القسم الثاني

تقدم في القسم الأول وصف المرأة الجاهلية في حياتها المادِّية، وسأصف في هذا القسم حياتها الأدبية، وما كان لها من المنزلة والتأثير في أُسرتها وبين قومها، وأول ما أذكر من ذلك سلطتها على القلوب واستيلاؤها على الأفكار، حتى كانت مفتتح كل قول ومنصرف كل حديث، كالبسملة تُقدَّم بين يدي كل كلام، وكالقبلة ينثني إليها وجه كل داعٍ، بحيث لم يكن من شعرٍ يُنظَم إلا يقف الشاعر في مطلعهِ يحيي المرأة تحية خاشعٍ لها خاضع، ويصف في مستهله شوقهُ إليها صفة هائم بمحاسنها مفتون بمحبتها، وما برحوا يعتقدون ذلك فرضًا واجبًا عليهم، حتى عم ذكر المرأة سائر أقوالهم ومنظوماتهم مهما اختلفت فيها الأحداث النفسانية، فصاروا يذكرونها في غير مقامات الصبابة وفي حين لا داعي إلى ذكرها، كفي أحيان الغضب مثلًا وطلب الثأر مما لا يبقى للنفس فيهِ محلٌّ لرقة القلب ووصف الأشواق، والشواهد على ذلك كثيرة، أجتزئ منها بواحد آخذهُ من شعرٍ لذي الإصبع العدواني، قالهُ في ابن عمٍّ لهُ كان يعاديهِ ويبغيهِ شرًّا، فلما هاج بهِ هائج الغيظ قال فيهِ قصيدةً افتتحها بذكر امرأةٍ لهُ اسمها أم هارون أولها:

يا من لقلبِ شديد الهم محزونِ
أمسى تذكَّر رَيَّا أمَّ هارونِ

وأتبع ذلك بأبيات في مثل هذا المعنى وصف فيها الشوق وحرقة البعد، ثم وقف فجأة فقال:

لي ابنُ عمٍّ على ما كان من خُلُق
مختلفانِ فأقليهِ ويقليني

فجمع في قصيدة واحدة بين صفة الحب وصفة البغض، وما أبطأت مثل هذه العادة أن تملكت من كل الخواطر، حتى صار النسيب وهو وصف المرأة وذكر الأشواق؛ واجبًا لا بد منهُ في مطلع كل قصيدة، ولا سيما قصائد المدح، كما يشاهد في المنقول من شعر العرب؛ ولذلك لما أنكر الحسن بن زيد على ابن المولى ذكرهُ النساء في شعرهِ وتشبيبهُ بهنَّ وقال لهُ: من ليلى هذه التي تصفها في شعرك؟ قال لهُ ابن المولى: ما هي إلا قوسي هذه، سميتها ليلى لأذكرها في شعري؛ لأن الشعر لا يحسن إلا بالتشبيب. ووقع لابن المولى هذا مثل هذه القصة مع عبد الملك بن مروان لما قال لهُ: أخبرني عن ليلى التي تقول فيها:

وأبكى فلا ليلى بكت من صبابة
إليَّ ولا ليلى لذي الودِّ تبذلُ

والله لئن كانت حرةً لأزوجنك إياها، ولئن كانت أمة لأبتاعنَّها لك بما بلغت. فقال: كلا يا أمير المؤمنين، ما كنت لأذكر حرمة حرٍّ ولا أَمتهُ، ما ليلى إلا قوسي هذه سميتها ليلى لأُشبب بها. فقال لهُ عبد الملك: ذلك أظرف لك. وزاد المتأخرون تمسكا بهذه العادة حتى أصبح كل شاعر عندهم مضطرًّا أن يتعشق ويصف النساء في مقدمة شعرهِ ولو لم يكن متيَّمًا بهنَّ، وقد أنكر ذلك عليهم المتنبئ:

إذا كان مدحٌ فالنسيب المقدمُ
أكلُّ فصيحٍ قال شعرًا متيمُ

وعلى كلٍّ فإن لم يكن بدٌّ من النسيب والتغزل في الشعر، فكل ذي حظٍّ من الأدب يؤثر معي طريقة العرب الأقدمين في التشبيب بالنساء والشكوى من بعادهنَّ والتشوق لقربهنَّ على هذه الطريقة القذرة، التي ولع بها المولدون من التغزل بالغلمان وذكر أوقات الاجتماع بهم، وما يُرتكب في خلالها من ضروب المحرمات وأصناف الفسق، مما أخذوهُ — ولا بد — عمن خالطهم بعد الجاهلية من الأعاجم، ولينظر أي فرق بين نسيب العرب وبين تغزل المولدين، فإن شعر الأولين كان في الغالب عفيفًا، إذا أُنشِدتهُ العذراء في خدرها لم تستحي له، بخلاف الثاني مما يرجع الفضل فيهِ إلى تأثير المرأة على أفئدة العرب وحفظها لآدابهم.

وقد كانت المرأة عالمة بهذه المنزلة التي لها في القلوب، فكانت تستخدمها، لا لتبلغ مآربها، ولكن لتبعث روح الحمية والإقدام في نفوس قومها، وتضرم في أفئدة الشبان نار الشجاعة والغيرة، وتحملهم بما لها من النفوذ في أهوائهم على الترفع عن الدنايا واجتناب مساوئ الأخلاق. وقد نُقل عن بعض نساء بني كنانة، لما خشيت من خيل تغير على حيِّها، أنها خرجت من خيمتها وكانت حسناء تامة الحسن، وجلست بين صواحب لها، ثم دعت وليدةً من ولائدها وقالت: ادعي لي فلانًا. فدعت لها رجلًا من الحيِّ، فقالت لهُ: إن نفسي تحدثني أن خيلًا تغير على الحيِّ، فكيف أنت إنْ زوَّجتك نفسي؟ فقال: أفعل وأصنع. وجعل يصف نفسهُ فيفرط، فقالت لهُ: انصرف حتى أرى رأيي. وأقبلتْ على صواحباتها فقالت: ما عندهُ خير، ادعي لي فلانًا. فدعت آخر، فخاطبتهُ فأجابها بمثل جوابهِ فقالت لهُ: انصرف حتى أرى رأيي. وقالت لصواحباتها وما عند هذا خير أيضًا. ثم قالت للوليدة: ادعي لي ربيعة بن مكدم. فقالت لهُ: مثل قولها للرجلين، فقال لها: إنَّ أعجزَ العجز أن يصف الرجل نفسهُ، ولكني إن لقيت أعذرت، وحسْب المرء غناءً أن يُعذِر. فقالت لهُ: قد زوَّجتك نفسي، فاحضر غدًا مجلس الحيِّ ليعلموا ذلك. فلما كان الغد تزوَّجها وخرج من عندها ودافع الخيل عنها خير دفاع، فليُنظَر كيف أن هذه المرأة لما كانت عارفة بمقدار السلطة التي لها على النفوس، ورأت أن المقام حينئذٍ أصبح حرجًا واحتاج الحيُّ إلى من يردُّ عنهُ هجمات العدوِّ؛ بذلت نفسها جائزة لمن يحمي حوزتها، ولم تبخل بجمالها على أول فارس رأت فيهِ الكفاءة للدفاع، وإن كانت ربما لم ترَ فيه الزوج الذي يهواهُ قلبها.

ومن أظهر الدلائل الشاهدة بما كان للمرأة من التأثير في أفئدة قومها، ما نُقل عن ابنتي الفند الزِمَّاني يوم التحالُق، أنها لما اشتدت الوغي وحمي القتال وخاف بنو بكر من الفرار، عمدت إحداهما إلى أثوابها فألقتها عنها وأقبلت عاريةً مجردةً، وجعلت تحضُّ الناس وتنشد الأشعار، ثم اقتدت بها أختها الأخرى فكشفت عن جسمها، ووثبت بين القوم تحرِّض الفرسان على القتال وهي تنشد:

نحن بنات طارقِ
نمشي على النمارقِ
إن تُقبلوا نعانقِ
أو تدبروا نفارقِ

فتحمَّس القوم وثارت في رءوسهم حمية الجاهلية، ووثبوا يتقاتلون قتالًا منكرًا، ولا جرم أن المتأدب بآداب هذا العصر يستفظع فعل هاتين الفتاتين وينسبهما إلى القحة والفجور، كما اتهمهما بذلك بعض الرواة، ولكن من راجع ما ذكرتهُ من معرفة المرأة بسلطتها على الأفكار وتأثيرها في النفوس، وتدبَّر أخلاق أهل الجاهلية وصحة آدابهم؛ قضى أنهما لم تفعلا ما فعلتا إلا لتضرما في صدور المتقاتلين نار الغيرة على حماية الأعراض، ودفع العار الذي يلزم من الفرار، دون أن يخطر لهما ببال أن ظهورهما بذلك المظهر قد ينكر عليهما أو ينسب إلى سفاهة وفجور؛ نظرًا للعفة التي كانت متصفة بها المرأة في الغالب، وحرصِها على صيانة النفس من الانقياد إلى ما يأمر بهِ داعي الشهوات والاستسلام إلى أميال الرجل، حتى فيما كان يجري بينهما من مطارحات الحب وأحاديث الغرام، مما لا يبقى للنفس معهُ قدرة على كبح جماح الهوى والإغضاء عن مطالب القلب. ولذلك كان بعض النساء، لشدة تمسكهنَّ بأذيال العفة، إذا اشتد بهنَّ الغرام يؤثرنَ الموت طاهرات على التلطخ بأوضار الإثم. وقد عُرفت بذلك خاصةً قبيلة بني عذرة واشتهر عنها، حتى كان العرب إذا أرادوا أن يصفوا الحب الطاهر قالوا عنهُ حبٌّ عذريٌّ، نسبةً إلى هذه القبيلة، كما يقال عند غيرهم حب أفلاطوني.

بيد أن المرأة كانت، مع هذه الحصانة والنزاهة، كثيرًا ما تُعرَّض للتهمة وسوء الظن، فيحلُّ بها البلاء على غير استحقاق، وذلك أن العرب لشدة غيرتهم كانوا إذا أراد أحدهم سفرًا عمد إلى شجرة فعقد غصنين من أغصانها، وهو ما كانوا يسمونهُ بالرتم، فإن رجع وكان الغصنان على حالهما، قال إن امرأتهُ لم تخنه، وإلا فقد خانتهُ. وعلى ذلك فإن عرض المرأة ونقاءه كان موكولًا إلى رحمة القدر، متوقفًا على غصنين ربما هبت الريح ففصلتهما، أو عمد إليهما بعض من لهُ حاجة فحل عقدهما، ومن ثم لا يخلو أن يكون بعض ما نُقل من الأبيات التي اتُّهمت فيها المرأة بالخيانة وبذل العرض مسببًا عن مثل ذلك، وبالتالي جديرًا بالاطراح في مقام الحكم والاستشهاد.

ومن النساء اللواتي اشتهرنَ بالعفة ليلى بنت لكيز الملقبة لذلك بالعفيفة، وكانت تامة الحسن كثيرة الأدب، خطبها كثيرون من أشراف العرب وأبناء الملوك، فصانت نفسها تعففًا عنهم، وعن ابن عمها البرَّاق بن روحان مع رغبتها فيهِ، ثم سمع بها ابنٌ لكسرى ملك العجم، فبعث من اختطفها وحملها إليهِ، وأرادها على التزوج بهِ فأبت، فجعل يضيِّق عليها ويضربها، وهي لا تزداد إلا منهُ نفرةً وعنهُ تصونًا، حتى استنقذها ابن عمها البرَّاق. وهي القائلة عن ابن كسرى لما جعل يعذبها:

يكذب الأعجم لا يقربني
ومعي بعض حساسات الحيا

على أن هذه العفة الغالبة لم تكن لتثني بعض النساء عن حب الفجور وإيثار السفاح؛ فإن العواهر لا يخلو منهنَّ مكان، ولا تسلم من آفتهنَّ أُمة، غير أن أكثر ما كانت تأتيهنَّ العرب إذا وفد الليل وخيَّم الظلام، حتى إذا هموا بالرجوع أرخوا أُزُرهم لتنجرَّ على آثارهم فلا تبين، كما ذكر ذلك التبريزي في شرح قول العوراء بنت سُبيع:

طيَّان طاوي الكشح لا
يُرخي لمظلمةٍ إزارَه

ويؤخذ من قول الآخر:

ألا رجلًا جزاهُ الله خيرًا
يدلُّ على محصلِّةٍ تُبيتُ

إن المرتاد لهنَّ كان إذا لم يهتدِ إلى موضع إحداهنَّ لا يدَع أن ينشدها مسترشدًا إليها، ومعنى المحصِّلة هنا المرأة التي تختلف إليها الرجال، كما هو الأشبه والأظهر في المراد من هذا البيت، لا التي تحصِّل تراب المعدن وتميزهُ كما نقل في تفسيرها صاحب كتاب النوادر في اللغة.

ولكن أين مكان هؤلاء المومسات من سائر نساء العرب اللواتي كنَّ لشدة إيثارهنَّ للعفاف لا يقنعنَ لأجلهِ بالترفع عن ملابسة المحرَّمات واقتراف المحظورات، بل يطمحنَ إلى ما هو أسمى من ذلك همةً وأجلَّ فضيلةً ويصنَّ النفس أيضًا عما هو حِلٌّ لهنَّ مباح، حتى لقد كانت الفتاة المضطرمة شبابًا يُعرَض عليها الزوج فتأباهُ لاعتقادها عدم كفاءتها لهُ، أو تؤثر الدميم الخلقة الشريف النسب المشهور بالشجاعة على الصبيح الوجه الضئيل النسب المعروف بالجبن، ثم لا تتزوَّج الأول حتى تحملهُ بما استقرَّ لها من السلطة في فؤادهِ على فعل ما يكسبهُ الفخر وترامي الصيت بين قبائل العرب، وأنا ناقلٌ في الاستشهاد على ذلك قصةً لا أحسب أن التاريخ أورد مثلها عن أمةٍ مثل العرب نشأت في القفار لا أَدب لها مكتسب إلا آدابها النفسانية، وهي ما حكاهُ صاحِب الأغاني عن الحارث بن عوف، أنهُ خطب إلى أوس بن حارثة الطائي ابنتهُ ومعهُ خارجة بن سنان، فردهُ أوس لأول وهلة، ثم أجابهُ وقال لزوجتهِ: ادعي لي فلانة. لأكبر بناتهِ فأتتهُ فقال: يا بنية، هذا الحارث بن عوف سيد من سادات العرب، قد جاءني خاطبًا وقد أردت أن أزوِّجِك منهُ، فما تقولين؟ قالت: لا تفعل. قال: ولِمَ. قالت: لأني امرأة في وجهي رَدَّة (أي قبح) وفي خلُقي بعض الشدة، ولست بابنة عمهِ فيرعى قرابتي، وليس بجارك في البلد فيستحييك، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلِّقني فيكون عليَّ في ذلك ما فيهِ. قال: قومي بارك الله عليكِ، ادعي لي فلانة. لابنتهِ الوسطى فدعتها، فقال لها مثل قولهِ لأختها فأجابتهُ بمثل جوابها وقالت: إني خرقاء ليست بيدي صناعة، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلِّقني، فيكون عليَّ في ذلك ما تعلم. فقال قومي بارك الله عليكِ، ادعي لي بهية. يعني الصغرى فقال لها كما قال لهما. فقالت: أنت وذاك. فقال: إني قد عرضت ذلك على أختيكِ فأبتاهُ. فقالت — ولم يذكر لها مقالتيهما: لكني والله الجميلة وجهًا الصناع يدًا الرفيعة خُلقًا الحسيبة أبًا، فإن طلَّقني فلا أخلف الله عليه بخير. فقال بارك الله عليكِ. ثم خرج إلى الحارث فقال لهُ: قد زوَّجتك يا حارث بهية بنت أوس. قال: قد قبلت. فأمر أمها أن تهيِّئها وتصلح من شأنها، ثم أمر ببيت فضُرب لهُ وأنزلهُ إياهُ. قال خارجة بن سنان: فلما هُيِّئت العروس بُعث بها إليهِ، فلما أقبلت عليهِ لبث هنيهةً، ثم خرج إليَّ فقلت: أبلغت شأنك؟ قال: لا. قلت: وكيف ذلك؟ قال: لما دنوت منها قالت: مَهْ، أعند أبي وإخوتي؟! هذا والله ما لا يكون.

قال: فأمر بالرحلة فارتحلنا وسرنا ما شاء الله، ثم قال لي: تقدم. فتقدمت، وعدل بها عن الطريق، وما لبث أن لحق بي فقلت: أكان ما تحب؟ قال: لا والله. قلت: ولِمَ؟ قال: قالت لي: أكما يُفعل بالأمة الجليب أو الأخيذة السبيِّ؟! لا حتى تنحر الجُزُر وتذبح الغنم وتدعو العرب وتعمل ما يُعمل لمثلي. قلت: إني لأرى همةً وعقلًا، وأرجو أن تكون المرأة منجبةً إن شاء الله. فرحلنا حتى جئنا بلادنا، فأحضر الإبل والغنم، ثم دخل عليها وخرج إليَّ فقلت: أبلغت ما تريد؟ قال: لا. قلت: ولِمَ؟ قال: دخلت أُريدها وقلت لها: قد أحضرنا من المال ما قد ترينَ. قالت: لقد ذكرتَ لي من الشرف ما لا أراه فيك. قلت: وكيف؟ قالت: أتفرُغ لزواج النساء، والعرب تقتل بعضها؟! وذلك في أيام حرب عبس وذبيان. قلت: فيكون ماذا؟ قالت: اخرج إلى هؤلاء القوم، فأصلح بينهم ثم ارجع إلى أهلك فلن يفوتك. فقلت: والله إني لأرى همةً وعقلًا، ولقد قالت قولًا فاخرج بنا. فخرجنا حتى أتينا القوم فمشينا بينهم بالصلح واحتملنا عنهم الديات فكانت ثلاثة آلاف بعير، وانصرفنا بأجمل الذكر. انتهى ببعض تصرف. فهل سُمع قط بمثل هذه العفة الشريفة والعقل الراجح؟ يُعرض على الفتيات في شرخ صباهنَّ سيدٌ من سادات العرب فتأباهُ بعضهنَّ بدعوى أنها لا تصلح لهُ، وترضاهُ إحداهنَّ وبدلًا من أن تتمتع بما أُحلَّ لها تصون عنهُ النفس تعففًا؛ أنفةً من أن تشتغل بلذتها، بينما الناس يقتل بعضهم بعضًا. لا غرو أن مثل هذه العفة في مثل تلك الهمة لغريبة في مثل تلك الفتيات اللواتي لم يصحبنَ إلا الوحش في الفلوات.

وفي هذا الشاهد شواهد أُخر جاءت مثبتةً لبعض ما تقدم ذكرهُ من موضوعات هذا البحث، أنبِّه عليها تعزيزا للدعوى، فمنها شاهد بأن الفتيات كنَّ لا يُغْصَبنَ على التزوُّج بمن لا يردنهُ، بل تُعرض عليهنَّ في الغالب الأزواج فيخترنَ من يشأن ويرفضن من يشأنَ. ومنها سلطة المرأة على الرجل وتأثيرها في أفكارهِ وأعمالهِ، بحيث كان يأتمر بأمرها ولا يعصي لها نهيًا. ومنها عناية بعض الأُسر الكريمة بتعليم فتياتهنَّ بعض الصنائع اليدوية، واعتقاد هؤلاء الفتيات تعلمهنَّ لها من أفضل واجبات المرأة الكاملة وأهمِّ الضروريات المعينة على الزواج، خلافًا لما تقدم من أَنفة أكثر النساء من الامتهان وتجافيهنَّ عن الصناعات للإماء والحرائر غير العريقات في الشرف.

وقد كانت النساء لهذه العفة التي وصفت حريصاتٍ على سمعتهنَّ، يغرنَ عليها غيرتهن على شرف أُسرتهنَّ، فكنَّ يرضين بكل شيءٍ خلا قبح الأحدوثة، ويؤثرنَ الموت على فعل ما يغضُّ من ذكر قومهنَّ أو يلحق بهنَّ العار. وقد جاء عن فاطمة بنت الخرشب، وهي إحدى النساء المنجبات، وكان يقال لبنيها الكملة؛ أنهُ لما ظفر بها حمل بن بدر راكبةً وقادها بجملها، قالت لهُ: أَيْ رجل، هل ضلَّ حلمك؟ والله لئن أخذتني فصارت بي وبك هذه الأكمة التي أمامنا وراءنا، لا يكون بينك وبين بني زياد صلحٌ أبدًا؛ لأن الناس يقولون في هذه الحال ما شاءوه، وحسبك من شرٍّ سماعهُ. قال: إني أذهب بكِ حتى ترعي عليَّ إبلي. فلما تيقنت أنه ذاهب بها، رمت بنفسها على رأسها من البعير فماتت؛ خوفًا أن يلحقها أو يلحق بنيها عارٌ فيها.

لا جرم إن أن اجتماع مثل هذه الخصال الشريفة في المرأة الجاهلية كان نتيجة حسن تأديب والديها لها، وأَخصُّ بفضل هذه التربية المرأة نفسها، وإن كان للرجل فيها حظ ونصيب، فإن الوالدة كانت للأَدب الذي نشأَت عليهِ تحرص على تهذيب ابنتها بمثل ما هذبت بهِ نفسها، وتُعنى ببث روح العفة وعزة النفس في فؤداها، حتى إذا ترعرعت خرجت نظيرها لا همة لها إلَّا كرم الأخلاق وطيب الخصال، ولا رغبة إلا في نقاء العرض وحسن الذكر، كما يشهد بذلك ما ذكر قريبا عن بنات أوس الطائي وتصرف الصغرى منهنَّ خاصةً مع زوجها. وقد نقل الرواة وصيةً أوصت بها امرأة عوف بن محلم الشيباني ابنتها لما خطبها عمرو بن حجر ملك اليمن، يُعلم منها مبلغ التربية التي كانت تربي بها النساء فتياتهنَّ في الجاهلية، ومنهج التأديب الذي كنَّ ينهجنهُ في تعليمهن كيف يستسرنَ في المنزل، ومع الزوج إذا دُفعنَ إلى الزواج، ومنها يُستدل على مقدار الحكمة التي كانت متصفةً بها الأنثى في الجاهلية، ووفرة العقل الذي كانت تستضيءُ برأيهِ في كل أمرٍ تباشرهُ أو خطةٍ تجري عليها، وقد نُقل عنها من الأقوال الآخذة بمجامع السداد المستولية على لب الصواب ما يشف عما كان يتقد فيها من الذكاء والنباهة. ومن طالع أقوال هند بنت الخس، إحدى حكيمات العرب الأربع، وما كان يدور بينها وبين أبيها من الأحاديث؛ تيقن صحة ما ذهبت إليهِ، واستدل بهذه الآثار على رفعة المكانة التي بلغتها المرأة في تلك القفار.

ومع كل ذلك لم تكن الأنثى تكتفي بهذه الفضائل، بل كانت تطمح إلى كثير من مزايا الرجل فتشاركهُ فيها: كالكرم والشجاعة والخوض في معامع الحروب والحرص على إدراك الثأر مما هو خاصٌّ بالرجل مشهور بهِ وحدهُ.

أما الكرم فإنها كانت لا تفرغ يومها أجمع من استقبال الضيوف وبذل القرى لهم، ولو لم يحضرها في ذلك زوجها، ومن المشتهرات بالجود والسخاء سفَّانة بنت حاتم الطائي، كان أبوها يعطيها القطعة من الإبل بعد القطعة فتهبها وتعطيها للناس، فقال لها حاتم: يا بنية، إن القرينين إذا اجتمعا في المال أتلفاهُ، فإما أن أعطي وتمسكي أو أمسك وتعطي؛ فإنهُ لا يبقى على هذا شيءٌ. فقالت: لا أمسك أبدًا. قال: وأنا لا أمسك أبدًا. فقاسمها مالهُ وتباينا. ولما كان الكرم داعيًا إلى الشجاعة كانت المرأة لا ترهب من شهود القتال، ولا تخشى الخوض في ساحات الوغى، ولست أعني بذلك أنها كانت تعتقل الرمح وتتقلد السيف وتبرز لمطاعنة الرجال، بل أنها كانت تخرج لتحرض فرسان قومها على الثبات في مدافعة العدو، وتؤَجج في قلوبهم نار الحمية بما تهيجهم بهِ من الأقوال الحماسية والمظاهر التي تلتهب لها الصدور غيرةً، كما ذكرت عن ابنتي الفند الزِمَّاني، ومثلما يشاهد اليوم في بدويات العصر. ولايزال إلى الساعة صدى القفر يردِّد قول الزرقاء: أَلا أن إن خضاب الرجال الدماء، وخضاب النساء الحناء. وقد نقل ابن عبد ربهِ في كتابهِ العقد الفريد جملةً من مثل هذه الأقوال والخطب الحماسية المحفوظة عن أشهر النساء، فلتطالع هنالك.

ولقائلٍ أن يقول إن غير ذلك كان أولى بالمرأة، وإنها لو انصرفت عن تهييج القوم على سفك دماء بعضهم إلى معالجة الجريح منهم وإعانة الملهوف، لكان أشبه بها وأزين لها. فأجيب إن المرأة إنما كانت تفعل ما تفعلهُ لا رغبةً في إراقة الدماء، ولكن لعلمها أن قومها إذا صدقوا القتال وأحسنوا الدفاع، حموا بذلك عرضها من أن تخلص إليهِ يد الغالب فتدنسهُ بما يكون سبة الأبد وعار الدهر، فضلًا عن أن بعض النساء كنَّ إذا شهدنَ الحرب ورأينَ الصريع من قومهنَّ، يبادرنَ إليهِ فيعصبنَ جراحهُ ويعالجنهُ بما استطعنَ؛ كما حُكي عن نساء بني بكر يوم التحالق أنهنَّ تقلدنَ كل واحدةٍ إداوةً من ماء في يدٍ، فكنَّ إذا مررنَ بصريعٍ من قومهنَّ سقينهُ الماء ونعشنهُ، ولكنهنَّ في ضد ذلك أخذنَ هراوةً في اليد الأخرى، وكنَّ إذا مررن على رجلٍ من الأعداء ضربنهُ بها وأجهزنَ عليهِ.

وأما الحرص على إدراك الثأر فقد يظهر أن المرأة كانت لا ينام لها وتر ولا تغفل عن طلب الانتقام، وربما كانت تتشدد في هذا الطلب أكثر من الرجل، وتنبههُ إليهِ إذا رأتهُ مهملًا لهُ، مثلما ذكر عن ريحانة بنت معدي كرب أنها قالت لدريد بن الصمة بعد حولٍ من مقتل أخيهِ: يا بنيَّ، إن كنت عجزت عن طلب الثأر بأخيك فاستعن بخالك وعشيرتهِ. فأنف من ذلك وحلف لا يكتحل ولا يدَّهن ولا يأكل لحمًا ولا يشرب خمرًا حتى يدرك ثأرهُ، وما لبث حتى جاءَها بقاتل أخيهِ وقتلهُ بفنائها، وقال: هل بلغت ما في نفسكِ؟ قالت: نعم متِّعت بكَ. ولست أنكر أن مثل هذا الحرص على سفك الدم تشفيًا وانتقامًا مما لا تمدح بهِ المرأة الجاهلية، وإن كان لها بعض العذر فيهِ؛ لكون القتيل قريبًا لها من ذوي رحمها، وممن يُعدُّ الطلب بثأرهِ والحقد على قاتلهِ طبيعةً لكل نفس، فإن مثل هذه الصفة هي بالرجال أجدر، لا سيما وأنهم كانوا يحسبون القعود عن طلب الثأر إقرارًا بالعجز والجبن، وهو ما كانوا يأنفون منهُ. ومثل ذلك أنكر بعض الناس من المرأة سجيتي الكرم والشجاعة، وآثروا لها في ضدهما البخل والجبن، حتى كانوا إذا مدحوا الفاضلة من النساء مدحوها بهما وعدوهما فخرًا وزينًا لها، كما قال الطغرائي في لاميتهِ:

قد زاد طيبَ أحاديث الكرام بها
ما بالكرائم من جبنٍ ومن بخلِ

وإنما ذهبوا هذا المذهب لاعتقادهم أن المرأة إذا كانت كريمة تجود بمالها، لا تبطئُ أن تجود بعرضها أيضًا! وإذا كانت شُجاعةً قد تعودت مشاهدة الأبطال ولقاءَ الرجال، لا تلبث أن تألفهم فلا تستتر منهم وتعرِّض نفسها للاتهام بهم! قال الصفدي في شرح البيت المتقدم: «الجبن والبخل خصلتان محمودتان في النساء، مذمومتان في الرجال؛ لأن المرأة، إذا كان فيها شجاعة، ربما كرهت بعلها فأوقعت بهِ فعلًا أدَّى إلى هلاكهِ، أو تمكنت من الخروج من مكانها على ما تراهُ؛ لأنهُ لا عقل لها يمنعها مما تحاولهُ، وإنما يصدُّها عما يقتضيهِ عقلها الجبنُ الذي عندها والخور، فإذا لم يكن لها مانع من الجبن أقدمت على كل قبيح وتعاطت ما تختارهُ، إقدامًا منها على ما يأمرها بهِ الشيطان، وإذا كانت المرأة سمحةً جادت بما في بيتها فأضرَّ ذلك بمال زوجها، ومتى عُلم منها الجود بما يُطلب منها، ربما حصل الطمع فيها بأمر آخر وراء ذلك.» ولعل مثل هذه الاعتبارات تصدق في غير المرأة الجاهلية؛ فقد سبق في عفة هذه وصحة آدابها وأصالة رأيها ما يغني عن التكرار ويزيل كل شك وارتياب.

ومما شاركت الرجل فيهِ أيضًا، وساوتهُ بهِ إذا لم أقل أبرَّت عليهِ في بعض أقسامهِ؛ قول الشعر؛ فإنهُ كان أيسر فضائلها وأهون شيء عليها ترسل الكلام فيه إرسالًا، فيأتي محكمًا صادق الوصف، مستوليًا على أقصى آماد الفصاحة، قد جمع بين مثل رشاقة قدها وسحر مقلتها، وأخذ من صحة آدابها بأجزل قسم، ومن رقة فؤادها بأوفى نصيب، ولذلك كانت أكثر ما تجيد في المراثي خاصةً، كما يُرى في شعر الخنساء في أخويها صخر ومعاوية، ولهذه السجية المطبوعة على النظم كان لا يخلو منهُ قولٌ لها جدًّا كان أم هزلا، فإذا أنامت غلامها، أو أرقصت فتاتها، أو فاخرت جارتها، أو مدحت قوعها، أو بكت فقيدها؛ ذكرت ذلك كلهُ بمنظوم، ربما كان الغالب عليهِ الرجز، وقد كان العرب يعرفون لها هذه المنزلة في الشعر. حتى إن النابغة الذبياني — وكان يجلس لشعراء العرب في عكاظ على كرسي ينشدونهُ فيفضل من يرى تفضيلهُ — لما أنشدتهُ الخنساءُ في بعض المواسم أُعجب بشعرها، وقال لها: لولا أن هذا الأعمى أنشدني قبلكِ، يعني الأعشى، لفضلتكِ على شعراء هذا الموسم. وقد نقل التاريخ فيما عداها أسماء شواعر كثيرات ممن حفظ الرواة شعرهنَّ، تضمن منهُ الجزء الأول وحدهُ من ديوان رياض الأدب المطبوع في المطبعة الكاثوليكية في بيروت شعر نحو إحدى وستين شاعرة في الرثاء فقط، فليطالعهُ من يشاء، وكفى دليلًا على رفعة مكانة المرأة في الفصاحة وجلالة قدرها في النظم أن أبا تمام، ومعلوم من هو، لما أَلَّف كتابهُ المشهور بالحماسة، الذي انتقاهُ من أجود شعر العرب، لم يجد بدًّا من تضمينهِ أقوال كثيراتٍ من النساء الشواعر، بل أن امرأ القيس نفسهُ لما اختلف هو وعلقمة الفحل في أيهما أشعر، لم يجد من يحاكمهُ إليهِ إلا امرأةً كان قد تزوَّجها من قبيلة طيء، فأنشدها شعرًا وأنشدها علقمة شعرًا، فحكمت لعلقمة عليهِ لبيت وصف فيهِ امرؤُ القيس فرسًا فقصَّر، وحسبي بهذا الشاهد فلا أتخطاهُ إلى غيرهِ لتعريفهِ بالقدرة الراجحة التي كانت للمرأة على قرض الشعر أو نقدهِ، حتى كان يتقاضى إليها فيهِ فحول الشعراء من الرجال.

ولا ريب أن الفرزدق نفسهُ لو كان قد أدركها في الجاهلية وسُئل عنها لما اجترأَ أن يجيب بمثل ما أجاب بهِ حين قيل لهُ أن فلانة تقول الشعر فقال: «إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فلتذبح!» فإن هذه الدجاجة التي لم تكن تصلح عندهُ إلا للذبح، كانت هي نفسها تُصلح أحيانًا للديك صياحهُ، كما نُقل عن جواري المدينة أنهنَّ أصلحنَ للنابغة الذبياني ثلاثة أبيات من شعره كان قد أقوى فيها. قال المرزباني في الموشح: فقدم المدينة فعيب عليهِ ذلك، وأسمعوهُ إياهُ في غناءٍ، وأهل القرى أَلطف من أهل البدو، وكانوا يكتِّبون جواريهم عند أهل الكتاب، وفي هذا القول شاهد آخر جاء اتفاقًا من غير عمد على أن بعض النساء في الجاهلية كنَّ أيضًا يحسنَّ الكتابة والقراءة فضلًا عما سبق من فضائلهنَّ، وهذا — ولا جرم — من أغرب ما تُمتدَح به الأنثى في تلك الأعصار، ومن أفضل ما تُعرف بهِ حياتها الأدبية في تلك الأقطار، وليكن آخر ما أذكرهُ من أوصافها وقوفًا عند الحد الذي رسمتهُ لنفسي في هذا المختصر، ولو أردت أن أستقصي وأبلغ الغاية في الوصف لَلَزِمَنِي مجلد كامل؛ إذ كان لا يكشف الكشف الوافي عن هذا البحث إلا سرد القصص والروايات، وهي ما يضيق عنها المقام.

ولا محالة أن الناظر في هذه النبذة اليسيرة المتصف بالنزاهة والتجرد عن الهوى؛ يقف وقفة الدهش والاستغراب عندما يتأمل رفعة المنزلة التي بلغتها المرأة في الجاهلية، ويرى أنها قد خُلِقت فيها لغير قضاء الشهوة وخدمة اللذة، وبالتالي أنها لم تكن لعبة الرجل ولا نعلًا لهُ يلبسها متى شاء، كما ذكر فيها بعض واصفيها من المخضرمين. ومع ذلك فقد وجدت كثيرين يبخسونها حقها، أو يساوون بينها وبين غيرها من الإناث، ويجمعونهما تحت حكم واحد جهلًا لا محالة بالصحيح وقياسًا لإحداهما على الأخرى، وقد ذكرت في الأولى منهما ما وسعني ذكرهُ مما يظهر بهِ الفرق بين المرأَتين ويتضح الحق لذي عينين.

فإياكَ واسمَ العامرية إنني
أغار عليها من فم المتكلمِ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤