الفصل السابع

الأدب فن جميل

لعله من الخطأ المزمن دراستنا للأدب على أنه فنٌّ مستقل، فإن ربطناه بغيره فإنما نربطه بقواعد النحو والصرف واللغة، على أنها وسائل لا بد منها للأدب والأديب، مع أن هناك رابطة أوثق، واتصالًا أحكم ما يزال أكثرنا غافلًا عنه للآن، وهذه الرابطة إن دُرِست دراسة دقيقة واسعة غيَّرت نظرنا للأدب وتقويمه، وأفادتنا أكبر فائدة في النقد الأدبي؛ وأعني بهذا أن تدرس الأدب على أنه فن من الفنون الجميلة؛ كالنقش والتصوير والموسيقى، يخضع للقوانين العامة التي استكشفها علم الجمال، ويشترك فيها مع كل هذه الفنون، كما يخضع النبات والحيوان والإنسان للقوانين العامة لعلم الحياة، وكما تخضع كل المواد على اختلاف أنواعها لقوانين علمي الطبيعة والكيمياء.

فهناك فرع من فروع الفلسفة هو «علم الجمال» أخذ يتساءل: ما هو الجميل، وما الشروط التي تتوافر في الشيء حتى يعد جميلًا؟ وأجاب عن ذلك إجابات عديدة، ووضع القواعد المختلفة التي تنطبق على كل جميل، وهذه الأسئلة والإجابات والقواعد يمكن تطبيقها على الأدب كل الانطباق؛ لأن الأدب ليس له قيمة إلا في جماله؛ جمال لفظه، وجمال معانيه، وجمال عواطفه، وجمال خياله، فإن هو عرى عن هذا الجمال لم يعد أدبًا.

ومن أجل ذلك كان الأدب يخاطب العاطفة لا العقل وحده، كما هو الشأن في الموسيقى والتصوير والنقش، إنما الذي يخاطب العقل وحده هو العلم لا الفن؛ فالقصيدة من الشعر، والوردة في غصنهان والقمر في سمائه، والجبل المعمَّم بالثلج، والتمثال المُحكَم الأنيق، والبناء الشامخ المشيد، والقطعة الموسيقية الجيدة التوقيع، ووجه المرأة الحسناء، والرواية الحسنة، والقصة الحلوة؛ كلها نسمِّيه جميلًا، وكلها يخضع لقوانين الجمال، فإن اختلفتْ في شيء فاختلافٌ في التفاصيل لا في الأسس.

فإن نحن نظرنا إلى الأدب على أنه أحد الفنون الجميلة كان هذا المنظر خليقًا أن يصحِّح نظرنا؛ لأن ما نضعه من قواعد الأدب الأساسية يمكن امتحانه بتطبيقه على الموسيقى والنقش والتصوير؛ حتى نتبيَّن صحته من فساده، أمَّا إن استمر الأدباء في نظرتهم إلى الأدب مستقلًا، وقعوا في خطأ قصور النظر، وكان مثلهم مثل من بنى قواعد كلية بعد مشاهدته جزئيًّا واحدًا، أو بعد أن استقرأ استقراءً ناقصًا.

وشيء آخر، وهو أن نظرنا إلى الأدب في ضوء الفنون الجميلة الأخرى يوسِّع نظرنا إلى مناحٍ نعجز عن إدراكها إذا نظرنا إلى الأدب وحده؛ فقوانين الجمال واحدة مهما اختلفت مادتها الأولية، فقد تكون المادة حجرًا فتكون تمثالًا، أو لونًا فيكون تصويرًا، أو صوتًا فيكون موسيقى، أو يكون شعرًا أو نثرًا، وقد ندرك الجمال بأعيننا، وقد ندركه بآذاننا، ولكن مع كل هذه الاختلافات هناك صلة مشتركة صار بها الجميل جميلًا، وإذا عُدِمتْ عُدِم الجمال، وهذه الصلة تكون في الأدب فيكون أدبًا جميلًا، وفي الموسيقي فتكون جميلة، وفي الصور فتكون جميلة، وعلى مقدار تحقُّق هذه الصلة يكون مقدار الجمال؛ سواء كانت هذه الصلة في الشيء الخارجي وحده — كما يقول بعضهم — أو في الشخص الرائي والسامع وفي المرئي والمسموع معًا — كما يقول آخرون، ولكنها على كل حال قدر مشترك بين جميع فروع الفن.

ونظرة واحدة ترينا الارتباط المتين بين فروع الفن المختلفة؛ فالشعر — مثلًا — ليس إلا تصويرًا ناطقًا، والتصوير ليس إلا شعرًا صامتًا، والشعر والموسيقى أشد ارتباطًا؛ فأوزان الشعر أوزان موسيقية تختلف في الحركات والسكنات والطول والقصر كما هو الشأن في الموسيقى، ونلاحظ في الموسيقى أن النغمة الواحدة إذا وقعت على «الكمنجة» ثم وقعت بعد على «البيانو» كانت النغمتان مختلفتين كيفية ومختلفتين تأثيرًا، ولكل منهما طعم غير طعم الأخرى، وهذا يقابله في الشعر القافية؛ فالقصيدة على قافية قد يكون لها أثر غير القصيدة إذا قيلت على قافية أخرى، وهكذا.

بل هناك دليل أقوى من هذا، وهو أن مرجع كل الفنون من أدب وتصوير وموسيقى إلى «الذوق»، وهذا الذوق خاضع لقوانين النشوء والارتقاء والرقي والانحطاط في الفنون كلها؛ فالطفل قبل أن يشعر بلذة من جمال شكل أو جمال حركة تأخذ ببصره الألوان الزاهية والصور البديعة، ومن أخذ بحظ قليل من المدنية يميل إلى الألوان القوية؛ كالأحمر القاني والأصفر الفاقع، ويعجبه من الثياب الألوان الكثيرة الصارخة.

أما المتمدنون فتعجبهم الألوان الخفيفة المتناسقة، الخافتة الهادئة، وكذلك الشأن في الأدب؛ فالقطعة الأدبية التي تعجب الشعب المنحط لا تعجب الأديب الراقي، من ناحية الألفاظ ومن ناحية المعاني، وهذا — من غير شك — يرجع إلى اختلاف الذوق وتدرُّجه في الرقي، بل الأديب نفسه إذا رقي استحسن ما لم يكن يستحسن، واستهجن ما لم يكن يستهجن؛ تبعًا لرقي ذوقه، وإذا كان الذوق يرقى وينحط فهو خاضع لنظام وقوانين، يمكن دراستها وإن لم تستكشف جميعها الآن، وهذه القوانين يمكن تطبيقها على الأدب كما يمكن تطبيقها على الموسيقى والتصوير وكل فن جميل.

بل كل الفنون مرجعها عند الفنان والسامع والرائي إلى الشعور بالجمال، والفنان يشعر بالجمال، ثم يتحول الشعور عنده إلى إنتاج، وما ينتجه يثير في نفس السامعين والناظرين شعورًا بالجمال؛ فالمنظر الجميل يثير عند الفنان شعورًا بالجمال فيحوله الشاعرُ شعرًا، والمصوِّرُ صورة، والموسيقيُّ موسيقى، وهي كلها تثير الشعور بالجمال عند من رآها أو سمعها، ولا فرق بين الفنان وغيره إلا أن الفنان قابل فاعل معًا، وغيره قابل فقط.

فجميع الفنون تتفق في الأصل، ولا تختلف إلا في الشكل، وكل الفروق بينها أن هذا يصوغ فنَّه من كلمات، وهذا من نغمات، وذاك من ألوان؛ لأن هذا يعتمد على قلمه، والآخر يعتمد على عوده أو قانونه، والثالث يعتمد على ريشته، إلى آخر ما هنالك من فروق لا تمسُّ الأصل.

•••

إن كان ذلك كذلك كان من الخطأ البيِّن أن ندرس الأدب والبلاغة والنقد الأدبي دراسة مستقلة عن دراسة قواعد الجمال في الفنون الجميلة عامة، بل يجب أن ندرسها في ضوء جميعها، ويقيني أن الدراسة على هذا النحو الذي أقترحه تعدِّل نظرنا في الأدب وقواعده، وتكشف لنا عمَّا وقعنا فيه من ضروب النقص؛ فنظرُنا إلى المجاز والاستعارة والكناية يتغيَّر إذا نظرنا إليها في ضوء التصوير الرمزي، والموسيقى؛ من محسنات وبحور الشعر، تصحَّح بدراسة حركات الموسيقى، وهكذا.

ولأضرب لذلك مثلًا يوضح ما أريد: خذ — مثلًا — المبالغة، فإننا ندرسها في الأدب مستقلة، ويعرضون لها في البلاغة بنظرات ضيقة، فإن هم ألقوا نظرة على الفنون الجميلة جميعها رأوا أن المبالغة لا بدَّ منها في الفنون بقدر ما توضح الحقائق، وأن الفنان إن اقتصر على تقليد الطبيعة لم يكن لفنه قيمة، فهو يبالغ في الطبيعة لتوضيحها؛ فالمصور يبالغ في بعض أجزاء الصورة لمعنى يوضِّحه، والشاعر يكبر حجم الرجل ليشعر بعظمته، وواضع القصة أو الرواية يبالغ في نواحي أشخاص الرواية حتى تدلَّ بوضوح على المعاني التي يريدها، والخطيب يبالغ في المعنى الذي يريده حتى يثير إلى أقصى حدٍّ عواطف من يخطبهم، وهكذا؛ فلو نظرنا إلى المبالغة في ضوء الشعر والرواية والخطابة والتصوير والموسيقى أمكننا أن نستخلص من ذلك كله قواعد تفوق بمراحل ما استنبطناه من قواعد المبالغة حين عرضنا للأدب وحده.

كذلك نراهم — مثلًا — يعرضون عند الكلام في النقد الأدبي لعلاقة الأدب بالأخلاق، وهل يجب أن يخضع الأدب للأخلاق أو أن الأدب للأدب، وأن القطعة الأدبية قد تكون بالغة أقصى السمو ولو لم تتفق والأخلاق؟ ومن رأيي أن هذه المسألة إذا لم تدرس في حدود الأدب وحده بل درست في دائرة الفن جميعه؛ من موسيقى وتصوير ونحت وتماثيل، اتضح وجه الحق فيها أكثر من وضوحه عند قصر نظرنا على الأدب وحده.

لقد تعددت دراسات الأدب، وسلك الباحثون فيه سبلًا كثيرة؛ فقومٌ درسوا الأدب دراسة تاريخية، فدرسوه على أنه ظل للحياة الاجتماعية، وقالوا لا يمكن أن نفهم الأدب حق الفهم إلا إذا درسنا البيئة التي أنتجته، فلسنا نستطيع أن نفهم المتنبي — مثلًا — إلا إذا فهمنا الأوساط التي قيلت فيها قصائده؛ ففهمنا حال مصر إذ ذاك، وما قال فيها وفي ملوكها، وفهمنا حال العراق، وما قال فيها من قصائد، وهكذا.

ودرس آخرون الأدب من ناحية حياة الأديب، ولاحظوا في ذلك أن نفس الأديب هي المنبع الذي صدرت عنه القطعة الفنية، فيجب أن تدرس هذه النفس ليفهم ما يصدر عنها؛ فالكتاب الذي أُلِّف، والقصيدة التي نُظِمت، لا يمكن فهمها حق الفهم إلا إذا فُهمت نفسية القائل.

واتجه آخرون اتجاهًا غير هذا وذاك، فقالوا يجب أن ندرس الأدب من حيث هو، لا من البيئة ولا من حياة الأديب، وأن نقوِّم الآثار الأدبية بقطع النظر عن بيئتها وقائلها، وأن نجيب عن الأسئلة الآتية: ما منزلة القطعة الفنية؟ وما موضع الحسن فيها؟ وما الذي جعلها أثرًا فنيًّا على مرِّ الزمان؟

والذي أدعو إليه في مقالي الآن شيء غير هذا كله، وهو أن ندرس الأدب من حيث هو فن جميل، ومن حيث هو خاضع لقوانين علم الجمال، ومن حيث الارتباط الشديد بينه وبين سائر الفنون الجميلة.

وهذا يتطلب أن عالم الأدب ينبغي — أولًا — أن يدرس علم الجمال، وما وُضِع له من قواعد، وما أثيرت حوله من مسائل، وإذا كان علم الجمال فرعًا من فروع الفلسفة فيجب أن يدرس ما يتصل به من فروع الفلسفة؛ وخاصة علم النفس، وهو إذا درس القواعد العامة لعلم الجمال استطاع بعدُ أن يدرس القواعد الخاصة التي يمتاز بها كل فن جميل؛ فالموسيقى تمتاز بأشياء لأن عمادها الصوت، والتصوير يمتاز بأشياء لأن عماده اللون، والأدب يمتاز بأشياء لأن عماده اللفظ والمعاني، ولكن هذه الأشياء التفصيلية لا تُفهم حق الفهم إلا في ضوء النظريات العامة التي تشترك فيها كل الفنون الجميلة؛ ذلك أن الفنون الجميلة جميعها ترتبط بالعاطفة، وتعتمد عليها، وتوضع من أجلها، وتقوم بها، فما لم تدرس العاطفة وحاجتها إلى الجمال وغذاؤها بالجمال لا يمكن أن يُفهم أي فن ومنه الأدب.

بهذه الطريقة وحدها يمكننا أن نفهم الأدب ونقدره تقديرًا صحيحًا، وبذلك نستطيع أن نضبط النقد الأدبي، ونعالج ما هو فيه من فوضى لا تستند إلى أساس، ويذهب كل ناقد مذهبه، ويركب رأسه من غير أن يتحدَّد بحدود تقيده وأسس يلتزمها ويسير عليها.

وأنا على يقين أنَّا إذا سرنا على هذا النمط تغيَّرت وجوه دراستنا التقليدية التي سرنا عليها إلى الآن في البيان والبديع والنقد الأدبي، وتجلَّت لنا أمور في منتهى الخطورة، ورأينا أنفسنا نمسك بالقلم نحذف كثيرًا من أمور السخف أوقعتنا فيها النظرة الجزئية للأدب، ورأينا أنفسنا نؤسِّس علمًا جديدًا ومذهبًا جديدًا ونظريات جديدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤