مقدمة
«اليقين وسادة الكسالى.»
«اليقين وسادة الكسالى» مقولة المفكر الفرنسي مونتيني في القرن اﻟ ١٦ التي بشَّر بها وأطلقها دعوةً لإفاقة أوروبا من سُباتها الذي عاشته قرونًا أسيرة يقين برعاية الكنيسة ورجال الدين .. يقين أقال العقل، وأعاق الحركة نحو التغيير؛ إذ اليقين استسلام. ومن ثم فقد كانت مقولته أشبه بنوبة صحيان عند الجيش؛ أو لنقُل دعوة للاستيقاظ والعمل الجاد والتفكير النقدي في واقع الحال لعقد العزم على الخطو قدمًا إلى مستقبل جديد يبنيه أبناء أوروبا بفكرهم وإرادتهم وتفاعلهم بعد قطيعة معرفية مع فترة الجمود واليقين.. أي دعوة إلى تفعيل إرادة التغيير .. لكي يستعيد الأوروبي إنسانيته كائنًا فاعلًا مبدعًا يعيش لحاضره ومستقبله لا لماضٍ ولَّى.
ذلك أنَّ الإنسان العاقل المُبدع والمُجدد هو من يشك ويتساءل ويعمل. ولهذا ليس غريبًا أن نقرأ للفيلسوف والعالم «دانييل دانيت» قوله: «النوع الإنساني هو من اكتشف الشك؛ يتساءل عن المستقبل .. يراجع تقديراته وحساباته .. ويدفعنا الشك إلى البحث عن علاج .. عن التِماس وسيلة للحقيقة .. لهذا اخترعنا الثقافة.»
والإنسان الحكيم هو من لا يعتبر موروثه التاريخي مُعطًى مُسلَّمًا به لا يأتيه الباطل أبدًا؛ وذخيرته إلى الأبد أيًّا كان الزمان والمكان؛ بل يراه خطابًا لأهل زمانه، قابلًا للنقد والتصويب والإضافة الإبداعية؛ ليكون عونًا ودعمًا للحركة على طريق المستقبل، ولا يعتبر أمر حاضره موكولًا لإرادة خارجة عن ذاته. والإنسان الحكيم هو من يعتبر الحاضر والمستقبل شأنه هو، صناعته هو، بإرادته الفاعلة وفكره النقدي المُبرأ من كل صور الانحياز لأية سلطة خارج سلطة العقل العلمي.
نعم إنه يعود إلى ذاته التي هي امتداد تاريخي جدلي، يعود بفكره النقدي إلى أعماق الذات والتاريخ لا لكي يستقر مع الماضي، ولا لكي يناجي السلف؛ وإنما لأن الرؤية النقدية للماضي استزادة معرفية تعزز مع معرفة الحاضر الحركة إلى المستقبل واستكشاف كيف آل حاله إلى ما هو عليه إيجابًا وسلبًا؛ إذ خبرات الماضي دالة على الفعل والفكر في التطبيق وجودًا وعدمًا.
ومن ثم فإن الدراسة العلمية النقدية لمسيرة التاريخ مرورًا إلى الحاضر واستشرافًا للمستقبل هي شك وبحث وتساؤل عن كيف نبني عقلًا جديدًا يدعم المسيرة الحضارية، ويحفز إلى النهوض تأسيسًا على منطق الواقع دون تهويم أو تخبيل نحلق معه في الفراغ .. حتى لا تمضي القرون كما هي حالنا الآن، ونحن ندور في حلقة مفرغة.
هذه الدائرة الخبيثة المفرغة، التي يشهد عليها واقع تحجَّر مع الفشل والتأزم هي التي توجب على الإنسان الحكيم أن يحاسب نفسه، وأداته الشك فيما اطمأن إليه خطأ، وبالسؤال عن نفسه وعن قومه وموروثه الفكري؛ أعني مسئولية هذا كله عن حالة الركود والفشل: لماذا غاب العقل والإرادة والفعل المجتمعي عن الإنجاز والمنافسة حتى أصبحنا فريسة سهلة لكل طامع؟
عشنا قرونًا أسرى يقين عزز الكسل والتواكل، وشل الفكر إلا عن ترديد أقوال السلف، أو ثرثرة في ترهات وخزعبلات، وغياب مشترك لكلٍّ من العقل أو الفعل والواقع والفكر. عقلنا الذي نحتكم إليه هو عقل الماضي بينما الواقع الذي نعيشه تجاوز الماضي وفارق عقل السلف.
إن قوام الوجود الاجتماعي الناهض هو تزامن هذه العناصر الأربعة: العقل، الفعل، الفكر، الواقع؛ أي أن يجري تفاعلها الجدلي معًا في إطار زماني مشترك ودينامي لضمان أهلية الحركة إلى المستقبل. ومع نظرة الشك المنهجي لفاعلية هذه العناصر يتجه العقل إلى نقد الموروث؛ أي نقد ذاته أو لنقُل نقد محتواه أو برنامجه «السوفت وير» الذي اغْتَذَى عليه في نشأته، واكتشاف نقاط الخلل والاختلال والمفارقة، واستبيان أسباب وعوامل القصور والاغتراب والعجز. عن تفسير ظواهر الواقع ظنًّا — والظن هنا إثم — أن التفسير كامن في خطاب السلف.
إذا تأملنا حياة الأشخاص والمجتمعات نجد أنها عند التهيؤ للتغيير أو النهضة يعود الإنسان/المجتمع إلى الاستعانة بالشك، يُراجع جهده وواقعه الفكري والعملي ويرده الشك إلى الواقع إذا كان يفكر في ضوء مقالات طواها التاريخ، ويبين له أن السابق قد مضى زمانه معرفيًّا وأن ارتباطنا به نسبٌ تاريخيٌّ، أن السابق الموسوم بالجاهلية، ليس عماءً مُطلقًا وإنما فقد صلاحيته المرحلية؛ إذ لا شيء أبدي مُطلق.
تتلمذت البشرية عصورًا على أيادي عرَّافين وكهنة ورجال دين يُلقِّنون الناس ما سمَّوه الفضائل الذهبية: اليقين أم الفضائل والشك رذيلة، الطاعة فضيلة بينما الخروج عن السياق العام رذيلة، والإبداع من أشر الأمور؛ فالمُحدث بدعة .. وتعطُّل الفكر والفعل على السواء .. وكما يقول ابن خلدون: «حيث لا يتقدم العلم، ولا تتقدم المعرفة فإنهما يتراجعان حكمًا.» ولم نصنع تاريخًا إلا غيَّرنا واقعنا بإرادتنا؛ لأن التاريخ ليس امتدادًا زمنيًّا فارغًا، بل التاريخ تغيير وتجديد .. وبقي لنا الموروث المتراجع، اكتفينا به وانكفأنا عليه. وظننا البقاء على قيد الحياة هو الوجود المنشود حتى وإن عشنا عالة على الآخر، بينما الوجود مشروع يتحقق بفضل الإرادة والفعل والفكر.
ويعيش مجتمع اليقين على التلقين، تلقين واستظهار الموروث، ويؤكد أن الحاكم هو الأمير الراعي، له الأمر، والناس رعية عليها الطاعة، ولا يعرف معنى الشعب مصدرًا للسلطات وله حق المشاركة في إدارة شئون البلاد .. إنه المجتمع الأبوي. ثم إن اليقين قناعة بكلمة الراعي وبالموروث؛ فهُما مصدر العلم النافع؛ ومن ثَم الكف عن السعي إلى معرفة وإبداع جديدين، وتسود قاعدة العزوف عن المعرفة المستحدثة. ومجتمع اليقين والتلقين والطاعة لا يعرف «رذيلة» الحرية والديمقراطية وهما أساس الدولة العصرية؛ ولهذا لا غرابة في أن يردد البعض أن الدولة المدنية كُفر صريح.
إذا تأملنا شعوب العالم عند عقد العزم على النهوض من كبوتها كيف استهلَّت مسيرتها بالشك/النقد/التنوير، مع قراءة كتاب الحاضر وتحدياته. وحشد الجهود فكرًا وعملًا لإنجاز طموحاتها .. الشك المنهجي الخلَّاق في الموروث؛ أي عدة العقل وأداته، واستعادة إبداعية لما يدعم حركة المجتمع. هكذا أوروبا في عصر التنوير الذي هو عصر الخروج من جاهلية العصور الوسطى وتجاوز موروث فقد صلاحيته، وتمهيد الطريق للعقل العلمي. وهكذا اليابان والصين وغيرهما، نجد في اليابان مفكرًا مثل «توميتاجا-ناكاموتو» يطبق منهج النزعة النقدية التاريخية في دراسة الدين، وكشف عن جوهر الصراع على السلطة باسم الدين. وهناك من قال: «محاولة شفاء الروماتيزم بقرع الطبل، سيهلك الطبل دون أن يشفى المريض» وقال «ميورا باين»: «المعرفة الصحيحة مصدرها الطبيعة لا كتب السلف.» وشهدت اليابان مثلما شهدت الصين صراعًا بين سلفيين ومحدثين وانتهوا إلى ما سموه «عصر العقل والواقع».
فهل آن الأوان ونحن نتطلع إلى العالم الذي سبقنا بمراحل، ونأمل في الانتماء إلى حضارة العصر بجهدنا وفكرنا أن نعيد للشك اعتباره، وللعقل العلمي الناقد دوره، وللعقل الحضاري قدره وأولويته .. قد يستلزم التنوير المنشود مراجعة المفاهيم السائدة في ثقافتنا التي تصوغ منهجنا وسلوكنا في الحياة وثبت انتهاء فترة صلاحيتها لعجزها عن حل مشكلاتنا. وطبيعي أن يمتد نطاق البحث ليشمل مفاهيم أو منهج التدين لا الدين؛ أعني الطريقة التي اعتاد عليها البعض لإظهار أنهم سدنة الدين فقتلوا الدين بمعناه الحضاري وأحيوا التخلف؛ ومن ثَم ندرك أن التدين غير الدين في براءته وصفائه وشفافيته. ولكن المتنطعين غرقوا من المظاهر والادعاء بأنهم أفهم للدين .. وليس من حق أحد أن يقول أنا الدين. إن مشكلات الحياة تقتضي إعمال عقل واجتهاد إبداعيَّين حتى لا تكون كارثة باسم الدين.