الفصل الحادي والثلاثون

امتحان الحياة

إذا امتحنا الحياة الإنسانية — سواء كانت حياة فرد أم حياة مجموع — وجدناها تخضع لقانونين أساسيين:

أولهما: أن الإنسان يمثِّل الرواية التي تمثلها كل الكائنات: كينونة، ثم نمو ونضج، ثم تدهور وفناء، مثله في ذلك مثل كل أنواع النبات والحيوان والجماد والنجوم والكواكب.

وهو خاضع كل الخضوع للبيئة التي تحكمه وتحكم قوته، وتحدد قدرته على المقاومة؛ ولا سيما بيئته الطبيعية من جوٍّ وإقليم وما إليهما.

وقد بدأت الحياة في أرضنا متحدة متشابهة، ثم أخذت تتنوَّع في شكلها وحجمها وعقليتها حسب هذه البيئة، إلى أن وصلت في تنوعها إلى الإنسان، والإنسان نفسه أخذ يتنوَّع إلى أسود وأبيض وأصفر، وإلى بدوي ومتحضر، وإلى راقٍ ومنحط، تبعًا لكل ما يحيط به من بيئة، وكلما تقدَّم الزمان زاد التنوع، وكثر التحول، حتى تصير الأرض إلى غايتها في النمو والنضج، ثم تتدهور وتأخذ في البرود شيئًا فشيئًا فيعتري سكانها الفناء، ويأتي الفناء أولًا لأرقى الأصناف؛ للطفها ورقة حالها، ثم لما هو دونها، إلى أن يأتي على آخرها رقيًّا.

هذه هي الطبيعة، وهذه هي الحياة؛ فالشتاء لا محالة يتبع الصيف، والهرم يتبع الشباب، والفساد يلحق الكون، وليس موجودًا على ظهر الأرض اليوم أحد ممن كانوا قبل مئة وخمسين سنة على أكثر تقدير؛ خضوعًا لقانون الفناء.

يخضع جسم الإنسان لقوانين الطبيعة كما يخضع الحجر، فهو خاضع لقوانين المادة والقوة خضوع الحجر لقوانين المادة والقوة، وبفعل الحر والبرد وكل أحداث الجو فيه فعلها في الحجر، وكل ما هناك من فرق أن قوانين جسم الإنسان معقَّدة أكثر من تعقُّد الحجر، لكثرة تركُّبه.

والجمعية البشرية خاضعة لقوانين الطبيعة ككل شيء، حتى ليمكن إرجاع كثير من المعاني إلى هذه القوانين، فاختلاف الأمم في العادات والتقاليد، واختلافهم في الغنى والفقر، وفي الخمول والنشاط، واختلافهم في الزراعة والصناعة والتجارة، واختلافهم في الآداب والفنون، واختلافهم في العقلية، بل واختلافهم في أنواع الحكومات التي تحكمهم، كل هذا يرجع — إلى درجة كبيرة — لحالة الإقليم الطبيعية التي تسيطر على الإنسان وتحكمه حكمًا لا مناص له منه.

ثم هو يخضع خضوعًا تامًّا لقوانين الحياة، كما يخضع كل جسم حي من نبات وحيوان؛ فبناؤه العضوي يخضع لقوانين الجسم ذي الأعضاء، من توزع الوظائف على الأعضاء، والتعاون بينها، ونموها من داخلها، ونموها من جنسها، فبذرة الورد تنمو لتكون شجرة ورد، والطفل ينمو ليكون رجلًا، والجرو ينمو ليكون كلبًا، وهو يخضع ككل الأحياء لقوانين النشوء والارتقاء؛ يخضع لهذه القوانين كلها كفرد وكمجموع.

بل إن عقله يخضع للقوانين خضوع جسمه وأعضائه، فتكوين المخ والأعصاب يجعل أكثر أعمال الإنسان من شعور وغريزة تأتي عن طبيعته، وتأتي ميكانيكية كأعمال الحيوان، والعقل في كثير من شئون الحياة ليس إلا خادمًا مطيعًا للمشاعر والغرائز، وكثير من العادات التي نظنها اختيارية ليست إلا نتيجة طبيعية لحالة المخ والأعصاب والبيئة، بل الذكاء والغباوة ونوع التفكير ونظامه راجع إلى ما منحه الإنسان طبيعيًّا من مجموع عصبي، وما أحاط به من ظروف.

•••

وبجانب هذا القانون الأساسي: «الخضوع لقوانين الطبيعة»، هناك قانون آخر يعارض الأول ويعاكسه، وهو قانون تعديل الإنسان للبيئة واستخدامها في منفعته؛ فالإنسان منذ وُجد على ظهر الأرض يحاول أن يُخضع قوانين الطبيعة لأمره، وبدأ ذلك بمحاولات قليلة ضعيفة كان يفشل في أكثرها، ولكنه تعلَّم من الفشل كما تعلم من النجاح؛ فكان يمتحن سر فشله ويعيد التجارب حتى ينجح، وكلما تقدم به الزمن زاد نجاحه وقوي أمله، وسيكون من بعدنا أكثر إخضاعًا لقوانين الطبيعة وتعديلها منا، حتى كان من أهم مقاييس رقي الأمم وانحطاطها مقدار معرفة استخدامها لقوانين الطبيعة وتحويلها إلى مصلحتها، وما الزراعة والتجارة والصناعة في جميع أشكالها إلا محاربة لقوانين الطبيعة، أو على الأصح تعديل لها، أو بعبارة أدق: تحويل لها في خدمة الإنسان.

على هذا الأساس، وبهذه الفكرة، اتخذ له مسكنًا يحتمي فيه من قوانين الطبيعة وربى الحيوانات، وعالج المأكولات، واتخذ الملبوسات، وخالف بينها صيفًا وشتاء؛ لقد ضايقته قوانين الماء في البحر فاتخذ السفن يُخضع بها البحر لسلطانه، وعرف قوانين الجذب فاستخدمها في مصلحته، وما المستكشفات والمخترعات وجميع صنوف المدنية إلا تحقيق لغرض واحد، هو استخدام قوانين الطبيعة لخدمة الإنسان، بل ليست الوسائل المعنوية من تربية وتهذيب وإصلاح اجتماعي ودين، إلا لتحقيق هذا الغرض، بل ليست قيمة الوسائل الفنية من أدب وموسيقى وحفر وتصوير إلا أن تزيدنا حياة وتمنحنا قوة نستعين بها على مقاومة قوانين الطبيعة والتغلب عليها.

ومقياس التربية الصحيحة والإصلاح الصحيح والدين الصحيح والفن الصحيح، هو مقدار ما فيها من قوة تجعل الإنسان أصلح لمواجهة قوانين الطبيعة، وليس عمل الأطباء ولا الصيدلة بجميع ما فيها من عقاقير إلا ضربًا من ضروب محاربة قوانين للطبيعة، وكلما تقدَّم الطب كان معنى ذلك أن الأطباء استكشفوا القوانين الطبيعية للأمراض، وأخضعوها لمصلحة الإنسان؛ وليست التعاليم الأخلاقية ولا علم النفس إلا من هذا القبيل؛ كلاهما يعالج النفس كما يعالج الطبيب الجسم، وكلاهما يكتشف القوانين الطبيعية ويحاول إخضاعها.

•••

بين هذين القانونين — قانون الخضوع لقوانين الطبيعة وقانون تعديلها — سر الحياة، وبينهما حيرة العلماء، وبينهما اختلاف أنظار الفلاسفة؛ لقد نظر قوم إلى الحياة من جانب القانون الأول وحده فقالوا بالجبر، وأن الإنسان كالريشة في الهواء، وقالوا بالقضاء والقدر، ونظر قوم إلى القانون الثاني وحده فقالوا بحرية الإرادة، وقالوا بسلطة الإنسان، وأنكروا الحظ وأنكروا القضاء والقدر، وتفلسف قوم فنظروا إلى القانونين معًا، وقالوا إن الطبيعة التي تُخضِع بقوانينها الإنسان قد منحت الإنسان نفسه قدرة على محاربتها والوقوف أمامها لمقاومتها.

والحق أن لا حرب ولا خصام، وأن حياة الإنسان نفسها ضرب من ضروب القوانين الطبيعية، وأن هناك التئامًا بين القوانين الطبيعية والإنسان، وأن هناك «وحدة في الوجود» لا أثينية في القانون، وأن الإنسان لا يحارب الطبيعة، ولكن يندمج فيها ويعيش في وفاق معها، وكلما رقي، فهم أسرارها وقوانينها، وإذا فهمها لم يعدلها، ولكنه يعدل نفسه ليوافقها، وليكوِّن هو وهي نغمات متجانسة لا نشوز فيها، وأن النزاع والخصومة بين الإنسان وقوانين الطبيعة سببه الجهل بها، فيكون شأنه كالطفل يلعب بالنار، والغرِّ يتجرَّع السم يظنه سكَّرًا، والمثل الأعلى للإنسان إنسان عرف كل قوانين نفسه ووفق بينهما؛ كالإناء يوفِّق بينه وبين غطائه، والسيف يختار له ما يوافق من غمده؛ وإذن فلا جبر ولا اختيار ولا خصومة ولا نزاع، ولكن أين هو ذلك الإنسان؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤