آل تشادلي وآل فليمينج (١)

الرابطة

قريبتي أيريس من فيلادلفيا، وتعمل ممرضة، وقريبتي إيزابيل من دي موين، وتملك متجرًا لبيع الزهور، وقريبتي فلورا من وينيبيج، وهي مُعلمة، وقريبتي وينيفريد من إدمنتون، وهي محاسبة؛ كنَّ يوصفن جميعًا بالعوانس. فقد كان لقب آنسات أرق من أن يصفهنَّ أبدًا؛ إذ كانت أثداؤهن ضخمة ومرعبة — ككتلة مصفحة واحدة — وبطونهن ومؤخراتهن ممتلئة ومشدودة بالمشد كأية امرأة متزوجة. في تلك الأيام، بدا أنه من المحبذ للنساء أن تمتلئ أجسامهنَّ وتنضج حتى تصل إلى مقاس مناسب يبلغ العشرين، هذا إذا أردن أن يحظين بأي شيء في الحياة على الإطلاق. ثم — بحسب الطبقة الاجتماعية والطموحات الشخصية — إما أن تتهدَّل أجسادهن وترتخي، وتهتز مثل الكاسترد داخل فساتينهن شاحبة اللون ومآزرهن المبلَّلة، أو تتخذ أشكالًا ليس لانحناءاتها المشدودة ولا تضاريسها الباعثة على الفخر أية علاقة بالجنس، وإنما تكون مرتبطة أشد الارتباط بالحقوق والنفوذ.

كانت أمي وقريباتها من ذلك النوع الثاني من النساء؛ فكن يرتدين مشدًّا يرفع أجنابهن بعشرات الكلابات والعراوي، وجوارب تهسهس وتصر عندما يعقدن أقدامهن، وفساتين حريرية لأوقات بعد الظهر (مع العلم أن أمي حصلت على فستانها من إحدى قريباتها)، ويضعن بودرة للوجه (ريتشيل)، وبودرة للوجنتين، وعطرًا، ومشابك شعر صدفية أصلية أو مقلدة لتزيين شعورهن. لا يمكن تخيلهن دون هذا المظهر، ما لم تلفهن بالكامل أرواب ستان مبطنة. وبالنسبة إلى أمي، كان من الصعب الإبقاء على هذا المظهر؛ إذ كان يتطلب براعة وتفانيًا ومجهودًا رهيبًا. ومن كان يقدِّره؟ هي كانت تقدره.

جئن جميعهن ذات مرة لقضاء الصيف معنا. وقد قدمن إلى بيتنا لأن أمي كانت الوحيدة المتزوجة بينهن، ومنزلها كبير بما يكفي ليسع الجميع، ولأنها كانت فقيرة بما لا يتيح لها زيارتهن. كنا نعيش في داجليش بمقاطعة هورون في ويسترن أونتاريو، وقد سُجل تعداد سكانها البالغ ٢٠٠٠ نسمة على لافتة عند حدود المدينة. صاحت قريبتنا أيريس، وهي تلهث جاهدة للخروج من مقعد السائق: «الآن أصبح التعداد ٢٠٠٤ نسمات.» كانت سيارتها أولدز موبيل موديل ١٩٣٩، وقد قادتها إلى وينيبيج لتقل فلورا، ووينيفريد التي جاءتها من إدمنتون بالقطار. ثم توجه ثلاثتهن بالسيارة إلى تورونتو ليجلبن إيزابيل.

قالت إيزابيل: «ونحن الأربعة نخلق مشاكل أكثر من الألفي شخص مجتمعين. أين حدث هذا — أكان في أورانجفيل؟ — حيث ضحكنا من صميم قلوبنا لدرجة أن أيريس اضطُرت إلى إيقاف السيارة؟ كانت تخشى أن تسقط بالسيارة داخل القناة!»

أصدرت السلالم صوت صرير تحت أقدامهنَّ.

«استنشقن هذا الهواء! أوه، لا يمكن لشيء أن ينافس هواء الريف النقي. أهذه هي الطلمبة التي تحصلون من خلالها على ماء الشرب؟ ألن يكون هذا ممتعًا الآن؟ كوب من مياه الآبار!»

طلبت مني أمي أن أحضر كوبًا، ولكنهن أصررن على الشرب من الكوب الصفيح.

بدأن يحكين عن أيريس وكيف أنها دخلت أحد الحقول لتلبيَ نداء الطبيعة، ثم رفعت رأسها لتجد نفسها محاطة بحلقة من الأبقار الفضولية.

قالت أيريس: «هذا هراء! لقد كانت عجولًا مخصية.»

فقالت وينيفريد وهي تجلس على كرسي من الخيزران، وقد كانت أسمنهن: «لمعلوماتك كانوا ثيرانًا.»

فردت أيريس: «ثيران! كنت سأعرف لو كانوا كذلك! أرجو أن يتحمل أثاثهم ثقل وزنك يا وينيفريد. لعلمك لقد كنت أجر مؤخرة سيارتي المسكينة جرًّا. ثيران! يا لها من صدمة! والعجيب أنني استطعت ارتداء سروالي!»

ثم حكين عن المدينة التي بدت وحشية في نورثرن أونتاريو، حيث رفضت أيريس التوقف بالسيارة ولو لشراء مياه غازية. فقد ألقت نظرة واحدة على الحطابين وصرخت: «سنتعرض جميعًا للاغتصاب!»

سألت شقيقتي الصغرى: «ما معنى اغتصاب؟!»

فردت أيريس: «امم … معناه سرقة محفظتك.»

محفظة: كلمة أمريكية لا تنتمي إلى مجتمعنا. ولم نكن أنا وشقيقتي نعلم معناها هي أيضًا، ولكننا لم نستطع أن نطرح سؤالين على التوالي. كما أنني كنت أعلم أن هذا ليس معنى الاغتصاب على أية حال؛ فهو يعني شيئًا قذرًا.

قالت أمي بنبرة مرحة وتحذيرية في نفس الوقت؛ إذ كان الحديث داخل بيتنا يتسم بالتهذيب: «حقيبة. سرقة حقيبتك.»

الآن حانت لحظة فتح الهدايا. علب من القهوة، وبودنج بالجوز والبلح، ومحار، وزيتون، وسجائر جاهزة من أجل أبي. كن جميعًا يُدَخِّنَّ أيضًا، باستثناء فلورا، المعلمة القادمة من وينيبيج. ورغم أن هذه كانت آنذاك علامة على التحضر، فإنها في داجليش علامة على احتمالية انحلال الأخلاق. وقد جعلنها رفاهية تتسم بالاحترام.

كما كانت الجوارب والأوشحة من بين الهدايا أيضًا، وبلوزة من نسيج الفوال هدية لأمي، ومئزرتان بيضاوان متيبستان من نسيج الأورجندي هدية لي ولشقيقتي (وكانتا أحدث صيحة، ربما، في دي موين أو فيلادلفيا، ولكنها كانت سقطة في داجليش؛ حيث لم ينفك الناس يسألوننا عن السبب وراء عدم خلعنا لمئزرتينا). وأخيرًا، علبة شيكولاتة تزن خمسة أرطال. وبعد أن أكلنا الشيكولاتة بوقت طويل، وبعد رحيل قريباتنا، احتفظنا بعلبة الشيكولاتة في درج البياضات في بوفيه غرفة الطعام، في انتظار استخدامها لغرض احتفالي لم يحل علينا قط. كانت لم تزل ممتلئة بأكواب الشيكولاتة الورقية الفارغة السوداء والمحززة. خلال الشتاء أذهب أحيانًا إلى غرفة الطعام الباردة وأشم الأكواب، مستنشقة رائحتها الدالة على جودة الصنع والرفاهية، وأقرأ ثانية الأوصاف الموجودة في الصورة المطبوعة على الوجه الداخلي لسطح العلبة: البندق، والنوجا القشدية، والحلوى التركية، والطوفي الذهبي، والقشدة بالنعناع.

•••

نامت قريباتنا في غرفة النوم بالطابق السفلي، وعلى الأريكة السريرية المفرودة في غرفة المعيشة. ولو ارتفعت حرارة الجو خلال الليل لم يجدن حرجًا في جر الفراش إلى الشرفة، أو حتى إلى الفناء. وكن يُجرين القرعة لاختيار من ستنام في الأرجوحة الشبكية، ولكن لم يكن من حق وينيفريد الاشتراك في هذه القرعة. وبعد منتصف الليل كان يمكن سماعهن يقهقهن، ويُسكتن بعضهن بعضًا، ويصرخن: «ماذا كان ذلك؟» ولأننا كنا بعيدين عن أضواء شوارع داجليش، فقد أعجبهن الظلام، وعدد النجوم الهائل على صفحة السماء.

وذات مرة قررن الغناء:

جدف، جدف، جدف بقاربك.
ادخل به النهر برفق.
بمرح، ومرح، ومرح، ومرح.
فما الحياة إلا حلم.

كُنَّ يرَيْن داجليش حلمًا يتخطى الواقع. وقد قدن سيارتهن إلى أعلى المدينة، وحكين عن غرابة أصحاب المتاجر، وكُنَّ يكرِّرن أشياء سمعْنَهَا مصادفةً في الشارع. وفي صباح كل يوم، كانت القهوة التي جلبنها معهن تملأ البيت برائحتها الأمريكية غير المألوفة، ثم يجلسن باسترخاء ويسألن عمن لديها فكرة عن كيفية قضاء يومهن. تمحورت إحدى الأفكار حول قيادة السيارة داخل الريف وجمع التوت. فتعرضن للخدش وارتفاع درجة الحرارة، وفي مرحلةٍ ما علقت وينيفريد تمامًا — بلا حراك — بسبب الأغصان الشائكة، وجأرت طلبًا لمن ينجدها. ومع هذا فقد قلن إنهن استمتعن بوقتهن كثيرًا. وتمحورت فكرة أخرى حول استعارة صنارات أبي والذهاب إلى النهر. ثم عدن إلى البيت بصيدة من سمك القاروص، وهو نوع من الأسماك عادةً ما نعيده إلى النهر. كما نظمن رحلات، فكن يلبسن ثيابًا عتيقة، وقبعات قديمة من القش، وبدلات العمل الخاصة بأبي، ويلتقطن الصور بعضهن لبعض. هذا غير أنهن صنعن كعكات متعددة الطبقات، وسلاطات مقولبة رائعة تتخذ شكل المعابد، وملونة مثل الحليِّ.

وذات مساء أقمن حفلًا موسيقيًّا. وقامت أيريس بدور مغنية أوبرا. وأخذت المفرش الذي كان يغطي المنضدة بغرفة الطعام لتكسوَ نفسها به، وأرسلتني لأجمع لها ريش الدجاج لتضعه في شعرها. غنَّت «نداء الحب الهندي» و«النساء متقلبات». ثم أدت وينيفريد دور لص بنوك، حاملة معها مسدس ماء اشترته من أحد المتاجر. وكان على كل فرد أن يفعل شيئًا؛ فأنشدنا أنا وشقيقتي «زهرة تكساس الصفراء» والتسابيح. أما أمي، فلدهشتنا الكبرى، ارتدت سروال أبي ووقفت على رأسها.

وسواء كانت قريباتنا متفرجات أو مؤديات، فقد كُنَّ معًا، خلال كل لحظة يقظة. وأحيانًا خلال نومهن؛ إذ كانت فلورا تتحدث في أثناء نومها. وبما أنها أيضًا كانت أكثرهن تهذيبًا وحرصًا، كانت الأخريات يبقين مستيقظات ليطرحن عليها أسئلة، ليجبرنها على قول شيء يحرجها. وقد أخبرنها أنها كثيرة اللعن، وقلن: إنها نهضت فجأة وطلبت قائلة: «لماذا لا يوجد إصبع طباشير بحق الجحيم؟»

لقد كانت أقلهن معزة لديَّ؛ لأنها كانت تحاول شحذ عقلَيْنا — أنا وشقيقتي — بطرحها أسئلة حسابية ذهنية علينا: «لو استغرقت سبع دقائق لأتخطى سبعة أحياء سكنية، وكانت خمسة أحياء بنفس المسافة، ولكن كان الحيان الآخران ضعف المسافة …»

قالت أيريس، التي كانت أكثرهن وقاحة: «أوه، أنتِ لا تعرفين شيئًا عن هذا يا فلورا!»

لو لم يجدن أية أفكار جديدة، أو كان الجو حارًّا بما لا يتيح القيام بأي شيء، كن يجلسن في الشرفة يحتسين عصير الليمون، أو عصير الفواكه المُسكِر، أو جعة الزنجبيل، أو الشاي المثلج، مع التوت الأسود وقطع الثلج المتكسِّرة من الكتلة الضخمة الموجودة بثلاجتنا. أحيانًا كانت أمي تزين الأكواب بتغطيس حوافها في بياض البيض المخفوق، ثم في السكر. وكانت قريباتنا يقلن: إنهن منهكات، وإنهن لا يُجدن عمل شيء. ولكن كان لشكاواهن صوت مسموع، كما لو أن حرارة الصيف نفسها قد وُجدت لتضيف المزيد من التعاسة إلى حياتهن.

•••

كفانا تعاسة.

في العالم الأرحب، وقعت أمور لهن: حوادث، وعروض زواج، ومواجهات مع مخابيل وأعداء. كان يمكن لأيريس أن تصبح ثرية؛ فقد وصَّلت أرملة مليونير إلى المستشفى في يوم من الأيام، وهي امرأة عجوز اعتراها الجنون وترتدي شعرًا مستعارًا أشبه بكومة القش، وقد جاءت على كرسي متحرك، متعلقة بحقيبة سفر قماشية. ما الذي سيكون بداخل الحقيبة سوى مجوهرات، مجوهرات حقيقية، زمرد وألماس ولؤلؤ كبير كبيض الدجاج. وما من أحد سوى أيريس استطاع التعامل معها؛ فأيريس هي من أقنعتها بإلقاء الشعر المستعار في القمامة (إذ كان مليئًا بالبراغيث)، وإيداع مجوهراتها في خزانة البنك. فتعلَّقت هذه المرأة العجوز بأيريس كثيرًا لدرجة أنها أرادت أن تعيد كتابة وصيتها، وأن تترك لأيريس المجوهرات والأسهم والأموال والمبانيَ السكنية. لكن أيريس رفضت ذلك، من منطلق الأخلاق المهنية.

«أنا موضع ثقة. يجب أن تكون الممرضة موضع ثقة.»

ثم حكت عن الممثل الذي عرض عليها الزواج وهو يُحتضَر نتيجة انغماسه الشديد في الملذات. لقد سمحت له بأن يتجرع زجاجة مُطهِّر للفم لأنها لم ترَ أن فارقًا سيحدث. كان ممثلًا مسرحيًّا؛ وبالتالي لم نكن سنعرف اسمه حتى لو أخبرتنا، وهو ما لم تفعله.

كما أنها رأت شخصيات أخرى مهمة، من مشاهير وعلية القوم في فيلادلفيا، وهم في أسوأ حالاتهم.

قالت وينيفريد: إنها اطلعت على بعض الأمور أيضًا. فالحقيقة الفعلية، الحقيقة المفزعة الفعلية حول بعض هؤلاء الأثرياء وعلية القوم تنكشف عندما تلقي نظرة على مالياتهم.

•••

كنا نعيش عند نهاية طريق يمتد غربًا من داجليش فوق أرض قذرة تعلوها مساكن خشبية صغيرة وأسراب من الدجاج والأطفال. كانت الأرض مرتفعة إلى مستوًى مقبولٍ حيث كنا نعيش، ثم تنحدر في الحقول والمروج الواسعة، مزينة بشجر الدردار، نزولًا إلى منعطف النهر. وكان منزلنا متواضعًا أيضًا؛ مجرد بيت قديم مبني من الطوب بحجم مناسب، ولكنه كان في مواجهة الرياح، ومبنيًّا بطريقة غير مريحة، وزخارفه بحاجة إلى الطلاء. كانت أمي تنوي إصلاحه وتغييره بشكل جذري بمجرد حصولنا على بعض المال.

لم تفكر أمي كثيرًا في مدينة داجليش؛ فعادةً ما تعود بذاكرتها إلى الوراء، إلى مدينة فورك ميلز، في وادي أوتاوا، حيث ارتادت وقريباتها المدرسة الثانوية، وهي أيضًا المدينة التي حط فيها جدهم قادمًا من إنجلترا. كما كانت تحنُّ إلى إنجلترا، التي بالطبع لم ترَها قط. كانت تُشِيد بفورك ميلز بسبب بيوتها الحجرية، ومبانيها العامة البديعة غير المبهرجة (المختلفة تمامًا — حسب قولها — عن مقاطعة هورون؛ حيث سادت فكرة تشييد بشاعات حجرية وإلصاق الأبراج بها)، وشوارعها الممهدة، ورقي الخدمات في متاجرها، والجودة العالية التي تتميز بها المعروضات، والطبقة الراقية التي ينتمي إليها السكان. من يعتبر نفسه راقيًا في داجليش، فسيكون مثار سخرية العائلات الكبرى في فورك ميلز. ولكن مع هذا، كانت تلك العائلات الكبرى في فورك ميلز هي نفسها التي ستتعامل بتواضع لو احتكت بعائلات معينة في إنجلترا، والتي ترتبط بها أمي.

الرابطة. هذا كل ما يهم. كانت قريباتنا في حد ذاتهن عرضًا يستحق المشاهدة، ولكنهن كن يمثلن رابطة تصل بيننا وبين العالم الواقعي والخصب والخطير. كُنَّ يعرفن كيفية التعامل معه، وجعْله يلاحظ وجودهن. كن يستطعن السيطرة على فصل مدرسي، أو على جناح الولادة في مستشفًى، أو على الجمهور بشكل عام. كن يعلمن كيفية التعامل مع سائقي سيارات الأجرة ومحصِّلي التذاكر في القطارات.

أما الرابطة الأخرى التي وفَّرنَها — ووفرتها أمي أيضًا — فكانت الرابطة مع إنجلترا والتاريخ. فمن المعروف أن الكنديين من أصل اسكتلندي — الذين نسميهم في مقاطعة هورون اسكتلنديين — وأحفاد الأيرلنديين سيخبرونك بتحرر تام أن أجدادهم قد جاءوا خلال مجاعة البطاطس بثيابهم المهلهلة، أو أنهم كانوا يعملون في رعي الغنم أو الزراعة، أو كانوا فقراء بلا أراضٍ يتملكونها. ولكن أي شخص جاء أجداده من إنجلترا سيروي لك قصة عن أنه كان منبوذًا في عائلته أو أنه كان الابن الأصغر الذي حُرم من إرثه، أو عن النكسات المالية، أو المواريث المفقودة، أو الهروب للزواج من أشخاص غير مناسبين. وقد يكون هناك قدر من الحقيقة في هذه الروايات؛ فالأوضاع في اسكتلندا وأيرلندا كانت تدفع دفعًا نحو الهجرة الجماعية، في حين قد يكون الإنجليز قد قرَّروا هجرة وطنهم لأسباب شخصية أقل درامية.

كان هذا هو الوضع في حالة آل تشادلي؛ عائلة أمي. لم تكن كلٌّ من إيزابيل وأيريس منتميتين بالاسم إلى آل تشادلي، ولكن كانت أمهما كذلك. كما كانت أمي منتمية إلى آل تشادلي، رغم أنها تنتمي الآن إلى آل فليمينج. أما فلورا ووينيفريد فلم تزالا منتميتين إلى آل تشادلي. وجميعهن انحدرن من جد ترك إنجلترا في شبابه لأسباب لم يتَّفقنَ عليها إلى حدٍّ ما؛ فقد كانت أمي تعتقد أنه كان طالبًا في جامعة أكسفورد، ولكنه خسر كل الأموال التي أرسلتها عائلته له، فخجل من العودة لوطنه. لقد خسر أمواله في لعب القمار. كلا — حسب زعم إيزابيل — كانت هذه مجرد شائعة، وما حدث فعلًا هو أنه ورَّط إحدى الخادمات في خطبٍ ما واضطُر إلى الزواج منها والذهاب بها إلى كندا. كانت عِزَب العائلة قريبة من كانتربري، حسب قول أمي. (حيث حُجَّاج كانتربري، وأجراس كانتربري.) ولكن لم تكن الأخريان واثقتين من هذا؛ فقد قالت فلورا: إنهم كانوا يعيشون في غرب إنجلترا، وقيل: إن اسم تشادلي مرتبط بتشولموندلي؛ حيث كان هناك من يسمى باللورد تشولموندلي، وربما يكون آل تشادلي فرعًا منتميًا إلى هذه العائلة. ولكنها قالت إن هناك أيضًا احتمالية بأن يكون الاسم فرنسيًّا، وكان أصله Champ de laiche، والذي يعني حقل البردي. في هذه الحالة، قد تكون العائلة قد قَدِمَتْ على الأرجح إلى إنجلترا مع دخول ويليام الفاتح.

قالت إيزابيل: إنها ليست مثقفة، وإن الشخصية الوحيدة التي تعرفها في التاريخ الإنجليزي هي ماري ملكة اسكتلندا. وقد أرادت أن يخبرها أحدٌ ما إن كان ويليام الفاتح قد جاء قبل ماري ملكة اسكتلندا، أم بعدها.

فقال أبي بلطف: «حقول البردي، لم يكن هذا ليجعلهم أثرياء.»

فردت أيريس: «حسنًا، أنا لم أكن لأفرِّق بين البردي والشوفان. ولكنهم كانوا أثرياء بما يكفي في إنجلترا، وحسبما قاله جدي، فقد كانوا من الطبقة الأرستقراطية هناك.»

قالت فلورا: «هذا في السابق، كما أن ماري ملكة اسكتلندا لم تكن حتى إنجليزية.»

ردت إيزابيل: «خمنت هذا من الاسم، لقد أضحكتِني.»

كانت كلٌّ منهن تعتقد — بغض النظر عن التفاصيل — أن العائلة قد تعرَّضت لانتكاسة كبرى، ونكبة غامضة، وأن في إنجلترا — بعيدًا عن متناولهم — توجد أراضٍ وبيوت وراحة وشرف. كيف يفكرن بغير ذلك وهن يتذكرن جدهن؟

لقد عمل موظفًا بهيئة البريد — في فورك ميلز — وأنجبت له زوجته — سواء أكانت خادمة مُغرَّرًا بها أم لا — ثمانيةَ أطفال، ثم ماتت. وبمجرد خروج الأطفال الأكبر سنًّا إلى العمل والمساهمة في الإنفاق على البيت — إذ لم تكن هناك فائدة من تعليمهم — ترك الأب العمل. وكان شجاره مع مدير مكتب البريد هو السبب المباشر، ولكنه في الحقيقة لم يكن ينوي العمل لفترة أطول، وكان قد اتخذ قرارًا بالبقاء في البيت ليعوله أبناؤه. وكان يتَّسم بروح الرجل النبيل، وكان كثير الاطلاع، وبليغ الخطاب وشديد الاعتداد بنفسه. ولم يتردد أبناؤه في إعالته، فانغمسوا في وظائفهم المتدنِّية، ولكنهم دفعوا أبناءهم — بعد أن اكتفَوْا بطفل أو اثنين لكل واحد، وكان معظمهم من البنات — للالتحاق بكليات إدارة الأعمال والمعلمين والتمريض. وكثيرًا ما تحدثت أمي وقريباتها — اللاتي كن هؤلاء الأبناء — عن جدهن الذي اتَّصف بالعناد والأنانية، ونادرًا ما تحدثن عن آبائهن المطحونين المحترمين. كن ينتقدن تكبره، وفي نفس الوقت يُشِدن بوسامته حتى بعد أن تقدمت به السن. كانت إهاناته للناس جاهزة ومطابقة للموقف، وانتقاداته لاذعة. وذات مرة — في تورونتو البعيدة، وفي الطابق الأرضي بإيتون في واقع الأمر — خاطبته زوجة صانع السروج القادمة من فورك ميلز، وهي امرأة بلهاء غير مؤذية، صائحةً: «حسنًا، أليس من الرائع أن أقابل صديقًا قادمًا من وطني البعيد؟»

فقال الجد تشادلي: «سيدتي، أنتِ لست صديقتي.»

قلن: إنه كان يحب وضع الحدود. «سيدتي، أنتِ لست صديقتي!» يا له من عجوز متكبر! كان يختال في المكان رافعًا أنفه في السماء كذكر الإوز المنتصر. وهناك سيدة أخرى من طبقة اجتماعية أدنى — حسب وصفه — كانت من اللطف لتجلب له بعض الحساء عندما أصابته نزلة برد. ورغم جلوسه في مطبخ ابنته — ليس حتى بيته هو — وهو ينقع قدميه في الماء — أثناء مرضه بل احتضاره في حقيقة الأمر — لم يزل بالوقاحة ليدير ظهره لها، ويترك لابنته مهمة شكرها. كان يحتقرها، فقد كانت شنيعة في استخدام القواعد النحوية، وكانت بلا أسنان.

«ولكنه أيضًا كان بلا أسنان! في هذا الوقت كان قد فقد جميع أسنانه!»

«يا له من مغفل عجوز مدعٍ!»

«وعالة على أبنائه.»

«مجرد كتلة من الغرور والتكبر. هذا كل ما كان عليه.»

ولكنهن في أثناء سرد هذه القصص — وهن يتضاحكن — كن ممتلئات هن أنفسهن بالغرور والتبجح. لقد كن فخورات لانتمائهن إلى مثل هذا الجد. كُنَّ يؤمنَّ أن رفض مخاطبة الأشخاص المتدنِّين شيء مشين وحقير، وأن إظهار التميز على الغير شيء سخيف، خصوصًا عندما يفقد المرء أسنانه، ولكنهن ما زلن معجبات به نوعًا ما. هذا حقيقي. كن معجبات بإهاناته التي صبها على رئيسه — مدير مكتب البريد الكادح — وبسلوكه المتفاخر الذي صبه على جيرانه، مواطني كندا الديمقراطيين. (يا له من شيء مشين ألا يتعرف عليَّ، هكذا قالت جارته المسكينة العجوز عديمة الأسنان.) ربما يكنَّ حتى معجبات بقراره بترك أبنائه للعمل. كن يصفنه بالرجل النبيل. وكان حديثهن متناقضًا، ولكن انتماءهن إلى هذا الجد ظل أمرًا يسرهن.

لم أستطع فهم هذا، سواء في ذلك الوقت أو بعده. كانت الدماء الاسكتلندية هي التي تجري في عروقي؛ دماء أبي. فأبي لم يكن ليعترف أبدًا بوجود أشخاص أقل شأنًا أو أعلى شأنًا. كان مؤمنًا كثيرًا بالمساواة، مشددًا على ألا «نشتكي» — حسب قوله — لأي شخص، وألا نخضع لأحد، وألا نتعالى على أحد أيضًا، وأن نتصرف كما لو لم يكن هناك فروق بين الناس. لقد سلكت نفس الطريق. كانت هناك أوقات — لاحقة — تساءلت فيها ما إذا كان التعقل المسبب للعجز هو الذي شكل لديه هذا الرأي، بقدر مساهمة أي مشاعر مرهفة أخرى؛ وتساءلت عما إذا كنت أنا وأبي لا نحمل في قلوبنا أفكارًا سليمة ومنيعة عن التفوق والأفضلية، الأمر الذي لا يمكن لأمي وقريباتها بغطرستهن البريئة مضاهاتها أبدًا.

•••

لم يكن استلام خطاب من عائلة تشادلي في إنجلترا — بعد ذلك بسنوات — بهذا القدر من الأهمية بالنسبة إليَّ. كان الخطاب من امرأة عجوز تبحث في شجرة العائلة. اتضح في النهاية أنه كانت للعائلة فعلًا أصول في إنجلترا، وأنهم لم ينبذوا فروعهم التي تعيش في الخارج، بل كانوا يحاولون الوصول إليها. كان جدي الأكبر معروفًا لديهم. كان اسمه في شجرة العائلة: جوزيف إلينجتون تشادلي. وقد ذكر سجل الزواج أنه كان يعمل صبيًّا لدى جزار. كان متزوجًا من هيلينا روز أرمور — وهي خادمة — في عام ١٨٥٩. إذن فقد تزوَّج فعلًا خادمة. ولكن ربما لم يكن أمر ديونه من لعب القمار في أكسفورد حقيقيًّا. فهل كان النبلاء الذين لم يحققوا النجاح في أكسفورد يذهبون للعمل لدى جزار؟

خطر لي أنه لو كان استمر في مهنة الجزارة، لتمكن أبناؤه من دخول المدرسة. وربما كان يمكن أن يصبح رجلًا ثريًّا في فورك ميلز. لم تذكر كاتبة الخطاب ارتباطه بتشولموندلي، أو حقول البردي، أو ويليام الفاتح. لقد كنا ننتمي إلى عائلة محترمة، من الخدم والحرفيين، الفلاحين أو التجار الموسميين. في وقت من الأوقات ربما كنت سأصاب بالصدمة عند اكتشافي هذا الأمر، وربما لم أكن سأصدقه. ولكن في وقت آخر — لاحق — خلال انهماكي بالتخلص من جميع المفاهيم الخاطئة، وجميع الأوهام، كنت سأشعر بالنصر. وبمجرد انكشاف الأمر، لم أعد أكترث، بأي شكل من الأشكال. كنت قد نسيت تقريبًا كانتربري وأكسفورد وتشولموندلي، وتلك الصورة الأولى التي كوَّنتها عن إنجلترا من أمي، تلك الأرض السحيقة التي يسودها الوئام والشهامة، والفرسان الممتطين خيولهم، والأخلاق الحميدة (رغم أن عائلة جدي عانت بالتأكيد تحت وطأة الحياة الخشنة)، وسيمون دي مونتفورت، ولورنا دون، وكلاب الصيد، والقلاع، ونيو فوريست، تلك المعالم النقية الريفية البهيجة والمتحضرة المرغوبة إلى الأبد.

كما كانت عيني قد تفتحت على أمور أخرى بفضل زيارة قريبتنا أيريس.

حدث هذا خلال إقامتي في فانكوفر. كنت متزوجة من ريتشارد آنذاك ولديَّ طفلان صغيران. وذات مساء يوم سبت رد ريتشارد على الهاتف وجاء ليناديَني.

«احذري، يبدو أنه أحد من داجليش.»

لطالما تفوَّه ريتشارد باسم موطني كما لو كان لقمة غير مستساغة في فمه يريد أن يلفظها فورًا.

ذهبت إلى الهاتف وتنفست الصعداء عندما وجدت أنه لم يكن أحد من داجليش على الإطلاق. لقد كانت قريبتنا أيريس. فلم يزل شيء من لكنة وادي أوتاوا عالقًا بكلامها، شيء ريفي — لم تكن هي نفسها لتشك في هذا ولم تكن لتسر به — وشيء مبهج ومرح جعل ريتشارد يفكر في أصوات داجليش. قالت: إنها في فانكوفر، وإنها تقاعدت الآن وانطلقت في رحلة، وكانت تتلهَّف لرؤيتي. فطلبتُ منها المجيء لتناول الغداء معنا في اليوم التالي.

«لحظة، تقصدين بالغداء وجبة المساء، أليس كذلك؟»

«بلى.»

«أردت فقط أن أستوضح الأمر، لأننا حين كنا نزوركم — أتذكرين؟ — كان أهلك يتناولون الغداء في الظهيرة. كنتم تسمُّون وجبة الظهيرة غداءً. لم أكن أحسب أنكم ما زلتم تفعلون هذا، ولكني أردت أن أتأكد.»

أخبرت ريتشارد بأن إحدى قريباتي من طرف أمي ستأتي على الغداء، وأخبرته أنها تعمل — أو كانت تعمل — ممرضة، وأنها تعيش في فيلادلفيا.

قلت له: «إنها رائعة.» وقصدت من ذلك أنها نالت قدرًا من التعليم، وأنها لبقة وحسنة الخلق. وأردفت: «لقد سافرَت إلى كل مكان، وهي شخصية لطيفة إلى حدٍّ كبير. وبحكم عملها كممرضة قابلت جميع أنواع الشخصيات.» ثم حكيت له عن أرملة المليونير وعن المجوهرات التي كانت تحملها في حقيبتها القماشية. وكلما تحدثت عنها أكثر، أدرك ريتشارد شكوكي وحاجتي إلى الاطمئنان، وزادت مراوغته وإثارته لقلقي. كان يعلم أنه يتمتع بميزة يتفوق بها عليَّ، وكنا قد وصلنا إلى مرحلة في زواجنا لا يمكن فيها التخلي عن أية ميزة بسهولة.

كنت أتمنى أن تسير الزيارة على ما يرام. أردت هذا من أجل نفسي، ولكن لم تكن بواعثي لتشرفني. كنت أريد أن تظهر قريبتي أيريس كأحد أفراد عائلتي الذين لا أخجل منهم، وأردت أن يرفعني ريتشارد وأمواله وبيتنا في نظر قريبتي أيريس إلى الأبد، لينتشلني من تصنيف القريبة الفقيرة. أردت أن يتحقق كل هذا بمهارة ولياقة وضبط نفس، وأن تكون النتيجة اعترافًا مُرضيًا بقيمتي، من الجانبين كليهما.

اعتدت التفكير بأنني لو استطعت أن أقدم لريتشارد واحدًا من أقربائي، ثريًّا وحسن الخلق ومهمًّا، فسيتغير موقفه تجاهي. قاضٍ أو جرَّاح كان ليصلح في هذا الدور. لم أكن متأكدة على الإطلاق مما إذا كانت أيريس ستصلح بديلًا. وكنت قلقة من طريقة تفوه ريتشارد بكلمة «داجليش»، وذلك الأثر المتخلف عن العيش في وادي أوتاوا — إذ كان ريتشارد يمقت اللكنات الريفية، بعد معاناته مع لكنتي — وشيء آخر في صوت أيريس لم أستطع استبيانه. هل كانت شديدة التلهف لمقابلتي؟ هل تفترض أن لها حقًّا عائليًّا لم أعد أُومِن أنه مبرر؟

لا يهم. بدأت أذيب الثلج عن فخذ حمل لطبخه، وصنعت فطيرة بمرينج الليمون. وكانت فطيرة مرينج الليمون هي ما تعدها أمي عندما تأتي قريباتنا لزيارتنا. كانت تلمِّع شوكات الحلويات، وتكوي فوط المائدة. فقد كنا نملك شوكات للحلويات (أردت إخبار ريتشارد بهذا)؛ أجل، وكانت لدينا فوط للمائدة، رغم أن مرحاضنا كان في القبو، ولم تكن لدينا مياه جارية حتى انتهت الحرب. اعتدت حمل الماء الساخن إلى غرفة النوم الأمامية في الصباح كي تغتسل قريباتنا. وكنت أصبه في إبريق يشبه الأباريق التي تُعرض اليوم في معارض التحف، أو التي تُرصُّ اليوم على مناضد القاعات الكبيرة، وهي ممتلئة بنباتات الزينة.

ولكن ألم يكن يهمني أيٌّ من هذا حقًّا، أيٌّ من هذا الهراء عن شوكات الحلويات؟ هل كنت — أو هل أنا الآن — ذلك النوع من الأشخاص الذي يتصوَّر أن امتلاكه هذه الأشياء يعني أن موقفه تجاه الحياة متحضِّر؟ كلا، على العكس، أو ليس تمامًا، نعم ولا. نعم ولا. كان ريتشارد يستخدم كلمة الخلفية: «خلفيتكِ» في نبرة منخفضة تحذيرية. أم كان هذا ما سمعته أنا، ولم يقصده هو؟ عندما يقول داجليش، حتى وهو يناولني دون أن يتفوه بكلمة واحدة خطابًا من موطني، أشعر بالخزي، كما لو أن شيئًا دنسًا يحيط بي، عَفَن، شيء قذر ومقبض ومحتوم. الفقر — بالنسبة إلى عائلة ريتشارد — كان أشبه برائحة النفَس الكريهة أو التقرحات المفتوحة؛ كان بلوى يجب على المبتلين بها تحمل جزء من اللائمة عليها. ولكن لم يكن من حسن الخلق أن أعلِّق على هذا. ولو قلت يومًا أمامهم أي شيء عن طفولتي أو عائلتي، فإنهم ينسحبون بعض الشيء كما لو أنهم قد شاهدوا فُحشًا. ولكن من المحتمل أنني أصبح حادة وخجولة، مثل الشخصية متدنية التنشئة لدى فيرجينيا وولف والتي تؤكد أنها لم تذهب يومًا إلى السيرك. ربما كان هذا ما يحرجهم. لقد كانوا لبقين في التعامل معي، أما ريتشارد فلم يستطع أن يكون بمثل هذه اللباقة، بما أنه وضع نفسه في موقف محفوف بالمخاطر، بزواجه مني. أراد أن يبتر هذا الماضي من حياتي والذي بدا له متاعًا رثًّا. كما كان يقظًا لأية إشارات تدل على عدم اكتمال عملية البتر، التي بالطبع لم تكتمل.

لم تزرنا قريبات أمي مجددًا، أقصد بعضهن مع بعض؛ فقد ماتت وينيفريد فجأة ذات شتاء، بعد هذه الزيارة الخالدة بثلاث أو أربع سنوات على الأكثر. كاتبت أيريس أمي لتخبرها بأن الشمل قد تفرَّق الآن، وأنها تشك أن وينيفريد كانت مريضة بالسكر، ولكن وينيفريد لم ترد اكتشاف هذا بسبب حبها للطعام. وأمي نفسها لم تكن بصحة جيدة، فزارها من تبقَّى من قريباتنا، ولكنْ كلٌّ منهن بشكل مستقل، وبالطبع ليس كثيرًا بسبب بُعد المسافة. وفي كل خطاب من خطاباتهن تقريبًا، كن يُشِرن إلى الوقت الممتع الذي قضينه جميعًا خلال ذلك الصيف. ومع دنوِّ أجل أمي قالت: «يا إلهي، أتعرفن فيمَ أفكر؟ في مسدس الماء. هل تذكُرن ذلك الحفل؟ وينيفريد وهي تمسك مسدس الماء! كلٌّ منا كانت تؤدي دورًا في الحفل. ما الذي فعلتُه أنا؟»

«وقفتِ على رأسك.»

«أجل، لقد فعلت.»

•••

كانت قريبتنا أيريس — عندما زارتني — قد اكتسبت مزيدًا من الوزن، وتوردت وجنتاها بسبب بودرة الوجه. كانت تلهث وهي تتقدم بصعوبة عبر الشارع. لم أرغب في أن أطلب من ريتشارد الذهاب لإحضارها من الفندق. لا أقول إنني كنت خائفة من طلب هذا، ولكنني ببساطة لم أرغب في أن تبدأ الأمور بشكل غير صحيح، بأن أجبره على عمل لم يعرض القيام به. وقلت لنفسي: إنها ستستقل سيارة أجرة. ولكنها أتت إلينا بالحافلة.

كذبت عليها قائلة: «كان ريتشارد مشغولًا. لكنَّ هذه غلطتي؛ فلم أتعلم القيادة.»

قالت أيريس بثبات جأش: «لا عليكما. لقد انقطع نَفَسي، ولكني سأكون بخير بعد دقيقة. الشحوم على جسمي هي ما تفعل بي هذا. وهذا ما أستحقُّه.»

ما إن قالت «انقطع نفسي» و«الشحوم على جسمي» حتى عرفت كيف سيدور اللقاء مع ريتشارد. بل عرفت من قبل أن تقول شيئًا. فقد علمت بمجرد رؤيتي لها على باب بيتي، بشعرها الذي أتذكر أنه كان بُنيًّا مائلًا للرمادي، وقد أصبح الآن ذهبيًّا وملفوفًا في كتلة واحدة يعلوها الرذاذ الرغوي، وفستانها الغالي الأزرق كلون الطاوس والمزركش عند إحدى الكتفين بحلية ذهبية. الآن وأنا أفكر في الأمر، أرى أنها بدت مذهلة. ليتني قابلتها في مكان آخر. ليتني قدرتها قدر ما تستحق. ليت كل شيء تم بشكل مختلف.

قالت ببشاشة: «حسنًا، انظري إلى نفسك الآن، لقد حققت النجاح بالفعل!» نظرت إليَّ، وإلى الحديقة الحجرية وأشجار الزينة والنوافذ الواسعة. كان بيتنا يقع في كابيلانو هايتس على أحد جوانب جبل جراوس. فأضافت: «اسمحي لي أن أقول إنه مكان فخم يا عزيزتي.»

استقبلتها وعرَّفت ريتشارد بها، فقالت له: «إذن أنت زوجها. حسنًا، لن أسألك عن أحوال عملك؛ لأنني أستطيع أن أرى أنها ممتازة.»

كان ريتشارد محاميًا، وكان الرجال في عائلته يعملون إما محامين أو سماسرة بورصة. ولم يشيروا قط إلى ما يمارسونه في عملهم بأنه نوع من التجارة، بل لم يشيروا إلى ما يفعلونه في عملهم قط. فالحديث عما تفعله في عملك يعتبر تصرفًا سوقيًّا، كما أن الحديث عن أحوالك المادية كان سوقيًّا بشكل غير مقبول بالمرة. ولو لم أكن حتى الآن سريعة التأثر بنقد ريتشارد فلربما كنت سأستمتع برؤيتها وهي تقابله بهذا الود مباشرةً.

قدمت المشروبات فورًا، على أمل أن أفصل نفسي عما يحدث قليلًا. كنت قد أخرجت زجاجة من الخمر الإسباني، معتقدة أن هذا ما يعرضه المرء على السيدات العجائز اللائي لسن معتادات على الشراب. ولكن أيريس ضحكت وقالت: «أوه، أريد مشروب جين وماء تونيك مثلكما.»

ثم قالت: «أتذكرين تلك المرة التي زُرناكم فيها جميعًا في داجليش؟ كان الجو حارًّا للغاية! وكانت أمك لم تزل تتمتع بأخلاق فتيات البلدات الصغيرة، ولم تكن تسمح بدخول المشروبات الكحولية إلى بيتها؛ رغم أنني لطالما اعتقدت أن أباكِ قد يوافق على شرب الكحوليات، لو أقنعه أحد بتجربتها. ولم تكن فلورا تشرب الكحول اعتقادًا منها أنه أمر لا يصحُّ، ولكن وينيفريد كانت مدمنة له. هل تعلمين أنها كانت تحتفظ بزجاجة شراب في حقيبتها؟ كنا نتسلَّل إلى غرفة نومها ونأخذ رشفة، ثم نتغرغر بماء الكولونيا. كانت تسمي بيتكم بالصحراء الكبرى. وها نحن نعبر الصحراء الكبرى. ليس معنى هذا أنكم لم تقدموا لنا ما يكفي من عصير الليمون والشاي المثلج لإغراق سفينة حربية، أو إغراق أربع سفن حربية، أليس كذلك؟»

ربما تكون قد لاحظتْ شيئًا عندما فتحتُ لها الباب — بعض المفاجأة أو الفشل في الترحاب. ربما كانت متهيبة، رغم أنها كانت في الوقت نفسه سعيدة كثيرًا بالبيت والأثاث، الذي كان أنيقًا وكئيبًا، ولم يكن كله من اختيار ريتشارد. أيًّا كان السبب، كانت نبرة صوتها — وهي تتحدث عن داجليش وأبويَّ — فيها شيء من التعالي. لا أعتقد أنها أرادت أن تُذكِّرني بموطني ومكانتي. أعتقد أنها أرادت أن تثبت نفسها، وأن تبيِّن لي أن هذا مكانها، أكثر من هناك.

«أوه، يا لها من متعة أن أجلس هنا وأنظر إلى إطلالتكم الرائعة! هل هذه جزيرة فانكوفر؟»

رد ريتشارد على نحوٍ غير مشجع: «بوينت جراي.»

«حسنًا، كان يجب أن أعلم. لقد اتَّجهنا إلى هناك بالحافلة أمس، ورأينا الجامعة؛ فأنا بصحبة فوج سياحي يا عزيزتي، هل أخبرتك؟ تسع عوانس وسبع نساء أرامل وثلاثة رجال أرامل. لا يوجد بيننا زوجان. ولكن كما أقول، لا يمكن للمرء التنبؤ بشيء أبدًا، والرحلة لم تنتهِ بعد.»

ابتسمتُ، بينما قال ريتشارد إن عليه أن ينقل رشاش الماء.

«سنتجه إلى جزيرة فانكوفر غدًا، ثم سنبحر بالسفينة متوجهين إلى ألاسكا. سألني الجميع في موطني عن سبب ذهابي إلى ألاسكا، وقد قلت لهم: لأنني لم أزُرْها قط من قبل، أليس هذا بسبب كافٍ؟ لا يوجد شخص غير متزوج في الفوج، أوتعرفين لماذا؟ لأنهم لا يعيشون حتى يبلغوا هذه السن! هذه حقيقة طبية. أخبري زوجك؛ أخبريه أنه قام بالعمل الصائب. ولكني لا أنوي التحدث عن عملي. كل مرة أذهب فيها في رحلة ويكتشفون أنني ممرضة يظهرون لي عمودهم الفقري ولوزهم وأيما شيء آخر. يريدونني أن أتفحَّصهم وأجري لهم تشخيصًا مجانيًّا. وأنا أقول لهم: إنني اكتفيت، وإنني متقاعدة الآن، وأريد الاستمتاع بحياتي. هذا أفضل كثيرًا من الشاي المثلج، أليس كذلك؟ ولكن المسكينة اعتادت إنهاك نفسها كثيرًا. اعتادت تجميل الأكواب ببياض البيض، أتتذكرين؟»

حاولت إقناعها بالحديث عن مرض أمي، وعن طرق علاج جديدة، وعن تجاربها في المستشفى، ليس فقط لأن هذا كان مشوقًا بالنسبة إليَّ، ولكن لأني ارتأيت أن هذا قد يهدِّئها ويجعلها تبدو أكثر ثقافةً. كنت أعلم أن ريتشارد لم يخرج، وأنه كان متواريًا في المطبخ.

ولكنها طلبت عدم الحديث عن عملها.

«بياض البيض المخفوق، ثم السكر. أوه يا عزيزتي، كان علينا الشرب باستخدام الماصة، ولكنه كان أمرًا ممتعًا، والمرحاض الموجود في القبو، وكل ذلك؛ لقد استمتعنا بوقتنا حقًّا.»

كان أحمر شفاه أيريس، وشعرها الممشط اللامع، وفستانها الملون، ودبوسها المزخرف الضخم، ونبرة صوتها وحديثها؛ كل ذلك كان جزءًا من سياسة ليست بالسيئة: كانت تحب التنقل، والضوضاء، والتغيير، والبهرجة، والمرح الصاخب، والشجاعة. أمر ممتع. كانت ترى أن الآخرين يجب أن يُحبوا هذه الأشياء أيضًا، وحكت لي عن جهودها خلال رحلتها.

«أنا من يبدأ المرح. البعض يشعر بالحزن خلال الرحلة، أو يصابون بعسر الهضم، فيتحدثون عن الإمساك. ودائمًا أحاول إبعاد أذهانهم عن ذلك. يمكنني أن ألقيَ بدعابة، أو أن أصدح بالغناء. كل صباح أستطيع فعليًّا أن أسمعهم يقولون: يا ترى، ما الأمر المجنون الذي ستفعله سليلة تشادلي اليوم؟»

قالت إنه ما من شيء ينغص عليها حياتها. وحكت لي عن رحلات أخرى. عن أيرلندا. خافت الأخريات من النزول لتقبيل حجر بلارني، ولكنها قالت: «لقد قطعت كل هذه المسافة لأقبِّل هذا الشيء اللعين!» وهذا ما فعلته، بينما أمسك رجل أيرلندي ملحد بكاحليها.

شربنا وأكلنا، ثم جاء الأطفال فأثنت عليهم، وجاء ريتشارد وذهب، ولم ينغص شيء عليها أمسيتها. كانت محقة في هذا؛ لم يوقفها شيء عن سرد حكاياتها عن نفسها، وكان كم الوقت الذي قضته بلا كلام محدودًا. حكت لي مجددًا عن الحقيبة القماشية وعن أرملة المليونير. وأخبرتني عن الممثل الفاجر. كم حديث انطلقت فيه بهذا الشكل — تضحك وتلح وتنتقل من حكاية إلى أخرى وتعود بذاكرتها إلى الوراء. تساءلت بيني وبين نفسي ما إذا كانت ستصف هذه الأمسية بالممتعة. بالتأكيد ستصفها؛ البيت والسجاجيد والأطباق وكل ما يوحي بالمال الوفير. قد لا يهمها أن ريتشارد قد تعامل معها بازدراء. ربما سيكون من الأفضل في رأيها أن يزدريها قريب ثري عن أن يرحِّب بها قريب فقير. ولكن هل كانت دائمًا على هذه الحال: دائمًا متهورة وطمَّاعة وخائفة، لطيفة وربما حتى مثيرة للإعجاب، ولكنها تظل مع هذا شخصًا تتمنى ألا تضطرك الظروف إلى الجلوس بجواره لمدة طويلة في حافلة أو حفل؟ لم أكن صادقة حين قلت: إنني تمنيت أن أقابلها في مكان آخر، وإنني تمنيت أن أقدرها حق قدرها، حين أشرت إلى أن أحكام ريتشارد هي العائق الوحيد. ربما كان بوسعي أن أقدرها أكثر، ولكني لم أستطع أن أبقى معها وقتًا أطول.

كان من الضروري لي أن أتساءل عمَّا إذا كان هذا هو كل ما وصل إليه الأمر، عن الابتهاج الذي أتذكره، الابتهاج والكرم، والانغماس في الشئون الدنيوية. سيكون من الأفضل أن أفكر في أن الزمن قد أفسد شيئًا كان جميلًا وأفقده قيمته، أو أن الصعاب قد غيَّرت كِلتَينا، دون أن يكون هذا التغيير للأفضل. قد تكون الأماكن والأشخاص القاسية هي ما جعلتنا قاسيتيْن في الأفعال والآراء؛ فقد كنت أحب في الماضي النظر إلى إعلانات المجلات التي تعرض نساءً يرتدين الفساتين الشيفون، ومن فوقها الكابات فوق أكتافهنَّ والرداءات الملفوفة حول خصورهنَّ دون تثبيت، وهن يتَّكئنَ بمرافقهنَّ على حاجز السفينة، أو يشربن الشاي بجوار نبتة موضوعة في أصيص. وكنت معتادة على فهم حياة الأناقة ورقة الشعور بفضلهنَّ. فكنَّ نافذتي على العالم، بينما كانت قريباتنا نافذة أخرى. في حقيقة الأمر كانت فساتين قريباتنا المكسوة بالأزهار تذكرني بهنَّ، رغم أنهن كنَّ أكثر امتلاءً، وغير جميلات. حسنًا، الآن وأنا أفكر في الأمر، ما الذي كانت هؤلاء السيدات في المجلات يتحدثن عنه، ويظهر في بالونات الحوار فوق رءوسهن؟ كن يناقشن مزيلات رائحة العرق، أو يُشِدن بحسن حظهن لأنهن ما عدن يُصَبن بالحكة لأنهن أصبحن يستخدمن فوط كوتيكس الصحية.

استعادت أيريس السيطرة على نفسها — أخيرًا — وسألتني عن موعد آخِرِ حافلة. كان ريتشارد قد اختفى مجددًا، ولكني قلت لها إنني سأعيدها إلى فندقها في سيارة أجرة. إلا أنها رفضت وقالت إنها ستستمتع حقًّا برحلة الحافلة؛ لأنها دائمًا ما تنخرط في حوار مع أحد الركاب. جلبتُ جدول الحافلات ثم أوصلتها إلى المحطة. قالت إنها تأمل ألا تكون قد أرهقتني وريتشارد بحديثها، وسألتني عما إذا كان ريتشارد يتسم بالخجل. قالت لي إن بيتي جميل، وأسرتي لطيفة؛ مما جعلها تشعر بالسعادة لنجاحي في حياتي. اغرورقت عيناها بالدموع وهي تضمني إلى صدرها لتودِّعني.

قال ريتشارد وهو يدخل إلى غرفة المعيشة بينما كنت أجمع فناجين القهوة: «يا لها من عجوز مثيرة للشفقة!» تبعني إلى المطبخ، مسترجعًا أمورًا قالتها — أمورًا ادَّعتها — معظمها للتباهي. أشار إلى أخطائها النحوية، وإلى ما كان سيعتبر تنويعًا مهذبًا. تظاهر بالشك. ربما شعر بهذا حقًّا، وربما يكون قد ظن أنه سيكون من الأنسب أن يبدأ الهجوم فورًا، قبل أن أوبِّخه على مغادرته الغرفة، وتصرفه بوقاحة، وعدم عرض توصيلها إلى الفندق.

كان لم يزل يتحدث في اللحظة التي ألقيت فيها طبق البيركس تجاه رأسه. كانت به قطعة من فطيرة مرينج الليمون. لم يصبه الطبق، واصطدم بالثلاجة، ولكن الفطيرة طارت وطالت جانب وجهه تمامًا مثل الأفلام القديمة أو برنامج «أحب لوسي». ظهرت على وجهه نفس أمارات الذهول التي تظهر في الأفلام، بالإضافة إلى البراءة المفاجئة، من جانبه. توقف عن الكلام، فاغرًا فاه. أنا أيضًا انتابني الذهول؛ لأن ما يعتبره الناس دائمًا مضحكًا في مثل هذه المواقف يصبح حُكمًا صادمًا للغاية في الحياة الواقعية.

جدف، جدف، جدف بقاربك.
ادخل به النهر برفق.
بمرح، ومرح، ومرح، ومرح.
فما الحياة إلا حلم.

أرقدُ في الفراش إلى جوار شقيقتي الصغرى، وأستمع إلى غنائهن في الحديقة. تغيرت الحياة، بهذه الأصوات، بهذه الكيانات، بأرواحهن المعنوية المرتفعة، واعتدادهن الشديد بأنفسهن وبعضهنَّ ببعض. والداي — بل جميعنا — في إجازة. مزيج الأصوات والكلمات معقَّد ومتنوع للغاية لدرجةٍ بدا معها هذا الارتباك — وهذا التنافس المرح — أنه سيستمر إلى الأبد، ثم فجأةً ولدهشتي — لأنني أصبت بالدهشة، رغم معرفتي بنمط الأدوار — يخفت صوت الأغنية، وبإمكاني سماع صوتين يناضلان:

بمرح، ومرح، ومرح، ومرح.
فما الحياة إلا حلم.

ثم صوت وحيد، إحداهن فقط تواصل الغناء — ببسالة — حتى النهاية. صوت واحد به مسحة غير متوقعة من الاستعطاف، من التحذير، وهو يترك الكلمات الأربع منفصلة تتطاير في الهواء. «ما الحياة …» انتظروا «إلا …» مهلًا «حلم».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤