الفصل السادس

القصور

قلنا سابقًا: إنَّ المنصور لما أتم بناء مدينته المدورة، أنشأ في وسطها قصرًا عظيمًا، أطلق الناس عليه اسم «قصر الذهب»، وأقام بصدره القبة الخضراء الشهيرة، وبنى بعض مواليه وصنائعه قصورًا خارج السور، ثم أمر بإنشاء قصر عظيم وراء باب خراسان على ضفة دجلة اليمنى عند النهاية الغربية للجسر الكبير، وسمَّاه قصر الخلد تبركًا باسم الجنة، وتفاؤلًا بأن يكون دار النعيم «بما يحويه من كل منظر رائق ومطلب فائق، وغرض غريب ومَرادٍ عجيب.» أتم بناءه سنة ١٥٨.
  • قصر الرصافة: أمر المنصور بإنشائه على شرقي دجلة سنة ١٥١، وهو أول بناء أُنشئ في الجانب الشرقي، وقد أنشأ المنصور له سورًا وخَنْدقًا، واتخذه المهدي مقامًا له عند قدومه من الري بعسكره سنة ١٥١، وجعل ما حوله مُعسكرًا لجنده، فأنشأ كبار القواد منازل لهم حول القصر، ثم زِيدَ في القصر، وأُضِيفَ إليه الكثير مما يجاوره من الأبنية، ثم تكاثرت الأبنية حول القصر فتألَّفَ من مجموع ذلك محلة كبيرة عُرِفَتْ بمحلة الرصافة، وهي واقعة إلى جوار مشهد الإمام أبي حنيفة من الجهة الجنوبية، ولم يَبْقَ منها اليوم رسم ولا طلل.
  • قصر عيسى: هو قصر بناه أو أقام فيه عيسى بن علي عَمُّ المنصور، قالوا: وهو أول قصر بناه الهاشميون في أيام المنصور ببغداد. قال ياقوت في معجمه:

    وكان «قصر عيسى» على شاطئ نهر الرُّفيل عند مصبِّه في دجلة، وهو اليوم في وسط العمارة من الجانب الغربي، وليس للقصر أثر الآن، إنما هناك محلة كبيرة ذات سوق تُسمَّى محلة قصر عيسى.

    وقد بالغوا في سَعةِ هذا القصر، حتى قالوا: إنه كان يَضُمُّ زُهاءَ أربعة آلاف نسمة من الأمراء والحرم والحشم والخدم.

  • قصر الوضاح: هو قصر بناه الوضَّاح بن شبا عندما ولَّاه المنصور أمر الشرقية من محلة الكرخ، والشرقية محلة تقع إلى جنوب نهر الصراة، وقد ألحق بهذا القصر مسجدًا يُقال له مسجد الوضاح، وفيه يقول علي بن الجهم:
    سَقى الله باب الكرخ من مُتنزهٍ
    إلى قصرِ وضاح فبِركة زُلزُلِ
    مَنازلُ لا يستتبع الغَيث أهلها
    ولا أوجه اللذات عنها بمعزلِ
    مَنازلُ لو أن امرأ القيس حَلَّها
    لأقْصَرَ عن ذكر الدخول فحوملِ

    وبركة زُلزل هي بركة أنشأها زلزل الموسىيقي المشهور في الجانب الغربي، ثم وقفها للناس يستقون منها ويتنزهون حولها.

  • قصر السلام: هو قصر بناه محمد المهدي سنة ١٦٤ في موضع يُقَال له: عيسى باذ، وفي إطلاق هذا الاسم عليه تفاؤل بالسلامة لا يخفى، وإشارة إلى ما يشتمل عليه هذا القصر من النَّعيمِ المقيم، قالوا: وقد بلغت نفقات إنشاء هذا القصر ٥٠ مليون درهم، وهو رقم لا يخلو من مبالغة، ولكنه كذلك لا يخلو من الدلالة على ضخامة ما أُنْفِقَ على ذلك القصر.
  • القصر الحَسَني: أنشأ جعفر بن يحيى البرمكي قصرًا عظيمًا على دجلة في الجانب الشرقي، وكان من الضخامة بحيث زَعَمَ بعض الرواة أنه أنفق عليه زُهاءَ عشرين مليون درهم، وهذا الرقم أيضًا لا يخلو من مبالغات الأعاجم. وكان هذا القصر واقعًا تحت محلة المخرِّم، وكان يُعرَف في أول عهده بالقصر الجعفري، ثم أهداه صاحبه للمأمون، فصار يُعرَف بالقصر المأموني، ولكنه بَقِيَ تحت تصرف جعفر بن يحيى إلى حين مَقْتلِه، وحينئذ تصرف المأمون فيه تصرفًا فعليًّا، وكان من أعز القصور عليه؛ لما كان يشتمل من وسائل البهجة ومعالم السرور؛ ولذلك أضاف إليه ما يزيد في معالم بهجته. من ذلك ميدان واسع للعب الكرة والصولجان، كما أضاف إليه حَيْر الوحوش، وهو موضع يُشبهُ ما نُسمِّيه اليوم بحديقة الحيوانات، ومَدَّ إليه فرعًا من النهر المعروف بالمعلى، ثم أهداه المأمون للحسن بن سهل على أثر زواجه من بوران ابنته، فسُمِّيَ القصر الحسَنيَّ، فزاد فيه الحسن زيادات مهمة، ثم أهداه إلى ابنته بوران زوج المأمون، ثم انتقل هذا القصر إلى حوزة الخلفاء في خلافة المعتمد على الله أو المعتضد بالله، فوسعه وأضاف إليه المباني التي أنشأها على الميدان الذي كان منذ عهد المأمون، وعمل على مجموع مبانيه سورًا، واستحدث ميدانًا جديدًا من الشرق، فهدم الدُّور المجاورة بعد أن اشتراها من أهلها لتوسيع ذلك الميدان.
  • قصر الفردوس: شيَّدهُ المعتضد إلى جوار القصر الحسني، وقد غلب اسم هذا القصر على مجموعة القصور التي أنشأها الخلفاء حول القصر الحسني وهي كثيرة، منها:
    • قصر الثُّريا: وهو من بناء المعتضد أيضًا على بعد نحو الميلين من القصر الحسني، وقد وصل الخليفة بينهما بطريق معقودة تحت الأرض. وذكر المسعودي أن نفقة قصر الثريا بلغت ٤٠٠ ألف دينار، وأن مساحته المربعة بلغت ثلاثة فراسخ.
    • قصر التاج: وهو قصر وضع أساسه المعتضد أيضًا، وأتمَّهُ ابنه المكتفي من بعده، وهو على دجلة تحت القصر الحسني، وأُقِيمَتْ عند أساساته مسناة عظيمة؛ لتصد عنها تيار دجلة. وأنشأ المكتفي وراءه من القباب والمجالس ما تناهى في توسعته وتعليته. وذكر المسعودي أن إصطبلات هذا القصر كانت تشتمل على تسعة آلاف من الخيل والبغال والجمال.

وقد تبارى الخلفاء والأمراء في إنشاء القصور وبالغوا في توسيعها وتأنَّقوا في زخرفتها حتى استبدَّ مجموعها بنحو ثلث الرُّقعة التي قام عليها الجانب الشرقي من بغداد. ولو حاول مؤرخ أن يستقصي القصور التي أقامها الخلفاء والأمراء وكبراء رجال الدولة وذوو اليسار من البغداديين لاحتاج في وصف ذلك إلى أكثر من مجلد.

وحسب القارئ أن ننقل له الحكاية التالية؛ ليتبين له مبلغ ما وصلت إليه تلك القصور من السعة، وما اشتملت عليه من عجائب؛ ذكر الخطيب البغدادي وغيره نقلًا عن شاهد عيان ما مُلخَّصُه: إنه ورَدَ رسول لصاحب الروم في أيام المقتدر بالله، ففُرِشتْ قصور الخلافة بالفُرُشِ الجميلة، وزُيِّنَتْ بالآلات الجليلة، ورُتِّب الحُجَّابُ وخلفاؤهم والحواشي على طبقاتهم على أبوابها ودهاليزها وممراتها، وكان في قصر الخليفة إذ ذاك سبعة آلاف خادم، منهم أربعة آلاف من البِيض، وثلاثة آلاف من السُّود، وعدد الحُجَّاب سبعمائة، وعدد الغلمان السُّودان غير الخدم أربعة آلاف غلام. ووقف الجند صفَّيْن بالثياب الحسنة، وتحتهم الدَّوابُّ بمراكب الذهب والفضة، وبين أيديهم الجنائب على مثل هذه الصورة، وقد أظهروا العدد الكثير من الأسلحة المختلفة، وكان عددهم مائة وستين ألف فارس، اصطفُّوا من أعلى باب الشماسية إلى قريب من قصر الخلافة. وبعدهم الغلمان الحجرية والخدم الخواص الدارية والبرانية إلى حضرة الخليفة، بالبزة الرائعة والسيوف والمناطق المُحلَّاة، وأسواق الجانب الشرقي وشوارعه وسطوحه ومسالكه مملوءة بالعامة النظارة، وقد استُؤْجِرَ كل دكان وغرفة مشرفة بمبالغ كثيرة، وفي دجلة عُبِّئتْ ضروب السفن المزينة بأفضل زينة مرتبة على أحسن ترتيب، وسار الرسول ومن معه من المواكب إلى أن وصلوا إلى الدار، ودخل الرسول فمُرَّ به على دار نصر الحاجب، ورأى ضففًا١ كثيرًا ومنظرًا عظيمًا، فظن أنه الخليفة وتداخلته له هيبة وروعة، حتى قيل له إنه الحاجب، وحُمِلَ من بعد ذلك إلى الدار التي كانت برسم الوزير، وفيها مجلس أبي الحسن علي بن الفرات يومئذ، فرأى أكثر مما رآه لنصر الحاجب، ولم يشك في أنَّه الخليفة حتى قيل له: هذا الوزير. وأُجلِسَ بين دجلة والبساتين في مجلس، قد علقت ستوره واختيرت فُرُشُه ونُصِبَتْ فيه الدسوق وأحاط به الخدم بالأعمدة والسيوف، ثم استُدعِي إلى حضرة المقتدر بالله، بعد أن طِيفَ به في الدار، وشاهد دار الشجرة «وكانت شجرة من الفضة وزنها ٥٠٠ ألف درهم قائمة في وسط بركة عليها أطيار مصوغة من الفضة والذهب، تصفر بحركات قد جُعِلَتْ لها، وللشجرة ورق بأشكال وألوان مختلفة، وكان إلى جانبيها تماثيل ثلاثين فارسًا في كل جهة خمسة عشر، أُلْبِسوا الديباج وغيره، وفي أيديهم مطارد يدورون على خط واحد خببًا وتقريبًا،٢ فيُظَنُّ أن كل واحد منهم إلى صاحبه قاصد.» فتعجَّبَ الرسول من ذلك أكثر من تعجُّبِه من جميع ما شاهده.

وأحصى شاهد عيان الستور الحريرية المطرَّزةَ بأنواع الزينة، فكانت ثمانية وثلاثين ألف ستر، وكانت البُسُط التي فُرِشَتْ في الممرات اثنتين وعشرين ألف قطعة، هذا عدا ما في المقاصير والمجالس، وما عُلِّقَ على الجدران من فاخر البسط ونادرها.

ومما شاهده الرسول حير الوحوش، وكان فيها قُطعانٌ تقرب من الناس وتشمهم وتأكل من أيديهم، وشاهد فيها أربعة من الفيلة مزينة بالديباج والوشي على كل فيل ثمانية نفر من السند والزراقين بالنار، وشاهد فيها موضعًا فيه مائة سَبُعٍ — خمسون يمنة وخمسون يسرة — كل سبع منها في يد سَبَّاع، وفي رءوسها وأعناقها السلاسل.

ومما شاهده الجوسق المحدث، وهو دار في وسطها بركة رصاص قلعي، وحولها نهر من الرصاص أيضًا، والرصاص القلعي يحاكي الفضة المجلوَّةَ لونًا، وطول البركة ثلاثون ذراعًا في عشرين، فيها أربعة زوارق لطاف.

ومروا بالرسول على الفردوس، فكان فيه من الفرش والآلات ما يُبْهِرُ الناظر ويهيج الخاطر، وفي دهاليزه عشرة آلاف جوشن مُذهَّبةٌ معلقة، وفي بعض ممراته نحو عشرة آلاف درقة وخوذة وبيضة ودرع وزردية وجعبة محلاة وقسي معلقة على الجانبين.

وعلى الجملة، فإنه قد طِيفَ به على ثلاثة وعشرين قصرًا، وكان آخر المطاف الصَّحن التسعيني، ومنه وصلوا إلى حضرة المقتدر بالله وهو جالس في قصر التاج.

وقد أقام بنو بُوَيْه بعض القصور على آثار قصور الخلفاء القدماء أو ما يقرب منها، أما السلاجقة فإنهم لم ينشئوا شيئًا من القصور، وإذا قدم بعضهم إلى بغداد أقام في بعض قصور القديمة بعد إصلاحها وتأثيثها، ولم يَبْقَ اليوم لتلك القصور من عين ولا أثر، سوى أطلال قصر في القلعة أَطْلَقَتْ عليه دائرةُ الآثار اسمَ القصر العباسي، وهذا القصر كان يتَّصِل بمحلة المخرم، وليس فيه من الكتابة ما يهدي إلى بانيه أو ساكنيه.

وفي بغداد اليوم قليل من المباني المهمة يأتي في طليعتها «قصر الزهور»، أَمَرَ بإنشائه المغفور له الملك فيصل الأول في الحارثية على يمين الداخل بغداد من الجانب الغربي، وقصر الرحاب وهو على مقربة من قصر الزهور في الحارثية أيضًا على يسار الداخل إلى بغداد من الجانب الغربي، أمر بإنشائه صاحب السمو الأمير عبد الإله ولي العهد والوَصِيُّ على عرش العراق. والقصران يُعتبَران أفخم ما بُنِيَ في مدينة السلام في هذه الأيام.

ومن المباني التي أُنشِئَتْ في العهد الأخير «قاعة الملك فيصل الثاني، وبهو أمانة العاصمة» في باب المعظم، وهما من إنشاء أمانة العاصمة. ومنها البناء القائم على أضرحة الملوك الهاشميين وأمرائهم، وهو على مقربة من مشهد الإمام الأعظم، ويُشْبِهُ أن يكون على البقعة التي كانت عليها قبور خلفاء بني العباس أو على مقربة منها، ويمكن أن يلحق بهذه الآثار التماثيل التي أُقِيمَتْ في العهد الأخير؛ وهي ثلاثة:
  • (١)
    تمثال الملك فيصل الأول: وهو في الجانب الغربي في وسط شارع يُعرَف بشارع الملك فيصل، على مقربة من رأس الجسر المعروف اليوم بجسر الملك فيصل أيضًا.
  • (٢)
    تمثال مود: وهو يُمثِّل القائد مود الذي احتلَّ بغداد سنة ١٩١٧، وهو قائم في الجانب الغربي أيضًا أمام دار السفارة البريطانية على مقربة من تمثال الملك فيصل.
  • (٣)
    تمثال عبد المحسن السعدون: وهو في الجانب الشرقي في الشارع الذي يُعرَف بشارع السعدون على مقربة من الباب الشرقي.
١  الضفف كثرة الناس.
٢  ضربان من السير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤