الفصل الخامس

خزائن الكتب

كان خلفاء بني العباس والأثرياء من رجال دولتهم يبذلون جهودًا مشكورة في جمع الكتب النادرة، ويسهلون على أهل العلم الانتفاع بها، فكانت قصور الخلفاء والكبراء تتزين بخزائن تشتمل على العدد الكثير من الكتب، وقد أنشأ الرشيد بناية خاصة في قصره جمع إليها الكثير من الكتب العربية وغير العربية، ثم جاء المأمون من بعده فزاد في ثروة هذه الخزانة، وأطلق على البِناية التي تضمنتها اسم «بيت الحكمة»، فكانت تشتمل على الكتب الشرعية واللسانية وما تُرجِم عن اليونانية والفارسية والسنسكريتية والكلدانية والقبطية. وتحوَّلَ بيت الحكمة في زمنه إلى مدرسة عظيمة تضم جماعة من المترجمين عن اللغات الأعجمية على اختلاف ضروبها، والمؤلفين من علماء العربية ورجال الدين والفلسفة، كما تضم جماعة من الوراقين الذين عُهِدَ إليهم بنسخ الكتب، ولهذا البيت قيِّم يُقال له صاحب بيت الحكمة. ثم اقتدى الكبراء بالخلفاء وأَنشئُوا دُورًا للكتب خاصة وعامة، ومن أشهر الدُّور العامة «دار سابور بن أردشير» في الجانب الغربي، وقد أودعها ألوفًا من المجلدات النادرة الثمينة، وقد كان يتردَّد إليها أبو العلاء مدة مُكْثِه في بغداد، وإليها يُشِير بقوله:

وغنَّتْ لنا في دار سابور قينة
من الورق مطراب الأصائل ميهالُ
رأت زهرًا غضًّا فهاجت بمزهر
مثانيه أحشاء لطفن وأوصالُ

واحترقت هذه الخزانة في فاتحة استيلاء السلاجقة على بغداد، ولما أُنشِئَت النظامية أُنشِئَت فيها خزانة عظيمة احتوت على كتب كثيرة في علوم كثيرة، ثم كلما أُنشِئَتْ مدرسة ضُمَّت إليها خزانة كما مرَّ ذلك في الكلام على مدرسة المستنصر. وأعظم كارثة أُصِيبَتْ بها خزائن الكتب في بغداد هي كارثة المغول؛ فقد أتلفوا منها الشيء الكثير. ولم تزل بعد ذلك خزائن الكتب موضع الرعاية من رجال الحكومات المتعاقبة إلى أن فشا الطاعون في بغداد على عهد الوالي داود باشا، ورافقه طغيان دجلة وحريق هائل، أودى كل ذلك بكثير من خزائن الكتب. ولما اشتدت المجاعة في القرن الثالث عشر الهجري أخذ الناس يبيعون الكتب القيِّمة بأبخس الأثمان، وأقبل جماعة من تجار الفرنج وعملائهم على شرائها. وقد حدثني بعض الأشياخ المعمِّرين أنه كان يرى بعينه سفنًا تنحدر إلى البصرة لا تحمل إلا الكتب، ومن هناك تُشحَن في السفن البخارية إلى ديار الفرنجة، وقال إنه رأى بأُمِّ عَيْنِه صحاح الجوهري بخط امرأة بغدادية ذكرت في آخره أنها كتبته وهي إلى جنب ولدها، وكثيرًا ما كانت تُحرِّك المهد برجلها وهي تكتب.

أما اليوم فلا تكاد تخلو مدرسة من المدارس التابعة للأوقاف في بغداد من خزانة كتب تكثر فيها المخطوطات، وقد جمعت وزارة الأوقاف سنة ١٩٢٨ الكثير من تلك الكتب في بناية خاصة، واتخذت وزارة المعارف من هذه البناية خزانة لكتبها، وأطلقت عليها اسم «المكتبة العامة»، وتشتمل هذه الخزانة على زُهاء ١٥٠٠٠ كتاب، أما مكتبة الأوقاف التي أشرنا إليها فتحتوي على ١١٠٠٠ كتاب. وللمتحف خزانة خاصة تضم الكثير من الكتب التاريخية الثمينة تحتوي على زُهاء ١٠٠٠٠ كتاب، وفي البلاط الملكي خزانة تشتمل على كثير من الكتب القيمة، وفي مجلس الأمة خزانتان إحداهما في مجلس الأعيان، وثانيتهما في مجلس النواب، وتحتوي الخزانتان على زهاء ٧٠٠٠ مجلد، وفي الكليات العالية خزانات كتب تشتمل على ما يهم أساتذتها وطلابها من المؤلفات، وأوسع هذه الخزانات خزانة دار المعلمين العالية، فإنها تشتمل على زهاء ٦٠٠٠ كتاب.

وفي بغداد خزانات كتب خاصة تحتوي كتبًا نادرة من أشهرها خزانة دير الكرمليين التي أنشأها اللُّغوي المحقق أنستاس ماري الكرملي، وخزانة المحامي الفاضل عباس العزاوي، وخزانة الوجيه البحاثة يعقوب سركيس، وفي بغداد خزانات أخرى كثيرة ليس هذا موضع استقصائها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤