غربةُ العلم والمستقبل في حياتنا

لأي هدف نجِدُّ في حياتنا؟ هل نتحلى بجرأة العودة بشكل منهجي علمي إلى الذات والمراجعة النقدية للدور والفعل والفكر — إن وُجدت — في التاريخ وفي الواقع الحالي؛ استشرافًا لمستقبل ما؟ ما المؤشرات في حياتنا ذات المصداقية التي تؤكد، أو تُشير من بعيد، إلى أننا نستوعب روح العصر، وهي العلم، وأننا على الطريق نحو مستقبل مرسوم بإرادتنا؟ ما الفكر وما الفعل الاجتماعيان اللذان يكفلان لنا المنافسة والتحدي في الماراثون الحضاري، خصوصًا بعد أن تكثف الزمان والمكان عالميًّا بحكم ثورة الاتصالات، وأصبح العالم كله يسابق ويصارع بروح العلم والتكنولوجيا والعقل العلمي في ساحة محدودة ومكشوفة تُوصف بالقرية، بعد أن كانت — حتى بضعة عقود — عالمًا فسيحًا غير متناهي الأبعاد، يضم شعوبًا لا يعرف بعضها عن بعض كثيرًا أو قليلًا.

إنني، عند النظر إلى المجتمعات، أمايز بين حالين: الوجود والبقاء .. الوجود مشروع إرادي قائم على الفكر والفعل الاجتماعيَّين معًا، تأسيسًا على أعلى مستوى لإنجازات حضارة العصر. والبقاء هو حياة الاطِّراد العشوائي .. اطِّراد عاطل من فعل الإبداع والتجديد .. امتداد متجانس في المكان بغير زمان، حيث لا تغيير.

ولهذا قلت فيما سبق: المجتمعات — أو لنقُل الثقافات الاجتماعية — صنفان، والتصنيف ليس قدرًا أبديًّا، وإنما السيادة والغلبة لهذا أو ذاك رهن شروط وجودية للنهوض أو الانحسار. أقول صنفان هما: ثقافة الوضع، وثقافة الموقف. ثقافة الوضع قانعة بحالها، راضية برصيدها التاريخي الموروث .. والمعرفة عندها، أو قل العلم الأسمى، لا يتجاوز حدود تأمل هذا الرصيد وأقوال الأولين، والأمل عودٌ على بدْء .. ومن ثم عزوف عن الإبداع والتجديد .. الزمان امتداد متجانس، فارغ من الأحداث، إلا الحدث الأول والأهم فهو بداية التاريخ وغايته.

وثقافة الموقف إرادة واختيار، والإرادة فعل، والاختيار وعي عقلاني وعزم على التغيير والتجديد، وفهم لمجريات الأحداث والظواهر، وتراكم متجدد متطور لرصيد المعلومات والمعارف، ومن ثَم تطور وارتقاء مطرد للهُوية الثقافية التي هي عين الفعل الاجتماعي النشط في الزمان، وليس السكون والبحث عن هوية مجهولة في غيابات التاريخ.

ثقافة الوضع تقف على قارعة طريق الحياة، تتأملها تجليات لإرادةٍ من خارجها، وثقافة الموقف تخوض غمار لجج نهر الحياة الصاخب الدافق، تتجدد وتتغير، وتبني وتتحدى وتستجيب، تأسيسًا على الفهم والوعي والعقل الحر الناقد الفعال، إنها إبداع الحياة وصناعة التاريخ.

والآن، وقد أصبح العلم والتكنولوجيا — بعد أن بلغا مرحليًّا ذروة تاريخية فاصلة — أداة صناعة الوجود وبناء المستقبل، وموضوع الصراع والمنافسة والتعاون في آنٍ بين شعوب العالم؛ وأصبحا كذلك محور المراجعة الذاتية لمن شاء الحفاظ على موضع الصدارة أو اكتساب القدرة على اللحاق في الماراثون الحضاري، وتأسيس حياة إنسانية كريمة للشعوب تمثل دعامة ومضمون الانتماء .. ومن هنا أصبح لزامًا أن نرى أنفسنا بعقل نقدي في مرآة الآخر المتقدم والمهيمن بفضل امتلاكه ناصية روح العصر .. العلم والتكنولوجيا.

ولكن لماذا العلم؟ لماذا الفهم المعرفي العلمي؟ ولماذا الإنجاز البحثي العلمي ضرورة حياة؟ ولماذا الثقافة العلمية كثقافة عامة؟ لماذا محو الأمية العلمية؟ وهذا هو ما نراه السؤال الأكثر إلحاحًا ودلالة في مجتمعات عجزت عن أن تمحو بالكامل الأمية الأبجدية لشعوبها، فضلًا عن ضرورة محو الأمية العلمية والأمية الحاسوبية أو الرقمية.

ليس العلم مجرد اكتساب معلومات علمية أو حيازة ذهنية لمعلومات وحيازة مادية لتكنولوجيا، ولكن العلم الذي يمثل الآن روح العصر، هو منهج في فهم ودراسة الواقع اعتمادًا على العقل الناقد بهدف التدخل التجريبي للتغيير. والعلم هنا أبنية معرفية نسقية .. العلم ظاهرة اجتماعية ثقافية، وذلك باعتباره نسقًا معرفيًّا متحدًا مع بنية وأنشطة المجتمع. إنه ليس معارف متفرقة بل منهج موظَّف في خدمة بنية المجتمع يعمل على تماسكها واطراد تقدمها، ومواجهة تحدياتها ورسم معالم مستقبلها؛ ولهذا هو مؤسسة اجتماعية وعنصر حضاري؛ أي ركيزة البناء الحضاري.

وروح العصر هي المعرفة العلمية النسقية التي هي نمط خاص من علاقة الوجود الإنساني بالطبيعة وبالنفس وبالمجتمع .. علاقة النظر والنظرية .. صياغة قوانين وقواعد تكشف عن اطراد الظاهرة وتحولاتها، والإجابة عن السبب والكيف والقدرة على التنبؤ والإفادة العملية بذلك في الحياة الاجتماعية. والتفكير العلمي والمنهجي، أو ثقافة العلم، هي ثقافة نهمة إلى المعرفة أو مغامرة المعرفة. التفكير العلمي مدفوع بقوته الذاتية وبإنجازاته إلى المزيد. إنه نقيض ثقافة الاكتفاء الذاتي أو ثقافة الحقيقة المطلقة واليقين التي تقتل الفضول المعرفي وتعتمد التفكير الاختزالي بردِّ الظاهرة إلى علل خارجها؛ ومن ثَم يستحيل على المرء والمجتمع التحكم في شئون حياته. وثقافة العلم هي ثقافة التغيير؛ تغيير العالم عن وعي وإرادة وليس مجرد فهمه أو تأمله أو فك طلاسمه أو النظر إلى الظواهر باعتبارها إعجازًا. لذلك هي ثقافة قوة الإنسان وتمكينه والثقة بالنفس، والقدرة على البحث والابتكار والتحدي والتغيير ورسم المستقبل. وثقافة العلم هي ثقافة الإيمان بقيمة الإنسانية، وبناء الإنسان؛ لذا هي ثقافة الديمقراطية.

والعلم أداة تحقيق الذات عن وعي ثقافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، وإدارة الدفاع عن النفس وكفالة الأمن والانتصار في صراع الوجود .. هي أداتنا للتعبير عن الهويَّة وتأكيد أصالتها بعيدًا عن تهويمات أيديولوجية؛ لأن الهوية في جوهرها فعل الذات الواعية .. فعل إنجاز «النحن» المجتمعية في الاستجابة للتحديات بلغة وقدرات حضارة العصر، وبذا تدعم الانتماء وترسخ عوامل تلاحم بنية المجتمع.

السؤال الأبدي الذي نكرره، أجيال وراء أجيال: لماذا تخلَّفنا وتقدم غيرُنا؟ والإجابة يسيرة .. السبب غربةُ العلم في حياتنا وغربة المستقبل أو غيابه عن إرادتنا.

نعاني أعراضًا مزمنة هي بيت الداء حضاريًّا .. نجملها فيما يلي:
  • غياب قيمة مغامرة المعرفة واكتشاف المجهول وحرية السؤال والبحث وحق الاختلاف، وأن التنوع إثراءٌ للفكر وازدهار حضاري .. وهي قيمة يجري غرسها من خلال التنشئة الاجتماعية والتنشئة التعليمية في المدرسة لتصنع مناخًا عامًّا.

  • غياب سياسة علم وتعليم تحقق للمجتمع — بفضل ومن خلال مواطنيه — أهليةَ الاندماج والتكامل مع الشبكة العالمية للإنجاز العلمي والتكنولوجي وامتلاك قدرة تحقيق المصير والأمن القومي وإرادة الفعل.

  • هجرة الباحثين العلميين إلى الخارج، حيث يجدون ذواتهم في الفرص المتاحة للتعبير عن قدراتهم واستثمارها بدلًا من حياة الغربة في الوطن.

  • غياب الحداثة كرؤية وهدف مرسوم ومن ثَم غياب آليات التحديث في كل أنشطة المجتمع، وغياب الإيمان بأن التحديث في صورته المتكاملة؛ أعني حضارة الصناعة ومجتمع المعرفة، هما السبيل لعلاج أمراضنا. ولكن تعيش المجتمعات العربية أسيرة اقتصاد الرَّيع، وهو نقيض حضارة الصناعة ومجتمع المعرفة؛ إذ غير خافية طبيعة الرابطة العضوية المكثفة بين الإنتاج الصناعي والبحث العلمي، وإنتاج المعرفة ومقتضيات ذلك سياسيًّا واجتماعيًّا وتعليميًّا .. إلخ.

  • تعاني المجتمعات العربية من غياب التمويل اللازم للبحث العلمي والتطوير، وتكفي الإشارة إلى أن ما تُخصصه في هذا المجال لا يزيد على ٠٫٥ في المائة من إجمالي الناتج القومي، بينما هو في البلدان الناهضة والمتقدمة يتراوح بين ٢٫٥ في المائة و٣ في المائة. وغير خافٍ أن طبيعة البحث العلمي الآن شديدة التعقد فضلًا عن أنه يمثل شراكة كوكبية تعبر عنه علاقات عضوية بين الأكاديميات والجامعات وبين العلماء كأفراد أو المؤتمرات أو النشرات العلمية.

  • غياب علاقات التفاعل مع العالم الخارجي المتقدِّم، وهي آلية الاطلاع على الجديد والمساهمة في الإنجاز والمشاركة العضوية والتطوير لنوعية المنتج وتطوير الفكر.

  • غياب التعاون العلمي بين البلدان العربية على الرغم من إدراك المسئولين لأهمية هذا التعاون، وسبق انعقاد مؤتمر في الرباط العام ١٩٧٦م برعاية ألكسو، وقرر المسئولون اعتماد ٥٠٠ مليون دولار لأغراض البحث والتعاون ولكن لم يتحقق شيء.

  • غياب الإحصائيات الموثَّقة عما يمكن أن نسميه النشاط العلمي العربي .. بل وغياب الإحصائيات الموثقة عن الأنشطة الاجتماعية، وغياب حق الحصول على المعلومات إن وجدت، بينما هي قاعدة البحث العلمي الجاد وأساس لتحديد صورة الواقع ورسم صورة المستقبل.

  • ارتفاع نسبة الأمية الأبجدية في عديد من المجتمعات العربية وشيوع الأمية الثقافية العلمية والأمية الحاسوبية، وهو ما يعني غياب المواطن، القيمة والدور والفعل، وغياب الثقافة التي تؤهِّله ليكون فاعلًا ومشاركًا إيجابيًّا بفضل الثقافة العلمية؛ أي بفضل الفهم العلمي لقضايا الإنسان، المجتمع، الطبيعة والكون من حولنا، وكما يقول «جيمس تريقيل»: «تعليم العلم يهدف إلى تحسين الرصيد القومي من المواطنين ذوي الكفاءة والأهلية لممارسة الديمقراطية، ومناقشة القضايا القومية، تأسيسًا على فهم علمي للقضايا والعلم من حولنا. الديمقراطية لا تستقيم في مجتمع تسوده أمية علمية، بينما نواجه قضايا قومية وعالمية تكتسب، أكثر فأكثر، أبعادًا علمية وتقنية ..» والسؤال: كيف نخلق مواطنين قادرين على ممارسة حقهم الديمقراطي بكفاءة، والمشاركة الإيجابية الواعية بفضل الثقافة العلمية؟

    وحريٌّ بنا أن ندرك أن ثقافة العلم لا تنشأ ولا تسود لتمثل مناخًا عامًّا إلا في مجتمع مُنتجٍ للعلم، هو وطن للعلم؛ ومن ثَم تكون ثقافة العلم عامل دعم وحفز نحو المزيد .. المزيد من الإنجاز، والمزيد من الاستمتاع بالحياة، من حيث الفهم لظواهر الحياة، والفهم لقواعد إدارة الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤