الفصل الأول

التجديد في الأدب

موضوع ثار فيه الجدل بين الكتَّاب، واحتدم فيه الخلاف بين الباحثين؛ هل أدبنا العربي يحتاج إلى تجديد؟ وهل سواءٌ في ذلك شعره ونثره؟ وتعصَّب قوم للقديم يذودون عنه ويحافظون عليه، ولا يسمحون بأي تغيير فيه، وهبَّ المحدثون ينعون على المحافظين جمودهم، وينذرونهم بسوء العاقبة إن هم ظلُّوا متمسِّكين بالقديم معرضين عن الجديد.

ولكن أسوأ ما يسوءني في هذا الموضوع وأمثاله الغموضُ والإبهامُ؛ فإذا سألت المجدِّدين ماذا يريدون بالتجديد، وما ضروبه، وما مناحيه، وماذا يقترحون أن يُدخِلوه على الأدب العربي، جمجموا في القول، وأتوا بكلمات غير محدودة المعنى، ولا واضحة الدلالة، وقد يجوز إذا حدَّدوا أغراضهم وأبانوا عن مقاصدهم، أن يوافقهم المحافظون أو أكثرهم، ولا يكون ثمَّت خلاف، وإن يكن فخلافٌ معروفٌ تُقام عليه حُجج واضحة.

من أجل هذا كله، أحاول أن أعرض لوجوه التجديد التي يخيَّل إليَّ أنهم يريدونها، وأدلي برأيي فيها، وأدعو الكتَّاب أن يساهموا فيها بآرائهم، ويستدركوا ما يفوتني من حججهم وأغراضهم.

في أدب كل لغة عناصر ثابتة، لا يعتريها تغيُّر ولا ينالها تجدُّد، هي قدرٌ مشترك من الأسلوب والتراكيب وتأليف الجمل، به تمتاز اللغة من سائر لغات العالم، وينفرد أدب الأمة عن آداب العالم، وقدرٌ مشترك من الفن، نتبيَّن به الجيِّد من الأدب في كل عصر وكل جيل، هو فوق البيئة وفوق العوامل السياسية والاجتماعية، وفوق ما يطرأ عليها من كل تغيير.

وهذا وذاك هما اللذان يجعلاننا نتذوَّق الأدب الجاهلي، وندرك ما فيه من جمال، ونشعر بما فيه من نقصٍ، ويستطيع الأديب منَّا أن يعرف خيرَ ما قال امرؤ القيس، وما قال طرفة، وما قال زهير، وهو الذي يجعلنا نتذوَّق ما في القرآن الكريم من جمالٍ في الأسلوب والمعنى، وندرك ما في العصر العباسي إلى عصرنا هذا من نثر وشعر، ونَزِنُه ونقوِّمه، ونحكم على بعضه بالحسن والجمال والقوة، وعلى بعضه بالضعف والقبح والغموض، ولولا هذا القدر المشترك لانقطعت الصلة بيننا وبين القديم؛ فلا نحسُّ له جمالًا، ولا نتذوَّق له طعمًا.

وهذا النوع من العناصر لا يقبل تجديدًا ولا تغييرًا؛ إذ بتغييره تضيع اللغة وتفقد مشخِّصاتها؛ فلو قلبنا تركيب الجمل رأسًا على عقب، أو لم نراعِ الوضع الذي تسير على نهجه اللغة، لكان لنا من ذلك لغة جديدة، ليس بينها وبين الأولى نسب.

وهناك نوع آخر من العناصر في اللغة والأدب، خاضع للتغيُّر، قابل للتشكُّل، يتأثَّر بالبيئة وبدرجة الحضارة، وبالأساليب السياسية، وبالحياة الاجتماعية، وغير ذلك.

وفي هذا النوع يكون التغيير والتجديد، ومن أجل هذا التغيير كانت الفروق واضحة بين الشعر العباسي والشعر الجاهلي في التعبير والتشبيه والأسلوب والموضوع ونحو ذلك، ومن أجل هذا أمكن الأديب إذا عُرِض عليه نوعٌ من الأدب، أن يعرف عصره ولو لم يعرف قائله؛ لأنه يستطيع أن يتبيَّن خصائص كل عصر ومميزاته، ويطبِّق ذلك على ما يعرض عليه من شعر أو نثر.

ومن أجل هذا أيضًا ترى الفرق واضحًا بين لغة الأدباء الآن وبين لغتهم منذ عشرين عامًا، وتجد الفرق واضحًا بين لغة الجرائد المصرية اليوم وبين لغة الجرائد السورية والعراقية، وإن كانت كلها تصدر باللغة العربية، وتشترك في العناصر الأساسية.

وهذا التغيير أو التجديد في الأدب وتأثُّره بما حوله خضع له الأدب العربي وكل أدب على الرغم من المحافظين والجامدين؛ فقد رأينا في العصر العباسي مدرسة — وعلى رأسها الأصمعي — لا تحب إلا الشعر الجاهلي، ولا تحب من المحدثين إلا من قلَّد القدماء، ورأينا من كان ينشد الشعر فيستحسنه، فإذا قيل له إنه محدث استهجنه واتهم ذوقه، ولكن هذه المدرسة أخضعها الزمن لحكمه، ونشأ أدب عباسي جديد احتفظ بالعناصر الأساسية للأدب العربي، ولم يأبه لما عداها، وكان الفرق كبيرًا بين الأدبين كما قال الجاحظ: كم من الفرق بين قول امرئ القيس:

تقول وقد مال الغبيط بنا معًا

وقول علي بن الجهم:

فبتنا جميعًا لو تراق زجاجة
من الماء فيما بيننا لم تَسَرَّبِ

وجاء المتنبي وعلى أثره المعري، فجدَّدا في الشعر من ناحية الأسلوب ومن ناحية المعاني، فأنكر عليهما أدباء عصرهما نزعتهما الجديدة، حتى رأينا من بين العلماء من أبوا أن يعدوهما من الشعراء، ثم حكم الزمن على هؤلاء العلماء ووضع المتنبي والمعري في مكانهما اللائق بهما.

وكان هذا هو الشأن في كل عصر، حتى عصرنا الحديث، نشأ قوم تأثَّروا بالأدب العربي القديم وحذوا حذوه، ولم يخرجوا قيد شعرة عنه؛ فلو ركبوا الطائرة قالوا ركبنا الهودج والبعير، وإذا استهلكت البنزين قالوا رَعَتِ السعدان١، وسموا الجنيهات الإنجليزية وعملة الورق دراهم ودنانير، وإذا لم يكن لهم من الأمر شيء قالوا لا ناقة لنا ولا جمل، وهم في الحقيقة لا ناقة لهم ولا جمل، إلى كثير من أمثال ذلك.

وتأدب قوم بالأدب الغربي إلى ثقافتهم العربية، فثاروا على كل ذلك، واختلفوا بينهم في مقدار هذه الثورة؛ فقوم يريدون أن يتحرَّروا من الأوزان والتزام القوافي، وآخرون يريدون أن يتحرَّروا من التشبيهات البالية والمجاز العتيق، وآخرون يعافون بعض الأساليب القديمة والموضوعات التي جرى عليها السابقون، وكان صراع بين الطائفتين نعرض له بعد.

على كل حال، دلَّتنا أحداث الزمان على أن عوامل البيئة في التغيير والتجديد لا يمكن أن تُقاوَم، كما دلَّتنا على أن ليس كل تجديد يصادفه التوفيق ويتسع له صدر الزمن، وأن نجاح من نجح من دعاة التجديد، وفشل من فشل منهم، إنما كان خاضعًا لقوانين طبيعة ظاهرة حينًا وخافية أحيانًا، وأن نوع التجديد إن كان صالحًا، وكان مما تسمح به القوانين الطبيعية للأدب، فمعارضة المعارضين لا يكون لها من أثر إلا أن تؤخر زمن الإصلاح، وهو واقع لا محالة يومًا ما، وإذا لم تسمح بها هذه القوانين كانت دعوة التجديد صيحة في فضاء أو خطًّا في ماء.

وبعدُ، فأي أنواع التجديد يتطلبه المجددون؟ وهل من خير الأدب العربي قبوله أو رفضه؟

١  السعدان: نبت من أفضل مراعي الإبل، وفي المثل: (مرعى ولا كالسعدان).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤