الفصل الرابع

التجديد في الأدب (الموضوع)

ومن أوضح الظواهر أن الجمهرة العظمى من المتعلِّمين الذين درسوا أدبًا عربيًّا وأدبًا أجنبيًّا يعكفون على الأدب الأجنبي، يتذوَّقونه ويُكثِرون من مطالعته، في جدِّهم إن شاءوا الجد، وفي لهوهم إن شاءوا اللهو، وهم إن قرأوا في الأدب العربي ففي القليل النادر، وإن فعلوا لم يُطيلوا ولم يتعمَّقوا، وقلَّ أن يدرسوا كتابًا دراسة جيدة، إنما أكبر همهم أن يقلبوا صفحات الكتاب ليقع نظرهم على أبيات من الشعر يستملحونها، أو قصة طريفة يتفكَّهون بها، ومكتبتهم — على قلتها — تمثِّل ميلهم؛ فالكتب الإنجليزية أو الفرنسية فيها غالبة، والكتب العربية قليلة نادرة، ذلك — ولا شك — حال أغلب المثقَّفين ثقافة عصرية.

ويذهب بعض الباحثين في تعليل هذه الظاهرة إلى أن السبب يرجع إلى فساد تعليم اللغة العربية وآدابها في المدارس؛ فإن أساتذتها لا يحبِّبون إلى الطلاب الأدب العربي، ولا يصلون به إلى نفوسهم، وإنما هي أمثلة محدودة تتكرَّر عامًا بعد عام، ونماذج من الشعر والنثر تُعرَض مرة بعد مرة، ولا غرض من دراستها إلا أن يذكرها الطلبة عند الامتحان فيؤدُّوها كما تُليَت عليهم، ثم تذهب بذهاب الامتحان؛ لأنهم قد تجرَّعوها على مضض، فهم يفرحون بنسيانها فرح المريض — وقد شفي — بالخلاص من دواء مرِّ المذاق.

قد يكون هذا سببًا صحيحًا، ولكنه فيما أرى ليس بالسبب الجوهري؛ فإن بعض اللغات الأجنبية التي تدرس بيننا ليست دراستها بأحسن حالًا من دراسة اللغة العربية، ومع هذا فالطلبة يسيغون أدبها، ويتذوَّقون كتبها بما لا يظفر ببعضه الأدب العربي.

أهم سبب عندي يرجع إلى موقف الأدبين؛ الأدب العربي والأدب الأوربي؛ ذلك أن كل أدب أوربي له قديم وحديث، والأدب الحديث هو الذي يناسب جمهور المتعلِّمين وعامة الشعب؛ لأنه في الغالب يعرض لما يشعرون به فيعبِّر عنه التعبير الفني؛ فالأديب المحدث يرى ظاهرة اجتماعية فيضعها في قصة، أو منظرًا جميلًا فيضعه في قصيدة، أو معنى أثارته في نفوس قومه أحداث سياسية أو اقتصادية فيضعه في مقالة أو كتاب، فيُقبِل الجمهور على قراءة ذلك ويعجبون به، وسبب الإعجاب أن الأديب شعر بما يشعر به الجمهور، واستطاع أن يعبِّر عنه التعبير الفني الذي لا يستطيعه الجمهور.

أما الأدب الأوربي القديم، فإنما يناسب خاصة المتعلِّمين؛ لأنه يتطلَّب دراسة لغوية وأدبية عميقة، كما يتطلب — لتفوقه — أن يلمَّ المتعلِّم بشيء كثير من المسائل التاريخية والاجتماعية التي أحاطت بالأديب وبالقطعة الفنية؛ حتى يستطيع أن يفهمها فهمًا صحيحًا، وليس ذلك في مُكْنة السواد الأعظم من الناس؛ فالذين يفهمون الإلياذة والأوديسة وخطب ديمستين قليل بالنسبة إلى الذين يقرءون الأدب الحديث ويفهمونه، وكذلك الذين يفهمون الأدب الإنجليزي أو الفرنسي في القرون الوسطى ويتذوَّقونه هم الخاصة من الأدباء، وإن قرأ الجمهور شيئًا من الأدب القديم فإنما يقرأه مترجمًا إلى اللغة الحديثة، أو معروضًا في شكل جديد قد ذٌلِّلت فيه كل الصعوبات التي يحتمل أن يلقاها القارئ العادي، أما الأدب الإنجليزي أو الفرنسي الحديث، فيكاد يكون من حظِّ الإنجليز أو الفرنسيين جميعًا.

وسبب ذلك أن الأدب هو نقد الحياة في أسلوب فني، وإذا كانت كل أمة تفهم حياتها الحاضرة فهمًا ما — وإن اختلفوا في مقدار الفهم — كان الأدب الحديث أقرب إلى فهمهم وأيسر متناولًا لجمهورهم، وإذا كان الأدب القديم وصفًا لحياة قديمة لا يستطيع فهمها فهمًا صحيحًا إلا من عرف بيئتها وتاريخها كان ذلك الأدب أدب الخاصة.

•••

وبعدُ، فالأدب العربي أدب قديم لا حديث له، وإن شئت تعبيرًا دقيقًا فقل إنه أدب قديم لم يستكمل حديثه؛ لذلك كان الأدب العربي أدب الخاصة لا أدب الجمهور.

لا يستطيع القارئ أن يفهم الأدب العربي القديم إلا بفهم دقيق للتاريخ، وفهم بالغ للظروف الاجتماعية التي نشأ فيها الأدب، ومعرفة واسعة بالجغرافيا، وعلم تام بقوانين الصرف المعقَّدة — كأنها قوانين اللوغارتمات — ليعرف كيف يبحث في معاجم اللغة العربية عن كلمة غريبة، وليس يصبر على ذلك كله إلا المجاهدون الصابرون، وقليلٌ ما هم.

يريد سواد المتعلِّمين أن يغذوا مشاعرهم من حبٍّ يحلَّل تحليلًا دقيقًا، أو إعجابٍ بمنظرٍ طبيعي مَلَكَ عليهم نفوسهم، فأرادوا أن يصوَّر هذا الإعجاب في قطعة فنية، أو تبرم بأسر ورق، فهم يريدون أدبًا يتغنَّى بالحرية، ويحفِّز النفوس إلى تحقيقها، أو ألمٍ من سوء حالة اجتماعية فهم يبتغون قصة تمثلها، أو قصيدة تصفها، أو كتابًا يحلِّلها، أو نحو ذلك من ضروب المشاعر، فلا يجدها في الأدب العربي الحديث إلا قليلًا نادرًا، فيضطر إلى الأدب الأجنبي يقرؤه ويتغنَّى به ويستمرئه.

وهو على الرغم من أن ذلك الأدب ليس بلغته، ولا يصف مشاعر تمثل بالدقة مشاعره، ولا يحلل حالات اجتماعية تشبه مشابهة تامة حالاته، على الرغم من ذلك كله مضطرٌ أن يقرأه؛ إذ ليس عنده من أدبه ما يكفي لغذائه، وفي الأدب الغربي كل صنوف الغذاء على اختلاف الأنواع وعلى اختلاف الأساليب؛ إن شاء سهلًا وجد السهل، أو صعبًا وجد الصعب، أو بين ذلك وجد بين ذلك، وإذا غمض عليه لفظ استطاع أن يكشف عنه في المعاجم من أول درس تعلَّمه؛ فكيف لا يهمل بعد ذلك الأدب العربي ويعكف على الأدب الغربي؟

إن شئت فوازن بين ما يدرسه الطالب في المدارس الثانوية أو العالية في الأدبين، فهو في الأدب الغربي يدرس شكسبير وأمثاله، فيجد موضوعًا شيِّقًا يمثل حالة من الحالات التي تتصل بنفسه، وتمس حياته الاجتماعية بقدر ما، قد صيغت في قالب فني رشيق، فخرج من الدرس يحبُّها ويحبُّ موضوعها، أما في الأدب العربي، فيدرس مختارات من جرير والفرزدق والأخطل، أو مختارات من مقامات البديع والحريرى أو نحو ذلك، وهذه كلها لا تمثِّل ناحية اجتماعية يحياها أو ما يقرب منها، ولا فكرة عميقة حلِّلت تحليلًا واسعًا؛ لذلك يخرج منها وهو لا يحبُّها، أو على الأقل يكون على الحياد منها.

لست أنكر أن في جرير وأمثاله، والمقامات وأمثالها، وفي الأدب العربي على العموم، جمالًا وفنًّا وإبداعًا، ولكن ذلك لا يدركه إلا الخاصة الذين مرنوا طويلًا على الدرس، وبذلوا الجهد في تدريب أذواقهم على تقويمه واستساغته، وليس ذلك في استطاعة كل الطلبة، ولا أكثرهم.

فإن أنت نظرت إلى الأدب العربي الحديث فماذا ترى؟ ترى كثيرًا من الأدب الغربي قد تُرجِم إلى العربية، وليس من الحق أن يعدَّ هذا أدبًا عربيًّا في جوهره وموضوعه؛ إذ ليس له من العربية إلا لغة ملتوية على النمط الغربي، وترى نتاجًا مبتكرًا قليلًا، وأكثر هذا القليل مقالات وفصول جُمعت بعد ذلك وسمِّيت كتبًا مجازًا، ولا تربطها وحدة غالبًا، والبقية الباقية من القليل هي التي يصحُّ أن تسمَّى أدبًا عربيًّا حديثًا لم يكتمل.

ذلك في نظري أكبر سبب في انصراف جمهور المتعلِّمين عن الأدب العربي، فإن أُريدَ إقبالهم عليه فلا بدَّ من إنتاجٍ حديثٍ وافرٍ يغذي كل مشاعر الحياة كما يغذي العقول، وليس من الحق أن ندعو السواد الأعظم إلى الأدب العربي قبل أن نستكمله، أو على الأقل نُوجد فيه ما يُسدُّ رمقهم، وإن أردنا الإنصاف فواجب أن ندعو الدعوتين: دعوة الأدباء في العربية إلى أن ينتجوا، ودعوة القراء إلى أن يقرءوا.

ولن ينجح الأدباء إذا اقتصروا على أن يحتذوا حذو القدماء شكلًا وموضوعًا دون أن يمسوا حياتهم الواقعية وبيئتهم الاجتماعية ومشاعرهم النفسية؛ فالأدب متغير، خاضع لقانون النشوء والارتقاء، فإذا تقيَّد أدباؤنا بالموضوعات التي عالجها القدماء، وبالأشكال التي صُبَّ فيها الأدب القديم عُدَّ أدبهم قديمًا لا حديثًا، ولم يصلح علاجًا لما نَصِفُ من أمراض.

مثال ذلك: أنَّا إذا وضعنا أيدينا على مختارات البارودي — وهو كتاب ضخم في أربعة أجزاء، اختار فيها الثلاثين شاعرًا من شعراء العصر العباسي — وجدناه قد اختار نحو أربعين ألف بيت؛ منها أربعة وعشرون ألفًا في المديح، وإذا أضفت الهجاء والرثاء إلى المديح وجدت جميع ذلك يقرب من ثلاثين ألفًا، والربع الباقي في الأدب والصفات والزهد والنسيب!

فترى من هذا إفراط الأدباء القدماء في وصف العواطف الشخصية؛ من كرم ورثاء وهجاء، وتقصيرهم في أبواب كثيرة؛ أهمها وصف المناظر الطبيعية، وتحليل الانفعالات النفسية، وغير ذلك من ضروب الأدب.

وهذا التقصير وقع في الأدب الأوربي القديم كما وقع في الأدب العربي؛ فلو قرأنا شعر هوميروس وفرجيل ودانتي، وجدنا فيه قليلًا من وصف جمال الطبيعة؛ من جبال وبحار ونجوم، على حين أن الشعر الأوربي الحديث قد ملئ بهذا الضرب من القول، وأبدع الشعراء فيه إبداعًا لا حدَّ له؛ فأفاضوا في القول في السماء ونجومها، والأشجار وازدهارها وذبولها، والبحار والصحراء وغيرها، ووجدوا في ذلك كله كنوزًا استمدوا منها شعرهم، وكان تقصير القدماء وإجادة المحدثين في ذلك قانونًا طبيعيًّا؛ لأن الإعجاب بجمال الطبيعة نتيجة رقي كبير في الذوق، فإذا قصر أدباؤنا المحدثون في هذا — كما هو حادث الآن — وتابعوا الأقدمين في المديح والهجاء والغزل فقط، ظلَّ نقصُ الأدب العربي على ما هو عليه.

كذلك يعيش الشرقي عيشة خاصة غير التي كان يعيشها آباؤه؛ سفرت المرأة بعد حجابها، وتغيَّر في العشرين سنة الأخيرة كلُّ نظم الحياة تقريبًا؛ من معيشة بيئية، ونظم اجتماعية، وحياة سياسية، وأصبح كل باب من هذه الأبواب يتطلَّب قصصًا جديدًا وشعرًا جديدًا وكتبًا أدبية جديدة، فإن نظر أدباؤنا إلى دواوين الشعراء الأقدمين ولم ينظروا إلى دواوين الطبيعة وصحائف العالم الذي فيه يعيشون فلا أمل في شعرهم ولا نثرهم، وظلَّ المتعلِّم منصرفًا عنهم إلى الأدب الغربي على الرغم منهم.

ونوع آخر من الأدب يصحُّ أن يستغله الأدباء، وهو أن يعمدوا إلى الأدب القديم، وأبطال الشرق، والأحداث التاريخية العربية، فيجعلوا منها موضوعًا لدراستهم، ثم يلقوا عليه أضواءً ممَّا وصل إليه العلم الحديث، والأدب الحديث، وعلم النفس الحديث، فيترجموه إلى لغة العصر، ويبرزوه في شكل يناسب ذوق الجمهور، ويحبِّب إليهم قديمهم.

إنهم إن فعلوا ذلك استطاع من لا يعرف لغة أجنبية أن يجد غذاءه في الأدب العربي، واستطاع أن يكون إنسانًا مثقفًا تكفيه ثقافته، واستطاع من يعرف لغة أجنبية أن يباهي بأدب قومه كما تباهي كل أمة بأدبها، وفي ذلك اعتداد بشخصيتها العربية الشرقية لا يستهان به.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤