الفصل الثالث عشر

ملوك الإسلام والأدب العربي

ظاهرة واضحة — من ظواهر الأدب العربي — أنه أكثر ما نما كان في ظل الملوك والأمراء، وكان هذا شأنه من أول عهد النابغة الذبياني في الجاهلية إلى شوقي في عصرنا.

لقد كان العرب في أول عهدهم يعيشون عيشة قبائل، وكان للقبيلة شيخها، وكان المعنى القبلي متغلِّبًا عليهم، وكان الفرد يعيش لقبيلته ويموت لقبيلته، أما شعوره بشخصيته فضعيف فاتر، من أجل هذا كان شعر الشاعر إنما هو في الإشادة بقبيلته والتشهير بأعدائها، فلما ظهر للعرب ملوك رأينا الشعر بدأ يتحول نحوهم؛ فقصد النابغة الذبياني النعمان بن المنذر، ومدحه وقَبِل الصلة منه، واستطعم الترف والنعيم، فكان أكله وشربه في صحاف الذهب والفضة مما كان يناله من الملوك.

وفاقه الأعشى في ذلك؛ فكان رحالة إلى الملوك يمدحهم وينال عطاءهم، فقصد المناذرة على تخوم العراق، والغساسنة على تخوم الشام، بل وقصد ملوك العجم يمدحهم فيجزلون عطاءه ويملئون يده.

فلما جاء ملوك بني أمية عرفوا قيمة الشعر وأثره في الدعوة لهم، ومكافحة خصومهم، فقرَّبوا الشعراء وأجزلوا لهم العطاء، فكان من شعرائهم: الأخطل، وجرير، والفرزدق، وغيرهم من مشهوري الشعراء، وكان كل من طمع في الملك من مناوئيهم يتخذ الشعراء أداة له في الخصومة والنزال؛ فللخوارج شعراؤهم وللشيعة شعراؤهم، ولعبد الله بن الزبير شعراؤه.

ولا يُستثنى من مشاهير شعراء بني أمية إلا عدد قليل لم يتصل بملك ولم يقبل عطاء؛ مثل: عمر بن أبي ربيعة؛ فقد كان يغنِّي لنفسه وللنساء، واكتفى بجاهه وغناه، وأَنِفَ من المدح والهجاء، ولكن هذا وأمثاله قليلون إذا قيسوا بمن نبغوا في ظل الملوك والأمراء.

فلما جاءت الدولة العباسية أكثر الملوك من عطاياهم فقصدهم الشعراء من كل فجٍّ، فكانت بغداد موطن الخلفاء، وموطن الشعراء معًا، ومن نبغ في مصر أو الشام أو الحجاز لم ينفق شعره ولم يشتهر أمره إلا إذا قصد الملوك والأمراء ببغداد، فإذا عددت نوابغ الشعراء في ذلك العصر؛ أمثال: بشار بن برد، ومسلم بن الوليد، وأبي العتاهية، وأبي نواس، وأبي تمام، والبحتري، وابن الرومي، وابن الجهم، رأيتهم نبغوا في ظل القصور، ورأيت تاريخهم وتاريخ شعرهم جزءًا من تاريخ الخلفاء والأمراء، هؤلاء يقصدون الخلفاء، وهؤلاء يقصدون البرامكة، وهؤلاء يقصدون الأمير أبا دلف، إلى غير ذلك.

وقلَّ أن ترى في هذا العصر شاعرًا لا صلة له بملك أو أمير، حتى العباس بن الأحنف فإنه أَنِفَ عن المدح، وقصر شعره على الغزل، ومع هذا أخذ صلة الرشيد وغيره على حسن تغزُّله ولُطف مقصده في التشبيب بالنساء.

ومن هؤلاء الشعراء من كان يقنع بمدح أي أمير وأي غني، ومنهم من كان يأنف أن يمدح إلا الملوك، فسلم الخاسر يعير مروان بن أبي حفصة بتكففه من هذا ومن ذاك، ويفخر هو بأنه لا يمدح إلا الملوك، فيقول:

من مبلغ مروان عني رسالة
مغلغلة لا تنثني عن لقائكا
حباني أمير المؤمين بنفحة
ثمانين ألفًا طأطأت من حبائكا
ثمانين ألفًا نلت من صلب ماله
ولم تك قسمًا من أولى وأولائكا

ويفتخر بشار بن برد، فيقول:

وإني لنهاض اليدين إلى العلا
قروع لأبواب الهمام المتوج

إلى كثير من أمثال ذلك.

وفي بلاط سيف الدولة بن حمدان في حلب اجتمع عشرات الشعراء، وعلى رأسهم المتنبي وأبو فراس، يشيدون بفضله ويسجِّلون وقائعه، وهو يغدق عليهم من ماله، حتى قال فيه أبو الطيب:

وانعلت أفراسي بنعماك عسجدا

ولما ضعفت الخلافة ببغداد وعلا شأن مصر تحوَّل غرض الشعراء من بغداد إلى مصر، فكانت مصر مقصد المغاربة والشاميين والعراقيين، وكان من شعراء صلاح الدين الأيوبي القاضي الفاضل البيساني، والعماد الأصفهاني، وابن سناء الملك، وكان من شعراء الملك الصالح الأيوبي ابن مطروح، والبهاء زهير.

فلما جاءت دولة المماليك ارتفع شأن مصر بقدر ما ضعف شأن بغداد، فأصبحت مركز الثقافة للعالم الإسلامي، ومجمع العلماء والأدباء والشعراء، ولكن لم يكن حظ الشعراء في عصر المماليك كحظ العلماء؛ لأن ملوك المماليك لم يكونوا يحسنون فهم العربية، ولم يكونوا يتذوَّقون الشعر، فضعف من أجل ذلك الشعر وخمل الشعراء، وعلى العكس من ذلك قوي العلم وعظم شأن رجال الدين.

حتى جاءت نهضة مصر الحديثة، فأخذ الشعر يستعيد رونقه، وكان أكثر النابغين من الشعراء في ظل الملوك والأمراء أيضًا؛ فالسيد علي أبو النصر كان في رعاية البيت العلوي من عهد محمد علي (باشا) إلى عهد توفيق (باشا)، والشيخ علي الليثي كان شاعر الخديو إسماعيل والخديو توفيق ونديمهما، وولد شوقي — كما يقول هو — بباب إسماعيل، وأزهر شعره في ظل الخديو عباس الثاني.

•••

وعلى الجملة، فلو أحصينا شعراء العرب، وعددنا النابغين منهم، وقرأنا تاريخ حياتهم، لوجدنا الجمهرة العظمى منهم قد نبغوا في ظل الملوك والأمراء.

وسبب هذا أن الشعر فن جميل، والفنون الجميلة إنما تنمو وتزهر في القصور؛ كالغناء والموسيقى والنحت والتصوير والخطوط؛ لأنها تعد من الأمور الكمالية، ومن الزينة والترف، وأحسن أنواع الزينة إنما مكانه اللائق به القصور؛ كاللؤلؤة الكبيرة والحجر الكريم النادر والصورة الرائعة والمصحف المخطوط خطًّا بديعًا، فكل هذه وأمثالها لا يقوِّمها حقَّ تقويمها إلا الملوك والأمراء، فإليهم تُهدى، وفي قصورهم تزداد روعة وجمالًا.

ثم كان أن اتجه الشعر العربي أكثر ما اتجه إلى المديح، فلو أحصينا الشعر العربي ووزَّعناه على أبوابه لوجدنا نحو ثلثيه مديحًا، والثلث الآخر تتقسَّمه الأبواب المختلفة الأخرى، ومن أليق بالمديح من الخلفاء والملوك والأمراء؟ إنهم أقدر على المكافأة وأسخى في العطاء، فالشاعر يبدأ يتعلَّم في مدح متوسطي الحال، فإذا نبغ لم يجد موضعًا لشعره لائقًا إلا الملوك، فقصدهم وقصر مديحه عليهم، ومن أجل هذا نرى أنواع الشعر الأخرى تنمو خارج القصور بعيدة عنها؛ كاللزوميات لأبي العلاء المعري، وشعر التصوف؛ مثل شعر عمر بن الفارض، وشعر الغزل الصرف؛ كشعر جميل والعباس بن الأحنف، وأمثال ذلك؛ لأن الشاعر فيها يغنِّي لنفسه، ويرضي عاطفة تجيش بصدره، لا يتطلب من أجل ذلك جزاءًا ولا شكورًا.

•••

هذه ناحية واحدة من نواحي الأدب العربي، وهي ناحية الشعر، وهناك نواحٍ أخرى كان للملوك كبيرَ أثرٍ فيها أيضًا؛ فالكتابة الديوانية إنما ازدهرت كذلك في حماية الملوك والأمراء؛ فعبد الحميد الكاتب أثمرت كتابته في ظل مروان بن محمد، وابن المقفع في ظل الأمير عيسى بن علي، وعمرو بن مسعدة في ظل المأمون، وابن العميد في ظل بني بويه، والقاضي الفاضل في عهد صلاح الدين، والعماد في عهد نور الدين … إلخ.

وذلك أن الكتابة الإنشائية كانت وظيفة حكومية، فكان في العهد الأول لكل أمير كاتب يجيد الكتابة عنه، ويجتهد في تنميق أسلوبه وحسن بيانه، وبطبيعة الحال كان خير الكتَّاب كتَّاب الملوك؛ فهم يُتخيَّرون أدق تخيُّر، وعنهم تصدر أروع الكتب وأبلغ المقالات.

وحظ التأليف من الملوك ليس أقل من حظ الشعر والنثر؛ فالجاحظ يهدي بعض كتبه للمأمون وبعضها للفتح بن خاقان، وأبو الفرج الأصفهاني يهدي كتابه الأغاني لسيف الدولة الحمداني، وكثير من التآليف الأدبية والعلمية والدينية نراها قد أُهديت في تاريخها أو في ديباجتها إلى ملك أو أمير؛ ذلك لأن كثيرًا من هؤلاء الملوك والأمراء كانت لهم مشاركة علمية أو أدبية، فكانوا يقترحون على العلماء والأدباء موضوعات يؤلِّفون فيها، وكثير منهم كان يرى أن تقديم الكتاب إليه يخلِّد ذكره، ويبقي على الدهر اسمه؛ فكتاب علمي أو أدبي يؤلَّف باسمه ورسمه بمثابة مسجد يقيمه، أو مدرسة ينشئها، أو «سبيل» يتقرَّب به إلى الله.

يضاف إلى ذلك سبب آخر هام، وهو أن الثروة لم تكن موزَّعة على حسب المنهج الذي نراه الآن، بل كانت أغلب الثروة في يد الملوك والأمراء، والعلماء ليس لهم إلا قليل من الأوقاف ونحوها، فلم تكن هناك وزارة معارف تجري مرتبات على المدرسين ونحو ذلك، إنما كان العلماء يعيشون على القليل من مال الوقف، وعلى الكثير من عطايا الخلفاء والأمراء؛ فكان ارتباط العلماء بالأمراء أقوى، وحاجتهم إليهم أشد، فالعالم مخيَّر بين أن يعتزل الأمراء ويعيش عيشة كفاف، أو يتطلَّب عيشة الغنى فعليه أن يتصل بالملوك والأمراء؛ يسامرهم ويحدِّثهم ويؤلِّف لهم.

وحاجة الأدباء في ذلك أشد؛ لأن طبيعة أدبهم وحياتهم لا تتفق والزهد، ولأن الأوقاف لا تشملهم؛ فليسوا رجال علم ولا رجال دين، فمنهجهم الوحيد الذي يتطلَّبونه ويقصدونه هو قصور الخلفاء والملوك والأمراء والأغنياء، ففيها عيشة الترف التي تناسب الأدب وتغذِّيه، وفيها يجد سلعته رائجة وعمله مكافأ، ومن أجل هذا الفرق قد نرى علمًا خارج القصور، ولكن قلَّ أن نرى أدبًا نما وازدهر خارج القصور.

وبعد، فاتصال العلم العربي والأدب العربي بالملوك والأمراء اتصال وثيق، وشرح أسبابه ونتائجه لا يمكن أن يتسع له مقال، فلنجتزئ الآن بهذا القدر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤