الفصل الأول

العلوم الشرعية

تتألَّفُ هذه المجموعة من علوم القرآن ويأتي في مُقدِّمتها التفسير، ومن علوم الحديث ويأتي في مقدمتها تدوينها والتفريق بين صحيحها وسقيمها، ومن الفقه وأصوله، ومن علم الكلام، ويُقال له: عِلْمُ أصول الدين وعلم العقائد.
  • التفسير: لم يُدوَّنْ هذا العلم في كتب جامعة تضم جميع سور القرآن إلا في عصر الدولة العباسية، وأول تفسير عظيم صحيح وُضِعَ في هذا الباب هو تفسير١ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، المتوفَّى سنة ٣١٠، كتب هذا التفسير على ضفاف وادي السلام، وهو من أعظم التفاسير قدرًا وأسماها مكانة، حتى قال الإمام أبو حامد الإسفرايني، عظيم فقهاء الشافعية ببغداد: «لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له تفسير ابن جرير لم يكن ذلك كثيرًا.» وقال أبو زكريا النووي، كبير فقهاء الشام: «أجمعت الأمة على أنه لم يُصنَّف مثل تفسير الطبري.»

    ويمكن أن يُقال إجمالًا: إنَّ كل من كتب في التفسير من طريق الرواية بعد ابن جرير هو عِيالٌ عليه، وقد كتب البغداديون تفاسير كثيرة تفوت العَدَّ، ليس هذا موضع إحصائها واستقصائها، من أتقنها تفسير للشريف الرضي، طُبِعَ بعض أجزائه حديثًا في النجف الأشرف. وأعظم تفسير كُتِبَ في بغداد في أواسط القرن الثالث عشر هو «روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني» لأبي الثناء شهاب الدين السيد محمود الألوسي — عليه الرحمة — المتوفى سنة ١٢٧٠ﻫ. وتفسيره هذا من أجْمعِ التفاسير وأوسعها وأسماها وأسناها، جامع بين فصاحة التعبير وبراعة التصوير، يستغني به المحقق عن الكثير من كتب التفسير.

    فالقارئ يرى أن هذا العلم أورق وأزهر في مدينة السلام وأثمر وأينع فيها.

  • الحديث: قَلَّ أن ظهر مُحدِّثٌ نابه في مشارق البلاد الإسلامية ومغاربها إلا وقد جعل بغداد موضع زيارته أو دار إقامته. فمن أعلام المحدثين الذين زاروا بغداد وأخذ عنهم البغداديون:

    محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى سنة ٢٥٦، صاحب الصحيح الشهير، حكوا أنه زار بغداد، فاجتمع عليه أصحاب الحديث من أهلها، فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها … ثم كلما عُرِضَ عليه واحد منها، قال: لا أعرفه، فلما كملت المائة اندفع يعيد كل حديث إلى سنده، وكل سند إلى مَتْنِهِ، فأقرَّ له البغداديون بالحفظ. وكان من عادة البغداديين التلطُّفُ باختبار الطارئين عليهم من العلماء، وممن تردَّدَ إلى بغداد من كبار المحدِّثينَ مسلم بن الحجاج النيسابوري المتوفى سنة ٢٦١، ومحمد بن يزيد بن ماجه المتوفى سنة ٢١٣، وأبو داود سليمان بن الأشعث المتوفى سنة ٢٧٥، وأنجبت بغداد من عظماء المحدثين وقدمائهم: الإمام أحمد بن حنبل، وابنه عبد الله، وأبا الحسن علي بن عمر الدارقطني صاحب كتاب السُّننِ المتوفى سنة ٣٨٥، والخطيب البغدادي. ومن تصفَّحَ تاريخه وقف على المئات من أئمة هذا الشأن الذين أنبتتهم بغداد، أو هاجروا إليها وجعلوها دار إقامتهم أو موضع زيارتهم.

    ومن الواضح أن رجال الحديث بعد أئمة الحفَّاظِ الأوَّلينَ قد وجهوا جُلَّ عنايتهم إلى كتابة المصنفات الجامعة والمختصرة متوخِّين حسن التبويب وجمال التفصيل والترتيب، مع التمييز بين صحيح الآثار وسقيمها؛ ولذلك لم يكن المتأخرون في هذا الباب إلا عيالًا على المتقدِّمينَ.

  • الفقه: أُنشِئَتْ بغداد، وفقهاء الإسلام فريقان: فريق جعل جل اعتماده في استنباط الأحكام الشرعية الفرعية على الكتاب والسنة النبوية والآثار المروية عن الصحابة، وفريق آخر حكَّم — مع ذلك — الرأي والقياس. وجل فقهاء الحجاز من الفريق الأول، وإمامهم في ذلك مالك بن أنس، وجل فقهاء العراق من الفريق الثاني، وإمامهم في ذلك أبو حنيفة النعمان بن ثابت، وهو وإن كان كوفيَّ المنبت، فإنَّه اتخذ بغداد دار إقامته الآخرة، فكان عنوان مفاخرها وغرة مآثرها، وكان في جملة حسناته تلميذاه العظيمان قاضي القضاة أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري المتوفى سنة ١٨٢ صاحب كتاب «الخراج»، ومحمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة ١٨٩، وإليهما يرجع الفضل الأول في تدوين الفقه الحنفي وترصين قواعده. وزار الإمام محمد بن إدريس الشَّافعي بغداد مرتين إحداهما سنة ١٩٥ والثانية سنة ١٩٨، واجتمع بعظماء فقهائها، وفيها أملى مذهبه القديم، ولما فارقها تطوَّرَ مذهبه بعض الشيء بسبب ما اطَّلَع عليه في بغداد من الآراء، ويُقال لمذهبه بعد رجوعه من بغداد: «الجديد». وممن لقي الشافعي في بغداد من عظماء الفقهاء الإمام أحمد بن حنبل، وقد تلقحت آراؤه بآرائه، فتطور مذهب ابن حنبل بعض التطور، وكان معظم البغداديين على مذهبه، ثم كثر بينهم الشافعية والحنفية. ومن مشاهير فقهاء الشافعية فيها أبو حامد الإسفرايني المتوفى سنة ٤٠٦، كانت حلقته في الكرخ تضم زهاء ٧٠٠ مُتَفَقِّهٍ، وأقضى القضاة علي بن محمد الماوردي المتوفى سنة ٤٥٠، صاحب الأحكام السلطانية والحاوي، في بضعة عشر مجلدًا، وأبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي المتوفى سنة ٤٧٦، وكانت إليه رياسة المدرسة النظامية، وكُتُبه في المذهب أشهر من أن تُذكَر. ومن أكابر فقهاء الحنفية البغداديين: أبو الحسن أحمد بن محمد القُدُوري المتوفى سنة ٤٢٨، ومن كتبه التجريد، ويشتمل على الخلاف بين الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه، وهو بديع في بابه.

    ولما زار ابن جبير بغداد بَهَرَه فقهاؤها، فأُعجب بكثرتهم وسعة معارفهم، وفي بغداد أَزْهَرَ الفقهُ الجعفريُّ الذي يرجع بأصوله إلى الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر رضي الله عنه.

    وبالجملة، فإن للفقه في بغداد المقام الأول من بين سائر العلوم، ولم يزل هذا السِّرُّ إلى عهدنا هذا؛ فإن أول مدرسة عالية أُنشِئَتْ في بغداد على النمط الحديث مدرسة الحقوق، التي تعتمد في معظم مادتها على الفقه الإسلامي. وقد أسمى فيلسوف المعرة محلة الكرخ أو بغداد «محلة الفقهاء»:

    بمحلَّةِ الفُقهاءِ لا يعشو الفتى
    ناري ولا تُنْضي المطيَّ عزائمي
  • علم الكلام: ويُسمَّى علم العقائد، وعلم أصول الدين أيضًا. كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين يستدلون على عقائدهم بظاهر الكتاب والسنة، وإذا تعذَّرَ عليهم فهم المتشابهة منهما آمنوا بظاهره، ووكلوا أمر الباطن إلى الله تعالى مع التنزيه الأكمل للذات الإلهية عن كل ما يُشَمُّ منه رائحة النقص أو التشبيه أو التجسيم، غير أن هذه الطريقة في فهم العقائد لم تُقنِع الجماعات التي دخلت في الإسلام من أهل الأديان الأخرى التي كانت تعجُّ بالشُّبَهِ والخلافات، فركنوا في تقرير العقائد وردِّ الشبه إلى الأقيسة العقلية والأشكال المنطقية.

    ولما مُصِّرت بغداد كان المسلمون ينقسمون في تقرير أصول عقائدهم إلى فريقين: فريق يعتمد على المنقول من الكتاب والسنة، ويُقال لهم الجماعة وأهل الحديث، وفريق يعتمد في تقرير عقائده على المعقول، وإذا تعارض المعقول والمنقول عُمِدَ إلى تأويل المنقول، وهؤلاء هم المعتزلة. وكان الصدر الأول من خلفاء بني العباس يؤيدون أهل هذا المذهب، وينصرونهم على أتباع المذهب الأول، وجرت في بغداد خطوب بين الفريقين ذهب ضحيتها بعض رجال الحديث، ولا سيما على عهد المأمون الذي حاول أن يشغل الناس بالمنازعات الدينية عن المنازعات السياسية، فكان له ما أراد، وكان على رأس المعتزلة في عهده القاضي أحمد بن أبي داود الإيادي، وعلى رأس الجماعة الإمام أحمد بن حنبل، فكانت بين الفريقين مُناظراتٌ، وكانت منازعات أدَّتْ إلى اضطهادات مُشينةٍ لا عهد للمسلمين بها من قبل. وكان في مُقدِّمة المسائل التي دار الخلاف حولها مسألة خَلْقِ القرآن، فكان المعتزلة يقولون بخلقه تفاديًا من تعدد القدماء، وكان الجماعة وأهل الحديث يقولون بقِدَمِه؛ لأنَّه كلام الله، والكلام قديم بقدم المتكلِّمِ.

    ولم ينتهِ الجدال حول هذه المسألة إلا في عهد الواثق، عندما أحضر بعض أشياخ الشام للمناظرة، فقال ما معناه: لو كانت هذه المسألة من صميم الدين لأخبرنا بها سيد المرسلين، وحيث إنه لم يثبت عنه شيء في هذا الباب، فلا معنى لجعلها موضوع خلاف وجدال. وظهر في المعتزلة رجال أولو لُسُنٍ أيدوا مذهبهم بأقلام سيَّالة وألسنة قوَّالة؛ مثل عمرو بن بحر الجاحظ وأبي علي الجبائي، وغيرهما من أئمة المتكلمين البصريين الذين لم تسلم بغداد من رشاش مباحثاتهم، حتى ظهر بينهم أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتوفَّى في العقد الثالث من القرن الرابع، وكان في أول أمره معتزليًّا، ثم سلك طريقًا وسطًا بين المعتزلة ورجال الحديث، وكان إلى رجال الحديث أميل، وألَّفَ في تأييد مذهبه كتبًا جَمَّةً، بسط فيها الكلام بسطًا، سَهَّل فهمه على الناس، فكثرَ أتباعه، وانضوى أكثر المتكلمين من البغداديين إلى لوائه. ومع ذلك فإن بعضهم لم يزل على مذهب المحدثين، وأكثرية هؤلاء من الحنابلة، وبعضهم أصرَّ على الاعتزال، فكان في بغداد في أواخر العهد العباسي مذاهب كلامية كثيرة مرجعها إلى ثلاثة: الأشاعرة وهم الأكثرية، والمحدثون أو السلفيون، والمعتزلة. وهناك جماعة من الإمامية الاثنى عشرية، وآخرون من الزيدية، وقليل من الإسماعيلية. وانشَقَّ من الأشاعرة فريق يُقال لهم الماتريدية؛ نِسبةً إلى أبي منصور محمد بن محمد الماتريدي المتوفى سنة ٣٣٣، أحد تلامذة أبي الحسن الأشعري، وقد خالفه في بضع عشرة مسألة، وكثير من الأحناف في بغداد وغيرها يدينون بهذا المذهب.

    أما اليوم فليس لمذهب الاعتزال في بغداد من أثر، والناس إما أشاعرة أو ماتريدية، وليس بين المذهبين كبير فَرْقٍ. وهناك فريق يميل إلى مذهب السلف، وفريق يَدِين بمذهب الإمامية الاثنى عشرية.

١  يُقال له: «جامع البيان في تفسير القرآن».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤