الفصل الثالث والثلاثون

متاعب الحياة (٢)

حدثتكم في الحديث الماضي عن متاعب الحياة، وأن كثيرًا من هذه المتاعب وهمي، وبعضها حقيقي.

واليوم أذكر لكم أن هذه المتاعب بعضها يكون مصدرها الشخص نفسه، وبعضها يكون مصدرها النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والأخلاقي الذي يحيط به مما له به علاقة.

فأبدأ بذكر المتاعب التي مصدرها الإنسان نفسه؛ فقد نرى ثلاثة أشخاص أو أكثر في ظروف واحدة أو متشابهة؛ من حيث الدخل، ومن حيث الوظيفة، ومن حيث الأسرة ونحو ذلك، وأحدهم سعيد في حياتهم، فرح مسرور مغتبط، يحمد الله على ما هو فيه من خير، والثاني شقي منقبض الصدر، كثير الشكوى متململ مضطرب، والثالث وسط بين هذا وذاك، ليس بسعيد كالأول، ولا شقي كالثاني، يبكي ويضحك، ويحزن ويفرح، ولا فرق بينهم إلا حالتهم الشخصية.

ومن الحكايات الطريفة في ذلك أن دِلوَيْن كانا مربوطين بحبل ومعلقين في بكرة على بئر، ورجل واقف على البئر يستقبل الدلو الملآن، ويفرغه في حوض، ثم ينزله إلى البئر ثانية بواسطة البكر، وفي العادة أن الدلوين يتقابلان في منتصف البئر؛ أحدهما مملوء والآخر فارغ، فلما تقابلا سأل الدلو الفارغ الدلو المملوء: لماذا تبكي؟ فقال: وكيف لا أبكي، وقد ملئت ماء رائقًا، وها أنا أصعد ليفرغني الرجل ثم ينزلني قاع البئر المظلم؛ وأنت لمَ ترقص؟ قال الدلو الفارغ: وكيف لا أرقص وأنا أنزل أمتلئ ماء رائقًا ثم أصعد إلى الجو المضيء المشمس؟

وهكذا، يعمل الدلوان عملًا واحدًا، وأحدهما يبكي منه، والآخر يرقص له، وفي الناس كثير من أمثال هذين الدلوين؛ يعملون عملًا واحدًا وظروفهم واحدة، وبعضهم يبكي، ويضحك بعضهم.

•••

كل إنسان مهما صحَّ جسمه، ومهما صحَّ عقله، فيه نقطة ضعف جسمي، ونقطة ضعف عقلي، وليس هناك إنسان سليم الجسم سليم العقل سلامة تامة، وكلنا نألم من هذا الضعف وهذا المرض إلى حد ما.

والجسم والعقل مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، فالجسم يؤثر في النفس والعقل، والنفس أو العقل يؤثر في الجسم؛ فالإنسان قد يحس قوة في جسمه فيصحُّ مزاجه ويصحُّ تفكيره، وقد يمرض جسمه فيسوء مزاجه ويسوء تفكيره، بل قد يأكل أكلة ثقيلة فيثقل ذهنه، ويأكل أكلة لطيفة فتنبسط نفسه وينبسط تفكيره، وقد تخجل الفتاة فيحمرُّ وجهها، وقد يغضب الرجل فتحمرُّ عيناه، ويكاد ينقدح منها الشرر، وتتوتر أعصابه، وقد يخاف الإنسان فترتعش أطرافه، ويقف شعر رأسه، وآلاف الأمثلة من هذا القبيل، ترينا أثر الجسم في العقل، وأثر النفس في الجسم.

وكثير من متاعب الحياة الشخصية سببه مرضه الجسمي، أو العقلي، وعلى الخصوص هذا المرض العقلي أو النفسي.

وكثير من متاعب الحياة ترجع إلى مزاج الشخص، والمزاج هو أساس ما يصدر عن الإنسان من سلوك، وقد كان الأقدمون يقسمون الأمزجة إلى أربعة: دموي، وبلغمي أو لميفاوي، وصفراوي، وسوداوي، وقد خصصوا لكل مزاج من هذه الأمزجة صفات خاصة؛ فالدمويون يمتازون بحب الحركة، والمرح، والخفة، وسعة الأمل، والطيش، وقلة الصبر؛ والبلغميون يميزهم بطء الحركة والخمول، وقلة الجلد والوداعة، والميل إلى السكون؛ والصفراويون يميزهم الطموح والعناد؛ وحب العمل والشجاعة؛ والسوداويون يميزهم الانقباض، والحزن، والتشاؤم، والتأمل، والتواضع.

وقد قسموهم إلى هذه الأقسام بناء على أن في الجسم سوائل مخلوطة، إذا غلب سائل منها نسب المزاج إليه، والعلم الحديث لا ينكر أقسام الناس إلى هذه الأمزجة، ولكن يعللها بأسباب أخرى، ويرى أحد علماء النفس أن الناس كلهم يمرون في حياتهم بجميع الأمزجة؛ فهم يبدأون دمويين في الطفولة، ثم سوداويين في الشباب، ثم صفراويين في الكهولة، ثم بلغميين في النهاية.

وأيًّا ما كان، فمزاج الإنسان أو كيفية سلوكه في الحياة قد تكون مصدر سعادة له، وقد تكون هي مصدر المتاعب، والمسئول عنها هو الشخص نفسه.

استعرضْ كثيرًا من الأسر، وابحث سبب متاعبها، تجد أن أسرة — مثلًا — سبب متاعبها ما أصيب به الزوج أو الزوجة، أو هما معًا، من حدة المزاج وسرعة الغضب، فهي أو هو يغضب لأتفه الأسباب، يغضب من طبق كسر، أو قرش ضاع، أو طفل عمل عملًا لا يرضاه، أو كلمة نابية صدرت من أحد أفراد الأسرة فيغضب، فإذا غضب خرج عن وعيه وأتى بأعمال جنونية أو شبه جنونية، وكثيرًا ما تسبِّب هذه الأعمال متاعب متسلسلة يصعب حلُّها، وهكذا تصبح الأسرة بين أعمال شاذة ومعالجة لنتائجها السيئة، ولا سبب لهذا كله إلا مزاج شاذ.

فالمرض في أصله مرض نفسي تسبَّبت عنه أعمال مادية شاذة أيضًا، وهذه زوجة أصيبت بالإسراف فهي تستولي على مرتب الزوج في أول الشهر، وتنفقه في كماليات من فستان فخم، أو أدوات زينة، ونحو ذلك، وتظل الأسرة بعد هذا التصرف في عذاب ونزاع وعتاب ولو بقية الشهر، وهذا التبذير إذا دققت النظر فيه وجدته يرجع إلى مرض نفسي، أو إلى مزاج خاص؛ سببه إما غلبة حب الظهور عند الزوجة، أو حب التعالي على مثيلاتها، أو الاعتداد بالجمال، والاعتداد بالنفس، ويضاف إلى ذلك عدم الاكتراث بالنتائج، وعدم النظر في العواقب؛ فهي تنفعل انفعالًا وقتيًّا، وتتصرف حسب هذه الدوافع الوقتية من غير النظر إلى النتائج.

وهذا رجل يعذِّب الأسرة بسقوطه في (كيف) من الكيوف وإدمانه عليه، فهو ينفق على (كيفه) أكثر ماله، ويسطو على ما لزوجته وأولاده من حقوق في هذا المال، كما أنه يفقد بهذا (الكيف) الاستمتاع الصحيح بحياة الأسرة، وأداء واجبها، وما عليه من التزامات نحو زوجته وأولاده، وهذا أيضًا مرض نفسي، يرجع إما إلى وراثة ورثها عن أبيه، أو إلى تقليد لأصحاب صحبهم، أو انهيار أعصاب، حسَّن له بعدها أصدقاء السوء أن ينتشل أعصابه المحطمة (بكيف) من الكيوف فزادتها تحطمًا.

وهذه فتاة نغَّصت على الأسرة حياتها بمزاجها، فهي تريد أن تتزوج من لا يرضاه أهلها، أو هي متسامية جدًّا لا يعجبها كل من تقدم إليها، ورسمت لنفسها حياة خيالية لا يحققها الواقع، أو هي تأثرت بمناظر السينما، فأرادت نوعًا من الحياة غريبًا عن حياتنا الشرقية، وتقاليدنا الاجتماعية، فهي في نزاع دائم مع أسرتها؛ لا تريد ما يريدون ولا يريدون ما تريد، وهذا أيضًا يرجع إلى مزاج الفتاة وسرعة تأثيره بالمحيط من غير نظر في النتائج، ومن غير تفكير عميق فيما يقلَّد وما لا يقلَّد.

وهكذا وهكذا من آلاف الأمثلة التي تدل على أن كثيرًا من متاعب الحياة سببه مرض نفسي أو مزاج شاذ، فيسبب لنفسه ولمن حوله من أسرته، ومن يتصل به متاعب لا تنتهي، وقد يكفي تصرف واحد من هذه التصرفات الشاذة في متاعب سنين تستوجب من الألم المتعاقب المتسلسل ما لا يعد وما لا يحصى.

ولا يمكن التغلب على المتاعب من هذا القبيل إلا إذا عُرف السبب، ثم عولج علاجًا صحيحًا عميقًا لا علاجًا سطحيًّا ظاهرًا، وهذه هي نقطة الصعوبة في الموضوع، فكثير من الأمراض النفسية لا يمكن علاجه إلا إذا عُرف أصله، وعرف تاريخه.

وفي كثير من الأحوال يرجع المرض النفسي إلى حالة الشخص في طفولته، أو حادث قديم حدث له في شخصه، أو حدث في أسرته، وعلى ذلك أمثلة كثيرة؛ فالأبوان اللذان لم يرزقا إلا طفلًا واحدًا، وهما على حالة جيدة من الثراء، يعتادان أن يجيبا الطفل من صغره إلى كل مطالبه، فلا يذوق ألم الحرمان، ولا يتعود شيئًا من التضحية؛ وليس له أخ ولا أخت يعلِّمانه في البيت درس الأخذ والعطاء، والأثرة والإيثار، فينمو عنده الاعتداد بشخصه، وعدم النظر إلى شيء إلا إلى نفسه، فمالُ الأبوين له ولملذاته، وصحتُهما ومتاعبهما لراحته، وينمو وهو مدلل، يغضب أشد الغضب إذا لم تحقق رغبته؛ هكذا هو في بيته وخارج بيته.

مثل هذا الشاب يكون مصدرًا لمتاعب لا تنتهي؛ متاعب في مدرسته عند تعلمه، ومتاعب في وظيفته إذا وُظِّف، ومتاعب في زواجه إذا تزوج، فإذا أردنا أن نعرف السبب في متاعبه لا يمكن أن يتضح إلا بالرجوع إلى حالته في الطفولة — كما رأينا، وإذا أردنا العلاج فلا يصح علاج إلا بعد معرفة سبب المرض، وهكذا لا يمكننا أن نعرف سبب المتاعب التي تصدر من بخل البخيل، وإسراف المسرف، وغضب الغضوب، وخوف الجبان، والوقوع في مصايب (الكيوف)، ونحو ذلك، إلا بالرجوع إلى أساسها الأول: كيف نشأ الطفل في بيته، وما هي الظروف التي أحاطت به، وما أصل هذه العادات السيئة، وكيف نمت، وإلامَ وصلت، وفي ضوء هذا كله يمكن معرفة العلاج إذا حسُنت النية، وصدقت الإرادة، أما غير ذلك فإنما يكون علاجًا كما يعالَج الصداع بحبة من الأسبرين من غير أن يُعرف السبب الحقيقي للصداع؛ فقد يكون المعدة، وقد يكون الأمعاء، وقد يكون الأسنان، وهذا ما جعل قول سقراط باقيًا على الدهر وهو: «اعرف نفسك».

فمن أراد أن يعالج نفسه علاجًا حقيقيًّا ليخفف عنه وعمن حوله ما يصدر عنه من متاعب، فليعرف نفسه أولًا، في أي نقطة هو ضعيف، وبأي مرض هو مريض، ثم يبدأ بالعلاج، وليس هذا بالأمر الهين، فمعرفة الناس لا بد لها من كشف ستائر تحيط بها، والدخول منها إلى قاعة مظلمة لا بد من تسليط الضوء عليها، وكثيرًا ما يعوقه غرور الإنسان واعتقاده الكمال في نفسه، أو يعوقه جبنه وعدم جرأته على كشف هذه الستائر عن الوصول إلى حقيقة المعرفة.

ولكن على كل حال، هذا هو العلاج الوحيد للتغلب على متاعب الحياة التي مصدرها مزاج الشخص، أو حالته النفسية المريضة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤