الفصل الثالث

العلوم اللِّسانيَّة

كانت البصرة والكوفة في العهد الأُمويِّ ينبوعين فياضين بعلوم اللسان العربي، فلما استقرت الخلافة في بغداد وأقبل الخلفاء والأمراء وكبار رجال الدولة على تنشيط العلوم وبذل الرعاية للعلماء، وفي مقدمتهم علماء اللسان العربي، أقْبَلَ علماء المصريْن إلى مدينة السلام؛ حيث نالوا من خُلفائها وأمرائها كل رعاية وعناية. وكان أئمة الكوفة أسبق إلى ذلك، فكان منهم المؤدِّبونَ لأبناء الخلفاء وأكابر رجال الدولة، وكانت العلوم اللسانية التي يتدارسها أهل المصرين يومذاك: الأدب والنحو. وفي ضمنه الصرف واللغة، والإنشاء والخط، والشعر والشعراء، أما البلاغة فلم تكن من النُّضجِ بحيث يمكن أن تُسمَّى علمًا.

الأدب

وكانوا يريدون به كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل، وهذه الرياضة تكون بالأقوال الحكيمة التي تتضمنها اللغة، كما تكون بالمحاكاة وحُسْنِ النظر في الأمور، والأخير يُسمَّى أدب النفس، كما أن الأول يُسمَّى أدب الدَّرْسِ، وهو موضوع بحثنا هذا.

وأحسن مثال لهذا العلم، وأوله كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وأول كتاب وُضِعَ في بغداد على هذا النمط هو كتاب المنظوم والمنثور لأحمد بن طيفور المتوفى سنة ٢٨٠، صاحب تاريخ بغداد، قالوا: إنه بلغ أربعة عشر جزءًا، ولم يَبْقَ منه اليوم إلا أجزاء قليلة مُفرَّقة في مكاتب شتى. وكتب أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، المتوفى سنة ٢٧٦، كتبًا كثيرة في الأدب، يأتي في مقدمتها كتاب «عيون الأخبار»، ويُعَدُّ من أقدم كتب الأدب التي أخرجتها بغداد بعد كتاب ابن طيفور، وكتاب أدب الكاتب، والكتابان مطبوعان متداولان.

ثم جاء محمد بن يزيد المبرد المتوفى سنة ٢٨٥، وأملى في بغداد كتبه الكثيرة في الأدب في طليعتها كتابه «الكامل» الذي «يجمع ضُروبًا من الآداب بين منثور ومنظوم»، وهو من الكتب الممتعة في بابه، ولقُدامة بن جعفر المتوفى ٣١٠ كتب قَيِّمةٌ في هذا الباب، منها كتاباه نقد الشعر ونقد النثر، وهما من أقدم الكتب في بابها، وأبو علي البغدادي القالي المتوفى سنة ٣٥٦ كان من خير رسل الثقافة بين بغداد في الشرق وقُرطبة في الغرب، وأماليه التي أملاها في جامع الزهراء بقرطبة لم تكن إلا ثمرة دراسته في بغداد نحوًا من ربع قرن.

ثم جاء أبو الفرج الأصفهاني المتوفى سنة ٣٥٦، فأخرج للناس كتاب الأغاني في عشرين مجلدًا ونَيِّفٍ، وقد وقع الاتفاق على أنه لم يُصَنَّف مثله في بابه، وهو مطبوع متداول فلا حاجة لإطالة وصفه.

ولأبي علي المحسن التنوخي المتوفى سنة ٣٨٤، كتاب أسماه نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة، جمعه من المنقولات اللسانية التي لم تُدوَّن في كتاب في زمانه، وقد طُبِعَتْ بعض أجزائه، وهو جامع بين الإمتاع واللذة.

ولأبي حيان التوحيدي المتوفى في أواخر القرن الرابع كتب قيمة في هذا الباب، من أمتعها كتاب المقابسات وكتاب الإمتاع والمؤانسة، وفيه من ألوان الأدب وضروب الفلسفة ما يبهج النفس ويغذي العقل، وفي ثَبْتِ كتبه كتاب اسمه «المحاضرات والمناظرات»، ولعله من قبيل المقابسات لم نقف عليه، ثم جاء الشريف المرتضى علي بن الطاهر المتوفى سنة ٤٣٦، نقيب الطالبيين في بغداد، فأملى كتابه «الغرر والدرر» المعروف اليوم بأمالي المرتضى، وهي مجالس أملاها تشتمل على فنون من معاني الأدب، تكلم فيها على تفسير بعض الآيات المتشابهات من القرآن الكريم، ثم أعقب ذلك ببعض روائع الشعر والنثر، شارحًا ذلك كله ومُعرِّفًا بقائله، وفي ضمن ذلك كثير من الدقائق اللغوية والمباحث النحوية والنكات الأدبية. قال ابن خلكان: «وهو كتاب ممتع يدل على فضل كثير وتوسع في الاطلاع على العلوم …»

هذا، ولا حاجة بنا للإسهاب في هذا الباب؛ لأن الثروة الأدبية التي أنتجتها بغداد أكثر من أن تُحصى عدًّا. وإذا نحن نظرنا إلى ما نقله ابن خلدون عن أشياخه من «أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين؛ وهي: أدب الكاتب لابن قُتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النَّوادر لأبي علي القالي البغدادي. وما سوى هذه الأربعة فتبعٌ لها وفروع عنها.» وجدنا أنَّ لبغداد الحظ الأوفر من أصول هذا الفن، ولا سيما إذا أضفنا إلى هذه الأصول الأربعة أصلًا خامسًا وهو «كتاب الأغاني» للقاضي أبي الفرج الأصفهاني.

ولما أُنشئت المدرسة النظامية في بغداد أُنشِئ فيها كرسي لتدريس الأدب، عُهِدَ به إلى أبي زكريا الخطيب التبريزي المتوفى سنة ٥٠٢، وخلفه على ذلك عليُّ بن أبي زيد الفصيحي، وتلاه أبو منصور الجواليقي شارح أدب الكاتب.

وفي أوائل العصر السادس الهجري اتَّسع مفهوم الأدب عند العلماء، فأطلقوا على العلوم اللسانية من النحو واللغة وغيرها اسم: علوم الأدب. قال الزمخشري المتوفى سنة ٥٣٨: «علوم الأدب يُحترَزُ بها عن الخلل في كلام العرب لفظًا وكتابة.»

وممن أملى مجالس في بغداد يمكن أن تنتظم في هذا الباب أبو السعادات هبة الله بن علي الحسني المعروف بابن الشجري البغدادي نقيب الطالبيين في الكرخ المتوفى سنة ٥٤٢، فإنه أملى أربعة وثمانين مجلسًا اشتملت على فوائد جمة من فنون الأدب.

وكانوا يعتبرون الغناء من فنون الأدب. قال ابن خلدون: «كان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن — الأدب — وكان الكتَّاب والفُضلاءُ من الخواصِّ في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصًا على تحصيل أساليب الشعر وفنونه، فلم يكن انتحاله قادحًا في العدالة والمروءة.» ا.ﻫ.

وقد ألَّفَ عبيد الله بن طاهر، المتوفى سنة ٢٨٩، كتابًا أسماه «الآداب الرفيعة»، جمع فيه أصول النغم وعلل الأغاني وآداب المنادمة إلى غير ذلك، وهذا الاصطلاح يَقْرُبُ جدًّا من الاصطلاح الذي وضعه المعاصرون للنحت والتصوير وما إليهما باسم «الفنون الجميلة».

الشِّعرُ والشُّعراءُ

لم يُؤثَرْ عن أمة من الأمم ما أُثِرَ عن العرب من كثرة الشعر والشعراء، حتى إنهم اتخذوه ديوانًا لمآثرهم ومفاخرهم وسائر مجرياتهم؛ فهو بحق ديوان أخبارهم، ومستودع أفكارهم، وخزانة آثارهم، وإليه المرجع في تقلُّبِ أطوارهم في جاهليتهم وإسلامهم. وكان الشاعر بينهم موضع التجلة والإكبار؛ لأنه مدره العشيرة وحامي ذمارها والمُنافح دون أحسابها.

ولما أصبحت بغداد حاضرة الخلافة، تدفَّقَ إليها الشعراء من كل فَجٍّ ليشهدوا منافع لهم، وليعرضوا ما تَجُود به قرائحهم من الأعلاق النفيسة في قصور خلفائها وأمرائها وكُبرائها، فوجدوا مجال القول ذا سعة، فقالوا: وأجزل لهم رجال الدولة وأولو النعمة العطايا فأكثروا وأجادوا، حتى قيل: إنه لم يجتمع بباب خليفة من خلفاء الإسلام من الشعراء ما اجتمع في باب الرشيد، وإذا أنت تصفحت تاريخ بغداد للخطيب ملكك العجب؛ لكثرة ما يمر فيه أمام نظرك من الشعراء الذين أنبتتهم بغداد أو الذين طرءوا عليها من الأطراف، حتى إنك لا تكاد تسمع بشاعر نابِهٍ في المشرق إلا وجدت له ذِكْرًا بين شعراء بغداد. ولو حاول مُؤرِّخٌ أن يستقصيهم ويلم بأخبارهم لأخرج للناس كتابًا في عدة مجلَّداتٍ، وقد حاول بعض المؤرخين الاستقصاء فأعياه. وأحصى الثعالبي في يتيمته العدد العديد من شعراء بغداد الذين عاصروه، وذكر بعض المؤرخين أن بضع مئات من الشعراء تمالئوا على هجو المتنبي عندما قَدِمَ بغداد في طريقه إلى خُراسان.

فإذا كانت بغداد في أواسط العصر الرابع تَضُمُّ بضع مئات من الشعراء الذين يعادون المتنبي، فكم كان عدد شعرائها الذين يوالونه أو الذين على الحياد؟ وليس المهم في هذا الباب كثرة الشعراء وكثرة ما نظموا، وإنما المهم الحسنات التي أسدوها على هذا الفن والابتداعات التي ابتدعوها فيه. والناقد البصير مضطر إلى الاعتراف بما لشعراء بغداد النابتين فيها والطارئين عليها من الفضل على الشعر في تنويع أغراضه وابتكار البارع من معانيه وأخيلته، ونشر الآراء الحُرَّةِ والمذاهب الجديدة والبراعة في رسم الصور المبتكرة في الأوصاف وغيرها، كما أنه عليهم تقع تَبعةُ إذاعة الزندقة والتشكيك في العقائد والاسترسال وراء الأهواء، وهم أول من فتح باب الغزل في المذكر أو — على الأقل — هم أول من وسَّعَ هذا الباب، وأغرقوا فيه أيما إغراق. كما أنهم أول من وسع باب المجون، وغالوا فيه غلوا تستنكره الطباع السليمة والنفوس المستقيمة، ولم يكترثوا لما يتقيد به المؤمنون من كرائم الخلال ومحامد الخصال. وأكثر المندفعين في هذه المسالك من الموالي الذين لم يملأ الإيمان صدورهم، ولا ارتاحت إلى الدين عقولهم، من أمثال: بشار بن برد، وحماد عجرد، وحسين بن الضحاك، وأبي دلامة. نعم؛ لا يُنكَر أن في أبناء العرب فئة شايعت هؤلاء الموالي في ركوب هذه السُّبُلِ، بل سبقتهم وأربت عليهم، منهم: الحسن بن هانئ الحكمي، ودعبل الخزاعي، وابن سكرة الهاشمي. ويمكن إجمال ما جَدَّ في الشعر ببغداد بما يلي:
  • (١)

    الركون إلى الأنيس من الألفاظ وهجر الغريب والحوشيِّ منها، فبعد أن كان ابن الجاهلية يستسيغ قول القائل:

    وليلة نحسٍ يصطلي القوسَ رَبُّها
    وأقطُعَهُ اللاتي بها يتنبلُ
    دَعَست على غَطْشٍ وبَغْشٍ وصحبتي
    سُعارٌ وإرزيرٌ ووجرٌ وأفكلُ

    أصبح ابن بغداد يتغنَّى بمثل قول الحكمي:

    دَعْ عنك لومي فإن اللَّومَ إغراءُ
    وداوني بالتي كانت هي الدَّاءُ
  • (٢)

    الإكثار من الألفاظ الدخيلة، ولا سيما الدالة على أنواع الخمور وضروب الأزهار وأصناف الأطعمة.

  • (٣)

    استعمال مصطلحات العلوم التي كَثُرت في هذا العصر.

  • (٤)

    الاهتمام بالمحسنات البديعية اللفظية منها والمعنوية؛ كالجناس والتورية ورد العجز على الصدر والطِّباقِ. وأكثر الشعراء ولوعًا بهذه المحسنات: مسلم بن الوليد، وأبو تمام، وعبد الله بن المعتز.

  • (٥)

    الميل إلى سلامة التراكيب وانسجامها مع الاحتفاظ بجزالة الأسلوب وظهور المعنى.

    هذا مجمل ما جدَّ في ألفاظ الشعر، أما ما جَدَّ في معانيه وأخيلته؛ فيتلخَّصُ فيما يلي:
    • (١)

      اختراع الأخيلة الجميلة، وصَبُّها في قوالب جذابة تبهج النفس وتسُرُّ الخاطر.

    • (٢)

      الإيغال في استعمال الخيال الوهمي الذي لا يمكن تحقُّقه في الخارج؛ كقول الحكمي:

      وأخفتَ أهْلَ الشِّرْكِ حتى إنه
      لتخافك النُّطَفُ التي لم تُخْلَقِ

      وقول بعضهم:

      أسكر بالأمس إن عزمت على السـُّ
      ـكر غدًا إن ذا من العجَبِ!
    • (٣)

      ترتيب الأفكار وتنسيقها على وجه يلتئم مع مناهج المنطق السليم والفكر المستقيم، ولا سيما عند الانتقال من حال إلى حال.

    • (٤)

      سلوك الطُّرُقِ الكلامية، ومناهج الحكمة في تأييد المقاصد وتأكيد المطالب؛ مثل قول بعضهم وقد هجاه أحد الأشراف:

      لا تضع من عظيم قدر وإن كنـْ
      ـتَ مشارًا إليه بالتعظيمِ
      فالشريف الكريم ينقص قدرًا
      بالتعدي على الشريف الكريمِ
      ولع الخمر بالعقول رمى الخمـ
      ـرَ بتنجيسها وبالتحريمِ
    • (٥)

      الإكثار من الاستعارات الطريفة والتَّشبهات البارعة. وأكثر الشعراء ولوعًا بذلك عبد الله بن المعتز.

      ويمكن تلخيص ما جَدَّ في أغراضه وفنونه بما يلي:
      • (١)

        الانهماك في غزل المذكر والتوسُّعُ في فنونه، حتى غلب على غزل المؤنث الذي كان شعراء الجاهلية وصدر الإسلام يُصدِّرونَ به قصائدهم ويحلونها به. وأشهر المغرقين في هذا الباب أبو نواس والحسين بن الضحاك. ولم يزل يتفاقم أمر هذا الضَّربِ في الشعر حتى صار جَمَعةُ الدواوين يعتقدون له بابًا قائمًا برأسه.

      • (٢)

        اتخاذ المجون وسيلة من وسائل الملاطفة والإضحاك وبعث السرور في النفوس، ثم الخروج به إلى حدود الإفحاش والهجر. وأول من أفْحَشَ فيه بشار وحماد عجرد وحماد الراوية، ثم جاء أبو نواس فأربى عليهم، ثم جاء ابن حجاج وابن سكرة الهاشمي فشرَّقا فيه وغرَّبا، وأتيا منه بما لم يُسبَقا إليه ولم يُلحَقا فيه، مما يستنكره الذوق السليم وتشمئز منه الطِّباعُ المستقيمة، ومع ذلك فقد كان البغداديون يعُدُّونَ الزمان الذي جاد بابن حجاج وابن سكرة زمانًا سخيًّا.

      • (٣)

        الإقذاع في الهجاء والسَّبِّ وهتك الحرم بما لا عهد للعرب به في عهد جاهليتهم وصدر إسلامهم، إلا ما كان من جرير وبعض خصومه. وأشد الشعراء اندفاعًا في ذلك شعراء الموالي؛ كبشار وابن الرُّومي.

      • (٤)

        الإغراق في المديح والفخر والإمعان بالكذب فيهما، وكان الذين يُولَعون بهذا الضرب من الشعر يقولون: «الشعر أعذبه أكذبه.» وهي فرية تَقُضُّ مضجع الصِّدقِ.

        ومن هنا قَسَّمَ أهل البديع الخروج على المألوف إلى أقسام عديدة؛ أولها: المبالغة، وأرادوا بها ادعاء ما يمكن عقلًا وعادة، وإن كان خارجًا عن المألوف. وثانيها: الإغراق، وهو ادعاء ما يمكن عقلًا لا عادة. وثالثها: الغلو، وهو ادعاء ما لا يمكن عقلًا ولا عادة. وهذا التقسيم يُشْعِرُك بما انتهوا إليه من الخروج عن الممكنات إلى المستحيلات.

      • (٥)

        الاندفاع في وصف الخمر والدعوة إلى شُرْبِها، والتبسُّطُ في وصف السكر والسكارى والمنادمة والندامى، والذهاب في ذلك كل مذهب. ورأس هذه الفئة أبو نواس؛ فقد أتى في هذا الباب بما لم يُسبَقْ إليه ولم يُلحَقْ فيه. نعم؛ كان بعض شعراء الجاهلية كالأعشى يُلِمُّون بهذا الباب إلمامًا خفيفًا، وبعد الإسلام لم يجرؤ على طَرْقِ هذا الباب إلا قليل من الشعراء؛ كأبي محجن الثقفي والأخطل وأبي الهندي. أما في هذا العصر فقد جعله الشعراء دَيْدَنَهُم، وقصروا عليه جل اهتمامهم، والذي ترفَّعَ منهم عن احتساء الشمول لم يترفَّع عن وصف شمائلها، ومن أراد التبسُّطَ في هذا الباب فعليه أن يرجع إلى حلبة الكميت للنواجي المتوفى سنة ٨٥٩.

        على أن عُشاقَ الفضيلة وأهل التقوى لم يعدموا من يطربهم ويجتذبهم إليه بشعره ويسترق قلوبهم ببارع سحره، فقد فتح فريق من شعراء بغداد باب الزُّهْدِ والوعظ والإرشاد وتفنَّنوا فيه، وتطرقوا إلى ترصيعه بالحكم والأمثال، وعلى رأس هذه الفئة أبو العتاهية وأبان بن عبد الحميد اللاحقي، وتبعهما الكثيرون من الشعراء، حتى إن الحسن بن هانئ المعروف بنزعته لم يَخْلُ شِعْرُهُ من نفحات زُهديَّةٍ وعظات صوفية؛ كقوله:

        ما بال دينك ترضى أن تُدنِّسَه
        وثوبُك الدهرَ مغسولٌ من الدَّنَسِ؟!
        ترجو النَّجاةَ ولم تسلك مسالكها
        إن السفينة لا تجري على اليبسِ!

        وكثيرًا ما اقتبس الصوفية شعر المجان من الشعراء وحوَّروا معناه إلى أغراضهم النبيلة؛ فهذا ماجن يُشبِّبُ بغلام يقول:

        إن بيتًا أنت ساكِنُه
        غير محتاج إلى السرجِ
        وجهك المأمول حُجَّتُنا
        يوم تأتي الناس بالحججِ

        فانتزعته بعض الصوفية وقَلَب معناه إلى مناجاة الحَقِّ — عزَّ وجلَّ — ووضع كلمة «الميمون» بدل «المأمول» ورمز بالبيت إلى القلب. والكثير مما يتغنَّى به الصوفية في خلواتهم وجلواتهم من هذا القبيل. على أن للصوفية أنفسهم شعرًا يكاد يذوب رِقَّةً ولُطفًا، يرمزون فيه إلى أغراض خاصة بهم، ومقاصد يعسر شرحها على غيرهم، وهذا الضرب من الشعر لا عَهْدَ للعرب به إلا بعد أن مُصِّرَت بغداد، وكثر فيها العباد والزُّهاد. وفي بغداد توسَّعَ الشعراء في صبِّ المعاني الفلسفية في قوالب شعرية، ومن أشهر المتقدمين في ذلك صالح بن عبد القدوس، وعلى هذه السُّنَّة جرى أبو العتاهية في كثير من شعره، ولا سيما في مزدوجته المشهورة التي يقول فيها:

        إن الشباب حجة التصابي
        روائح الجنة في الشبابِ
        إن الشباب والفراغ والجدَهْ
        مفسدة للمرء أي مفسدَهْ
        ومن مشاهير البغداديين الذين سلكوا هذا السبيل الحسين بن عبد الله المعروف بابن شبل١ البغدادي المتوفى سنة ٤٧٤، وله في ذلك مُطوَّلاتٌ ومقطعات بارعة جدًّا، فمن مطولاته قصيدته التي مطلعها:
        بربك أيها الفلك المدارُ
        أقصد ذا المسير أم اضطرارُ؟!

        ومنها قصيدته الهمزية التي يقول فيها:

        صِحَّةُ المرء للسقام طريق
        وطريق الفناء هذا البقاءُ
        بالذي نغتذي نموت ونحيا
        أقتل الداء للنفوس الدواءُ
        قَبَّحَ الله لذة لأذانا
        نالها الأمهات والآباءُ
        نحن لولا الوجود لم نألم الفقـْ
        ـدَ فإيجادنا علينا بلاءُ

        وقد جال أبو العلاء المعري في هذا الميدان جولان فارس ماهر، فبَزَّ من سبقه وأعجز من لحقه، ولم يركب هذه الطريق ركوبًا جديًّا إلا بعد رجوعه من بغداد، فهل لبغداد أثر في نزعته هذه؟

        وآخر مَنْ علمناه سلك هذه الطريق من البغداديين في عهد بني العباس عبد الحميد المعروف بابن أبي الحديد المتوفى عام ٦٥٥، شارح نهج البلاغة، ومما يُنسَبُ إليه في هذا الباب قوله:

        تاه الأنام بسكرهم
        فلذاك صاحِي القوم عربَدْ
        مَنْ أنت يا رسطو ومَنْ
        أفلاط قبلك يا مبلَّدْ؟!
        ما أنتمُ إلا الفرا
        ش رأى السراج وقد توقَّدْ
        فدنا فأَحْرَقَ نَفْسَه
        ولو اهتدى رشدًا لأبعَدْ

        وأهَمُّ ما حَظِيَ به الشعر من التجديد في بغداد انصراف الفحول من الشعراء عن الوقوف على الدِّيارِ والبكاء على الأطلال إلى وصف الأنهار والأشجار والأزهار والثِّمارِ ومجالس اللهو واللعب وضروب الأنس والطرب، وإمام هذه الجماعة الحسن بن هانئ، فإنه كان يرى من النَّقصِ أن يفتتح الشاعر شعره — وهو في بغداد بين الأنهار والأشجار — بالوقوف على الطلول المحيلة والآثار الطامسة، ويرى من الواجب على الشاعر أن يكون واقعيًّا، يصف شعوره وإحساساته وخَلجاتِ نفسه ويُصوِّرُها تصويرًا بارعًا تهتزُّ له النفوس، فكأنه يسحرها أو يسكرها؛ لأنه يُصوِّر لها ما تحنُّ إليه وتَحنُو عليه، قال:

        صفة الطلول بلاغة القُدْمِ
        فاجعل صفاتك لابنة الكرْمِ

        وقال:

        عاج الشقي على رسم يُسائلُهُ
        وعجتُ أسأل عن خمارة البلَدِ
        يبكي على طلل الماضين من أسد
        لا درَّ درَّك قُلْ لي مَنْ بنو أسدِ؟

        وقد تَبِعَه في مذهبه هذا خلقٌ كثيرٌ، فانصرفوا إلى وصف المُشاهَدَاتِ من مظاهر المدنية؛ كالقصور والأنهار والحياض والرياض والسفن ومجالس القصف … إلخ. وأشهر مَنْ جال في هذا الميدان ابن المعتز والصولي وابن الرومي. ونشأ شعراء اتخذوا من الأحداث التافهة موضوعات أطنبوا في شرحها وأسهبوا في وصفها، فعلوا كل ذلك للإضحاك والإيناس، كما فعل أبو دلامة في وصف بغلته الخبيثة الطباع، وكما فعل الحمدوني في وصف طيلسان ابن حرب. وخلاصة القصة أن محمد بن حرب أهدى الحمدوني طيلسانًا خَلِقًا؛ فأخذ يَصِفه ويتندَّر فيه، حتى قال فيه قُرابة مائتي مقطوعة لا تخلو واحدة منها من معنًى بديع، منها قوله:

        يا ابن حرب كسوتني طيلسانًا
        أمرضَتْه الأوجاع فهو سقِيمُ
        وإذا ما رفوته قال سبحا
        نك محيي العظام وهي رميمُ!

        وقال:

        يا ابن حرب كسوتني طيلسانًا
        ملَّ من صحبة الزمان وصدَّا
        طال ترداده إلى الرفو حتى
        لو بعثناه وحده لتهدَّى!

        ومن هذا القبيل تندُّرُه في شاة سعيد التي بعث بها إليه، فملأ الدنيا شعرًا بوصفها.

        وشيء آخر طرأ على أغراض الشعر في بغداد، وهو رثاء الأئمة الذين رحلوا إلى جوار ربهم منذ أمد بعيد، وكان الشعراء من قبل يقصرون الرثاء على الأموات في حرارة المصاب … ومن طريف ما يُحكَى في هذا الباب أن أحد الأدباء وقف عند بعض الشعراء على قصائد يرثي بها رجالًا لا يزالون على قيد الحياة، فقال له: ما هذا؟! قال: إنَّ هؤلاء لا بد أن يموتوا ويريد أهلوهم أن نُجِيدَ في رثائهم على البديهة وهو أمر صعب؛ ولذلك أعددتُ هذه المراثي لهم منذ الآن.

        هذا أهم ما جَدَّ في بغداد من أغراض الشعر وفنونه، أما في أوزانه وقوافيه فيمكن إجمال ما جدَّ فيهما في بغداد بما يلي:
        • (١)

          إحداث المزدوج، وهو جعل كل شطرين على قافية واحدة، وقد أكثر منه أبان بن عبد الحميد اللاحقي وأبو العتاهية الغزي وقد مَرَّ مثاله.

        • (٢)

          الإكثار من النَّظمِ في البحور التي كان الأقدمون لا يطرقونها إلا قليلًا، كالمضارع والمقتضب، وأكثر مَنْ سَلَكَ ذلك أبو العتاهية وابن المعتز.

        • (٣)

          النظم على أوزان ولَّدَها الخليل من أوزان الشعر الأصلية، وزاد عليه فيها بعض العروضيين.

        • (٤)

          النظم على أوزان اخترعها بعض قدماء الشعراء في بغداد؛ كمسلم بن الوليد وأبي العتاهية وأبي نواس.

          وفي بغداد اخْتُرِعَ المواليا، اخترعته بعض فتيات البرامكة على أثر نكبتهم، وتبعها الناس فيه. وكذلك اخترع الناس أوزانًا كثيرة، ولكنها كانت تُنظَم بألفاظ وأساليب هي إلى لغة العامة أقرب منها إلى اللغة المعربة.

          أما المُوَشَّحاتُ فإنها من مخترعات الأندلسيين، وعنهم أخذها أهل المشرق في أواخر زمن بني العباس.

          ولم يَزَلْ أمر الشعر في بغداد تقليديًّا إلى أن ظَهَرَ الشعراء المعاصرون، وفي طليعتهم الأستاذان الفاضلان معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي، فانتقلا بالشعر إلى سننه القويم، واتخذا منه خير أداة لتصوير الأفكار العصرية ودقيق الإحساسات النفسية، كما اتخذا منه وسيلة لتسجيل الأحداث المهمة والكوارث المُلِمَّة، فإذا أنت تصفحت ديوان الرصافي اليوم تجده أصدق سجل لما عانته بغداد في زمانه من آلام وما تطلعت إليه من آمال، وما ألمَّ بالعراق خاصة وببلاد العرب عامة من أفراح وأتراح، وما قاسته الأمة من أهوال وما تقلبت فيه من أحوال، يندب ماضيها الداثر، وعزَّها الغابر، كما يتوجع لما تقاسيه من خيبة الآمال في عصرها الحاضر، ويهيب بأبنائها ألا يقعدوا عن ضيم، ولا يستنيموا لمكروه. وكذلك فعل الأستاذ الزهاوي؛ فإنك إذ تصفحت شعره وجدت أنه يريد أن يدفع بالأمة إلى كل جديد، ويريد منها أن تسلك إلى الحضارة كل طريق.

          ولما انبثق فجر النهضة الحديثة وجدت بغداد من هذين اللِّسانين خير أداتين لإنهاض الهِمَمِ، وشحذ العزائم، وإلهاب جذوة الحماسة في النفوس.

          هذا ولا يمكن أن تنسى بغداد أولئك الأفاضل الذين رفعوا لواء الشعر على ضفاف الفرات حينًا من الدهر، ثم انتقلوا به إلى ضفاف دجلة، فكان لهم فيها قَدَمُ صدق. ويأتي في الطليعة منهم الشيخ محمد رضا الشبيبي، وأخوه الشيخ محمد الباقر، والشيخ علي الشرقي، ومحمد المهدي البصير، ومحمد المهدي الجواهري. ولا يفوتنا أن نذكر بالإكبار الشيخ عبد الحسين الأزري الذي آزر النهضة الحديثة بقصائده المأثورة في مواقفه المشهورة، والأستاذ الصافي نزيل دمشق.

سانحة

وللحياة العقلية في مدينة السلام شرح يطول، وتاريخ تزدحم فيه الأبواب والفصول، وما ذكرناه إنما هو من قَبيلِ الإلماع والإيماء، وما هو في واقع الأمر إلا بمثابة زهرات من رَوْضٍ أريض، وجولة قصيرة المدى في مجال طويل عريض. وفي رأينا أن التاريخ العقلي هو التاريخ الحي الخالد الذي يحمل معه الشاهد، وما سواه من التاريخ فأكثره يدور على الاعتزاز بالجيوش، وقتل النفوس، وثلَّ العروش، والتحكم في الرِّقاب، ومصادرة الحريات، واجتراح الموبقات، واقتراف المخزيات، والتكالب على الحطام، والتغالب على السلطان الزائل، والجاه الزائف. أما ثمار النُّهى ونتاج الأفكار فإنها الوجه المشرق من التاريخ الذي ينير للإنسانية منهاجها، ويصف لها علاجها، ويسمو بها إلى مثلها العليا ومراتبها القُصوى.

ذهبت فتوحات الإسكندر وذهبت معها معالمها وآثارها، وبَقِيَ منطق أرسطو حيًّا على الدهر، ينير العقول ويغذِّي النُّفوسَ، وطمست الأيام معالم مدينة السلام؛ فمحَتْ آثار قصور المنصور والأمين والمأمون، وبقي فقه ابن ثابت وابن حنبل يقتطف منهما العباد زاد المعاد، ويعتمد عليهما الحكام في ديار الإسلام، في ضبط مقاييس الفَصْلِ بين الخصوم، وإقامة موازين العدل بين الناس. وطاحت الطوائح بتلك الثروات الطائلة، والرِّياش الفاخرة، والنعيم الوارف الظِّلال، أما الثروة العقلية فقد صارعت الأيام، وغالبت الأحداث، وناهضت الكوارث، ودافعت المصائب حتى كُتِبَ لها الظفر، وكان الغَلَب؛ فعاشت على الرغم من أنف الزمن تتلألأ نورًا وتتيه جمالًا وجلالًا؛ فالكثير من آثار أولئك العلماء والأدباء والحكماء من البغداديين لا يزال زينة هذه الحياة وجمالها وزهرتها، وسيبقى خالدًا على الزمن ما بَقِيَ اللسان المبين غذاء للعقول الراجحة، ودواء للأهواء الجامحة، ورواء للنفوس الظامئة، ومِعراجًا للعزائم الماضية والهِمَم العالية والأرواح الصافية.

١  ابن أبي أُصيبعة (ج١ ص٢٤٧).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤