنة ٢٨٩)، فإنه عندما وضع الخطة لإنشاء قصره في الشماسية استزاد المهندسين في الذرع، فسُئل عن ذلك فذكر «أنه يريد أن يبني فيه دُورًا ومساكن ومقاصير يرتب في كل موضع رؤساء كل صناعة ومذهب من مذاهب العلوم النظرية والعملية، ويُجري عليهم الأرزاق السنية ليقصد كُلُّ من اختار علمًا أو صناعة رئيسًا ما يختاره فيأخذ عنه.»١
  • النظامية: ثم بنى الحسن بن علي الملقب بنظام الملك وزير ملكشاه السلجوقي مدرستَه المعروفة بالنظامية، وأتمَّ بناءها سنة ٤٥٩، وكانت في الجانب الشرقي. ذكر المؤرخون أنها افتُتِحتْ في يوم السبت عاشر ذي الحجة من السنة المذكورة، وكان يوم افتتاحها يومًا مشهودًا، حضره رجال الدولة والعلماء والأعيان وغيرهم … ورُتِّبت فيها جرايات ومعاليم للمدرسين وللطلبة.

    وقد تخرج فيها من أساطين العلم وأساتيذ الفضل جماعة كبيرة، وكفاها فخرًا أن يكون من أساتذتها أبو إسحاق الشيرازي كبير فقهاء الشافعية والإمام أبو حامد الغزالي وأبو بكر محمد بن أحمد الشاشي كبير فقهاء الحنفية وغيرهم وغيرهم.

    قال المحقق السيد محمود شكري الألوسي في كتابه «تأريخ مساجد بغداد»:

    لم ندرك نحن ولا آباؤنا أثرًا من آثارها … ولم يَبْقَ منها سوى بقايا مِئذنةٍ بقيت تشكو بلسان حالها …

    وقد نظم شاعر العصر الأستاذ الرصافي قصيدة على لسان هذه المدرسة جاء في مطلعها:٢
    قَوَّضَ الدهر بالخراب عمادي
    ورمتني يداه بالأنكادِ

    ومنها:

    طالما رفرفت من العلم رايا
    تُ فخارٍ مني على بغدادِ
    أهلَ بغداد ما لأعينكم تغـ
    ـمض عني كأنكم في رقادِ؟!
    أهل بغداد هل ترق قلوب
    منكم راعها انقضاض عمادي؟
    رقَّ حتى قلب الجماد لفقدي
    فَلْتَكُونَنْ قلوبكم من جمادِ
  • البيمارستان: في أواخر العصر الثالث وأوائل الرابع أُنْشِئَ معهد للطب أُطلِقَ عليه اسم البيمارستان، وكان الطبيب الكبير أبو بكر الرازي المتوفى سنة ٣٢٠ يدرِّسُ فيه الطب. وقد أنشأ عضد الدولة بن بويه بيمارستانًا آخر على أنقاض قصر الخلد، أطلق الناس عليه اسم البيمارستان العضدي، وأطلقوا على الذي قبله اسم البيمارستان العتيق، والبيمارستان العتيق يُعتبَر أول مدرسة طبية نظرية وعملية أُنشِئَتْ في بغداد، وكلا البيمارستانين في الجانب الغربي. قال ابن جبير: «وبين الشارع ومحلة باب البصرة سوق المارستان، وهي مدينة صغيرة فيها المارستان الشهير ببغداد وهو على دجلة، ويتفقده الأطباء كل يوم اثنين وخميس ويطالعون أحوال المرضى به، ويُرتِّبون لهم أخذ ما يحتاجون إليه، وبين أيديهم قومة يتولَّون طبخ الأدوية والأغذية، وهو قصر كبير فيه المقاصير والبيوت وجميع مرافق المساكن الملوكية …» ا.ﻫ. والظاهر أن هذا البيمارستان عاش إلى ما بعد سقوط بغداد بيد المغول، فقد ذكره ابن بطوطة في سنة ٧٢٧ قائلًا: «وهو قصر كبير خربٌ بقيت منه الآثار.» ولم يَبْقَ اليوم لهذا البناء أثر يُهتدَى به إلى مكانه.
  • المستنصرية: هي المدرسة العباسية الوحيدة التي بقيت إلى يوم ماثلة للعيان، محتفظة بالكثير من الكتابات التي سطرها بُناتها على جدرانها. وقد أطنب المؤرخون في وصفها، وكتب المعاصرون الرسائل الخاصة بها، وحبروا المقالات الطويلة في مبتدأ خبرها ومنتهى أمرها. وعلى الجملة، فإنَّها آخر مدرسة بناها خلائف بني العباس، وقد بقيت تعجمها الكوارث وتزحمها الحوادث، وتمر بها القرون مرور الريح فوق الجبل الأشم. تَمَّ بناؤها وفتحت للتدريس أبوابها سنة ٦٣١، وكان يوم افتتاحها يومًا مشهودًا حضره الخليفة والوزير وكبار رجال الدولة والعلماء والأدباء والأعيان وسائر الوجوه في بغداد، وأنشد الشعراء قصائد التهنئة والثناء في ذلك اليوم، وحُمِلَ إليها من قصور الخلافة في ذلك اليوم مائة وستون حملًا من الكتب، سوى ما نُقِلَ إليها بعد ذلك وما أحضره أرباب الدولة والمتمولون من كتبهم تقربًا إلى قلب الخليفة، ورُتِّبَ فيها مدرسون على المذاهب الأربعة لكل مدرس أربعة معيدون، ورُتِّب لخزانة كتبها خازن ومساعدون، وأُجرِيَ على كل طالب في المدرسة في كل يوم أربعة أرطال من الخبز وكمية معينة من الطبيخ، ورُتِّبَ لكل طالب أيضًا ديناران في الشهر، إضافة إلى ما رُتِّبَ لهم من الحلوى، والفاكهة، والصابون، والزيت.

    وعُيِّنَ فيها مدرسون لإقراء القرآن وللحديث وللنحو وللطب، وأُجرِي على المدرسين والمعيدين وسائر الموظفين ما يكفيهم من الأرزاق اليومية والشهرية، وقد بلغ ريع ما وُقِف عليها من العقارات والمسقفات أكثر من سبعين ألف مثقال سنويًّا. وقد زار ابن بطوطة هذه المدرسة وحضر التدريس فيها.

    ولما دخل المغول بغداد لم تسلم هذه المدرسة من يد الاعتداء، فقد عصفت بكتبها وأثاثها عاصفة النهب والتبديد، ثم أُعيدت إلى سابق عهدها، وأُعيدت إليها أوقافها، ولم تَزَل على ذلك إلى العهد العثماني، وهناك جرَّدَها المتغلبون من أوقافها، فبقيت تعالج السكرات إلى أن عُهِدَ بولاية بغداد إلى سليمان باشا المتوفى سنة ١٢١٧، فجعل المستنصرية مستغلًّا لمدرسته «السليمانية»، ومنذ ذلك الحين صارت المستنصرية خانًا تُخزَّن فيه السلع، ثم إنَّ المجلس العسكري استأجرها من دائرة الوقف لعدة سنوات بمبلغ زهيد، ولم تلبث الدوائر العسكرية أن ادَّعَتْ ملكيتها وباعَتْها لدائرة الرسومات سنة ١٣١١، وهنا وصلت بها الحال إلى أدنى دركات الهوان، فرثاها الشعراء المعاصرون رثاء أبكى العيون، فمن ذلك قول جميل صدقي الزهاوي — عليه الرحمة:

    وقفت على المستنصرية باكيا
    ربوعًا بها للعلم أمست خواليا
    وقفت بها أبكي قديم حياتها
    وأبكي بها الحسنى وأبكي المعاليا
    وقفت بها أبكي بشعري بُنَاتَها
    وأنعى سجاياهم وأنعى المساعيا
    بكيت بها المدفون في حجراتها
    من العلم حتى بَلَّ دمعي ردائيا

    وقد جدَّ بعض الأحرار الغُيُر، فأثبتوا أمام المحاكم أنها المدرسة المستنصرية، فأعادوها إلى دائرة الأوقاف على الرغم من أنوف الجاهلين، وفي النية رمها وإصلاحها وجعلها معهدًا علميًّا يلتئم مع حاجة العصر الحاضر.

    ويظهر أن البغداديين قد جدُّوا بعد إنشاء المدرسة النظامية بإنشاء المدارس على نمطها، حتى صارت تُعَدُّ المدارس الكبيرة في بغداد بالعشرات. قال ابن جبير: «والمدارس بها نحو الثلاثين، وهي كلها بالشرقية، وما منها مدرسة إلا وهي يقصر القصر البديع عنها، وأعظمها وأشهرها النظامية …»

  • مدرسة مرجان: ذكرنا سالفًا أن مرجان كان مملوكًا روميًّا للسلطان أويس الجلائري، وأنه أنشأ هذه المدرسة ورصد لها الأوقاف الكثيرة، وألحق بها مسجدًا أصبح اليوم مسجدًا جامعًا، وقد غلب اسم المسجد الجامع على هذه المدرسة، فالناس اليوم يعرفون «جامع مرجان» أكثر مما يعرفون «مدرسة مرجان» مع أن المدرسة كانت هي الأصل.

والمدارس القديمة اليوم في بغداد كلها متصلة بالمساجد، وهي كثيرة تُدرَّسُ فيها العلوم الشرعية واللسانية وبعض العلوم الكونية، وقد يكون للمدرسة الواحدة منها أكثر من مدرس واحد. وكل المدارس القديمة ببغداد دينية ومناهجها تابعة للتقاليد القديمة، عدا دار العلوم الدينية والعربية، فإنها مؤسسة على النمط الحديث، وتتألف من قسم ثانوي وقسم عالٍ، وتُدرَّس فيها مع العلوم الدينية والعلوم اللسانية علوم أخرى لا يمكن أن يستغني عنها علماء الدين في هذا العصر؛ مثل: علم الاجتماع، وعلم النفس، وأصول التعليم، وغيرها. وأكثر طلابها يعيشون على نفقة مديرية الأوقاف العامة. وهذه المدرسة واقعة إلى جوار مشهد الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه.

أما المدارس الحديثة فقد بُدِئَ بإنشائها في بغداد على عهد الوالي مدحة باشا، ولكنها كانت قليلة، ولغة التدريس فيها هي اللغة التركية. ولما أُنشِئَت الحكومة الوطنية وجَّهَت جُلَّ عنايتها إلى الإكثار من هذه المدارس على اختلاف مراحلها من ابتدائية وثانوية وعالية. ففي سنة ١٩٤٢-١٩٤٣ الدراسية بلغت مدارس الأحداث في بغداد ٢٥ مدرسة يقوم بالتعليم فيها ١٦٦ معلمة، وهذه المدارس تجمع بين جدرانها البنات والبنين. وبلغت المدارس الابتدائية في السنة نفسها عدا مدارس الأحدث ٩٥ مدرسة منها ٣١ مدرسة للإناث يقوم بالتعليم فيها ٧٠٧ من المعلمين والمعلمات، وبلغت المدارس المتوسطة والإعدادية عشرين مدرسة، ثمانٍ منها للإناث، يقوم بالتدريس فيها ٢٠٠ مدرس ومدرسة. وفي العاصمة سبع من دور المعلمين والمعلمات، منها ثلاث للمعلمات وواحدة عالية، يتألف طلابها من الجنسين، وهناك مدرسة للصنائع وأخرى للزراعة وأخرى للفنون البيتية. وفي بغداد من المدارس العالية — عدا دار المعلمين العالية — كلية للحقوق وكلية للطب وكلية للصيدلة وكلية للهندسة وكلية لتخريج الضباط تابعة للجيش، وقد وُضِع تصميم لإنشاء كلية عالية لتخريج ضباط الشرطة.

هذه هي المدارس التابعة لوزارة المعارف مباشرة، أمَّا المدارس الأهلية الابتدائية فتبلغ ٤٢ مدرسة منها ١٩ للإناث يقوم على التعليم فيها ٣٤٤ معلمًا ومعلمة، وبلغت المدارس المتوسِّطة والإعدادية الأهلية ١٦ مدرسة منها ٣ للإناث يقوم على التدريس فيها ١٠٧ من المدرسين والمدرسات، وفي بغداد مدرستان ابتدائيتان أجنبيتان وسبع متوسطات وإعداديات يقوم على التدريس فيها ٥٧ مدرسًا ومدرسة.

ومجموع طلاب المدارس في العاصمة يبلغ زُهاء ٣٠ ألف طالب وطالبة، ومجموع طلاب المدارس الرسمية في العراق لسنة ٩٤٢-٩٤٣ زهاء ١٠٥ آلاف، ومجموع المدارس الرسمية ٨٦٣ مدرسة يقوم بالتدريس فيها ٤٦٤٧ مدرسًا.

وبلغت حصة المعارف في ميزانية الدولة لسنة ٩٤٣-٩٤٤ و١١٠ و١٢٠٤ و٢ من الدنانير وهي أكثر من عُشر ميزانية الدولة.

١  المقريزي ج٤ ص١٩٢.
٢  ديوان الرصافي ص٣٥٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤