الإجهاض

تركب سعدية الأوتوبيس حتى تصل إلى باب الشقة، تدق الجرس، تعرف الأستاذة فؤادة أنها سعدية من رنين الجرس، موعدها في السابعة صباحًا لا تتأخر إلا نادرًا ولسببٍ خارج عن إرادتها، ودخلت سعدية المطبخ، خلعت جلبابها النظيف، علقته في الشماعة وراء باب المطبخ، ارتدت الجلباب الآخر الذي تشتغل به، وضعت كيس نقودها ومفتاح الغرفة في درجٍ صغير أسفل دولاب الحلل، رأتها فؤادة تبكي وهي واقفة أمام الحوض، غسالة الصحون جاية أول الشهر يا سعدية.

– كتر خيرك يا ست فؤادة.

– وميعاد العملية يوم الخميس الساعة عشرة الصبح.

– أنا خايفة عليها يا أستاذة.

– عملية بسيطة جدًّا.

تعرف سعدية أنها عملية إجهاض، تفقد ابنتها طفلها وهي تفقد حفيدها، هل كانت تحلم أن يكون لها حفيد، وأن تعيش ابنتها حياة أفضل من حياتها.

ترمق بطرف عينها بطن الأستاذة المرتفعة قليلًا تحت الفستان.

تتحسس فؤادة بطنها بيدها الناعمة، تعد الشهور على أصابعها الطويلة الرشيقة، أظفارها نظيفة مقصوصة بعناية.

ترمق سعدية ارتفاع بطنها، تقول لنفسها: إشمعنى يا رب بنتي تعمل إجهاض، وغيرها لأ. تطبق شفتيها وتبعد عينيها عن الأستاذة، تشعر بتأنيب الضمير، أتقابل المعاملة الطيبة بالحسد والحقد؟

– فاضل خمس شهور يا سعدية.

– يفوتوا حالًا يا أستاذة وتجيبي أخ للمحروسة بنتك.

– يمكن تطلع بنت مش ولد.

– أنا عارفة أنه ولد.

– عرفتي منين يا سعدية؟

– كانت المرحومة أمي بتعرف الولد من البنت من ريحة قميصها.

– ده علم جديد ما حدش من الدكاترة يعرفه.

وتضحك فؤادة، يسرها أن تتبادل الحديث مع سعدية، تقول عنها الشغالة وليس الخادمة، لم تدخل مدرسة لكن عقلها ورث جينات الحضارة القديمة والذاكرة الجماعية منذ إيزيس وأوزوريس.

– أيوه يا أستاذة لو دخلت المدرسة كنت بقيت ست محترمة.

– إنتي محترمة يا سعدية من غير مدرسة؟

– مين يحترم خدامة في البيوت يا ست فؤادة؟

تزم سعدية شفتيها، تبتلع المرارة، تدعك قاع الحلة المحروق بالسلك، تنظر إلى أصابعها المشققة الملتهبة بالصابون والصودا الكاوية، تختلس نظرةً إلى أصابع الأستاذة الناعمة.

كان يمكن لهنادي لو أكملت التعليم في المعهد أن تجلس خلف مكتب بدلًا من أن تدعك الحلل والمراحيض.

– آه يا أستاذة لو تعرفي.

ينقطع صوتها، يخرج الهواء الساخن من صدرها.

لم تعد قادرة على الكتمان، تريد أن تفضفض عن نفسها، ليس لها أحدٌ في الدنيا إلا السيدة فؤادة وزوجها.

– آه يا أستاذة لو تعرفي إيه اللي جوه قلبي.

– يا سعدية عملية الإجهاض سهلة!

في الصالة جلست الأستاذة فؤادة على الأريكة المبطنة بالقطن، المغطاة بقماشٍ حريري أزرق منقوش بزخارف خضراء، خطر لها أن تدعو سعدية للجلوس على الأريكة في جوارها، لكن سرعان ما طردت الفكرة من رأسها.

تركتها تجلس على الأرض فوق السجادة العجمية، حيث تجلس بعد الانتهاء من العمل تخيط الجوارب والأزرار الساقطة، تعد فنجان شاي تشربه في كوب بلاستيك أزرق، تضعه على الرف العلوي بالمطبخ مع علبة الشاي، ليس الشاي الدارجيلنيج الثمين، الذي تشربه الأستاذة وزوجها وضيوفهما، في فناجين رقيقة صينية حوافها منقوشة.

– هنادي كانت عاقلة وذكية يا ست فؤادة.

– أيوه يا سعدية كانت بنت ممتازة.

– أيوه يا أستاذة، دفعت لها مصاريف المعهد من السلفة، كنت باحلم أنها تتخرج وتبقى ست محترمة، لكن نعمل إيه للشيطان؟

تمص سعدية شفتيها بحسرة.

– ما شيطان إلا بني آدم يا سعدية، لازم نعرف المجرم، إزاي يعتدي على طفلةٍ عمرها ستاشر سنة؟

– لازم سقاها حاجة مخدرة؟

تمسح دموعها بكفها.

كانت تتمنى أن يكون لها حفيد قبل أن تموت، أن ترى ابنتها جالسة محترمة خلف مكتبها مثل الأستاذة فؤادة، ولها زوج محترم مثل شاكر بيه، ولها مطبخ وحمام فيه دش وحنفيات ماء بارد وساخن.

– خايفة عليها تموت في العملية يا أستاذة.

– العمليات دي بقت سهلة جدًّا وما فيش فيها أي خطورة وأنا مستعدة أدفع المصاريف.

– سلفة تانية يا أستاذة وأسددها كل شهر؟

– ما تحمليش هم يا سعدية.

– البركة فيك يا أستاذة.

– إنتي بقيتي واحدة من العيلة يا سعدية.

في الليل وهما في الفراش، حكت فؤادة لزوجها شاكر الحكاية، اتسعت عيناه من دون اندهاشٍ كبير، لم يعد هناك شيء يدهشه في الكون، تحكي له زوجته، يستمع إليها وهو راقدٌ فوق ظهره داخل المنامة الحريرية البيضاء، شاخصًا إلى السقف.

لا يرتدي شاكر بيه إلا المنامة المكوية، تقف سعدية ممسكة المكواة بيدها اليمنى، يدها اليسرى فوق ظهرها حيث الألم، تكوي قمصانه الإفرنجية ومناماته، وجواربه أيضًا لا يلبسها إلا مكوية، لون الجورب يتسق ولون ربطة العنق، وياقة القميص ترتفع فوق عنقه منشاة.

ينام محملقًا في السقف مستغرقًا في أفكاره، لا يحكي لزوجته عن شيء، تعوَّد الكتمان منذ الطفولة، عاش طفلًا وحيدًا، يتكلم مع نفسه، في المدرسة يمشي في الفناء وفي يده كتاب، في الجامعة كان له صديق واحد يسكن في الفيلَّا المجاورة بجاردن سيتي.

– مش غريبة دي يا شاكر؟

– غريبة ليه؟

– طفلة تبقى حامل؟

– هي عمرها كام؟

– ستاشر سنة.

– البنات بيجوزوا في الريف سن عشر سنين يا فؤادة ويخلفوا كمان.

– خسارة البنت تفقد مستقبلها يا شاكر.

– تفقده ليه؟ المشكلة بسيطة يا فؤادة.

– بسيطة؟

– بالنسبة إلى المشاكل في الدنيا، أقله لها حل، عملية إجهاض في ساعة واحدة، وتكمل تعليمها في المعهد.

– أنتم الرجالة لا يمكن تحسوا بمشاكل النساء، تصور أم تفقد طفلها بالإجهاض؟ تصور بنت تصبح أم وهي طفلة ومن غير زواج؟ تصور مشاعر سعدية أمها؟

– أتصور كوارث أكبر، البلد النهارده على كف عفريت، التظاهرات بالملايين في الشوارع في مصر كلها، من القاهرة إلى الإسكندرية إلى أسوان، الشباب والنساء والرجال، الطلبة والعمال وكل المناطق الشعبية، والعاطلون والمعدمون، نصف الشعب تحت خط الفقر، النظام لازم يسقط، سياسة القروض تسببت بالاحتلال البريطاني لمصر، الحكومة ماشية في ركاب أمريكا والبنك الدولي وصندوق النقد، حلقة مفرغة، زيادة القروض يعني زيادة الديون وزيادة فوائدها ويزيد التضخم وترتفع الأسعار.

القروض لها شروط تخرب البلد، رفع الدعم يعني رفع الأسعار، لا يمكن أن تنتهي التظاهرات، إذا لم يتغير النظام فستقوم ثورة الجياع.

– أنا خايفة على حياة هنادي، أمها سعدية مسكينة وغلبانة.

– أنا خايف على البلد كلها.

– أنا خايفة عليك وعلى نفسي وبنتي داليا والطفل اللي جاي في السكة.

– كل الناس تعبانة مش إحنا بس.

– مش كفاية اللي حصل لنا.

فاكر يا شاكر؟

– أيوه فاكر يا فؤادة.

– أنا مش عاوزة طفل تاني يا شاكر في الظروف دي.

– الظروف دايمًا كده ويمكن يكون ولد ظريف نسميه ظريف.

يضحك شاكر من دون صوت وتزم شفتيها في وجوم.

كان رجال البوليس قد هجموا على البيت.

وضعوا الحديد في يديه وقادوه إلى التخشيبة ليقضي الليلة واقفًا على قدميه مع القتلة والمجرمين المحكوم عليهم بالإعدام، من دون ماء أو طعام أو مرحاض أو نافذة. واقف على قدمَيْه محاطٌ بأجسامٍ واقفة متلاصقة، تنز عرقًا وغضبًا في غرفةٍ صغيرة، كان يمكن أن يختنق ويلفظ أنفاسه، في اليوم التالي أخذوه إلى سجن القلعة، وهو سجنٌ قديم منذ عصر محمد علي، نزعوا من يدَيْه الكلابشات وقضى يومَيْن في حبسٍ انفرادي داخل زنزانة لها بابان؛ بابٌ داخلي خشبي وبابٌ حديدي خارجي، رقد على الأرض بملابسه وحذائه الجلدي، كان مرتديًا بذلة والبالطو من الصوف، طلبت زوجته فؤادة أن يرتدي البالطو، لكنه اعترض، أراد أن يثبت لضباط البوليس أنه رجل خشن يتحمل البرد، ولا يطيع زوجته، اعترض البوليس على البالطو أيضًا، لكن فؤادة أصرَّت، وأخيرًا خضع الضباط وحمل شاكر البالطو على يده.

في جنح الليل انفتح البابان ودخل شباب إلى الزنزانة تنزف منهم الدماء، في اليوم التالي في منتصف الليل نقلوهم إلى سجن الاستئناف بباب الخلق، حيث كان مئات من المعتقلين في التظاهرات.

استمرت المناقشات في السجن، اشترك فيها المسجونون مع السجَّانين، شكر السجانون الشباب الثوار وقالوا لهم: أنتم انتصرتم على الحكومة يا شباب.

في الصباح أحضر الشاويش لهم الصحف، المانشيت الكبير في الصفحة الأولى يقول: تم القبض على رءوس الفتنة.

لم تنم فؤادة منذ جاء رجال البوليس إلى البيت وأخذوا معهم زوجها، وإن غفت لحظة تصحو فزعةً على صوت الجرس.

تم حظر التجوال ونزلت القوات المسلحة إلى الشوارع.

قُتل الآلاف من الشباب، الأعداد الحقيقية لا يعرفها أحد.

لم تسمع فؤادة الجرس ذلك الصباح، تعرف دقة سعدية فتشعر براحةٍ عميقة، تنتشلها سعدية من عبء أعمال البيت والمطبخ، ليس من السهل العثور على شغالة مثلها، تواظب على مواعيدها كالساعة، تحمل العبء صابرة كالجمل صامتة كالجبل، لا تشكو ولا تطلب شيئًا، نظيفة لا تشم في ملابسها رائحة عرق، ذات كبرياء وعزة نفس.

فؤادة لا تكره في الدنيا مثل شغل البيت والمطبخ، لم تدربها أمها على هذه الأعمال، متكررة متشابهة، تقوم بها الآلات، والزوجات والخادمات من قاع المجتمع، بالأمس لم تذهب فؤادة إلى الجورنال، غسلت الصحون المتراكمة في الحوض، أخرجت قطعة اللحم المجمدة من الثلاجة، قشرت الثوم والبصل، دمعت عيناها فعطست، وضعت الحلة على النار ثم أسرعت لترد على التلفون في الصالة، انخرطت في نقاشٍ حادٍّ مع رئيس التحرير: أنا المسئولة عن كتاباتي يا أستاذ موش إنت.

– أنا رئيس التحرير المسئول موش إنت يا أستاذة فؤادة.

يستمر النقاش الحاد حتى تنبعث من المطبخ رائحة دخان، اللحمة اتحرقت يا أستاذ، تلعن الجورنال والصحافة ورئيس التحرير.

دق الجرس فانتفضت فؤادة مسرعة إلى الباب.

– تأخرت يا سعدية.

– معلهش يا ست فؤادة.

– إزي هنادي؟

– الحمد لله.

– المشكلة بسيطة ولها حل.

– البركة فيك.

– دكتور كويس هيعمل العملية.

– كتر خيرك يا ست فؤادة.

– ما فيش خطر من عملية الإجهاض.

انتفضَت سعدية حين سمعت كلمة الإجهاض، خرجت الكلمة سهلة من بين شفتي الأستاذة، كأنها شكة إبرة وليست عملية جراحية لقتل الطفل في بطن ابنتها، تسد أذنها بيدها السمراء المشققة، لا تريد أن تسمع كلمة إجهاض، لا تحس الأستاذة بمأساة ابنتها، لا يهمها إلا أن تحضر سعدية في الموعد وتقوم بالشغل.

ترمق سعدية بطرف عينيها بطن الأستاذة المرتفع تحت البلوزة الحريرية، هي حامل مثل ابنتها في الشهر الثالث، زوجها شاكر بيه في جوارها، لا يفكر الأب والأم في إسقاط طفلهما، ولهما طفلة أخرى في المدرسة.

فين العدل يا رب؟

أطرقت سعدية وابتلعت دموعها ثم دخلت المطبخ، وهي تهمس لنفسها من دون صوت: ربنا يكفيهم شر العين والحسد، دول أطيب ناس، أستغفرك يا رب.

في الليل دار الحوار بين فؤادة وشاكر:

– لازم نشوف دكتور يا فؤادة.

– دكاترة الإجهاض حرامية يا شاكر.

– ممكن نشوف دكتور كويس.

– وإذا ماتت في العملية يا شاكر؟

– تموت ليه؟

– خايفة عليها.

– العملية بسيطة.

– لكن أنا قلقانة عليها.

سامعني يا شاكر؟

إذا ماتت نعمل إيه؟

سامعني؟

إنت نمت يا شاكر؟

راقدة في جواره في السرير العريض مفتوحة العينين ترمقه وهو نائم، كتب لها رسائل حب قبل الزواج، كان يدخل مكتبها في الجورنال، يمد يده بورقةٍ مطوية أربع طيات، حروفه دقيقة يكتبها بحبرٍ أزرق، جمعت رسائله في صندوقٍ كبير يلفه شريط ملون.

– إنت نمت يا شاكر؟ سامعني؟

ينام بسرعة، ما إن يضع رأسه على الوسادة حتى تسمع شخيره الخافت.

– وإذا ماتت نعمل إيه يا شاكر؟ سامعني؟

راح شاكر في النوم العميق.

ترمقه بعينيها المفتوحتين، تتغير ملامحه في النوم، يصبح رجلًا لا تعرفه، لم تقابله قط من قبل.

قابلته لأول مرة في اجتماعٍ في الجورنال، كان يحرك عينيه الخضراوين من تحت النظارة البيضاء على الوجوه في الاجتماع.

– سيتولى الأستاذ شاكر صفحة السياسة المحلية.

أصدر رئيس التحرير أمره وهو جالسٌ وراء مكتبه الكبير من البلور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤