الفصل الثامن

أغنية

تعجبني أحيانًا بعض الأغاني الشعبية؛ إذ أراها تمثِّل روح الشعب وآماله وآلامه، وأراها أصدق في وصف الحياة المتنوعة مما يفعل أدباء اليوم؛ فكل أغانيهم لا تمثِّل إلا عاطفة الحب البائس، وما يتبعه من ألم ممض، ولوعة مضنية، أما الأغاني الشعبية ففيها الحب البائس والحب الباسم، وفيها التغنِّي بالبطولة والشكوى من الظلم، وأحيانًا فيها فلسفة اجتماعية كالأغنية التي سأعرضها اليوم، ومرماها تصوير الهيئة الاجتماعية في صورة الجسم الواحد تتعاون أعضاؤه لتحقيق المصلحة العامة، وهو معنى عرض له الفلاسفة والأدباء في الأمم المختلفة قديمًا وحديثًا؛ فمثَّله اليونان مرة بإضراب أعضاء الجسم:

قال القلب: لماذا أوزِّع الدم على سائر الأعضاء ولا ينالني أنا منه إلا قطرات؟ فلأضرب.

وقالت المعدة: ولماذا أهضم أنا أيضًا الأكل كله وليس يصيبني منه إلا قليل، أفما كان الأولى ألا أهضم إلى ما ينالني؟ فلأضرب.

وقالت الأسنان: وما لي أنا كالطاحون تطحن دائمًا ولا ينالني من الغذاء إلا قدر السمسمة؟ فلأضرب.

وقالت الرِّجْل: وأنا دائبة السعي يمينًا وشمالًا وليلًا ونهارًا في جمع العيش وتحصيل القوت، ثم حظِّي من كل هذا فتات الموائد؟ فلأضرب.

وقال كل عضو هذا القول أو شبهه، فأضربت الأعضاء جميعًا؛ فلا الرِّجْل تسعى، ولا اليد تحمل الغذاء إلى الفم، ولا الأسنان تمضغ، ولا المعدة تهضم، ولا القلب يوزع.

ثم بعد قليل شعرت المعدة بالجوع، ولم تستطع الرجل المشي، ولا اليد الحركة، وأدركت كلها أنها سائرة إلى الفناء السريع، فاجتمعت على عجل وقررت فض الإضراب، إذا رأت أن كل عضو يعمل لنفسه ولغيره، وأن غيره يعمل لنفسه ولغيره، فالغرم بالغنم والربح على قدر الخسارة.

ولحظ هذا المعنى شعراء العرب، فقال أبو العلاء المعري فيه:

المرء كالنار تبدو عند مسقطها
صغيرة ثم تخبو حين تحتدم
والناس للناس من بدوٍ وحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
وكل عضوٍ لأمر ما يمارسه
لا مشي للكفِّ بل تمشي بك القدم

أما هذه الأغنية التي أشرت إليها فتمثِّل هذا المعنى من ناحية أخرى ظريفة، وهي ارتباط الصنَّاع وأرباب الأموال برباط وثيق، لا يمكن أن يستغني أحد عن أحد، وها هي بعد حذف ديباجتها:

«وحصاني في الخزانة، والخزانة «عاوزة» سلِّم، والسلِّم عند النجَّار، والنجَّار عاوز مسمار، والمسمار عند الحدَّاد، والحدَّاد عاوز بيضة، والبيضة في بطن الفرخة، والفرخة عاوزة قمحة، والقمحة عند القمَّاح، والقمَّاح عاوز فلوس، والفلوس عند الصرِّيف، والصرِّيف عاوز عصافير، والعصافير في الجنَّة، والجنَّة عاوزة حنَّا» … إلخ.

أغنية لطيفة حقًّا، لا يزال أطفالنا إلى الآن يتغنَّون بها بتوقيعهم الظريف، وصوتهم الشجي، وهم إذ ينشدونها لم يدروا أنهم يتغنَّون بفلسفة عالية، وفكرة سامية.

قد يلاحظ عليها أن الربط في بعضها مُحكَم؛ كحاجة السلم إلى النجار والنجار إلى المسمار، وبعضها غير مُحكَم؛ كحاجة الحدَّاد إلى البيضة، وحاجة الصرِّيف إلى العصافير، ولكن أظن أن تحكيم المنطق الدقيق الحاد في الأدب كالشعر والأغاني وسائر الفنون مجاوزة للحد؛ فالأغنية ظريفة لطيفة رغم المنطق.

ومن أسباب جمالها هذا النوع البديع الذي يصح أن أسميه: «جمال الدوران»، أو جمال التسلسل؛ مثل قولهم: «لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل».

وقولهم: «الحجر يكسر الزجاج، والحديد يكسر الحجر، والنار تذيب الحديد، والماء يطفي النار، والريح تلعب بالماء، والإنسان يتقي الريح، والخوف يغلب الإنسان، والخمر تزيل الخوف، والنوم يغلب الخمر، والموت يغلب النوم».

ومثل قولهم: «العالم يعرف الجاهل؛ لأنه كان جاهلًا، والجاهل لا يعرف العالم؛ لأنه لم يكن عالمًا» … إلخ.

•••

وبعدُ، فما تاريخ هذه الأغنية ومن واضعها؟ لا بدَّ أن يكون فيلسوفًا أو حكيمًا بعيد النظر، وما يؤسف له أن هذه الأغاني والأزجال والمواويل لم يُعنَ بها عناية الأدب الأرستقراطي؛ فبينا يُعنى العلماء والأدباء بنسبة بيت الشعر إلى قائله، والقصيدة إلى منشئها، ويحتدم بينهم القتال على ذلك، إذا بنا لا نجد هذه العناية ولا بعضها في الأغاني والأزجال الشعبية، وهذا نوع مما أصاب الأدب الشعبي من الظلم، وكم أصابه من أنواع! وها هي الأغاني التي تُخترع في عصرنا نجدها على الأفواه ونستعذبها، وتهشُّ لها نفوسنا، ولا نكلِّف أنفسنا مئونة البحث عن منشئها.

ولكن من حسن حظ هذه الأغنية، أو من حسن حظنا نحن، أننا نجد ظلًّا لتاريخها؛ فقد ذكرها الجبرتي في تاريخه في حوادث سنة ١١٤٣ هجرية، فيكون عمرها أكثر من قرنين، وظلَّت الأجيال تتعاقبها إلى يومنا.

ويظهر من كلام الجبرتي أن واضعها عالم كبير جليل من أكابر علماء الأزهر في القرن الثاني عشر، هو الشيخ الحفناوي أو الحفني، كان سيد الأزهر في أيامه، له حلقات الدروس الحافلة بنوابغ الطلبة، يقرأ فيها أعوص الكتب وأصعبها؛ كجمع الجوامع، والأشموني، وحاشية السعد، وله التآليف الكثيرة في البلاغة والميراث والجبر والمقابلة، كما كان بيته ساحة كرم يغشاه أعيان مصر وعلماؤها وأدباؤها، ويلجأ إليه الفقراء وذوو الحاجات، وكان راتب بيته من الخبز كل يوم نحو الإردب، وطاحون بيته دائرة ليل نهار، ويجتمع على مائدته الأربعون والخمسون والستون، إلى هيبة ووقار، حتى يهاب العلماء سؤاله لجلاله.

وهو مع هذا كله ظريف أديب، سمع تلميذًا له يومًا يقول:

قالو تحب المدمس؟ قلت بالزيت حار
والعيش الأبيض تحبه؟ قلت والكشكار

فضحك الشيخ وقال: أنا لا أحبه بالزيت الحار، وإنما أحبه بالسمن، ثم قال:

قالوا تحب المدمس؟ قلت بالمسلي
والبيض مشوي تحبه؟ قلت والمقلي

وله المواويل الظريفة؛ كقوله:

بحياة يا ليل قوامك وصوم الحر
تحجز لنا الفجر دا فوت الرفاقه حر
لما يجي الفجر يصبح ركبهم منجر
أزداد لوعة ولا عمري بقيت أنسر

إلى غير ذلك، فيحدِّث تلميذه أن الشيخ الحفني قال له يومًا: «أحدثك حدوته بالزيت ملتوته، حلفت ما آكلها، حتى يجي التاجر، والتاجر فوق السطوح، والسطوح عاوز سلم … إلخ»، فحكاية التلميذ، ولم يكن سمعها من قبل، وروايته لها عن شيخه، ترجِّح الظن أنها من عمل الشيخ الحفني.

وقد زاد الشيخ على ذلك، فشرح الأغنية على طريقة الصوفية، ففسَّر التاجر بالمرشد الكامل والمربى الواصل، والتاجر فوق السطوح في مستوًى عالٍ، والسطوح لا يمكن صعوده إلا بمعراج … إلخ، وقد كان للشيخ جانب آخر صوفي عظيم.

فالأشموني وجمع الجوامع، والحواشي والتقارير، كلها لم تمنع الشيخ العالم الأزهري الجليل من أن يكون أديبًا وزجَّالًا ظريفًا، يضع الأغاني والمواويل يتغنَّى بها الشعب، وهذا يذكرني بما سمعت عن فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة المفتي الأسبق — مد الله في عمره — من أنه واضع الدور المشهور: «الله يصون دولة حسنك».

فمن لنا بعلمائنا الأزهريين اليوم يشرفون على الأدب كما يشرفون على الدين، ويتعرَّفون حياة الناس الاجتماعية، ومناحيهم الأدبية، ويضعون الأناشيد الظريفة، والأغاني اللطيفة، ويكونون عنوان الدين وعنوان الظرف، يبتغون فيما آتاهم الله الدار الآخرة، ولا ينسون نصيبهم من الدنيا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤