أقمار المشتري

عثرت على أبي في قسم القلب بالطابق الثامن من مستشفى تورونتو العام. كان في غرفة مزدوجة، وكان السرير الآخر خاليًا. وقال لي أبي سابقًا إن تأمينه الصحي لا يغطي سوى سرير في العنبر، وكان قلقًا من أن يُضطَر إلى دفع مصاريف إضافية.

قال: «لم أطلب غرفة مزدوجة قط.»

قلت إن العنابر على الأرجح ممتلئة عن آخرها.

«لا، فقد رأيت بعض الأسِرَّة الشاغرة بينما كانوا يسوقون كرسيِّي المتحرك ليجيئوا بي إلى هنا.»

قلت: «ربما السبب إذنْ هو ضرورة إيصالك بهذا الجهاز. لا تقلق. إذا كانت هناك أية تكاليف إضافية، فسيقولون لك.»

قال: «هذا صحيح على الأرجح. ما كانوا ليضعوا هذه الأجهزة في العنابر. أعتقد أن تأميني يغطي استخدام هذه الأجهزة.»

قلت إنني على يقين أنه كذلك.

كانت ثَمَّةَ أسلاك ملصقة بصدره، وشاشة صغيرة معلقة فوق رأسه. وعلى الشاشة خط متعرج لامع يسير باستمرار. ويصاحب ظهوره إشارة صوتية مثيرة للأعصاب. كان أداء قلبه معروضًا على الشاشة. حاولت أن أتجاهله. بدا لي أن التركيز الشديد فيه — بل والمبالغة في الانتباه إلى ما يُفترض أن يكون نشاطًا سريًّا جدًّا — يجلب الكثير من المتاعب. فأي شيء معروض على هذا النحو عرضة لأن يزداد نشاطه وتسوء حالته.

لكن أبي لم ينتبه. قال إنهم أعطَوْه مهدئات؛ حبوب السعادة. فبدا هادئًا ومتفائلًا.

كان الأمر مختلفًا تمامًا البارحة. عندما أودعه المستشفى في غرفة الطوارئ، كان شاحب اللون مطبق الفم. فتح باب السيارة، ووقف وقال بهدوء: «ربما كان من الأفضل أن تُحضري لي كرسيًّا متحركًا.» تكلم بالنبرة نفسها التي يتكلم بها وقت الأزمات. ذات مرة، اندلعت النيران في مدخنتنا. كانت ظهيرة يوم أحد، وكنت في غرفة الطعام أَحيك ثوبًا. دخل وقال بنبرته التحذيرية الواقعية نفسها: «جانيت، هل تعلمين أين أجد بعضًا من مسحوق الخبيز؟» كان يريد أن يلقيَ به على النار. وبعدها قال: «أعتقد أنكِ السبب — لأنك عكفتِ على الحياكة يوم الأحد.» (ثَمَّةَ أسطورة مسيحية تقول إن الحياكة يوم الأحد تجلب الحظ السيئ.)

اضطُرِرْت للانتظار لأكثر من ساعة في غرفة انتظار الطوارئ. استدعَوْا إخصائي قلب من نفس المستشفى، وكان شابًّا في مقتبل العمر. استدعاني إلى الردهة، وشرح لي أن أداء أحد صمامات القلب سيئ للغاية، والحالة تستدعي إجراء جراحة فورية.

سألته عمَّا يمكن أن يحدث إن لم تُجرَ الجراحة.

قال الطبيب: «سيتحتم عليه أن يلزم الفراش.»

«إلى متى؟»

«ربما لثلاثة أشهر.»

«أعني إلى متى سيعيش؟»

قال الطبيب: «هذا ما أعنيه أيضًا.»

ذهبت لرؤية أبي. كان جالسًا في سريره في زاوية معزولة بستارة. قال: «الحالة مستعصية، أليس كذلك؟ هل حدَّثك عن الصمام؟»

قلت: «ليست مستعصية تمامًا.» ثم كررت على مسامعه أي شيء يبعث على الأمل قاله الطبيب، بل وبالغت فيه، «لستَ في حالة حرجة حاليًّا. وبخلاف القلب، حالتك البدنية جيدة.»

قال أبي بكآبة: «بخلاف القلب.»

كنت متعبة من القيادة؛ إذ اضطُرِرْت إلى الذهاب لداجليش لأخذه من هناك، ثم عدت مرة أخرى إلى تورونتو منذ الظهيرة. كما كنت قلقة بشأن إعادة السيارة المستأجرة في الوقت المحدد، ومنزعجة بسبب ما قرأته في مقال طالعته في مجلة بغرفة الانتظار. كان المقال عن كاتبة أخرى، امرأة أصغر وأجمل مني، وربما أكثر موهبة أيضًا. كنت في زيارة إلى إنجلترا لمدة شهرين؛ ولذا لم أرَ هذا المقال من قبل، لكن خطر لي أثناء القراءة أن يكون أبي قد طالعه. أستطيع أن أسمع صوته وهو يقول إنه لم يجد لي أي ذكر في مجلة ماكلينز. وإذا كان قد طالع شيئًا عني لقال إنه لم يركز في المقال، ولكانت نبرة صوته مازحة متسامحة، ومع ذلك كان يثير بداخلي إحساسًا مألوفًا بالغربة والوحشة. كانت الرسالة التي تصلني منه بسيطة: الشهرة لا تتأتَّى إلا بالكفاح، وعندما تنالها يجب أن تعتذر عنها. وسواء نلتها أو لم تنلها، لن تُفلت من لَوم اللائمين.

لم يفاجئني تشخيص الطبيب. كنت على أهبة الاستعداد لسماع أخبار مثيلة، وشعرت بالرِّضَى عن نفسي؛ إذ تعاملت مع الموقف بهدوء، تمامًا كما كنت سأشعر بالرِّضَى عن نفسي لتضميد جُرح أو التطلع من شرفة آيلة للسقوط في بناية عالية. حدَّثت نفسي بأن الأوان قد آن؛ لا بد أن يحدث شيء ما. ها هو ذا، لم يراودني أي شعور بالاعتراض أو الرفض الذي كان يراودني منذ عشرين عامًا، بل منذ عشرة أعوام. وعندما رأيت في ملامح أبي شعوره بالاعتراض على ما جرى له — شعور بالرفض ملأ قلبه وكأنه أصغر بثلاثين أو أربعين عامًا — قسا قلبي وحدثته بانشراحة صدر ملحة ومزعجة، قلت: «بخلاف ذلك الاحتمالات كثيرة.»

•••

في اليوم التالي عاد إلى طبيعته مرة أخرى.

قال أبي ما كنت سأقوله له تمامًا. قال إنه يرى أن الطبيب الشاب ربما كان متحمسًا أكثر من اللازم لإجراء العملية. وأضاف أنه «سعيد بمشرط الجراحة.» كان ساخرًا ومتباهيًا بالألفاظ الشائع استخدامها في المستشفى. قال إن طبيبًا آخر فحصه، طبيبًا أكبر سنًّا، وقرر أن الراحة والعلاج سيؤديان الغرض.

لم أسأله عن التفاصيل.

«قال إن لديَّ صمامًا معيبًا، حسنًا، لا شك أن هذه مشكلة. أرادوا أن يعرفوا إذا كنت قد عانيت من حُمَّى روماتيزمية في طفولتي، فقلت إني لا أعتقد ذلك. لكن آنذاك لم يكن الأطباء يشخصون ما يعانيه المرضى في معظم الوقت. كما أن والدي لم يكن ممن يستعينون بالأطباء.»

جعلني التفكير في طفولة أبي التي تخيلتها دومًا بائسة وخطيرة — المزرعة المعدمة والأخوات المذعورات والأب القاسي — أقل استسلامًا لموته. تخيلته هاربًا للعمل على قوارب البحيرة، تخيلته يعدو بطول شريط السكك الحديدية، وباتجاه جودريتش في ضوء القمر. اعتاد أن يحكيَ عن هذه الرحلة. في مكانٍ ما على طول السكك الحديدية عثر على شجرة سفرجل. أشجار السفرجل نادرة في البقعة التي نعيش فيها من الريف؛ الواقع أنني لم أرَ واحدة قط. ولا حتى تلك التي عثر عليها أبي، مع أنه اصطحبنا يومًا في رحلة استكشافية للبحث عنها. ظن أنه يعرف تقاطع الطرق الذي كانت قريبة منه، لكننا لم نستطِع العثور عليها. لم يستطِع وقتئذٍ تناول ثمار الشجرة بالطبع، لكنه انبهر بفكرة وجودها؛ فقد جعلته يشعر وكأنه وصل إلى جزء جديد من العالم.

ذلك الطفل الذي فرَّ من بيته، الذي نجا من المخاطر وظل على قيد الحياة، أضحى اليوم عجوزًا محجوزًا هنا بسبب قلبه الواهن. لم أتابع هذه الأفكار. لم أعبأ بالتفكير في شخصياته وهو أصغر سنًّا. حتى جذعه العاري الأبيض الممتلئ — كان يتمتع بجسم عُمَّال جيله الذين نادرًا ما يتعرضون للشمس — كان خطرًا عليَّ؛ بدا قويًّا جدًّا ومفعمًا بالشباب. العنق المجعد، والنمش الذي يغطي يديه وذراعيه، ورأسه الصغير اللطيف بشعره الخفيف وشاربه الرمادي، كانت تلك هي الأشياء التي اعتدت عليها.

سألني أبي بعقلانية: «ما الذي يدفعني إلى الخضوع لعملية جراحية إذنْ؟ فكِّري في الخطر الذي تنطوي عليه العملية لمن هم في مثل سني، ومن أجل ماذا؟ بضع سنوات خارج المستشفى. أعتقد أن الخيار الأفضل بالنسبة لي أن أعود إلى البيت ولا أشق على نفسي. أستسلم بهدوء. هذا كل ما يستطيع مَن هم في عمري القيام به. موقف الإنسان يتغير حسب عمره كما تعرفين. تطرأ على المرء بعض التغييرات النفسية. ويبدو ذلك الشيء طبيعيًّا بقدر أكبر.»

سألته: «أي شيء تقصد؟»

«الموت. لا شيء أكثر طبيعية من الموت. لا، ما أعنيه تحديدًا هو أنني لن أخضع للعملية.»

«أيبدو لك هذا قرارًا طبيعيًّا؟»

«نعم.»

قلت: «الأمر يرجع إليك.» ولكنني كنت أوافقه الرأي تمامًا. هذا ما كان يجب أن أتوقعه منه. كلما حدثت الناس عن أبي، أكدت على استقلاله واعتماده على نفسه وصبره. لقد عمل في أحد المصانع، وتعهد حديقته بالرعاية، وقرأ كتب التاريخ. يمكنه أن يقص عليك قصص الأباطرة الرومان أو حروب البلقان. لم يُحدِث جلبة في حياته.

•••

استقبلتني جوديث — ابنتي الصغرى — في مطار تورونتو منذ يومين. وكان بصحبتها الفتى الذي تعيش معه؛ اسمه دون. كانا يعتزمان الرحيل إلى المكسيك في صباح اليوم التالي، وكان المخطط أن أنزل ضيفة على شقتهما طوال إقامتي في تورونتو. في الوقت الراهن، أعيش في فانكوفر. وأحيانًا أقول إن محل إقامتي في فانكوفر.

سألتها: «أين نيكولا؟» وخطر على بالي في نفس اللحظة تعرُّضها لحادث أو جرعة مخدرات زائدة. نيكولا ابنتي الكبرى. كانت طالبة بمعهد الموسيقى، ثم صارت نادلة، ثم أمست عاطلة عن العمل. لو كانت استقبلتني بالمطار، لربما تفوَّهت بما يسيء إليها. لربما سألتها عن خططها، وحينها كانت ستزيح شعرها للوراء بأناقة وتقول: «خطط؟» — وكأنها كلمة من اختراعي.

ردت جوديث: «كنت أعلم أن أول ما ستتكلمين عنه هو نيكولا.»

«غير صحيح. قلت مرحبًا وأنا …»

قال دون محايدًا: «سنحضر حقيبتك.»

«أهي بخير؟»

أجابت جوديث بمرح مصطنع: «أنا متأكدة أنها بخير. لو كنت أنا التي لم تأتِ لاستقبالك لما بدوتِ قلقة هكذا.»

«بالطبع كنت سأقلق.»

«غير صحيح. نيكولا هي الطفلة المدللة للعائلة. إنها أكبر مني بأربع سنوات، كما تعلمين.»

«من المفترض أن أعلم.»

قالت جوديث إنها لا تعرف مكان نيكولا تحديدًا. وأضافت أن نيكولا تركت شقتها (مقلب القمامة هذا!) واتصلت هاتفيًا بها (وهو حدث جلل أن تتصل نيكولا) لتقول إنها أرادت أن تعيش في عزلة عن الناس لفترة من الوقت، ولكنها بخير.

قالت جوديث بلطف أكبر ونحن في الطريق إلى شاحنتهم: «قلت لها إنك ستقلقين عليها.» تقدَّمَنَا دون حاملًا حقيبتي. واستطردت قائلة: «لكن لا تقلقي. صدقيني، هي بخير.»

لم يُرِحْني حضور دون؛ لم أكن أحب أن يسمع هذه الأشياء. تخيلت الحوارات التي لا بد أنها دارت بين جوديث ودون، أو بين دون وجوديث ونيكولا — لأن نيكولا وجوديث كانتا على علاقة طيبة في بعض الأحيان — أو بين دون وجوديث ونيكولا وغيرهم ممن لا أعرف حتى أسماءهم. لا بد أنهم تحدثوا عني. لا بد أن جوديث ونيكولا كانتا تتبادلان الملاحظات، وتقصان الحكايات؛ تحللان، وتأسفان، وتلومان، وتسامحان. ليتني أنجبت صبيًّا وفتاة، أو صبيين؛ لم يكونا ليفعلا ذلك؛ فمن المستحيل أن يعرف الصبية الكثير عن أمهم.

كنت أتصرف على النحو نفسه عندما كنت في سنهما؛ ففي سن جوديث، كنت أتحدث مع أصدقائي في مطعم الجامعة، وفي وقت متأخر من الليل ونحن نحتسي القهوة في غرفنا الرثة. بينما عندما كنت في عمر نيكولا، كانت نيكولا نفسها في سلة حمل الأطفال أو تتحرك في حجري، وكنت أحتسي القهوة أيضًا طوال فترات العصاري المطيرة في فانكوفر برفقة صديقتي الوحيدة في الحي روث بودرو، التي كانت تعشق القراءة وتشعر بالارتباك كلما فكرت في حالها كما كنت أرتبك أنا شخصيًّا. كنا نتحدث عن أبوينا وطفولتنا، رغم أننا كنا في بعض الأحيان نعمد إلى تجنب الحديث عن زيجاتنا. كم كنا نسترسل في الحديث عن آبائنا وأمهاتنا، ونستنكر زيجاتهم، وطموحاتهم الخاطئة أو خوفهم من الطموح! وكم أهملناهم ونجحنا في إقصائهم عن حياتنا، وقررنا عدم قدرتهم على التغيير! يا للتبجُّح!

نظرت إلى دون وهو يمشي أمامي. كان فتًى طويل القامة تبدو عليه الجدية والبساطة، ذا شعر أسود ثقيل، ولحية منمقة بدقة. بأي حق يسمع عني ويعرف تفاصيل حياتي التي ربما أكون قد نسيتها شخصيًّا؟ بدت لي لحيته وقصة شعره متكلَّفتين.

ذات مرة، عندما كان أبنائي صغارًا، قال لي أبي: «أتعرفين تلك السنوات التي كبرتِ خلالها … حسنًا، لقد أمست ذكرى ضبابية بالنسبة لي. لا يسعني أن أميز بين سنة وأخرى من هذه الفترة.» شعرت وقتها بالاستياء. وتذكرت كل سنة منها بأسًى ووضوح. كان بإمكاني أن أحزر كم كان عمري عندما كنت أذهب لمشاهدة فساتين السهرة في نافذة عرض محلات بينبو لملابس السيدات. كل أسبوع خلال الشتاء، كان يُعرَض فستان جديد في نافذة العرض وتُسلَّط عليه الأضواء — هذا بترتر ومصنوع من قماش التُّل، وهذا وردي، وهذا أرجواني فاتح، وهذا أزرق غامق، وهذا أصفر — وأنا أقف متعبدة محرومة يقرصني البرد على الرصيف الموحل. كان بالإمكان أن أحزر كم كان عمري عندما زَوَّرتُ توقيع أمي على تقريرٍ مَدرسي متدني الدرجات، وعندما أُصبت بالحصبة، وعندما قمنا بتجهيز الغرفة الأمامية. لكن السنوات التي كانت جوديث ونيكولا فيها صغيرتين — عندما كنت أعيش مع أبيهما — أمست ضبابية، نعم، ضبابية هي أفضل صفة تصف تلك الفترة. أتذكر أنني كنت أجفف الحفَّاظات على حِبال الغسيل، وأعود لأجمعها وأطويَها؛ ويمكنني أن أتذكر طاولة المطبخ في منزلين أقمنا بهما، ومكان سلة الملابس. أتذكر البرامج التليفزيونية — باباي رجل البحار، والمهرجون الثلاثة وفانوراما. وعندما كان برنامج فانوراما يُعرض، يحين وقت إضاءة الأنوار وإعداد طعام العشاء. لكنني عجزت عن التمييز بين الأعوام. عشنا خارج مدينة فانكوفر في مدينة سكنية للمغتربين تدعى دورمير، أو دورمر أو دورماوس — شيء من هذا القبيل. كنت أنام كثيرًا حينئذٍ؛ الحمل جعلني ناعسة طوال الوقت؛ وكذلك الرضاعة الليلية، وهطول الأمطار على الساحل الغربي. أتذكَّر أشجار الأرز التي يقطر ماء المطر من فوقها، ونبات الغار اللامع بقطرات المياه؛ تثاؤب الزوجات وغلبة النوم عليهن، والزيارات واحتساء القهوة وطي الحفَّاظات؛ الأزواج الذين يرجعون إلى بيوتهم ليلًا من المدينة الواقعة على الضفة الأخرى. كل ليلة كنت أقَبِّل زوجي لدى عودته إلى البيت في معطفه المبلل، وآمل أن يوقظني من النوم؛ كنت أعد له اللحم والبطاطس ونوعًا من الخضراوات الأربع التي يسمح لي بطهيها. كان يتناول طعامه بشراهة مهولة، ويغلبه النعاس على أريكة غرفة المعيشة. أمسينا زوجين كالأزواج في أفلام الكرتون؛ كأننا في منتصف العمر وما زلنا في العشرينيات.

هذه السنوات المتخبطة هي التي ستذكرها طفلتانا طوال حياتهما. زوايا الأفنية التي لعبتا فيها ولم أزُرْها قط هي ما ستلتصق بذاكرتهما.

سألتُ جوديث: «ألم ترغب نيكولا في رؤيتي؟»

أجابت جوديث: «لا تريد أن ترى أحدًا معظم الوقت.» تقدمت جوديث إلى الأمام ولمست ذراع دون. كنت أعرف مغزى هذه اللمسة — كانت اعتذارًا، وسيلة قلقة لطمأنته. فالمرأة حينما تلمس رجلًا بهذه الطريقة فهي تفعل ذلك لتذكره بامتنانها له، وبإدراكها أنه يقوم لأجلها بشيء ممل بالنسبة له أو يهدد كرامته بعض الشيء. أشعرتني طريقة لمس ابنتي لرجل — بل صبي — بهذه الطريقة بالهَرَم أكثر مما لو كان عندي أحفاد. شعرت بتوترها المشوب بالحزن، وكنت قادرة على توقُّع لفتاتها المُلَطِّفة. طفلتي الشقراء الصريحة قصيرة القامة ممتلئة القوام. لمَ ينبغي أن أظن أن مشاعرها لن تتحرك لأحد، وأنها ستظل دائمًا صريحة وخرقاء ومستقلة؟ بالضبط كما أزعم أن نيكولا ماكرة ومنعزلة وباردة ومغرية. لا بد أن كثيرًا من الناس يعرفون أشياء تناقض مزاعمي.

في الصباح، غادر دون وجوديث إلى المكسيك. وقررت أني أريد رؤية شخص خارج نطاق أقاربي، شخص لم يكن يتوقع مني أي شيء تحديدًا. اتصلت بعشيق سابق لي، لكنني تلقيت رسالة على المجيب الآلي: «توم شيبارد يتحدث. سأكون خارج المدينة خلال شهر سبتمبر. برجاء تسجيل رسالتك واسمك ورقم هاتفك.»

بدا صوت توم مبهجًا ومألوفًا جدًّا لدرجة أنني كدت أفتح فمي لأسأله عن مغزى رسالته الحمقاء هذه، لكنني وضعت سماعة الهاتف. شعرت وكأنه فعل ذلك عن عمد ليخيب ظني، وكأننا خططنا للِّقاء في مكان عام، فلم يحضر. أذكر أنه فعلها ذات مرة.

أعددت لنفسي كأسًا من الفيرموت، مع أن الوقت لم يتجاوز الظهيرة بعد، واتصلت بأبي.

قال: «حسنًا، أهم شيء أنكِ لو تأخرتِ ١٥ دقيقة أخرى عن الاتصال، لما لحقتِ بي.»

«هل كنت ستذهب إلى وسط البلد؟»

«وسط تورونتو.»

قال إنه ذاهب إلى المستشفى؛ فقد أراد طبيبه في داجليش أن يفحصه الأطباء في تورونتو، وأعطاه خطابًا لعرضه عليهم في غرفة الطوارئ.

سألته: «غرفة الطوارئ؟»

«الأمر ليس طارئًا. يبدو أنه يعتقد أن هذه هي الطريقة المثلى للتعامل مع الأمر. يعرف اسم زميل له هناك. ولو كان سيحدد لي موعدًا، لاستغرق الأمر أسابيع طويلة.»

سألته: «هل طبيبك على علم بأنك ستقود سيارتك حتى تورونتو؟»

«حسنًا، لم يقل إنني لا أستطيع.»

كانت محصلة هذا الحوار أنني استأجرت سيارة، وقدتها إلى داجليش، ورجعت بأبي إلى تورونتو، وأودعته غرفة الطوارئ في السابعة من مساء ذلك اليوم.

قبل رحيل جوديث قلت لها: «هل أنتِ متأكدة أن نيكولا تعرف أنني مقيمة هنا؟»

قالت: «نعم، لقد أخبرتها.»

كان الهاتف يرن بين الفَينة والأخرى، لكن المتصل دائمًا يكون صديقًا لجوديث.

•••

قال أبي: «يبدو أنني سأخضع للعملية.» كان هذا في اليوم الرابع من إقامته بالمستشفى. كان قد غيَّر رأيه تمامًا بين ليلة وضحاها. «يبدو أن من الأفضل أن أخضع لها.»

لم أعرف ماذا كان يريدني أن أقول. حسبت أنه ربما كان ينتظر مني اعتراضًا أو محاولة لإقناعه بالعدول عن الجراحة.

سألته: «متى سيجرونها؟»

«بعد غدٍ.»

قلت إنني ذاهبة إلى الحمَّام. فقصدت غرفة الممرضات، وهناك وجدت امرأة ظننت أنها رئيسة التمريض. على أية حال، كانت ذات شعر رمادي لطيفة وتبدو عليها الجدية.

قلت لها: «أبي سيخضع لعملية جراحية بعد غدٍ.»

«أوه، نعم.»

«أردت فقط أن أتحدث مع أحد بشأنه. ظننت أن الأطباء قرروا أنه من الأفضل ألا يخضع للعملية. وأعتقد أن السبب أنه طاعن في السن.»

«حسنًا، القرار قراره وقرار الطبيب.» ثم ابتسمت لي دون تعالٍ. «من الصعب اتخاذ هذه القرارات.»

«كيف كانت نتائج فحوصاته؟»

«حسنًا، لم أطَّلع على جميع فحوصاته.»

كنت متأكدة أنها اطَّلعت عليها. بعد لحظة قالت: «يجب أن نكون واقعيين. لكن الأطباء هنا بارعون جدًّا.»

عندما عدت إلى الغرفة، قال أبي بصوت مندهش: «بِحار بلا شطآن.»

سألته: «ماذا؟» تساءلت ما إذا كان قد اكتشف الوقت المتبقيَ له في الحياة، أو كم أن الوقت المتبقيَ له محدود. تساءلت ما إذا كانت الأقراص التي يتعاطاها قد أدخلته في حالة من النشوة المفرطة، أم أنه أراد المقامرة. ذات مرة، بينما كان يتكلم معي عن حياته، قال: «مشكلتي أنني كنت دومًا أخشى المخاطرة.»

كنت أقول للناس دومًا إنه لم يتكلم عن حياته نادمًا قط، لكن هذا لم يكن صحيحًا. كل ما في الأمر أنني لم أكن أنصت إليه. قال إنه كان ينبغي أن يعمل مُوَرِّدًا للجيش — كانت حالته المادية ستتحسن. وقال إنه كان ينبغي أن يزاول مهنة النجارة مستقلًّا بعد الحرب. وكان ينبغي أن يغادر مدينة داجليش. ذات مرة قال: «حياة ضائعة، أليس كذلك؟» لكنه كان يسخر من نفسه، قائلًا إن مثل هذه العبارة درامية للغاية. وكان كلما يقتبس شعرًا، أستشعر دومًا نبرة ساخرة في صوته، وكأنها اعتذار عن استعراض معرفته الشعر واعتذار عن الترفيه عن نفسه.

قال مجددًا: «بحار بلا شطآن.» واستطرد: ««وراءه تقبع جزر الأزور الرمادية، خلف بوابات هرقل؛ أمامه ما من سراب للشطآن، أمامه بحار بلا شطآن.» هذا ما كان يدور بخلدي ليلة أمس. ولكن، هل تعتقدين أني استطعت تذكر نوع البحار؟ لم أستطِع. أكانت بحارًا موحشة؟ بحارًا خاوية؟ كنت على وشك أن أتذكرها، لكنني لم أستطِع. ولكن الآن عندما دلفتِ إلى الغرفة، ولم أكن أفكر فيها مطلقًا، خطرت لي الكلمة فجأة. هذا ما يحدث دائمًا، أليس كذلك؟ الأمر ليس مفاجئًا؛ فأنا أطرح على عقلي سؤالًا. وتكون الإجابة حاضرة، لكنني لا أستطيع أن أرى العلاقات التي يصنعها عقلي للوصول إليها. شأنه شأن الحاسب الآلي، لا يوجد شيء فيه يتعذر إيجاده. أتعرفين، في حالتي هذه، لو كان هناك أي شيء لا يمكنني تفسيره مباشرة، فثَمَّةَ دافع قوي بداخلي يجعلني … حسنًا يجعلني أحوِّله إلى لُغز. ثَمَّةَ دافع قوي يجعلني أُومِن ﺑ … أنت تعرفين قصدي.»

سألته برفق وفي داخلي شعور هائل بالحب والتقدير: «بالروح؟»

«أوه، أعتقد أنه يمكنك إطلاق اسم الروح عليه. أتعرفين، عندما دخلت الغرفة أول مرة، كانت هناك كومة من الأوراق إلى جوار السرير. أحدهم تركها هنا — تلك الصحف الصفراء التي لم أعبأ يومًا بتصفُّحها. وشرعت في قراءتها. سأقرأ أي شيء يقع تحت يَدَيَّ. ثَمَّةَ سلسلة منشورة في تلك الصحيفة عن تجارب شخصية لأناس ماتوا من وجهة النظر الطبية — معظمهم أصيبوا بأزمات قلبية — ثم عادوا للحياة مرة أخرى. يروون ذكرياتهم عن الفترة التي فارقوا فيها الحياة. تجاربهم.»

سألته: «وهل كانت ذكريات سعيدة أم لا؟»

«أوه، سعيدة. كانت أرواحهم تصعد إلى سقف الغرفة ليتطلعوا إلى أجسادهم من علٍ والأطباء يعالجونهم. وبعدها يصعدون لأعلى، ويتعرفون على بعض الأشخاص الذين فارقوا الحياة قبلهم. لا يرَوْنهم تحديدًا، لكن يستشعرون وجودهم. تارة على هيئة طنين، وتارة أخرى على هيئة … ما اسم هذا الضوء أو اللون الذي يحيط بالإنسان؟»

«هالة؟»

«بالضبط، ولكن دون أن يكون للشخص نفسه وجود. هذا كل ما يرَوْنه؛ وبعدها يرجعون إلى أجسادهم، ويشعرون بالآلام البشرية كلها … يرجعون إلى الحياة.»

«هل بدا كلامهم مقنعًا؟»

«أوه، لا أعرف. الأمر يُرتَهن بما إذا كنتِ تودِّين تصديق مثل هذه الأشياء أم لا. وإذا كنتِ ستصدقينها، وتأخذينها على محمل الجد، أعتقد أنك يجب أن تتعاملي مع كل ما يُنشر في هذه الصحف بجدية أيضًا.»

«ماذا فيها خلاف ذلك؟»

«هراء … علاجات للسرطان والصلع وكلام فارغ عن جيل الشباب والمستفيدين من إعانات الدولة. وأخبار تافهة عن نجوم السينما.»

«نعم، أعرف ذلك.»

قال: «من هم في مثل حالتي يجب أن يتوخَّوا الحذر وأن ينتبهوا جيدًا، وإلا فسيخدعون أنفسهم.» ثم قال: «هناك بعض التفاصيل الدقيقة التي ينبغي أن نقف عليها.» وأخبرني عن وصيته والبيت والمقبرة. كان كل شيء بسيطًا.

سألته: «هل تريدني أن أتصل ببيجي؟» بيجي أختي، وهي زوجة لفلكي وتعيش في فيكتوريا.

فكَّر في الأمر، وقال أخيرًا: «أعتقد أننا يجب أن نخبرهما. ولكن قولي لهما لا داعي للقلق.»

«حسنًا.»

«لا، تمهَّلي. من المفترض أن يذهب سام لأحد المؤتمرات نهاية هذا الأسبوع، وبيجي كانت تعتزم مرافقته. لا أريد لهما الحيرة بشأن تغيير خططهما.»

«أين سيُعقد المؤتمر؟»

قال بفخر: «في أمستردام.» كان فخورًا بسام، وحريصًا على تتبع كتبه ومقالاته. كان يختار واحدة من مقالاته ويقول بنبرة إعجاب لم تخلُ من قليل من السخرية: «هلَّا تُلقين نظرة عليها؟ لا أفهم كلمة واحدة منها!»

كان يقول: «البروفيسور سام، وصغاره الثلاثة.» هكذا كان يشير إلى أحفاده الذين كانوا يشبهون أباهم في ذكائه وفي ثقته المحببة بذاته … ميله البريء المفعم بالحيوية للاستعراض والتباهي. التحقوا بمدرسة خاصة تميل إلى تطبيق النظام التعليمي القديم، وبدءوا في دراسة التفاضل والتكامل في الصف الخامس. أحيانًا ما يسهب أبي في وصفهم مشبِّهًا إياهم: «بالكلاب الذين تدربوا على الطاعة. وبيجي …»

ولكن إذا قلت: «هل تفترض أنها تدربت على الطاعة هي الأخرى؟» كان يكف عن العبث. أتخيل أنه عندما كان بصحبة سام وبيجي، كان يتكلم عني بالأسلوب ذاته، وأنه لمَّحَ إلى تقلباتي المزاجية كما لمَّحَ إلى جديتهم الزائدة، وأنه ألقى نكاتًا عني، ولم يُخفِ دهشته (أو تظاهر بأنه لم يُخفِها) من أن الناس يدفعون لقاء قراءة ما أكتبه. كان عليه أن يفعل ذلك كي لا يبدوَ أبدًا متباهيًا بي، لكنه كان يضع حدًّا لنفسه كلما أحس أن مزاحه أوشك أن يتجاوز الحد. وبالطبع عثرت لاحقًا في البيت على أشياء لي احتفظ بها — بضع مجلات، وقصاصات، وأشياء لم أعبأ بها قط.

والآن، أبحر بأفكاره من عائلة بيجي إليَّ. سألني: «هل اتصلتْ بك جوديث؟»

«ليس بعد.»

«حسنًا، لم يمضِ وقت طويل. هل كانا يعتزمان النوم في الشاحنة؟»

«نعم.»

«أعتقد أنها آمنة بالقدر الكافي، إذا توقفا في الأماكن المناسبة.» كنت أعرف أنه سيسهب في كلامه هذا، وكنت أعرف أن إسهابه سيميل إلى الهزل.

«أعتقد أنهما سيضعان لافتة في منتصف الطريق، شأنهما شأن المستكشفين الأوائل، أليس كذلك؟»

ابتسمتُ لكنني لم أجبه.

«أفهم من ذلك أنكِ ليس لديك اعتراضات؟»

قلت: «نعم.»

«هذا ما آمنت به أنا أيضًا؛ ألا أتدخل في شئون أبنائي. حاولت ألا أقول أي شيء. لم أقل شيئًا قط عندما هجرتِ ريتشارد.»

«ماذا تعني أنك لم تقل شيئًا؟ أتعني أنك لم تنتقدني؟»

«لم يكن الأمر يخصني.»

«لا.»

«لكن هذا لا يعني أنني كنت راضيًا عن هذه الخطوة.»

أصابتني الدهشة، لا لما قاله وحسب، ولكن لإحساسه بأن لديه الحق، حتى في هذه اللحظات، أن يقوله. اضطُررت أن أتطلع من النافذة على السيارات المارة حتى أتمالك نفسي.

أضاف قائلًا: «أردت أن تعرفي شعوري وحسب.»

منذ فترة طويلة، قال لي بأسلوبه الرقيق: «أمر عجيب. عندما رأيت ريتشارد لأول مرة ذكَّرني بما كان أبي يقوله. كان يقول لو كان ذلك الرجل يتمتع بنصف ما يزعم من ذكاء، لكان أذكى مرتين مما هو في واقع الأمر.»

الْتَفت لأذكره بذلك، لكنني وجدت نفسي أتطلع إلى الخط المتعرج على شاشة مراقبة أداء القلب. لم يكن ثَمَّةَ خطب ما، لم يكن هناك أي اختلاف مثلًا في صوت الصفير والنقاط المرسومة. ولكن مجرد وجوده هناك. رأى أبي أين نظرت، فقال: «ميزة غير عادلة.» فقلت: «إنها كذلك. سأُضطر إلى أن أوصل جسدي ببعض الأجهزة أنا أيضًا.» ضحكنا ثم قبَّلته بشكل رسمي، وغادرت المكان. حدَّثت نفسي أنه على الأقل لم يسألني عن نيكولا.

•••

لم أذهب إلى المستشفى ظهر اليوم التالي لأن أبي كان سيخضع لبعض الفحوصات استعدادًا للعملية الجراحية. كان من المقرر أن أزوره مساءً. وجدت نفسي أتجول بين محلات الملابس في شارع بلور وأقيس بعض الثياب. وفجأةً طغى عليَّ انشغالي بالموضة وبمظهري الخارجي وغمرني كصداع قاتل. أخذت أتطلع إلى النساء في الشارع والملابس في المحلات في محاولة اكتشاف ما الجديد الذي يمكن أن يطرأ على مظهري وما يمكنني شراؤه. كنت أدرك سبب هذا الهوس المفاجئ، لكنني وجدت صعوبة في التغلب عليه. قال لي بعض الناس إنهم، عندما يكونون في انتظار أنباء متعلقة بحياة أو موت عزيز لديهم، يقفون أمام الثلاجة المفتوحة على مصراعَيها ليأكلوا أي شيء أمامهم — بطاطس مسلوقة باردة، أو صلصة حارة، أو علب الكريمة المخفوقة — أو لا يكفُّون عن حل الكلمات المتقاطعة. في تلك اللحظات، ينصبُّ الانتباه على شيءٍ ما — شيء يشتت التفكير عن الحدث الأصلي — فينشغل الإنسان به تمامًا، ويُمسي جديًّا للغاية. ظللت أقلِّب في الملابس المرتبة على الرفوف، وأرتديها داخل غرف تبديل الملابس الحارة الصغيرة أمام المرايا القاسية. كنت أتصبب عرقًا؛ ولمرة أو مرتين أحسست أنني على وشك الإغماء. ولمَّا خرجت إلى الشارع مجددًا، جال بخاطري أنني يجب أن أرحل عن شارع بلور، وقررت أن أزور المتحف.

تذكرت فترة أخرى عشتها في فانكوفر. خلال تلك الفترة كانت نيكولا ترتاد الحضانة، بينما كانت جوديث لا تزال رضيعة. اصطحبنا نيكولا إلى الطبيب لأنها كانت مصابة بنزلة برد، أو ربما لإجراء فحص روتيني لها، وكشف تحليل الدم شيئًا يتعلق بخلايا الدم البيضاء — إما أن عددها كان أكثر من المعتاد أو أنها كانت متضخمة. طلب الطبيب فحوصات إضافية، فاصطحبت نيكولا إلى المستشفى لإجرائها. لم يذكر أحد أنها ربما تكون مصابة بسرطان الدم، لكنني كنت أعرف بالطبع أن هذا هو ما يبحثون عنه. عندما اصطحبت نيكولا إلى البيت، طلبت من جليسة الأطفال التي كانت ترعى جوديث أن تبقى لفترة الظهيرة، وذهبت للتسوُّق. اشتريت أجرأ ثوب حظيت به في حياتي؛ ثوبًا ضيقًا من الحرير الأسود مزيَّنًا بتطريز من الأمام. تذكَّرت ظهر ذاك اليوم الربيعي الجميل، والحذاء ذا الكعب العالي في المتجر، والملابس الداخلية المطبوعة بلون جلد النمر المرقط.

استرجعتْ ذاكرتي أيضًا العودة إلى البيت من مستشفى سانت بول مرورًا بجسر لايونز جيت في الحافلة المكتظة، ونيكولا تجلس على ركبتي. فجأةً تذكرتْ نيكولا الاسم الذي كانت تطلقه على الجسر وهي صغيرة وهمست في أذني: «الجسل — على الجسل.» لم أتجنب قط لمس ابنتي — نيكولا كانت نحيلة وجميلة حتى آنذاك، بقوامها البديع وشعرها الأسود الناعم — لكنني أدركت أنني ألمسها بطريقة مختلفة، ولو أنني لم أكن أحسب أن هذا الاختلاف يمكن إدراكه قط. كنت ألمسها وأنا حريصة على ألا أغاليَ في لمس أي جزء منها. أدركت كيف يمكن استبقاء الحب بأشكاله مع شخص محكوم عليه بالموت، ولكن على أن يُمنح الحب بانضباط وبمقدار محدد في واقع الأمر؛ لأنك لا بد وأن تصمد. ويمكن القيام بهذا باحتياط شديد بحيث لا يساور المحبوب أدنى شك، تمامًا كما لا يساورها شك في حكم الموت المحكوم عليها به. نيكولا لم تعرف، ولم يكن لها أن تعرف. كانت اللعب والقُبلات والنِّكات تنهال عليها؛ لم يكن لها أن تعرف قط، رغم أني كنت أقلق من أن تشعر بأن ثَمَّةَ خطبًا ما خلال الإجازات المختلقة والأيام العادية المصطنعة. لكن الأمور سارت على ما يرام. لم تكن نيكولا مصابة بسرطان الدم. وكبرت نيكولا ولم تزل على قيد الحياة، وربما كانت سعيدة ومنعزلة عن الآخرين.

لم أستطِع أن أفكر في أي شيء في المتحف أردت أن أراه حقًّا؛ ولذا فقد تجاوزته وقصدت القبة السماوية. لم يسبقْ لي أن زرت القبة السماوية من قبل. كان من المقرر أن يبدأ العرض في غضون عشر دقائق. دلفت إلى الداخل، واشتريت تذكرة، وانضممت إلى الصف. كان هناك فصل كامل من طلاب المدارس، وربما حتى فصلان، بصحبة المعلمين والأمهات المتطوعات الذين يقودون الأطفال. جُلت ببصري لعلي أجد راشدين مستقلين آخرين، فعثرت على شخص واحد فقط؛ رجل أحمر الوجه منتفخ العينين بدا وكأنه بصدد زيارة القبة السماوية ليمنع نفسه من الذهاب إلى الحانة.

في الداخل، جلسنا على مقاعد مريحة بشكل مدهش، ومائلة للخلف بحيث يستلقي عليها الجالس وكأنه على أرجوحة شبكية، وانتباهه منصبٌّ على قبة السقف الذي سرعان ما استحال لونه إلى الأزرق الداكن، بينما حدوده محاطة بإضاءة خافتة. انبعث صوت موسيقى رائع وآسر. وطفق الراشدون يُسْكِتون الأطفال في محاولة لإقناعهم بالكف عن طقطقة أكياس شرائح البطاطس المقلية. وبعدها ارتفع صوت رجل من الجدران، صوت معبر ومحترف، يتحدث ببطء وهدوء. ذكَّرني صوته بعض الشيء بالطريقة التي اعتاد بها مذيعو الراديو التقديم لقطعة موسيقى كلاسيكية، أو وصف تقدُّم العائلة المالكة إلى كنيسة وستمينستر آبي خلال واحدٍ من احتفالاتهم الملكية. كان هناك تأثير صدى صوت ضعيف.

بدأت النجوم تملأ السقف المظلم. لكنها لم تخرج مرة واحدة، بل نجم تلو الآخر، كما تظهر النجوم حقًّا في الليل، ولو أنها كانت أسرع بعض الشيء. وظهرت مجرة درب التبانة، وكانت تقترب شيئًا فشيئًا؛ وسبحت النجوم حتى صارت لامعة مبهرة وشقت طريقها حتى ذوت عند أطراف القبة السماوية أو خلف رأسي. وبينما استمر تدفق الضوء، عرض صوت المعلق الحقائق المدهشة. قال إنه منذ بضع سنوات ضوئية، ظهرت الشمس كنجم مضيء، ولم يكن للكواكب أثر. وقبل ذلك ببضعة عشرات السنوات الضوئية، لم تكن الشمس مرئية أيضًا للعين المجردة. وهذه المسافة — التي تقدر ببضعة عشرات السنوات الضوئية — توازي حوالي جزء من الألف من المسافة الفاصلة بين الشمس ومركز مجرتنا — مجرة واحدة — التي تحتوي بدورها على حوالي مائتي مليار شمس، وهي بدورها واحدة من ملايين، وربما حتى مليارات المجرات. تكرارات لا حصر لها، وتنويعات لا تُحصى. كل هذه الأشياء كانت تمر من فوق رأسي أيضًا ككرات البرق.

انحسر الواقع الآن، وأفسح المجال لحيلة مألوفة. ثَمَّةَ نموذج للنظام الشمسي يدور مبتعدًا بشكل أنيق. وثَمَّةَ حشرة مضيئة انطلقت من الأرض باتجاه كوكب المشتري. برمجت عقلي المتملص المتضائل بإصرار على تسجيل الحقائق. يبلغ حجم المشتري مثلَيْن ونصف حجم كل الكواكب مجتمعة. هذه البقعة الحمراء العظيمة. الأقمار الثلاثة عشر. تجاوزنا المشتري، وألقينا نظرة على المدار العجيب لكوكب بلوتو، والحلقات الثلجية لكوكب زُحَل. ثم عدنا إلى الأرض ومنها إلى كوكب الزُّهرة الحار المدهش البالغ ضغطه الجوي تسعة أمثال ضغط الأرض الجوي. وها هو عطارد — الكوكب المحروم من الأقمار — يدور ثلاث دورات حول نفسه أثناء دورانه حول الشمس مرتين؛ نسق غريب لا يرضينا بقدر ما يرضينا ما اعتادوا أن يقولوه لنا حين زعموا أنه يدور حول نفسه مرة واحدة فقط أثناء دورانه حول الشمس؛ لا توجد ظلمة أبدية إذنْ. ما الذي يدعوهم إلى إمدادنا بمثل هذه المعلومات بهذه الثقة، فقط ليعلنوا لنا بعدها أنها عارية تمامًا من الصحة؟ أخيرًا، الصورة المألوفة على صفحات المجلات: تربة المريخ الحمراء والسماء الوردية الزاهية.

عندما انتهى العرض، قبعت في كرسيِّي بينما مر الأطفال من أمامي دون أن يُعلقوا على شيءٍ مما رأوه أو سمعوه توًّا. كانوا يزعجون المشرفين عليهم طلبًا للمأكولات والمزيد من الترفيه. ثَمَّةَ جهود بُذلت من أجل لفت انتباههم وصرفه عن الفُشار وشرائح البطاطس المقلية المعلبة، وتركيزه على الكثير من الحقائق المعلومة والمجهولة والتفاصيل الهائلة، بدا أن هذا المجهود راح هباءً. حدَّثت نفسي أن هذا لمصلحتهم. يملك الأطفال مناعة طبيعية، أغلبهم على الأقل، ويجب عدم العبث بها. أما الراشدون الذين يستنكرون هذا الأمر، والذين روَّجوا لهذا العرض، ألم تكن لديهم مناعة هم أنفسهم لدرجة أنهم استطاعوا استخدام صدى الصوت والموسيقى والهيبة الكنسية لمحاكاة الهيبة التي افترضوا أنهم يجب أن يشعروا بها؟ الهيبة؛ ماذا يفترض أن تعني؟ نوبة من الارتعاش تنتابك عندما تتطلع من النافذة؟ فور أن تعرف ماهيتها، لن تبادر بالتقرب منها.

جاء رجلان بمكانس لتنظيف المخلفات التي تركها الجمهور. قالوا لي إن العرض التاليَ سيبدأ بعد ٤٠ دقيقة. وإلى أن يبدأ عليَّ أن أخرج.

•••

قلت لأبي: «ذهبت لمشاهدة العرض بالقبة السماوية. كان مثيرًا جدًّا. كان يتناول النظام الشمسي». حدَّثت نفسي أن يا للكلمة السخيفة التي استخدمتها: «مثير»! فأضفت قائلة: «بدا المكان أشبه بمعبد زائف نوعًا ما.»

كان أبي يتكلم بالفعل. «أذكر عندما اكتشفوا كوكب بلوتو بالضبط في المكان الذي حسبوا أنهم سيجدونه فيه. عُطارد والزُّهرة والأرض والمِريخ، ثم المشتري ومن بعده زحل وﻧﺒ… لا أورانوس ثم نبتون فبلوتو. أهذا هو الترتيب الصحيح؟»

قلت له: «نعم.» كنت سعيدة أيضًا أنه لم ينتبه إلى الجزء المتعلق بالمعبد الزائف. كنت أقصد التعبير بصدق، لكن أسلوبي بدا متعاليًا ومصطنعًا. «اذكر لي أقمار المشتري.»

«حسنًا، لا أعرف الجديد منها. ثَمَّةَ مجموعة من الأقمار الجديدة، أليس كذلك؟»

«هناك قمران، لكنهما ليسا جديدين.»

قال أبي: «جديدان بالنسبة لنا. أصبحتِ تتكلمين بصفاقة شديدة الآن لأن المشرط بانتظاري.»

«المشرط بانتظارك! يا له من تعبير!»

لم يكن مستلقيًا في سريره الليلة، ليلته الأخيرة قبل العملية؛ فقد فصلوه عن جهازه، وكان جالسًا في كرسي إلى جوار النافذة. وكانت ساقاه عاريتين حيث كان يرتدي مِبذَل المستشفى، لكنه لم يبدُ خجلًا أو مستوحشًا، بل بدا مطرقًا ولكن ضحوكًا، وكان مضيفًا ودودًا.

قلت له: «لم تذكر حتى أسماء الأقمار القديمة.»

«أعطيني بعض الوقت. جاليليو سمَّاها؛ آيو.»

«هذه بداية جيدة.»

«كانت أقمار المشتري أول الأجرام السماوية التي اكتُشفت بواسطة التليسكوب.» قالها أبي بجدية وكأنه يستطيع أن يرى الجملة مخطوطة في كتاب قديم. وتابع قائلًا: «ولم يكن جاليليو هو الذي سمَّاها، بل كان شخصًا ألمانيًّا. آيو وأوروبا وجانيميد وكاليستو. ها أنا قد ذكرتها.»

«نعم.»

«آيو وأوروبا كانتا صديقتَي جوبيتر كبير آلهة الرومان، أليس كذلك؟ وجانيميد كان صبيًّا. راعي غنم؟ لا أعرف من كاليستو.»

قلت له: «أعتقد أنها كانت صديقة جوبيتر أيضًا. زوجة جوبيتر حوَّلتها إلى دب وعلَّقتها في السماء. الدب الأكبر والدب الأصغر. كان الدب الأصغر رضيعها.»

تردد صوت في الإذاعة الداخلية يؤْذن بانتهاء ميعاد الزيارة ووجوب مغادرة الزوار للمستشفى.

قلت له: «سأراك عندما تخرج من غرفة الإفاقة.»

«نعم.»

عندما وصلتُ إلى الباب، نادى عليَّ قائلًا: «لم يكن جانيميد راعيَ غنم، بل كان ساقيَ الخمر لدى جوبيتر.»

•••

عندما غادرت القبة السماوية ظُهر ذلك اليوم، جُلت في أرجاء المتحف حتى وصلت إلى الحديقة الصينية. ورأيت الجِمال الحجرية مرة أخرى، والمحاربين والمقبرة. وجلست على مقعد يطل على شارع بلور. وعبر الأجمات الدائمة الخُضرة والسياج العالي المصنوع من الحديد المتشابك، شاهدت الناس يمرون من أمامي تحت ضوء شمس الأصيل. حقق عرض القبة السماوية الغرض المراد منه على أية حال؛ حيث هدأ من روعي واستنفد قواي. رأيت فتاة ذكَّرتْني بنيكولا. كانت ترتدي معطفًا واقيًا من المطر، وتحمل كيسًا من البقالة. كانت أقصر قامة من نيكولا — بل لم تَبدُ قريبة الشبه بها بالمرة — لكنني ظننت أنني ربما سأرى نيكولا. ربما سأراها تتمشى في أحد الشوارع، ربما على مقربة من هنا — مثقلة وشاردة الذهن ووحيدة. أمست تنتمي الآن إلى عالم الكبار، وربما تكون واحدة من المتسوقين الذين يسيرون في طريقهم إلى بيوتهم.

إذا حدث ورأيتها، فلن أحرك ساكنًا، وسأراقبها وحسب. هذا ما قررته. وأحسست كأني أحد هؤلاء الأشخاص الذين صعدوا لأعلى مستمتعين بموت مؤقت. شعور بالراحة، أستمتع به طالما دام هذا الإحساس. اختار أبي، واختارت نيكولا. ذات يوم، ربما في القريب العاجل، ستتصل بي، لكن الأمور لم تتغير عن ذي قبل.

كنت أود أن أنهض وأذهب إلى المقبرة لمشاهدة المنحوتات البارزة، والصور الحجرية التي تحيط بها بالكامل. كنت دائمًا أريد مشاهدتها، لكنني لم أفعل قط، ولا حتى هذه المرة؛ فقد كان البرد يشتد بالخارج، فدلفت إلى الداخل لاحتساء قدح من القهوة وتناوُل شيء من الطعام قبل أن أعود إلى المستشفى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤