الفصل الثاني

العلوم الكونية

ويُرادُ بها علوم الأوائل من المنطق والطبيعيات والرياضيات والإلهيات. وتنقسم الطبيعيات إلى علوم: الفيزياء والكيمياء والمواليد الثلاثة، والطِّب والصيدلة والفلاحة. وتنقسم العلوم الرياضية إلى: علم الحساب، وعلم الجبر، وعلم الهندسة، وعلم الآلات، وعلم الحيل (الميكانيكا)، وعلم الفلك. ومن مُتعلِّقاتِه علم الجغرافيا الرياضية.

وتشمل الإلهيات علم ما وراء الطبيعة من الرُّوحانيات والمدركات العقلية، كالبحث عن الخالق وصفاته والقوى النفسية والملائكة والجن وما إلى ذلك.

ومن علوم الأوائل: علم تدبير المنزل، وعلم تدبير المملكة؛ وهو علم السياسة، وعلم المال، وعلم الأخلاق، وعلم الموسيقى.

كانت هذه العلوم شائعة بين الأمم المتحضرة، فلما افتتح العرب بلاد العراق والشام ومصر وغيرها وجدوا الكثيرين من أهلها يتدارسون هذه العلوم ويتناقلونها بلُغاتٍ شتى، وفي العصر الأموي تُرْجِمتْ بعض هذه العلوم إلى اللغة العربية، ولا سيما علم الطب والسياسة. ولما دالت الدولة لبني العباس واستقر خلفاؤهم في بغداد؛ قَرَّبوا إليهم الكثير من حملة هذه العلوم، وطلبوا منهم نقلها إلى اللغة العربية. وفي مقدمة الخلفاء الذين عناهم هذا الشأن أبو جعفر المنصور، فإنه استقدم كثيرًا من الأطباء والمترجمين، فترجموا له عن اليونانية والفارسية والهندية كتبًا كثيرة في الطِّبِّ والفلك والسياسة. ومن أشهر أولئك التَّراجِمة جورجس بن جبريل الذي ترجم للمنصور كتبًا كثيرة عن اليونانية، ونوبخت المنجم وابنه أبو سهل. ومن أشهر مَن ترجم للمنصور من الفارسية إلى العربية عبد الله بن المقَفَّع، وممن ترجم له عن الهندية محمد بن إبراهيم الفزاري، ترجم له كتابًا في النجوم. ثم لما كان زمن الرشيد أمر بإعادة النظر في الكتب المترجمة، كما أمر بترجمة كتب أخري، وعَهِدَ بذلك إلى جماعة من حُكماءِ زمانه، منهم: طبيبه يوحنا بن ماسويه، والحجاج بن مطر، وأبو حسان، وسلم صاحب بيت الحكمة.

ولما كان عهد المأمون اشتدت الرَّغبةُ في نقل علوم الأوائل إلى اللغة العربية، فألَّفَ لذلك لجنة برياسة حنين بن إسحاق العِبَادي، وكان يتقن العربية والسريانية والفارسية واليونانية، وكان من أعضاء اللجنة: الحجاج بن مطر، وابن البطريق، وسلم صاحب بيت الحكمة. وأغدق المأمون على رئيس اللجنة وأعضائها العطاء، حتى إنه كان يعطيهم عِدْلَ ما ينقلونه من الكتب ذهبًا، فكانوا يكتبون على ورق غليظ وبحروف كبيرة وأسطر متباعدة، وكان أكثر الكتب التي نُقِلَتْ في عهد المنصور والرشيد في الطب والسياسة والنجوم. أما في عهد المأمون، فقد أقبل المترجمون على ترجمة كتب الفلسفة والرياضيات وعلوم الطبيعة، وأرسل المأمون جماعة من المترجمين إلى بلاد الروم، فاختاروا كتبًا حملوها إلى بغداد وترُجِمتْ وتعلَّمها الناس، واقتدى بالخلفاء غيرهم من الأمراء والوزراء وأهل اليسار من العقلاء، فأغدقوا على المترجمين العطاء لنَقْل ما يرغبون فيه من كتب الأوائل إلى العربية؛ فنفقت أسواق هذه العلوم وزخرت بها بغداد.

ولكثرة ما كان يَلْقاه الحكماء في بغداد من الإكرام والاحترام في قصور الخلفاء والأمراء والوزراء والقادة وأهل اليسار أقبلوا ينسلُّون إليها من كل حَدَبٍ، ويتخذونها دار إقامة لهم، فقصدوها من الشام والعراق وفارس والهند، وفيهم النساطرة والهنود والفرس، فتضافرت الهِمَمُ على ترجمة كتب الأقدمين والتأليف في مختلف علوم الكون على اختلاف فروعها، فأصبحت بغداد بذلك ينبوعًا فياضًا بهذه العلوم، يغترف منه الناس في سائر الحواضر الإسلامية. ومن أشهر الأُسَر التي جعلت بغداد موطنها: آل بختيشوع، نشأ منهم في بغداد عدد كبير، من أشهرهم: جورجس بن جبريل وبختيشوع بن جورجس، وجبرائيل بن بختيشوع وغيرهم، وأصلهم من جنديسابور،١ انتقل جورجس بن جبرائيل إلى بغداد، وكذلك بختيشوع بن جورجس فتناسلوا فيها وكثروا، وآل حنين بن إسحاق العبادي، أوَّلهم حنين بن إسحاق، وهو من أهل الحيرة وجعل بغداد دار إقامته، واشتُهِرَ من سلالته جماعة من أشهرهم ابنه إسحاق، وكان كأبيه في حِذْقِ اللُّغاتِ الكثيرة. وآل شاكر، ويُقال لهم: أبناء موسى؛ لأنَّ أباهم موسى بن شاكر، فتارة يُنْسَبونَ إلى أبيهم وتارة إلى جدهم، وهم ثلاثة: محمد، وأحمد، والحسن. أما محمد، فكان واسع المعرفة بالهندسة والفلك وسائر العلوم الرياضية، وكان أحمد من أمهر الناس في علم الحيل (الميكانيكا)، وكان أبناء شاكر قد عهدوا إلى جماعة من أهل المعرفة باللغات أن يترجموا لهم ما يطلبون من كتب الرياضيات والطَّبيعيَّاتِ والفلسفةِ وغيرها، وكانوا ينفقون على ذلك نحوًا من ٥٠٠ دينار في الشهر، ولهم مُؤلَّفاتٌ كثيرة في علوم شتى، ولهم إبداعات كثيرة ولا سيما في العلوم الرياضية، وهم الذين قاسوا محيط الأرض قياسًا دقيقًا لا يختلف عن قِياسِ المعاصرين إلا قليلًا مع دِقَّةِ الآلات في هذا العصر.

وآل الكرخي أولهم شهدي الكرخي، وكان من أوساط التراجمة، وكذلك كان ابنه إلا انه أتقن هذا الفن في أخريات حياته.

ومن مشاهير حُكماء بغداد: يعقوب بن إسحاق الكندي المتوفى سنة ٢٦٠، فيلسوف العرب، يرجع نسبه إلى ملوك كندة، وكان واسع العلم في الطب والفلسفة والرياضيات والمنطق والموسيقى والنجوم، وله تآليف كثيرة في هذه العلوم تربو على الثلاثمائة، وترجم كثيرًا من كتب الأقدمين ولا سيما كتب الفلسفة، وأوضح فيها المُشْكِلَ ولخَّصَ المستصعب وبسط العويص.

ولم يَكَدْ ينقضي القرن الثالث الهجري حتى برع البغداديون في العلوم الكونية كلها، وظهر فيهم الكثيرون من أعاظم الفلاسفة وكبار الأطباء، الذين يعتمدون في معارفهم على التجاريب الشخصية العملية، منهم أبو بكر محمد بن زكريا الرَّازي المتوفى سنة ٣١١، صاحب البيمارستان العتيق في بغداد، وله في الكيمياء تجارب كثيرة، وقد أُحصي له في علوم الطب والفلسفة والكيمياء أكثر من ٢٠٠ كتاب، ونحن لا نشُكُّ في أن للبغداديين حصة كبيرة في رسائل إخوان الصفاء المشهورة. ومن شاء التَّوسُّعَ في الباب فعليه بالرجوع إلى البابين التاسع والعاشر من كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أُصيبعة.

وقد خمدت جذوة هذه العلوم بعد أفول نجم الخلافة العباسية في بغداد، على أن بعض رجال المغول ومن خلفهم من دول الأعاجم حاولوا إحياء بعض هذه المآثر فيها، وكان في المدرسة المستنصرية رواقٌ خاص بالطب وعلوم الأوائل، ويظهر أنه امتدت به الحياة إلى العهد الذي أُهمِلَتْ فيه هذه المدرسة وأدبر أمرها. ولم تَزَلْ بعض هذه العلوم تُدرَّسُ في المدارس القديمة إلى عهدنا هذا، ولا سيما الرياضيات منها، بما فيها علم الهيئة وعلم الحكمة وعلم المنطق. والبغداديون يعتبرون هذا العلم في مقدمة العلوم العقلية، كما أن النحو يعتبر في مقدمات العلوم اللِّسانيَّة، فالحاجة إلى المنطق في سلامة التفكير كالحاجة للنحو في سلامة التعبير.

١  جنديسابور: بخوزستان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤