كنافة البحر

في نهاية الصيف، أبحرت ليديا بالقارب إلى جزيرةٍ على مقربةٍ من الساحل الجنوبي لنيو برانزويك، حيث كانت تنوي قضاء الليلة؛ فقد تبقت لها بضعة أيام قبل رحيلها إلى أونتاريو. وكانت تعمل محررة لدى أحد الناشرين بتورنتو، كما كانت أيضًا شاعرة، ولكنها لم تكن تذكر ذلك ما لم يكن الناس يعرفونه بالفعل. وطيلة الثمانية عشر شهرًا الماضية كانت تعيش مع رجل في كينجستون، ولكن انتهى الأمر الآن؛ حسبما ترى.

كانت ليديا قد لاحظت شيئًا انتابها، في هذه الرحلة إلى ماريتايمز، وهو أن الناس لم تعد مهتمة بالتعرف عليها. لم يكن السبب أنها قد أحدثت كثيرًا من الجلبة، سابقًا، ولكن كان هناك شيء تستطيع أن تعول عليه. كانت في الخامسة والأربعين من العمر، ومطلَّقة منذ تسع سنوات. وكان ولداها قد استقلَّا بحياتهما، رغم بعض فترات التراجع والارتباك. لم يزِد وزنها أو يقِل، ولم يسؤ مظهرها بأية صورة تنذر بالخطر، ولكنها مع هذا انسلخت عن المرأة التي كانت عليها وتحوَّلت إلى امرأة أخرى، وقد لاحظت هذا في رحلتها. لم تفاجأ لأنها كانت في حالة جديدة وغريبة آنذاك. لقد بذلت مجهودات كبيرة، وحاولت محاولات متتالية، وظلت المحاولة تتبع الأخرى إلى أن نجحت في مساعيها. أحيانًا كانت توشك على الفشل. وفي أحيان أخرى، كان مجرد تروِّيها وسيطرتها الظاهرية على ما كانت تفعله، وطريقة حياتها؛ كل ذلك كان يرفع معنوياتها.

وجدت ليديا فندقًا سياحيًّا يطل على رصيف الميناء الذي تنتشر عليه أفخاخ سرطان البحر، بالإضافة إلى المتاجر والبيوت القليلة المبعثرة التي تشكِّل القرية. وأخذتها امرأة في مثل عمرها تقريبًا، كانت تطهو الغداء، إلى غرفة رخيصة وعتيقة الطراز في الطابق العلوي. لم تلحظ ليديا وجود أي نزلاء غيرها، رغم أن الغرفة المجاورة لها كانت مفتوحة وبدا لها أن أحدًا يقيم فيها، ربما طفل. أيًّا كان النزيل، فقد ترك العديد من الكتب المصورة على الأرضية بجوار السرير.

ذهبت للتمشية في الزقاق شديد الانحدار الواقع خلف الفندق، وشغلت نفسها بذكر أسماء الشجيرات والأعشاب. كان نباتَا عصا الذهب والزهرة النجمية البرية قد ازدهرا، وبدا نبات خشب البقس الياباني شائعًا هنا، رغم ندرته في أونتاريو. وكانت الحشائش فارعة الطول وخشنة، بينما اتسمت الأشجار بالقصر. كان ساحل الأطلسي، الذي لم ترَه قط من قبل، كما تخيلته تمامًا: الحشائش المثنية، والمنازل الخاوية، وضوء البحر. فبدأت تتساءل عما سيكون عليه شكل الحياة هنا، سواء ظلت المنازل متدنية الأسعار أو بدأ الناس من الخارج في شرائها كلها. شغلت نفسها في أغلب الوقت خلال هذه الرحلة بحسابات من هذا النوع، وأيضًا بأفكار حول كيفية كسب قوت يومها بطريقة جديدة، تختلف عن أي شيء مارسته من قبل. لم تفكر في كسب قوت يومها من كتابة الشعر، ليس فقط لأن دخلها عندئذٍ سيكون متدنيًا جدًّا، ولكن لأنها فكرت — مثلما فكرت مرات لا تحصى في حياتها — أنها قد لن تكتب قصائد بعد الآن. فكرت في أنها لا تجيد الطهي بدرجة كافية تمكِّنها من ممارسته مقابل المال، ولكنها تستطيع التنظيف. كان هناك فندق سياحي آخر على الأقل بخلاف ذلك الذي كانت تمكث فيه، كما أنها رأت لافتة تعلن عن استراحة على الطريق العام. كم عدد ساعات التنظيف التي يمكن أن تحصل عليها لو نظفت الأماكن الثلاثة، وما ثمن ساعة التنظيف الواحدة؟

كان هناك أربع طاولات صغيرة في غرفة الطعام، ورجل واحد جالس هناك، يتجرع عصير الطماطم، لم يلتفت إليها. وخرج رجل من المطبخ، ربما يكون زوج المرأة التي قابلتها سابقًا. كانت لحيته شقراء رمادية، ونظرته حزينة. سأل ليديا عن اسمها واصطحبها إلى الطاولة التي يجلس عليها الرجل. نهض الرجل، على نحوٍ رسمي، وتعرَّف بليديا. كان اسم الرجل السيد ستانلي، وخمَّنت ليديا أن يكون في الستين من عمره. ودعاها هذا الرجل بأدب للجلوس.

دخل ثلاثة رجال بثياب العمل وجلسوا حول طاولة أخرى. لم تصدر عنهم ضوضاء بشكل لافت أو مزعج، ولكنهم فقط دخلوا ونظموا أنفسهم حول الطاولة، محدثين اضطرابًا مسليًا؛ بمعنى أنه كان ممتعًا لهم، وبدَوْا كأنهم يتوقعون من الآخرين أن يشاركوهم نفس الإحساس. انحنى السيد ستانلي تجاههم انحناءة احترام. كانت بالفعل انحناءة صغيرة، وليست مجرد إيماءة برأسه. ألقى عليهم تحية المساء، ثم سألوه عن المتاح للعشاء، فقال إنه يعتقد أنه الأسقلوب، وفطيرة القرع للتحلية.

قال لليديا: «يعمل هؤلاء الرجال في شركة تليفونات نيو برانزويك. فهم يوصِّلون كبلات التليفون إلى إحدى الجزر الصغرى، وسيبقَوْن هنا طوال هذا الأسبوع.»

كان أكبر سنًّا مما خمَّنت في البداية. لم يظهر هذا في نبرة صوته التي كانت واضحة وأمريكية اللكنة، ولا في حركة يديه، وإنما ظهر في أسنانه البُنِّية المتباعدة الصغيرة، وفي عينيه اللتين اتسمتا بطبقة لبنية رقيقة تعلو قزحيتيه ذواتَي اللون البُنِّي الفاتح.

جاء الزوج بطعامهم، ثم تحدث إلى العمال. كان نادلًا كُفُؤًا، ولكنه كان يتعامل برسمية وبطريقة غير ودية، أشبه بشخص يسير في أثناء نومه، بل في واقع الأمر، كأنه لا يمارس هذا العمل في حياته الواقعية. قُدمت الخضراوات في أطباق ضخمة، فبدءُوا يخدمون أنفسهم. كانت ليديا سعيدة برؤية كل هذا الكم من الطعام: بروكلي، ولِفت مهروس، وبطاطس، وذرة. أخذ الأمريكي قدرًا صغيرًا من كل صنف وبدأ يأكل بتأنٍّ، موحيًا بأن الترتيب الذي يرفع به الشوكة المليئة بالطعام إلى فمه لم يكن عشوائيًّا، وأنه كان يقصد أن يتناول اللِّفت بعد البطاطس، وأن يقطع الأسقلوب المقلي جيدًا — والذي لم يكن كبيرًا — إلى نصفين متساويين. رفع رأسه بضع مرات كما لو كان يفكر في قول شيء، ولكنه لم ينطق به. سيطر الهدوء على العمال أيضًا الآن، وهم منشغلون بتناول الطعام.

تحدث السيد ستانلي أخيرًا وقال: «هل تعرفين الكاتبة ويلا كاثر؟»

«أجل.» اندهشت ليديا، لأنها لم ترَ أي شخص يقرأ كتابًا طيلة الأسبوعين الماضيين، ولم تلحظ حتى أي رفٍّ للكتب ذات الغلاف الورقي.

«هل تعرفين إذن أنها كانت تمضي كل صيف هنا؟»

«هنا؟»

«على هذه الجزيرة. كان منزلها الصيفي هنا. لا يبعد أكثر من ميل عن المكان الذي نجلس فيه الآن. ظلت تأتي إلى هنا على مدار ثمانية عشر عامًا، وألَّفت العديد من كتبها هنا أيضًا. كانت تكتب في غرفة تطل على البحر، ولكن الأشجار نمت الآن وحجبت هذه الإطلالة. كانت بصحبة صديقتها المقربة، إديث لويس. هل قرأتِ «سيدة ضائعة»؟»

فأجابت ليديا بأنها قرأته.

«إنه المفضل لديَّ من بين جميع كتبها. لقد ألَّفته هنا. أو على الأقل، كتبت جزءًا كبيرًا منه هنا.»

كانت ليديا تدرك أن العمال ينصتون لهما، رغم أنهم لم يرفعوا أعينهم عن الطعام. شعرت أنهم حتى دون أن ينظروا إلى السيد ستانلي أو بعضهم إلى بعض ربما يجمعهم الشعور بالازدراء الذي يمكنهم التغاضي عنه. فكرت في أنها لا تهتم ما إن كانت أو لم تكن محط هذا الازدراء، ولكن ربما لهذا السبب لم تجد الكثير لتقوله عن ويلا كاثر، أو تخبر السيد ستانلي أنها تعمل لصالح أحد الناشرين، ناهيك عن كونها هي أصلًا كاتبة. أو ربما يكون الأمر فقط في أن السيد ستانلي لم يعطِها فرصة كافية لذلك.

قال لها: «لقد كنت معجبًا بها لأكثر من ستين عامًا.» ثم توقف عن الكلام، ممسكًا سكينه وشوكته فوق طبقه. «لقد قرأت لها مرارًا، وفي كل مرة يزداد إعجابي بها. ليس بيدي حيلة. ثَمَّةَ أشخاص هنا يتذكرونها. والليلة سأقابل امرأة، امرأة كانت تعرف ويلا وتحدثت معها. إنها في الثامنة والثمانين من عمرها، ولكنهم يقولون إن ذاكرتها لم تزل سليمة. لقد بدأ الناس هنا يعرفون اهتماماتي؛ ومن ثَمَّ عندما يتذكرون شخصًا يعرفها يبلغونني ويرتبون لقائي به.»

ثم أردف في نبرة جادة: «سيسعدني هذا كثيرًا.»

وطوال الوقت الذي كان يتحدث فيه، كانت ليديا تحاول التفكير فيما يذكِّرها به أسلوبه في الحديث. لم يذكِّرها بشخص معين، رغم أنها ربما تكون قد قابلت معلمًا أو اثنين في الكلية يتحدثون بهذا الأسلوب. جعلها هذا تفكر في وقتٍ لم تكن فيه قلة قليلة من الناس — فقط القليل منهم — يشغلون بالهم أبدًا بأن يتحدثوا بديمقراطية أو بتملق؛ فقد كانوا يتحدثون بجُمل رسمية ومدروسة ومتفاخرة بعض الشيء، رغم أنهم كانوا يعيشون في بلد قد لا يجلب عليهم التزامهم فيه بالرسميات والتحذلق سوى السخرية. كلا، لم تكن هذه الحقيقة كاملة. لقد جلب عليهم السخرية والإعجاب المسبب للضيق. ما فكرت ليديا فيه بسببه، فعلًا، هو الثقافة العتيقة للمدن الإقليمية في الماضي (شيء لم تعرفه قط بالطبع، ولكنها استشعرته من الكتب)، ونبل المشاعر، واللياقة في التعامل، وكراسي الحفلات المخملية الصُّلبة، والمكتبات الهادئة. كان إعجابه بالكاتبة المختارة جزءًا من هذا. كان متقادمًا بنفس تقادم حديثه. فكرت في أنه لا يمكن أن يكون معلمًا؛ فهذا العشق ليس من سمة المعلمين، حتى في مثل سنه.

«هل تُدرِّس الأدب؟»

«لا، أوه، لا. لم أحظَ بهذا الامتياز. كلا، حتى إنني لم أَدرُس الأدب. لقد بدأت العمل منذ أن كان عمري ستة عشر عامًا. وقتها لم تكن هناك خيارات كثيرة؛ فعملت في الصحف.»

تبادر إلى ذهنها صحيفة متحفظة وتقليدية إلى حد السخف تصدر في نيو إنجلاند بأسلوب نثري رجعي.

سألته: «أيها؟» ثم أدركت أن فضولها لا بد وأنه بدا فظًّا بالنسبة إلى أي شخص متحفظ.

«ليست صحيفة معروفة. مجرد صحيفة يومية لبلدة صناعية. بالإضافة إلى عملي في صحف أخرى عندما كنت في مقتبل العمر؛ هذه كانت حياتي.»

«والآن، هل تريد تأليف كتاب عن ويلا كاثر؟» لم يبدُ هذا السؤال في غير محله بالنسبة إليها؛ لأنها كانت تتحدث دائمًا إلى أشخاص ممن يريدون تأليف كتب عن موضوعٍ ما.

فقال بجدية: «كلا، حالة عيني لا تسمح لي بقراءة أو كتابة أي شيء بخلاف ما هو ضروري.»

لهذا السبب كان متأنيًا في تناوله للطعام.

واصل قائلًا: «كلا، لا أعني أنني لم أفكر في وقت من الأوقات في ذلك، أقصد تأليف كتاب عن ويلا. كنت سأكتب شيئًا عن حياتها على هذه الجزيرة وحسب. لقد كُتبت سيرة حياتها بالفعل، ولكنها لم تتناول كثيرًا تلك المرحلة من حياتها. الآن تخليت عن هذه الفكرة، وأتقصى في الأمر لمُتعتي الشخصية. اعتدت أن آخذ كرسيًّا خفيفًا إلى هناك لكي أجلس تحت النافذة التي كانت تكتب فيها وتتطلع إلى البحر. لا يذهب أحد إلى هناك مطلقًا.»

«ألم يتم الحفاظ على المكان؟ ألم يتحول إلى نوع من النصب التذكارية؟»

«كلا، في الواقع لم يتم الحفاظ عليه على الإطلاق؛ فالناس هنا، رغم تأثرهم الشديد بويلا، وإدراك بعضهم لعبقريتها — أعني عبقرية شخصيتها؛ لأنهم ما كانوا ليدركوا عبقرية عملها — فإن البعض الآخر منهم اعتبرها غير ودودة ولم يحبها. شعروا بالإهانة لأنها لم تكن اجتماعية، رغم اضطرارها إلى ذلك، لكي تمارس الكتابة.»

قالت ليديا: «يمكن أن يصبح مشروعًا. ربما يمكنهم جمع المال من الحكومة. الحكومة الكندية والأمريكية أيضًا. يمكنهم ترميم البيت.»

«حسنًا، لا يعود القرار إليَّ في هذا.» ثم ابتسم وهز رأسه قائلًا: «لا أعتقد هذا. كلا.»

لم يكن يريد أن يأتيَ أي عشاق آخرين ليزعجوه وهو جالس على كرسيِّه. لا بد وأنها كانت تعلم ذلك. ما قيمة رحلته المقدسة الخاصة هذه لو شاركه فيها آخرون، ورُفعت اللافتات الإعلانية، وطُبعت المنشورات الدعائية؛ لو أُعيدت تسمية هذا الفندق، الذي يسمى الآن «إطلالة البحر»، ليصبح «ظلال على الصخرة»؟ كان سيفضِّل هدم البيت ودفنه تحت الحشائش المتنامية على أن يرى هذا يحدث.

•••

بعد محاولة ليديا الأخيرة الاتصال بدانكن — الرجل الذي كانت تعيش معه في كينجستون — تمشَّت بطول الشارع في تورنتو، وهي تعلم أن عليها الذهاب إلى البنك، وشراء بعض الطعام، وركوب قطار الأنفاق. كان عليها أن تتذكر الاتجاهات، وترتيب القيام بالأشياء: أن تفتح دفتر شيكاتها، وتتقدم إلى الأمام عندما يحين دورها في الطابور، وأن تختار نوعًا معينًا من الخبز بدلًا من نوع آخر، وأن تلقيَ قطعة معدنية في الفتحة المخصصة للعملات. بدت لها هذه الأشياء أصعب ما قامت به في حياتها. كانت تواجه صعوبة بالغة في قراءة أسماء محطات قطار الأنفاق والنزول في المحطة الصحيحة، لكي تستطيع الذهاب إلى الشقة التي تقطن فيها. كانت تعجز عن وصف هذه الصعوبة. كانت تعرف جيدًا المحطة الصحيحة، وتعرف المحطة التي قبلها، وتعرف أين هي، ولكنها لم تستطع أن تربط بين نفسها وبين الأشياء الموجودة خارج ذاتها؛ وبالتالي فالنهوض ومغادرة العربة وصعود السلالم والسير في الشارع، كل ذلك بدا أنه ينطوي على مجهود غريب. فكرت بعد ذلك أنها قد تعطلت، كما يقال عن الآلات. وحتى في ذلك الوقت الذي كانت ترسم فيه صورة معينة عن نفسها، تخيلت نفسها شيئًا مثل كرتونة البيض؛ مجوفة من الخلف.

عندما وصلت إلى الشقة جلست على كرسي في الردهة. جلست قرابة ساعة أو أكثر قليلًا، ثم دخلت الحمام، وخلعت ملابسها، وارتدت قميص نومها، وخلدت إلى الفراش. وفي الفراش، أحست بالانتصار والراحة، بأنها عالجت الصعوبات كافةً ودفعت بنفسها إلى المكان الذي من المفترض أن تكون فيه وليس عليها أن تتذكر أي شيء آخر.

لم تشعر على الإطلاق بالرغبة في الانتحار. لم تكن لتستطيع التحكم في الأدوات أو الوسائل المساعدة، ولم تكن لتعرف أيها تستخدم. تعجبت لتفكيرها في أنها قد اختارت رغيف الخبز والجبن، اللذين كانا مُلقَيَين على الأرض في الردهة. كيف تخيلت أنها ستمضغهما وتبلعهما؟

•••

بعد الغداء جلست ليديا في الشرفة مع المرأة التي طهت الوجبة. وكان زوج المرأة قد تولى عملية التنظيف.

قالت المرأة: «حسنًا، إن لدينا طبعًا غسالة أطباق. ولدينا ثلاجتان ووحدة تبريد ضخمة. على المرء أن يقوم بالاستثمار. وإذا كان طاقم العمل يقيم معه، فعليه إطعامه. هذا المكان يمتص المال وكأنه قطعة إسفنج. سنحفر حمام سباحة في العام القادم؛ إذ نحتاج إلى مزيد من عوامل الجذب. يجب على المرء أن يتقدم ليحافظ على مكانه. يتصور الناس أنها حياة لطيفة وسهلة. يا إلهي!»

كان وجهها حاد القسمات ومليئًا بالتجاعيد، وشعرها ناعمًا وطويلًا. وكانت ترتدي الجينز وبلوزة مطرزة وسترة رجالية.

«منذ عشر سنوات كنت أعيش في كوميون بالولايات المتحدة. والآن أنا هنا. أعمل أحيانًا ثمانيَ عشرةَ ساعة في اليوم. وما زال عليَّ الليلة أن أعلِّب غداء الطاقم؛ أطهو وأخبز، أطهو وأخبز. وجون يقوم بالباقي.»

«هل لديكم من يقوم بالتنظيف؟»

«لا يمكننا تحمُّل تكلفة تعيين شخص آخر. جون يتولى هذا. وهو يغسل الغسيل — وكل شيء. لقد اضطُرِرْنا إلى شراء مكواة من أجل المُلاءات، وكان علينا أن نجلب فرنًا جديدًا؛ فحصلنا على قرض من البنك. أعتقد أن هذا مضحك؛ لأني كنت متزوجة من مدير بنك، ولكني تركته.»

«أنا أيضًا أعيش بمفردي الآن.»

«أحقًّا؟ لا يمكنك أن تعيشي وحدك بقية عمرك. لقد قابلت جون، وقد كان على متن نفس السفينة.»

«كنت أعيش مع رجل في كينجستون، في أونتاريو.»

«صحيح؟ أنا وجون نعيش في سعادة تامة. كان قسًّا في فترةٍ من حياته، ولكنه كان قد احترف النجارة حين قابلته. كلانا عاش على هامش المجتمع نوعًا ما. هل تحدثتِ مع السيد ستانلي؟»

«أجَل.»

«هل سمعتِ يومًا عن ويلا كاثر؟»

«أجل.»

«هذا سيفرحه. أنا نادرًا ما أقرأ، والأمر لا يعني شيئًا بالنسبة إليَّ. أنا شخصية تميل إلى المرئيات. ولكني أعتقد أنه شخصية رائعة، السيد ستانلي العجوز، إنه مثقف بالفعل.»

«هل اعتاد المجيء إلى هنا منذ فترة طويلة؟»

«كلا، هذا عامه الثالث. يقول إنه لطالما أراد المجيء إلى هنا، ولكنه لم يستطع. كان عليه الانتظار لحين موت أحد أقربائه لأنه كان يعتني به. ليس زوجته. ربما يكون أخاه. لقد اضطُر إلى الانتظار على أية حال. كم يبلغ من العمر في ظنك؟»

«سبعين؟ خمسة وسبعين؟»

«لقد بلغ الرجل واحدًا وثمانين عامًا. أليس هذا رائعًا؟ يعجبني حقًّا الأشخاص من أمثاله. فعلًا، يعجبني الأشخاص الذين يواصلون حياتهم.»

•••

قالت ليديا: «الرجل الذي أعيش معه — أقصد، الرجل الذي كنت أعيش معه في كينجستون — كان يضع ذات مرة بعض صناديق الأوراق في حقيبة سيارته، وكان هذا في الريف، في بيت ريفي قديم، عندما شعر بشيء يلكزه فنظر إلى الأسفل. كان ذلك في أول الليل تقريبًا، في يوم حالك الظلام. فظن أنه كلب كبير ودود، كلب أسود يلكزه، فلم يُعِره أي انتباه. حثه فقط قائلًا: اذهب، الآن، ارحل، أحسنت. ثم بعدما نظم الصناديق التفت فوجد أنه دب. كان دبًّا أسود.»

حكت هذه القصة في وقت لاحق من نفس تلك الأمسية، في المطبخ.

سأل لورانس، الذي كان قائد طاقم العمل في مهمة كبلات التليفون: «ماذا فعل حينها؟» كان لورانس وليديا ويوجين وفينسنت يلعبون الكوتشينة.

ضحكت ليديا: «قال «عذرًا!» هذا ما ادَّعى أنه قاله.»

«كل ما كان لديه في الصناديق مجرد أوراق؟! لا طعام؟!»

«إنه كاتب. يكتب كتبًا تاريخية. وهذه الأوراق كانت مادة يحتاجها في عمله. أحيانًا يُضطَر إلى الخروج وجمع المادة التي يحتاجها من أشخاص يتسمون بالغرابة الشديدة. لم يخرج هذا الدب من البرِّيَّة، بل كان مُروَّضًا في الواقع، وقد تم فك أسره من السلسلة التي تربطه، من أجل الدعابة؛ فقد كان هناك شقيقان عجوزان، جمع منهما هذه الأوراق، وقد أطلقا سراح الدب ليُرعباه.»

سأل لورانس: «أهذا ما يمارسه؟ يجمع الأشياء القديمة ويكتب عنها؟ أعتقد أن هذا مشوق.»

شعرت بالندم فورًا لسردها هذه القصة. لقد عرضتها لأن الرجال كانوا يتحدثون عن الدببة. ولكن لم يكن سردها مفيدًا ما لم يحكها دانكن بنفسه؛ فهو يستطيع أن يبين نفسه رجلًا مهيبًا ولطيفًا ومتحضرًا، وهو يقدم اعتذاراته الكيِّسة للدب. بإمكانه أن يجعلك ترى الرجلين العجوزين الشقيقَين مستترَين خلف ستائرهما الرثة.

«عليكم أن تقابلوا دانكن.» هذا ما قالته غالبًا. ألم تقل هذه القصة لتوضح فقط أنها كانت تعرف دانكن، أنها كانت تعيش مؤخرًا مع رجل، رجل مشوق، رجل مسلٍّ ومغامر؟ أرادت أن تؤكد لهم أنها لم تكن دائمًا وحيدة ومنطلقة في أسفارها بلا هدف. كان عليها أن تبين ارتباطها بأحد. وقد كانت غلطة؛ فليس من المرجح أن يعتبروا المرء مغامرًا لجمعه الأوراق القديمة من البخلاء وغريبي الأطوار لكي يؤلف كتبًا عن أحداث وقعت منذ مائة عام. ما كان يجب حتى أن تقول إن دانكن كان رجلًا تعيش معه. كل ما قد يعنيه هذا، بالنسبة إليهم، أنها امرأة عاشرت رجلًا دون زواج.

لم يَبلغ لورانس قائد الطاقم سن الأربعين بعد، ولكنه كان ناجحًا. كان سعيدًا وهو يحكي عن نفسه. كان مقاول عمالة مستقلًّا، ويملك منزلين في سانت ستيفن، ويملك أيضًا سيارتين وشاحنة وقاربًا. أما زوجته فكانت معلمة. ورغم خصره السمين، ككِرش سائق شاحنة، فقد بدا نشيطًا ومفعمًا بالحيوية. ويمكن ملاحظة ذكائه المتجلي بصورة كافية، في معظم المواقف، محققًا أغراضه الخاصة؛ بثقة كافية وقسوة كافية. وقد تبدو عليه البهرجة وهو متأنق، وثَمَّةَ أماكن وأشخاص معينة يمكنها أن تثير لديه الاكتئاب والقلق وتجعله عدائيًّا.

قال لورانس إنه ليس كل ما كُتب صحيحًا — كل الأمور التي كتبوها عن الماريتايمز. وقال إن ثَمَّةَ الكثير من فرص العمل لمن لا يهاب العمل، رجالًا كانوا أم نساءً. وقال إنه لم يكن ضد حرية المرأة، لكن الحقيقة كانت — وستظل دائمًا — أن هناك أعمالًا يجيدها الرجال أكثر من النساء، وأعمالًا تجيدها النساء أكثر من الرجال، ولو هدأ الطرفان وأدركا ذلك فسيكون كلاهما أكثر سعادة.

قال إن أبناءه وقحون، وإن حياتهم مريحة؛ فهم يحصلون على كل شيء — هكذا هي الحال هذه الأيام، وما بيد المرء حيلة. الأطفال الآخرون يحصلون أيضًا على كل شيء: ثياب ودراجات وتعليم وأسطوانات. أما هو، فلم يحصل على أي شيء بسهولة؛ كان يخرج ويعمل ويقود الشاحنات. فذهب إلى أونتاريو، حتى بلغ ساسكاتشوان. ولم يبلغ سوى الصف العاشر في المدرسة، ولكنه لم يسمح لذلك بأن يعيقه. ومع هذا، كان يتمنى أحيانًا لو نال قسطًا أكبر من التعليم.

قال يوجين وفينسنت، اللذان يعملان لدى لورانس، إنهما لم يتخطيا قط الصف الثامن، في الوقت الذي كان هذا أقصى ما يمكن للطفل بلوغه في المدارس الريفية. كان يوجين في الخامسة والعشرين، بينما كان فينسنت في الثانية والخمسين. وكان يوجين كنديًّا من أصول فرنسية ينتمي إلى شمال نيو برانزويك، وبدا أصغر من سنه. كان وجهه ورديًّا، ونظرته حالمة ومراوغة، يتمتع بجمال ذكوري رغم أنه كان لين الجانب ودمثًا وحييًّا. نادرًا ما يوجد رجال أو صبية يتسمون بهذا المظهر اليوم. أحيانًا ترى هذا المظهر في صورة قديمة، لعريس أو لاعب سلة، بشعره الكثيف الممشط والمبلل بالماء، ووجهه الطفولي المتورد في جسد رجل يافع. لم يكن يوجين حاد الذكاء، أو ربما لا يميل إلى التنافس. خسر أمواله في اللعبة التي كانوا يلعبونها؛ كانت لعبة بأوراق الكوتشينة يسمونها «سكات». تذكرت ليديا أنها لعبت هذه اللعبة في طفولتها، وكانت تسميها «واحد وثلاثون». كانوا يلعبون مقابل ربع دولار لكل دور.

لم يعترض يوجين على إغاظة فينسنت ولورانس له بسبب خسارته في اللعبة، ولأنه ضل طريقه في سانت جون، وبسبب النساء اللائي كان يحبهن، ولكونه كنديًّا فرنسيًّا. وبلغت مضايقات لورانس له حد التنمر. حرص لورانس على أن يرسم على وجهه تعبيرًا وديًّا، ومع ذلك بدا كما لو أن شيئًا قاسيًا وثقيلًا موجود بداخله — قدر كبير من الاعتداد بالنفس كان يثقل حركته بدلًا من أن يدفعه إلى الأمام. لم يكن فينسنت يحمل هذا العبء الإضافي، ورغم أنه أيضًا كان قاسيًا في مضايقاته — إذ كان يضايق لورانس مثلما يضايق يوجين — فلم يكن هناك إحساس بالقسوة أو الخطر. وبإمكان المرء أن يلحظ أن نبرته الطبيعية هي نبرة دردشة عادية وسخرية عفوية. كان حادًّا وماكرًا، ولكنه لم يكن لحوحًا. وكان دائمًا قادرًا على ذكر أكثر الأشياء بعثًا على التشاؤم دون أن يبدوَ تعيسًا.

كان فينسنت يملك مزرعة، كانت ملكًا لعائلته من قبله، وقد نشأ فيها، بالقرب من سانت ستيفن. قال إن المرء ليس بوسعه اليوم جنْي ما يكفي من المال للإنفاق على نفسه من الزراعة وحسب. في العام الماضي، زرع محصول البطاطس، وكان هناك صقيع في شهر يونيو، وسقطت الثلوج في سبتمبر. كان موسمًا قصيرًا جدًّا بلا شك. وقال إن المرء لا يستطيع أن يتنبأ بحدوث أشياء كهذه. والسوق كلها تحت السيطرة الآن، حيث يديرها التجار الكبار والمصالح الكبرى. وكل امرئ يفعل ما بوسعه، بدلًا من الاعتماد على الزراعة. كما تعمل زوجة فينسنت أيضًا. فقد تلقت دورة تدريبية وتعلمت تصفيف الشعر. لم يكن أبناؤه مجتهدين في العمل مثل والديهما. كل ما يحبون عمله هو التجوال بالسيارات محدثين ضجة. وهم متزوجون، وأول شيء تريده زوجاتهم هو فرن جديد؛ يردن فرنًا يطهو فعليًّا الغداء ويضعه على المائدة.

لم تكن هذه هي عادة الأمور. فأول مرة امتلك فيها فينسنت حذاءً برقبة خاصًّا به — حذاءً جديدًا لم يلبسه أحد قبله — كانت عندما التحق بالجيش. وكان سعيدًا لدرجة أنه سار إلى الخلف وسط الأوحال ليرى الآثار التي يتركها حديثة وكاملة. وفي وقت لاحق، بعد الحرب، اتجه إلى سانت جون ليبحث عن عمل. كان منشغلًا في البيت بأعمال المزرعة لمدة، حتى بليت ثياب الجيش — فلم يكن متبقيًا لديه سوى بنطال واحد لائق. وفي إحدى الحانات بسانت جون، قال رجل له: «هل تريد امتلاك بنطال مقبول ورخيص؟» فأجاب فينسنت بنعم، فقال له الرجل: «اتبعني.» وهكذا تبعه فينسنت. وأين انتهى بهما المطاف؟ لدى الحانوتي! فالحقيقة أن عائلة الشخص المتوَفَّى عادةً ما تجلب معها حُلة لإلباسه إياها، وهو لا يحتاج سوى أن يرتديَ ما يستره حتى الخصر، هذا كل ما يظهر في التابوت. ومن ثَمَّ باع الحانوتي البنطال؛ هذا حقيقي. أعطى الجيش فينسنت أول حذاء جديد برقبة، بينما تبرعت الجثة بأفضل بنطال ارتداه يومًا، حتى ذلك الوقت.

كان فينسنت دون أسنان، وكان هذا يظهر بوضوح من الوهلة الأولى، ولكن لم يجعله هذا يبدو دميمًا، وإنما عمَّق مظهره المتكتم والساخر. كان وجهه طويلًا وذقنه غائرًا، ولم تكن نظرته مثيرة للاهتمام ولكنها أيضًا ليست بالساذجة. كان رجلًا هزيلًا، غير أنه لم يفقد قدرته العضلية، وكان شعره أسود مائلًا للرمادي. بوسعك أن ترى جميع سنوات الكفاح بادية عليه، وبعض السنوات اللاحقة أيضًا، وعلى الجسد كذلك، حتى استحال إلى عجوز لا يقوى على شيء، متضائل الوزن، غير شكاء، متشبث ببضع نكات.

بينما كانوا يلعبون سكات، كان الحديث صاخبًا وتتم مقاطعته طوال الوقت بعبارات التعجب، أو تهديدات هزلية متعلقة باللعبة، أو الضحك. بعد ذلك أصبح أكثر جدية وخصوصية. كانوا يشربون بيرة محلية مسماة موس، ولكن عندما انتهت اللعبة اتجه لورانس إلى شاحنته وعاد ببعض زجاجات بيرة أونتاريو، التي يُعتقد أنها أفضل. كانوا يصفونها ﺑ «المشروبات المستوردة». كان الزوجان اللذان يملكان الفندق قد ذهبا مبكرًا ليخلدا للنوم، إلا أن العمال وليديا كانوا جالسين في المطبخ، كما لو كان ملكًا لأحدهم، يحتسون البيرة ويأكلون كنافة البحر، التي نزل بها فينسنت من غرفته. كانت كنافة البحر نوعًا من الأعشاب البحرية، ذات لون بُنِّي مائل للخضرة، وكانت مالحة ولها مذاق السمك. قال فينسنت إنها آخر ما يأكله في المساء وأول ما يأكله في الصباح — فلا شيء يضاهيها. والآن بعد أن عرف التجار أنها مفيدة جدًا، بدءوا يبيعونها في المتاجر مغلفةً في عبوات صغيرة للغاية بسعر باهظ.

كان اليوم التالي هو الجمعة، حيث سيغادر الرجال الجزيرة باتجاه البر الرئيسي. تحدثوا حول محاولة اللحاق بمركب الساعة الثانية والنصف، بدلًا من المركب الذي يركبونه عادةً في الخامسة والنصف؛ لأن الأرصاد توقعت سوء حالة الجو؛ إذ من المتوقع أن يضرب أحد الأعاصير الاستوائية في نهايته خليج فوندي قبل حلول الليل.

قالت ليديا: «لكن المعديات لن تبحر لو ساءت الأحوال الجوية جدًّا، أليس كذلك؟ لن تبحر لو كان ثَمَّةَ خطر؟» فكرت في أنها لن تمانع في البقاء في الجزيرة، ولن تمانع في عدم اضطرارها للسفر مجددًا في الصباح.

قال فينسنت: «حسنًا، ثَمَّةَ الكثير من الأشخاص في انتظار مغادرة الجزيرة مساء الجمعة.»

قال لورانس متهكمًا: «في انتظار العودة إلى زوجاتهم. دائمًا هناك فِرق عمل تعمل هنا، ودائمًا ما يكونون رجالًا مغتربين عن وطنهم.» ثم بدأ الحديث عن الجنس بطريقة متأنية ولحوحة في نفس الوقت. فتحدث عما سمَّاه فساد الجزيرة الأخلاقي. قال إن السلطات كانت ستقوم ذات مرة بفرض حجر صحي على الجزيرة كلها؛ بسبب أفراد طاقم مصابين بأمراض تناسلية جاءوا للعمل هنا وأقاموا بفندق «أوشن ويف»، فكانت هناك حفلات تقام طوال الليل كل ليلة، وخمور وفتيات شابات يعرضن أنفسهن للبيع. كُنَّ فتيات في سن الرابعة عشرة والخامسة عشرة — أوه، وحتى في الثالثة عشرة. ثم قال إنه على هذه الجزيرة كان يمكن أن تصبح المرأة في سن الخامسة والعشرين جدة بالفعل. كان المكان شهيرًا، وكانت هؤلاء الفتيات على استعداد لعمل أي شيء بمقابل، أحيانًا مقابل زجاجة بيرة.

قال لورانس: «وأحيانًا بلا مقابل.» وكان مستمتعًا بالحكاية.

سمعوا الباب الأمامي يُفتح.

قال لورانس لليديا: «صديقك القديم.»

أصابها الذهول للحظة، وهي تفكر في دانكن.

ثم قال فينسنت: «الرجل العجوز الذي كنتِ تجلسين معه على الطاولة.»

لم يدخل السيد ستانلي إلى المطبخ، بل عبر غرفة المعيشة وصعد الدَّرَج.

قال لورانس بصوت خفيض وهو يرفع رأسه وكأنه يناديه عبر السقف: «يا أنت! هل ذهبت إلى فندق أوشن ويف؟» ثم أردف: «الرجل العجوز لم يكن ليعلم ما يفعل بذهابه إلى الفندق. وما كان ليعلم منذ خمسين عامًا أفضل مما يعلم الآن. أنا لا أسمح لأحد من فريقي بالاقتراب من هذا المكان. أليس كذلك يا يوجين؟»

تورد وجه يوجين، وتجلت ملامح الكآبة على وجهه، كما لو أن معلمًا في المدرسة يضايقه.

قال فينسنت: «يوجين، انظر، ليس مضطرًا إلى السماح لهم بالذهاب.»

قال لورانس بإلحاح، كما لو أن شخصًا يجادله: «أليس ما أقوله صحيحًا؟»

نظر إلى فينسنت، فقال فينسنت: «بلى، بلى.» ولم يبدُ مستمتعًا بالموضوع بقدر لورانس.

قال لورانس لليديا: «قد تعتقدين أن كل شيء بريء جدًّا هنا. بريء! يا إلهي!»

صعدت ليديا إلى الطابق العلوي لتجلب ربع دولار كانت مدينة به للورانس خلال آخر دور من اللعبة. وعندما خرجت من غرفتها إلى الرواق المظلم، كان يوجين واقفًا هناك، يتطلع خارج النافذة.

قال: «أرجو ألا تشتد العاصفة.»

وقفت ليديا إلى جواره، وتطلعت إلى الخارج. وكان القمر مرئيًّا، ولكن يحيطه الضباب.

سألته: «ألم تنشأ بالقرب من البحر؟»

«نعم، لم أفعل.»

«ولكن إذا لحقت بمركب الثانية والنصف، فستكون الأمور على ما يرام، أليس كذلك؟»

«آمل هذا.» كان طفوليًّا إلى حدٍّ بعيد ولم يخجل من خوفه. «الأمر الذي لا أحبه هو فكرة الموت غرقًا.»

قالت له بنبرة أمومية مؤكدة: «لن تغرق.» ثم نزلت إلى الطابق السفلي ودفعت ربع الدولار.

سأل لورانس: «أين يوجين؟ أهو بالطابق العلوي؟»

«إنه يتطلع من النافذة، يشعر بالقلق من العاصفة.»

ضحك لورانس: «أخبريه أن يخلد للنوم وينسى الأمر. إنه يقيم في الغرفة المجاورة لكِ. ظننت فقط أنكِ يجب أن تعرفي هذا في حالة صياحه في أثناء نومه.»

•••

كانت ليديا قد قابلت دانكن لأول مرة في مكتبة، حيث كان يعمل صديقها وورين. كانت في انتظار وورين ليخرج معها للغداء. وكان قد ذهب ليجلب معطفه. فسأل رجلٌ شيرلي — الموظفة الأخرى في المكتبة — ما إن كانت تستطيع أن تجد له نسخة من «الخطابات الفارسية». كان هذا هو دانكن. سارت شيرلي أمامه باتجاه مكان الكتاب، وفي وسط المكتبة الهادئة استطاعت ليديا أن تسمعه يقول إنه لا بد وأن العثور على رف كتاب «الخطابات الفارسية» أمر صعب؛ فهل يجب تصنيفه تحت فئة الأدب القصصي أم المقال السياسي؟ شعرت ليديا أنه يبوح بشيءٍ بقوله هذا. كان يبوح باحتياجٍ افترضت شيوعه لدى العملاء في المكتبات؛ الاحتياج إلى تمييز نفسه، والظهور بمظهر المثقف. فيما بعدُ كانت تتذكر هذه اللحظة وتحاول تخيله مجددًا عاجزًا للغاية، متملقًا إلى حدٍّ ما، مبديًا قدرًا من الاحتياج. عاد وورين مرتديًا معطفه، فحيَّا دانكن، ولدى خروجه وليديا من المكتبة، قال وورين بصوت هامس: «الحطَّاب القصديري.» كان وورين وشيرلي يسليان وقتهما بإطلاق ألقاب على العملاء، وقد سمعت ليديا بالفعل عن «اللسان الفصيح» و«الحمص» و«الدوقة الاستعمارية». أما دانكن فكان الحطاب القصديري. خمَّنت ليديا أنهما أطلقا عليه هذا اللقب بسبب المعطف الرمادي الأملس الذي كان يرتديه، وشعره الرمادي الساطع الذي كان من الواضح أنه كان أشقر في يوم من الأيام. لم يكن نحيفًا ولا بارز العظام ولم يبدُ مرتعش المفاصل. كان رشيقًا وممتلئًا وجليلًا ولطيفًا، فاتح البشرة، مهندمًا وأنيقًا ومتألقًا.

لم تخبره قط عن هذا الاسم. لم تخبره قط أنها رأته في المكتبة، حيث قابلته بعد هذا الموقف بأسبوع تقريبًا في حفلة لأحد الناشرين. لم يتذكر أنه رآها قط من قبل، وقد خمَّنت أنه لم يرَها بسبب انشغاله بالحديث مع شيرلي.

تثق ليديا في حكمها على الأشياء، في العادة. وتثق في رأيها في صديقها وورين، أو صديقته شيرلي، وفي المعارف الذين تتعرف عليهم بالصدفة، مثل الزوجين اللذين يديران الفندق، والسيد ستانلي، والرجال الذين كانت تلعب معهم الكوتشينة؛ فهي تعتقد أنها تعلم السر وراء تصرف الناس بالطريقة التي يتصرفون بها، وتعتمد على نظرياتها غير المثبتة وشكوكها غير المبررة أكثر مما تعترف. ولكنها تصبح حمقاء وضعيفة عند التفكير في الصدام بينها وبين دانكن. إن لديها الكثير لتقوله في هذا الشأن لو أتيحت لها الفرصة؛ لأن الشرح من شيمها، ولكنها لا تثق فيما تقوله حتى لو لنفسها؛ فذلك لا يساعدها. قد يكون من الأفضل لها تغطية رأسها والجلوس لتنتحب على الأرض.

تسأل ليديا نفسها عما مده بهذه القوة. إنها تعلم من. ولكنها تسأل عن السبب والتوقيت: متى حدث التحول، متى تم التنازل عن كل الكبرياء وحسن الفهم؟

•••

ظلت تقرأ لمدة نصف ساعة بعد خلودها للفراش، ثم خرجت إلى الردهة متجهة إلى الحمام. كان ذلك بعد منتصف الليل، وكان الظلام يسود بقية البيت. وكانت قد تركت باب غرفتها مُوارَبًا، وعند عودتها إلى غرفتها لم تشغل مصابيح الردهة. كما كان باب غرفة يوجين مُوارَبًا بالمثل، وعند المرور من أمام غرفته سمعت صوتًا خفيضًا مهمومًا. كان أقرب إلى الأنين، وأقرب إلى الهمس. تذكرت قول لورانس بأن يوجين يصيح خلال نومه، لكن هذا الصوت لم يصدر من شخص نائم. كانت تعرف أنه مستيقظ. وكان هو يراقبها من فراشه في غرفته المظلمة وكان يدعوها للدخول. كانت الدعوة غزلية ومباشرة وتنم عن شعور بالضعف، مثلما كان اعترافه بالخوف عندما وقف أمام النافذة. تابعت السير إلى غرفتها وأغلقت الباب وأوصدته بالمزلاج. حتى وهي تفعل ذلك، كانت تعلم أنها ليست مضطرة إلى عمله؛ فهو لن يحاول الدخول أبدًا؛ فهو لا يتسم بروح مستأسدة.

ثم استلقت على الفراش وهي مستيقظة. لقد تغيرت الأحوال بالنسبة إليها، ورفضت بعض المغامرات. كان بوسعها الذهاب إلى يوجين، وفي وقت سابق من الأمسية كان بوسعها إعطاء إشارة إلى لورانس. في الماضي ربما كان بوسعها عمل ذلك. ربما، وربما لا، بحسب ما كانت تشعر به حينها. ولكن الآن بدا الأمر مستحيلًا؛ لقد شعرت وكأنها محجوبة بغطاء، وملتفة في طبقات وطبقات من المعرفة المملة، شعرت أنها مصونة ومحصنة. لم يكن هذا أمرًا سيئًا تمامًا؛ فقد يجعل عقلك مستنيرًا. فالتأمل يمكن أن يكون أكثر لطفًا، ويمكن أن يستغرق وقته عندما لا تقوده الرغبة.

فكرت ليديا فيما كان سيصبح عليه حال أولئك الرجال كعشاق. كان لورانس سيصبح خيارها المنطقي؛ فكان الأقرب إلى سنها، وكانت تصرفاته متوقعة، وربما كان معتادًا على اللقاءات الكتومة. كان أسلوبه فظًّا، ولكن ما كان هذا ليَثنيَها عنه بالضرورة. سيكون مرحًا، وودودًا، ومتعقلًا، وربما محتفيًا بنفسه بعض الشيء، ومتوددًا لها بصورة عملية، وسيستطيع وهو في غمرة تودده إليها أن ينجرف إلى توجيه تحذير في صورة دعابة، أو إهانة ودية، أو تذكير بكيف تستقيم الأشياء.

أما يوجين، فلم يكن ليشعر بالحاجة إلى عمل ذلك، رغم أن ذاكرته ستكون أضعف حتى من لورانس (أضعف كثيرًا؛ لأن لورانس — رغم أنه لا يفوِّت الفرص — سيفكر لاحقًا في عاقبةٍ ما سيئة، يجب أن يُعِد لها خطًّا دفاعيًّا قاطعًا). ولن يكون يوجين أقل خبرة من لورانس. فلا بد من أن الفتيات والنساء طيلة السنوات الماضية قد استجبن لنوع الاستعطاف الذي سمعته ليديا، أو ذلك الاعتراف الساذج. وجال بخاطرها أيضًا أن يوجين سيكون سخيًّا، وسيكون عاشقًا ممتنًّا وغير أناني، وأنه سيُظهر لنسائه قدرًا كبيرًا من العطف والحنان لدرجة أنه حين يفارقهن لن يثرن المشاكل أبدًا. فلن يحاولن الإيقاع به، ولن ينتحبن عليه؛ فالنساء يفعلن ذلك مع رجال امتنعوا عن العطاء، وتناقضوا مع أنفسهم، ووعدوا فأخلفوا، وسخروا. هؤلاء هم الرجال الذين تحمل منهم النساء، ويراسلنهم بخطابات بائسة، ويلححن بحبهن السامي لهم، وينتقمن منهم. كان يوجين سيفلت حرًّا، سيكون بريئًا، أعجوبة الحب السعيدة، إلى أن يقرر أن الوقت قد حان للزواج. وعندها سيتزوج فتاة عادية تملك روح الأمومة، وربما تكون أكبر منه سنًّا، وربما أكثر دهاءً. ولسوف يكون مخلصًا لها، وطيب المعاشرة، وستستطيع هي إدارة شئون الحياة، وسيؤسسان معًا عائلة كاثوليكية كبيرة.

ماذا عن فينسنت؟ لم تستطع ليديا أن تتخيله بنفس السهولة التي تخيلت بها الآخرين، بصخبهم وحركاتهم وأكتافهم العارية وبشرتهم الدافئة الممتعة، وقوتهم، ومجهوداتهم، ولحظات ضعفهم. كانت تخجل من التفكير في أيٍّ من هذه الأمور تجاهه. ومع هذا كان الوحيد الذي استطاعت التفكير فيه الآن باهتمام حقيقي. فكرت في لطفه وتحفظه وحس دعابته، وعجزه عن تحسين قدره. أعجبها لنفس الأسباب التي جعلته مختلفًا عن لورانس، بل وكانت متأكدة أنه سيظل طوال عمره يعمل لحساب لورانس — أو لشخص مثل لورانس — وليس العكس. أعجبها أيضًا للأسباب التي جعلته مختلفًا عن يوجين: سخريته، وصبره، واستقلاليته. كان ذلك النوع من الرجال الذي صادفته في طفولتها وهي تعيش في مزرعة لا تختلف كثيرًا عن مزرعته، ذلك النوع من الرجال الذي لا بد وأنه كان أحد أفراد عائلتها لمئات السنين. عرفت حياته. ومعه تستطيع التنبؤ بأبواب تُفتح على ما كانت تعرفه ونسيته؛ غرف تُفتح ومناظر طبيعية تتجلى؛ «هناك». أمسيات ممطرة، وريف به الجداول الصغيرة والمقابر، وبرقوق فرجينيا وعصافير الحسون عند أركان السور. كان عليها أن تتساءل إن كان هذا ما قد حدث، بعد سنوات الشهوة والطمع: هل ينجرف المرء إلى خيالاته الرقيقة؟ أم كانت هذه مجرد الحقيقة عما كانت تحتاجه وتريده؟ هل كان الأفضل لها أن تحب وتتزوج رجلًا مثل فينسنت، منذ أعوام مضت؟ هل كان الأفضل لها أن تركز على ذلك الجانب منها الذي كان سيقنع بهذا الترتيب، وينسى الباقي؟

بمعنى: هل كان من الأفضل لها أن تبقى في المكان الذي خُلق فيه الحب لأجلها، بدلًا من الذهاب إلى المكان الذي عليها أن تصنعه فيه، ثم تعيد تصنيعه، دون أن تعرف أبدًا ما إن كانت هذه الجهود كافية؟

•••

تحدث دانكن عن عشيقاته السابقات: روث البارعة، وجودي الجريئة، وديان المفعمة بالحيوية، ودولوريس الأنيقة، وماكسين التي تليق بدور الزوجة، ولورين الشقراء الجميلة ممتلئة الصدر، وماريان متعددة اللغات، وكارولين العصابية، وروزالي التي كانت شرسة وشبيهة بالغجر، ولويز الموهوبة السوداوية، وجين الهادئة المعروفة في الأوساط الاجتماعية الراقية. والآن، ما الوصف الذي ينطبق على ليديا؟ ليديا الشاعرة. ليديا العابسة، الفوضوية، غير المُرضية. الشاعرة غير المُرضية.

ذات يوم من أيام الأحد، بينما كانا يقودان سيارتهما في منطقة التلال المحيطة ببيتربورو، تحدث دانكن عن وقع جمال لورين عليه؛ ربما ذكَّره بها الريف المبهج. لكنه قال إن الأمر يكاد يكون مزحة. وقد كان شيئًا سخيفًا؛ إذ توقف من أجل التزود بالوقود في مدينة صغيرة، وعبرت ليديا الشارع لتدخل متجرًا يقدم بضاعة بأسعار مخفضة ويفتح أيام الأحد. اشترت مساحيق الزينة في عبوات جاهزة، وداخل الحمام القذر البارد في محطة الوقود حاولت تغيير هيئتها، فقذفت بسائل أصفر برتقالي على وجهها، ودهنت معجونًا أخضر فوق جفنيها.

قال لها بعد عودتها إلى السيارة: «ماذا فعلتِ بوجهك؟»

«إنها مساحيق زينة. لقد وضعت بعضًا منها لكي أبدوَ أكثر ابتهاجًا.»

«بإمكانكِ أن تَرَيِ الخط الذي انتهيتِ عنده من وضع المساحيق على رقبتك.»

في مثل تلك الأوقات كانت تشعر بالاختناق. كان إحساسًا بالإحباط، هكذا أخبرت الطبيب لاحقًا. إنها الفجوة بين ما أرادته وما بوسعها الحصول عليه. كانت تؤمن أن مشاعر الحب لدى دانكن — حبه لها — مختبئة في مكان ما بداخله، وأنها عن طريق محاولاتها الهائلة لإرضائه، أو نوبات حزن تمحو بها جميع هذه المجهودات، أو حِيَل اللامبالاة، ستستطيع نبشها واستخراجها أو استدراجها.

ما الذي أوحى لها بهذه الفكرة؟ إنه هو. على الأقل أشار إلى أنه يستطيع أن يحبها، وأنهما يمكن أن يكونا سعيدين لو استطاعت أن تحترم خصوصيته وألا تطالبه بشيء، وأن تحاول تغيير تلك الجوانب في شخصيتها وسلوكياتها التي لم يكن يحبها. لقد حدد هذه الجوانب بدقة. بعضها كان شخصيًّا جدًّا بطبيعته، وقد صرخت من الخجل وغطت أذنيها وتوسلت إليه أن يتراجع عما قال أو يتوقف عن الكلام.

قال لها: «ما من طريقة لمناقشتك.» وقال إنه يكره الشخصيات الهستيرية، والاستعراض العاطفي، أكثر من أي شيء آخر، ولكنها اعتقدت أنها قد لاحظت شيئًا من الرِّضَى، أو الشعور المثير بالراحة العميقة، سرى في بدنه عندما انهارت في نهاية المطاف تحت وطأة اعتراضاته التفصيلية والهادئة.

قالت للطبيب بلهفة: «هل هذا ممكن؟ هل من الممكن أن يريد الاقتراب من امرأة وفي نفس الوقت يكون خائفًا من هذا القرب لدرجة أنه يحاول تحطيمها؟ هل الأمر بهذه البساطة؟»

سألها الطبيب: «ماذا عنك أنتِ؟ ماذا تريدين؟»

«لكي يحبني؟»

«لا لكي تحبيه؟»

فكرت في شقة دانكن. لم تكن تحتوي على ستائر، وكان المبنى الذي تقع فيه الشقة أعلى من المباني المحيطة. ولم تكن هناك محاولة لتنظيم الأثاث لإعداد المكان، وما كان هناك شيء مرتبط بشيء آخر. ولكن كان هناك اهتمام بمتطلبات خاصة متنوعة؛ فثَمَّةَ منحوتة معينة توجد في ركن خلف بعض خزانات حفظ الملفات لأن دانكن كان يحب افتراش الأرض والنظر إليها في الظل. وكانت الكتب مكدسة بجوار السرير الذي كان موضوعًا بالعرض في الغرفة لكي يصله النسيم من النافذة. وكل الفوضى كانت في الحقيقة تنظيمًا، تم التفكير فيها بعناية ولا يمكن التدخل فيها. كانت هناك سجادة صغيرة جميلة في نهاية الردهة، حيث اعتاد الجلوس والاستماع إلى الموسيقى. وكان هناك كرسي واحد ضخم ودميم بمسندين، تحفة هندسية، بجميع ملحقاته لإسناد الرأس والأطراف. سألته ليديا عن ضيوفه: كيف يستضيفهم؟ أجاب أنه لا يأتيه ضيوف. كانت الشقة له وحده. لقد كان ضيفًا معروفًا، وحاد الذكاء، وفاتنًا، ولكنه لا يستضيف أحدًا، وهذا بدا منطقيًّا بالنسبة إليه، بما أن الحياة الاجتماعية كانت مطلب الآخرين واختراعهم.

أحضرت ليديا زهورًا، ولم تجد وعاءً تضعها فيه باستثناء برطمان موضوع على الأرض بجوار السرير. وأحضرت هدايا من رحلاتها إلى تورنتو: أسطوانات وكتبًا وجبنًا. حفظت دروب الشقة واكتشفت أماكن يمكنها الجلوس فيها. منعت أصدقاءها القدامى، أو أي أصدقاء لها عمومًا، من الاتصال بها أو المجيء لزيارتها؛ لأنه كان هناك الكثير مما لن تستطيع تفسيره. غير أنهما كانا يقابلان أصدقاء دانكن أحيانًا، وكانت تشعر بالتوتر في وجودهم، معتقدة أنهم سيضيفونها إلى قائمةٍ ما، متأملين أمرها. لم تكن تحب أن تراه يمنحهم الكثير من متجر هداياه — من نوادر ومحاكاة ساخرة وذكاء مداهن — الذي كان يستخدمه أيضًا لإسعادها. لم يكن يتحمل بلادة العقل. وشعرت أنه يحتقر من لم يكن ذكيًّا. فعليك أن تكون سريع البديهة لتصبح في مستواه في المحادثة، وعليك أن تكون نشيطًا. رأت ليديا نفسها كراقصة تقف على أطراف أصابعها، جسدها كله يرتعش برقة، خوفًا من تخييب أمله في المرة القادمة.

سألت الطبيب: «هل تقصد أنك تعتقد أنني لا أحبه؟»

«كيف تعرفين أنك تحبينه؟»

«لأني أعاني كثيرًا عندما يضيق ذرعًا بي. ساعتها أريد أن تنشق الأرض وتبلعني. هذا حقيقي؛ أريد أن أختبئ. وعندما أخرج إلى الشوارع يبدو لي كل وجه أنظر إليه وكأنه يحتقرني بسبب فشلي.»

«فشلك في أن تجعليه يحبك.»

الآن على ليديا أن تتهم نفسها؛ فانشغالها الكامل بنفسها لا يقل عن انشغال دانكن بنفسه، ولكنه مستتر بصورة أكثر مكرًا. إنها في منافسة معه، تتعلق بمن يستطيع أن يحب أفضل من الآخر. إنها في منافسة مع جميع النساء الأخريات، حتى عندما ترى أنه من السخافة أن تفعل ذلك. لا يمكنها أن تطيق سماع كلمة ثناء عليهن أو أن تعرف أنهن في ذاكرته لم يطوِهن النسيان. وشأنها شأن كثير من النساء في جيلها؛ فإن فكرتها عن الحب هدَّامة، ولكنها ليست جادة بشكلٍ ما، ولا تشي بالاحترام. إنها طماعة. كما أنها تتحدث بذكاء وسخرية لتخفي بهذه الطريقة توقعاتها التي يتعذر الدفاع عنها. فكانت التضحيات التي قدمتها لدانكن — في ترتيبات المعيشة، وفي مسألة الأصدقاء، علاوةً على إيقاع العلاقة الحميمية بينهما ونبرة الحديث — انتهاكات لم تُرتكب على نحوٍ جاد، ولكن بطريقة صارخة. هذا هو ما لم يكن ينم عن الاحترام، هذا هو ما لم يكن لائقًا. لقد قدمت له هذه القوة كهدية، ثم أخذت تشتكي لنفسها، ثم له في النهاية على أنه أخذها. لقد عزمت على أن تهزمه.

هذا هو ما تقوله للطبيب. ولكن هل هذه هي الحقيقة؟

«أسوأ شيء هو ألا أعرف الصدق في أيٍّ من هذا. إنني أقضي كل ساعات يقظتي في محاولة فهمه وفهمي ولا أتوصل إلى شيء. أتمنى بل وأبتهل. أقذف العملات في آبار الأمنيات. أعتقد أن ثَمَّةَ شيئًا به يقاومني تمامًا. ثَمَّةَ شيء به يريد أن يتخلص مني وبالتالي سيجد أسبابًا. ولكنه يقول إن هذا هراء، وإنني لو توقفت عن المبالغة في ردة فعلي فإننا سنسعد. يجب أن أفكر أنه ربما يكون على صواب. ربما أكون أنا السبب.»

«متى تكونين سعيدة؟»

«عندما يكون راضيًا عني. عندما يمازحني ويستمتع بوقته معي. لا، لا. ليست السعادة هي ما أشعر به. بل ما أشعر به هو الراحة، وكأني تغلبت على تحدٍّ، إنه إحساس بالانتصار أكثر منه إحساسًا بالسعادة. ولكنه قادر دومًا على إفساد فرحتي.»

«إذن لماذا تبقين مع شخص يستطيع دائمًا أن يفسد فرحتك؟»

«ألا يوجد دائمًا من يفسد فرحتنا؟ عندما كنت متزوجة، كنت أنا من أفسد فرحتنا. هل تعتقد أن طرح هذه الأسئلة ضروري؟ ماذا لو افترضنا أنه الكبرياء وحسب؟ أنني لا أريد أن أعيش وحدي، وأريد أن يعتقد الجميع أنني أعيش مع هذا الرجل الجذاب. ماذا لو افترضنا أنه الإذلال، وأنني أريد أن أشعر بهذه المهانة؟ ما الذي سأستفيده بمعرفتي شيئًا كهذا؟»

«لا أعلم. ما رأيك؟»

«أعتقد أنه لا بأس بهذه المحادثات عندما تكون مهتمًّا ومنزعجًا بعض الشيء، ولكن ليس عندما تكون يائسًا.»

«هل أنتِ يائسة؟»

شعرت فجأة بالإجهاد بحيث لم تستطع الكلام. كانت الغرفة التي تتحدث فيها مع الطبيب تحتوي على سجادة ذات لون أزرق غامق وأثاث مغطًّى بفرش مخطط من اللونين الأزرق والأخضر. وكانت هناك صورة لقوارب وصيادين معلقة على الحائط. فشعرت ليديا بمؤامرة تحاك ضدها؛ بطمأنينة زائفة، وراحة مؤقتة، وخداعات جادة.

«كلا.»

بدا لها أنها ودانكن في تلك الأيام كانا وحشين متعددَي الرءوس. تصدر من فم أحد الرءوس الإهانات والاتهامات، حارة وباردة، ومن فم رأس آخر تصدر اعتذارات زائفة وحجج متملقة، ومن فم رأس ثالث تصدر ثرثرة مراوغة ومنطقية، صادقة وزائفة كتلك التي تخوضها مع الطبيب. لم يكن من فم ليُفتح ويصدر منه شيء مفيد، ولم يكن من فم يملك الحكمة ليُغلق. وفي الوقت نفسه كانت تؤمن — رغم أنها لم تعرف أنها تؤمن بذلك — أن رءوس الوحشين هذه بحديثها الهدَّام والسخيف والقاسي يمكن أن تنسحب مجددًا، وأن تتراجع وتعود إلى سُباتها. لا بأس بما قالته الرءوس، لا بأس. فيما بعد سيصبح بوسعها هي ودانكن — بكل الأمل والثقة والذكريات الممحوة — أن يعيدا تقديم أحدهما إلى الآخر، وأن يستردَّا السعادة بحالتها الأولى الصافية التي بدآ بها، قبل أن يشرعا في استغلال أحدهما الآخر من أجل أهداف أخرى.

عندما قضت يومًا في تورنتو حاولت استرجاع دانكن هاتفيًّا، واكتشفت أنه قد أسرع بالتصرف؛ فقد غيَّر رقم هاتفه ولم يدرجه في دليل الهاتف، وراسلها عبر مديرها بأنه سيحزم أمتعته ويرسل إليها أشياءها.

•••

تناولت ليديا الفطور مع السيد ستانلي. وكان طاقم التليفونات قد تناول طعامه ورحل للعمل قبل ضوء النهار.

سألت السيد ستانلي عن زيارته للمرأة التي كانت تعرف ويلا كاثر.

قال وهو يمسح جانب فمه بعد أن قضم جزءًا من بيضة مسلوقة: «أوه، كانت امرأة تدير في الماضي مطعمًا صغيرًا بالقرب من رصيف الميناء. قالت إنها كانت طاهية ماهرة. لا بد من أنها كانت كذلك؛ لأن ويلا وإديث اعتادتا إحضار غدائهما منها. وكانت ترسله إليهما مع أخيها بسيارته. ولكن أحيانًا لم يكن الغداء يرضي ويلا — ربما لم يكن كما تريده، أو كانت تعتقد أنه غير مطهوٍّ كما ينبغي — وكانت تعيد إرساله إليها، وتطلب إرسال غداء آخر.» ابتسم وقال بنبرة واثقة: «يمكن أن تكون ويلا متكبرة. أوه، أجل. لم تكن مثالية. جميع الأشخاص ذوي القدرات العظيمة ميالون لأنْ يتعاملوا بنفاد صبر مع الأمور اليومية.»

هذا هراء، يبدو أنها كانت شديدة التعجرف. هكذا أرادت ليديا أن تقول.

أحيانًا يكون الاستيقاظ سهلًا، وفي أحيان أخرى يكون شديد الصعوبة. وهذا الصباح استيقظت ليديا ولديها اقتناع مسيطر عليها بوجود خطأ ما — شيء يمكن تجنبه ويتعذر إصلاحه.

تابع السيد ستانلي: «ولكن أحيانًا كانت تأتي هي وإديث إلى المقهى إذا شعرتا بأنهما في حاجة إلى بعض الرفقة، كانتا تذهبان إلى تناول الغداء هناك. وفي إحدى هذه المناسبات تحدثت ويلا طويلًا مع المرأة التي زارتها. تحدثتا لأكثر من ساعة. كانت المرأة تفكر في الزواج، وكان عليها أن تقرر ما إن كانت ستتزوج أم لا؛ زواجًا — حسبما فهمته — أشبه بعرض عمل، أو رفقة. ما كان هناك من سبيل للرومانسية؛ فهي والرجل لم يكونا صغيرين وساذجين. تحدثت ويلا معها لأكثر من ساعة. وبالطبع لم تنصحها مباشرةً بعمل هذا أو ذاك، بل تحدثت معها بشكل عام بتعقُّل ولطف تام وما زالت المرأة تذكر هذا بوضوح. كنت سعيدًا لسماعي هذا ولكني لم أتفاجأ.»

قالت ليديا: «ما الذي كانت ويلا تعرفه عن الزواج على أية حال؟»

رفع السيد ستانلي عينيه عن طبقه وتطلع إليها في دهشة حزينة.

قالت ليديا: «ويلا كاثر كانت تعيش مع امرأة.»

عندما أجاب السيد ستانلي بدا مرتبكًا، ووبخها دون حدة.

«لقد كانتا مخلصتين إحداهما للأخرى.»

«لم تعِش مع رجل قط.»

«كانت على علم بشئون الزواج بطبيعة كونها فنانة، وليس بالضرورة بالخبرة بها.»

أصرت ليديا: «لكن ماذا لو لم تكن تعرف شيئًا عنها؟ ماذا لو لم يكن هذا هو الحال؟»

عاد لتناول بيضته كأنه لم يسمعها. ثم قال أخيرًا: «اعتبرت المرأة حديث ويلا معها مفيدًا جدًّا بالنسبة إليها.»

أصدرت ليديا صوتًا ينم عن موافقته الرأي ولكن بتشكك؛ فقد كانت تعلم أنها تصرفت بوقاحة، بل بقسوة. كانت تعلم أن عليها الاعتذار. اتجهت إلى البوفيه وصبت لنفسها فنجان قهوة آخر.

خرجت سيدة البيت من المطبخ متوجهة إليها.

«هل ما زالت ساخنة؟ أظن أنني سأصب لنفسي فنجانًا أيضًا. هل سترحلين اليوم حقًّا؟ أحيانًا أفكر أنني أريد القفز في قاربٍ ما والرحيل أيضًا. المكان بديع هنا وأنا أحبه ولكنك تعرفين ما يحدث.»

احتستا قهوتيهما وهما واقفتان بجوار البوفيه. لم تُرِد ليديا العودة إلى الطاولة، ولكنها كانت تعلم أنها ستُضطَر إلى ذلك. بدا السيد ستانلي منكسرًا ووحيدًا، بكتفيه المكتنزتين، ورأسه الأصلع الناعم، وسترته الرياضية البُنِّية ذات المربعات والتي كانت كبيرة عليه قليلًا. لقد اجتهد ليكون أنيقًا ومهندمًا، ولا بد أن ذلك كان أمرًا متعبًا بالنسبة إليه بسبب ضعف إبصاره. ومن بين جميع الناس لم يكن يستحق معاملة وقحة.

قالت المرأة: «أوه، لقد نسيت.»

دخلت إلى المطبخ وعادت بحقيبة ورقية ضخمة بُنِّية اللون.

«لقد ترك لك فينسنت هذه. قال إنها أعجبتك. أحقًّا؟»

فتحت ليديا الحقيبة ورأت أوراقًا عشبية طويلة وغامقة وممزقة من كنافة البحر، بمظهرها الزيتي حتى وهي جافة.

قالت: «حسنًا …»

ضحكت المرأة: «أعلم. لا بد وأن تكوني مولودة هنا لتقدِّري مذاقها.»

قالت ليديا: «كلا، لقد أعجبتني فعلًا. اعتدت عليها.»

«لقد حققت نجاحًا باهرًا.»

أخذت ليديا الحقيبة وعادت إلى الطاولة وأطلعت السيد ستانلي عليها. وحاولت إلقاء مزحة لتسترضيَه.

«تُرى هل تناولت ويلا كاثر كنافة البحر من قبل؟»

فكر السيد ستانلي بإمعان وقال: «كنافة البحر؟» مد يده داخل الحقيبة وأخرج بعض الأعشاب ونظر إليها. كانت ليديا تعلم أنه كان يرى ما رأته ويلا كاثر على الأرجح. «بالتأكيد كانت تعرفها. بكل تأكيد.»

ولكن هل كانت محظوظة أم لا؟ وهل كانت الأمور على ما يرام مع هذه المرأة؟ كيف عاشت حياتها؟ هذا ما أرادت ليديا أن تسأله. هل كان السيد ستانلي سيفهم ما تقصده؟ ولو سألت كيف عاشت ويلا كاثر، ألم يكن سيجيب بأنها ما كان عليها أن تجد سبيلًا للعيش، مثل بقية الناس، لأنها كانت ويلا كاثر؟

يا له من عالم وهمي بديع ذلك الذي صنعه لنفسه! يمكنه أن يحمله معه أينما ذهب، وما كان بوسع أحد أن يتدخل. قد يأتي يوم ستعتبر ليديا نفسها فيه محظوظة لقيامها بالمثل. لكن إلى أن يحدث ذلك، ستظل أمورها متقلبة. «متقلبة» هكذا اعتادوا أن يقولوا في طفولتها، متحدثين عن صحة الأفراد الذين لن يتعافَوْا. «إنها حقًّا متقلبة.»

ومع هذا، تسلل الدفء إليها بفضل هذه الهدية التي وهبها إياها شخص من بُعد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤