الفصل التاسع

الحمامات

اشْتُهِرَ البغداديون بالنظافة؛ ولهذا أكثروا من بناء الحمامات، وتفنَّنوا في إتقان صنعها ونظافتها. فقد ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه أن عدد الحمامات في عهد الرشيد والأمين بلغ ستين ألفًا، قالوا: وأُحصيتْ في زمن المقتدر فكانت سبعة وعشرين ألفًا، ونزلت في آخر دولتهم إلى خمسة آلاف، ثم إلى ثلاثة آلاف. قال ابن جبير: «ذكر لنا أحد أشياخ البلد أنها بين الشرقية والغربية نحو ألفَيْ حمَّام، وأكثرها مطلية بالقار، مسطحة به، فيُخَيَّل للناظر أنه رخام أسود صقيل.» ا.ﻫ.

وقد أخذ هذا العدد يتضاءل بتضاؤل أمر هذه المدينة إلى عهدنا هذا؛ ففي الجانب الغربي اليوم ثلاثة حمامات للرجال ومثلها للنساء، وفي الجانب الشرقي نحو ضعفَيْ هذا العدد، وليست من الإتقان والنظافة بالمكانة التي عُرِفتْ بها حمامات بغداد في عصور ازدهارها. على أن أوساط الناس ووجهاءهم أخذوا يستغنون اليوم عن ارتياد الحمامات العامة بما يُنشِئونه في منازلهم من حمامات خاصة، ولا يكاد يخلو منزل من أوساط المنازل من حمام على طراز شرقيٍّ أو غربيٍّ أو على الطرازين معًا، وبقيت الحمامات العامة لفقراء الناس وغربائهم. ونحن لا نشُكُّ في أن تلك الأرقام التي ذكرها الأقدمون في عدد حمامات بغداد مُبالغٌ فيها، ولكنها — على كل حال — تدل على كثرة وسائل النظافة ومعدات الترف؛ مما لفت إليها أنظار الناس في القديم والحديث، فتساءلوا عنها وهم بين مصدق ومكذب. وقد وقفنا على بعض أوصاف تلك الحمامات في رحلة ابن بطوطة، فآثرنا نقلها بالنص، قال:

وفي كل حمام منها خلوات كثيرة، كل خلوة منها مفروشةٌ بالقار، مطليٌّ نصف حائطها مما يلي الأرض به، والنصف الأعلى مطلي بالجصِّ الأبيض الناصع، فالضدان بها مجتمعان متقابل حسنهما، وفي داخل كل خلوة حوض من الرُّخامِ، فيه أنبوبان أحدهما يجري بالماء الحار والآخر بالماء البارد، فيدخل الإنسان الخلوة منها منفردًا لا يشاركه أحد إلا إذا أراد ذلك، وفي زاوية كل خلوة أيضًا حوض آخر للاغتسال، فيه أيضًا أنبوبان يجريان بالحار والبارد، وكل داخل يُعطى ثلاثًا من الفوط، إحداها يتزر بها عند دخوله، والأخرى يتزر بها عند خروجه، والأخرى ينشف بها الماء عن جسده. ولم أَرَ هذا الإتقان كله في مدينة سوى بغداد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤