داليا

كان الأوتوبيس الأحمر يأخذ الطفلة داليا إلى المدرسة كل صباح، ما عدا أيام الإجازات، تأخذها معها فؤادة إلى الجورنال، تعطيها بعض قصص الأطفال، تجلس داليا على الكرسي في جوار النافذة المطلة على النيل، تشرد بعيدًا أو تقرأ قصة، تحمل معها في حقيبة المدرسة مفكرة تكتب فيها خواطرها، تخفيها في مكانٍ سري في غرفتها، تخشى أن تقع في يد أبيها أو أمها، كتبت داليا في مفكرتها: لا أحب أبي. ثم مسحتها، وكتبت: أحب ماما فؤادة وماما درية.

كانت تنادي جدتها ماما درية، تزورهم جدتها درية في الأعياد، تُجلسها إلى جوارها على الكنبة وتحكي لها الحكايات، تشم في ملابسها رائحة عطر يشبه الياسمين.

نحيفة الجسم ممشوقة إلا انحناءة ظهرها، شعرها أبيض تلفه خلف عنقها بتوكة فضية على شاكلة فراشة، حين تجلس جدتها في جوار أبيها تبدو ملامحها متشابهة، تطبق شفتَيْها وهي تمضغ الطعام من دون صوت، بأطراف أصابعها تُمسك الشوكة، مشيتها تشبه مشيته، نصفها الأعلى يندفع إلى الأمام، تشد عضلات عنقها إلى أعلى وكذلك ظهرها فتختفي الانحناءة، تواصل داليا الكتابة في مفكرتها، في ليلةٍ حارة مشبعة ببخار الماء ولدتها أمها، خرجت إلى الدنيا صامتة من دون صراخ، وجهها شاحب أزرق مطبقة الشفتين مغلقة العينين جفونها متورمة، كأنما كانت تبكي بكاء مكتومًا داخل الرحم، مدينة القاهرة تغطيها سحابة سوداء من الدخان والهوان، هزيمة من الهزائم المتكررة لم تسمع أمها الأخبار في جهاز التلفزيون داخل المكتبة في الصالة، كانت في غرفتها تكتب، في نظرها أن الأخبار ملفقة، ترسلها الجهات العليا إلى الصحف، انطلقت الإذاعات ذلك اليوم مؤكدة النصر المجيد بفضل الزعيم العظيم، لم يكن أبوها في البيت، قال لأمها قبل أن يخرج إنه في اجتماعٍ طارئ بالحزب، جسمه نحيف يمشي منحنيًا، يجلس واضعًا ساقًا فوق ساق، البنطلون من الصوف الإنكليزي له ثنية مكوية، ترتفع حين يرفع ساقه لتكشف عن جوربه ذي اللون النبيذي الشبيه بلون ربطة العنق، ومنديله يطل من جيب السترة معطرًا بالأوسوفاج، عيناه خضراوان، بياضهما واسع تشوبه صفرة، تتخللها شعيرات دموية، يضع نظارةً طبية، لا تفارق عيناه الجورنال أو الكتاب الذي يقرؤه، يتكلم مع أمها من دون أن ينظر إليها، لا يرتفع جفنه الأعلى عن البؤبؤ الأزرق الصغير إلا حين يغضب أو يندهش، يضع أوراقه في درجٍ مغلق بالقفل، حقيبته الجلدية السوداء يفتحها ويغلقها بأرقامٍ سرية، يشعر بلذةٍ في إخفاء الأشياء، يقلد أباه في حركة شفتيه الممتلئتين، يمطهما إلى الأمام في وجه زوجته غاضبًا.

– مش من حقك تعرفي كل حاجة عني، أنا راجل حر.

– الزواج مش سجن.

سمعت أم رءوف صوته من خلال الجدار، كانت الجدران في العمارات الجديدة مغشوشة هشة، تسمح بمرور أي صوت بين الجيران، قطرات ماء تسيل في الليل من صنبور قديم، شخير رجل غارق في النوم العميق، همسات الحب والشبق أو لكمات البغض والغضب.

جاءت أم رءوف في اليوم التالي، سمينة مربعة الجسم تعرج قليلًا، تلف شعرها بإيشارب ملون، تصبغ شفتيها باللون الأحمر، اشتغلت في شبابها ممرضة حتى تزوجت الدكتور جرجس وأصبح لها ولدان، تساعد أم رءوف في الطبخ مع أمها حين تغيب الخادمة سعدية.

عاد أبوها إلى البيت فرآها جالسة أمام التلفزيون، رمقها بنظرةٍ سريعة من تحت جفنه الأعلى، كأنما لم يتعرف ملامحها، ساورته فكرة مرت كالبرق، ابنته أم لا؟ رمقته بنظرةٍ من تحت جفونها نصف المغمضة، لم تميز وجهه، وخصوصًا فمه الرمادي المطبق في صمت.

كان الصمت يخيم على الشقة، ترمقها أم رءوف بطرف عينها، تمص شفتيها وتقول إنها بنت، ثم تضيف إليها كلمة الهزيمة.

أصبحت فجيعتها اثنتين.

كان يكفي الإنسان أن يكون «بنتًا» ليشعر بالفجيعة، فكيف إذا لحقت به الهزيمة أيضًا؟

أخفت وجهها تحت الغطاء، تمنَّت أن تعودَ مرةً أخرى إلى رحم أمها، من دون جدوى، لم يكن لأحلامِها أن تتحقَّق بالتمني «وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا.»

كانت أمها تردد هذا البيت أيام الهزائم، تشرح معناه لطفلتها.

يعني الدنيا مش سهلة، العمل مهم يا داليا.

تخرج أمها كل صباح إلى عملها في الجورنال، أحيانًا تأخذ داليا معها، بلغت الثامنة من عمرها، كانت تسجل في مفكرتها السرية ما يدور في رأسها.

كان الواقع يذوب في خيالي والحلم يمتد بعد أن أصحو من النوم.

مكتب أمي كان واسعًا يطل على النيل، الشمس ساطعة تملأ الدنيا بالدفء، أشعر بالسعادة حين أخرج معها، كانت تتركني في البيت قبل أن أدخل المدرسة مع أم رءوف، وجهها أسمر يقترب من السواد، أصابعها قوية وأظفارها طويلة تصبغها بالمونيكير، ترتدي فستان أمي الحريري في غيابها، تلون شفتَيْها بإصبع الروج، تأخذه من درج أمي، تضربني في الحمام، تضع سكين المطبخ فوق عنقي وتقول: أدبحك لو قلتي لأمك.

تجلس أمي وراء مكتبها مرتدية جاكيت من الجلد، لونه بني غامق، البؤبؤ الأسود في عينيها كبير الحجم بريقه لامع، ينطفئ البريق حين يدخل مكتبها رئيس التحرير، ولا يظهر في عينيها حين تكون في البيت، تمشي أمي فوق كعبين رفيعين، يدقان الأرض بصوتٍ قوي مسموع، أحيانًا تنتعل حذاء ذا كعب مربع يشبه حذاء أبي، فلا يكون لوقع قدميها أي صوت.

قلت لأمي ونحن في مكتبها: أنا أكره أم رءوف يا ماما.

– ليه يا داليا؟

– ماعرفش.

كلمة «ماعرفش» كانت تلازمني في طفولتي.

– دي ست غلبانة يا داليا.

– مش باحب الغلابة يا ماما.

يطل أبي برأسه من وراء الجورنال، يرتفع الجفن الأعلى فوق البؤبؤ الأزرق، يرمقني بنظرةٍ غاضبة: مش بتحبي الغلابة ليه يا داليا؟ لازم تعرفي أن الغلابة دول هم أصل البلد، لازم تتخلصي من أفكار والدتك البرجوازية.

يغمز أمي، يضحك بصوتٍ غير مسموع أو يبتسم نصف ابتسامة، تضحك أمي ضحكتها المرحة وتقول بشيءٍ من السخرية: بنتنا داليا مش برجوازية يا شاكر، عندها ميول اشتراكية زي الباشا الأحمر.

الباشا الأحمر هو اسمع الدلع، كانت جدتي تطلقه على جدي.

تزورنا جدتي في العيد، نحيفة الجسم، شعرها أبيض تلفه خلف عنقها بتوكة فضية على شاكلة فراشة، تتكلم ثلاث لغات، العربية والفرنسية والإنكليزية، دماؤها خليطٌ من بلاد البحر الأبيض المتوسط، أبوها كان سفيرًا لمصر، يحمل لقب البك أو الباشا، يسافر إلى بلاد العالم، ترك لها بعد موته عزبة كبيرة في الزقازيق، وبيتًا يشبه القصر في جاردن سيتي، حين تجلس جدتي في جوار أبي تبدو ملامحهما متشابهة، حركة عضلات الفم المطبق، مضغ الطعام من دون صوت، أطراف أناملها تمسك بالشوكة، الخطوة الخفيفة السريعة، نصفها الأعلى منحنٍ إلى الأمام، رأسها مطرقٌ قليلًا بالرغم من الكبرياء، أبي يمشي رافعًا رأسه، يمد عنقه إلى أعلى مثل الديك الرومي، شادًّا ظهره المقوس قليلًا.

تردد جدتي مع أمي البيت القائل:

وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

كان الراديو يردده أيضًا والتلفزيون والمعلمون والمعلمات في المدرسة، والناس في كل مكان، يعلو أصواتهم جميعًا صوتٌ يرج السماء والأرض، تقشعر له الأبدان، تنتفض له القلوب، تصورت أنه صوت الله وأنا في السادسة من عمري، كان هو الرجل الوحيد الذي أحبه وأخافه في وقتٍ واحد.

كان الله في خيالي يبدو رجلًا مثل أبي وجدي، يتكلم بصوتٍ أقوى من كل الأصوات، ثم عرفت بعد أن بلغت السابعة أن الله ليس رجلًا، ليس له جسد ولا لسان ولا صوت.

أصبح الله صامتًا بعد أن جاوزت الثامنة من العمر، كنت أصحو من النوم أكبر مما كنت قبل أن أنام، قد يزيد عمري سنة كاملة أو نصف سنة في ليلةٍ واحدة أو ليلتين.

التاريخ في النتيجة فوق مكتبي، كان يومًا حارًّا وغائمًا، قالت أمي إنني أصبحت في الثامنة من عمري، ويمكن أن أفهم ما يحدث في البلد.

سمعتها تقول: التظاهرات الوطنية في الشارع تطالب بالحرية.

أبي قال: تظاهرات شعبية يقوم بها الفقراء من أجل العدالة، لكن الراديو والتلفزيون والمعلمات والمعلمين في المدرسة، كانوا يقولون: إنهم البلطجية والمجرمون يتآمرون مع المأجورين من الخارج على الوطن.

من فوهات الميكروفونات تنطلق عبارة «الله أكبر» من فوق الجوامع، من الإذاعات وأجهزة التلفزيون، تذوب الأصوات كلها في صوتٍ واحد قادم من السماء، وتنتفض القلوب رعبًا، يختلط الأمر في عقلي، لا أعرف السماء من الأرض وماذا تعني كلمة الوطن، كل شيءٍ يبدو غير مفهوم، مراحل عمري أيضًا لم تكن واضحة المعالم، تذوب طفولتي في شبابي وتمر كلها من وراء ظهري في أثناء نومي، الدنيا تذوب في الآخرة والجنة في النار والنهار في الليل والحياة في الموت، أصحو فجأةً على جرس المنبه قرب رأسي، هناك دائمًا رنين جرس حاد يوقظني من النوم العميق، يمر الزمن في الليل وأنا غائبة فيما يشبه الموت.

كان جدي يزورنا مع جدتي، سمعته يقول لي: النوم ميتة صغرى يا داليا، الناس تفقد الوعي حين تنام.

لم تكن جدتي تسمع ما يقوله، تقول إنه وهو في الغرفة الأخرى رجلٌ عجوز يفقد الوعي من دون نوم، لم يكن جدي يزورنا مع جدتي إلا في عيد السنة الجديدة، يحمل صندوقًا كبيرًا من الكرتون، ملفوفًا بورقٍ ملون وشريط أخضر رفيع، يشتري الحلويات من المحال الغالية، يرتدي بذلةً أنيقة دكناء اللون من الصوف الإنكليزي، بذلة بيضاء من الشاركسن أيام الحر، مع ربطة عنق ملونة، حذاؤه الأسود الجلدي يلمع لا تعلوه ذرة تراب، نظارته لامعة بيضاء، يجلس واضعًا ساقًا فوق ساق، يشبه أبي في حركته وتقاطيع الوجه وخصوصًا الأنف، لكن شعر جدي أبيض خفيف سقط عند منتصف رأسه، تاركًا صلعة مستديرة محمرة اللون قليلًا، انحناءة ظهر جدي أكثر من انحناءة أبي، صوتاهما متشابهان لكن صوت جدي يتحشرج من جراء دخان الغليون الكثيف والسيجار الغليظ الذي يتدلى من بين شفتيه، لم يكن أبي يدخن، أسمعه يقول لأمي إنه توقف عن التدخين في السجن، ترنُّ كلمة السجن في أذني حادة مدببة جارحة، حمراء كالدم، مثل لون الوطن والدنيا والآخرة والملائكة والشياطين.

كنا نزور جدي في شقته في شارع الدقي، ونزور جدتي في بيتها في جاردن سيتي، سألت أمي لماذا لا يعيش جدي وجدتي معًا؟

حكَت لي أمي الحكاية، كانت جدتي فتاة جميلة من عائلةٍ كبيرة، تزوَّجها جدي وهو طالبٌ في الجامعة، أبوه فلاحٌ فقير كان يشتغل في عزبة أبيها في الزقازيق، أنفقَتْ جدتي على جدي حتى تخرَّج وأصبح أستاذًا في الجامعة، وشخصية سياسية مرموقة، عاش معها في بيتها بجاردن سيتي، أنجبت أبي، خرج جدي من البيت ذات صباح ليلعب الجولف في النادي، غاب يومَيْن، وفي اليوم الثالث وجدت جدتي في صندوق البريد مظروفًا صغيرًا، يُشبه مظاريف الحكومة والمحكمة، وقعت عينها على ورقة الطلاق من مأذون حي الدقي، عرفت خط زوجها وإمضاءه، كان يوقِّع به شيكات البنك التي يصرفها من حسابها على مدى أربعة وثلاثين عامًا.

تضحك أمي ضحكتها الساخرة، بعد أن كبرت أكثر فهمت القصة، كان لجدها شقة سرية في الدقي تسمى جارسونيرة، معظم الرجال من هذه الطبقة كان لهم بيت سري، يرتفع عدد البيوت السرية بارتفاع المنصب في الحكومة أو الرصيد في البنك.

عرف جدها نساء كثيرات من الأنواع كافة، لكن هذه الفتاة الصغيرة رفضت تسليم نفسها له من دون عقد مكتوب، تدربت على فهم الرجال، عرفت أنهم يخدعون البنات ويخونون زوجاتهم، كانت تعمل في كاباريه النيل مع أمها، تتغلب بنات الليل على أعتى الرجال في الذكاء. وضعت الفتاة لجدها الشروط في العقد: (١) أن يطلق زوجته طلقةً بائنة. (٢) أن يسجل سيارة مرسيدس باسمها. (٣) وشقة باسمها تطل على النيل. (٤) أن تكون عصمتها بيدها.

فعل جدها ذلك كله، تزوجته ستة شهور فقط ثم هجرته إلى شابٍّ تحبه، فشل جدها في إعادتها إليه وفقًا لقانون الطاعة، كان لأمها محامٍ ماهر مختص بقضايا الفنانات والراقصات، حاول جدها العودة إلى جدتها لكنها رفضت، وفشل أبوها في إقناع جدتها بالعيش مع جدها، تحررت جدتها من عبء الكره لزوج تراكم فوق صدرها أربعة وثلاثين عامًا، أصبح جدها يعيش في شقته بالدقي يجتر أحزانه، حتى مات وحيدًا في غرفة نومه، فاحت الرائحة بعد أيامٍ فكسر جيرانه الباب.

غابت جدتي طويلًا، سافرت إلى لندن في الصيف، ثم عادت بعد عامين وبصحبتها شاب إنكليزي اسمه روبرت، طويل القامة شعره أسود غزير يشبه غريغوري بيك، قدمت أمي لهما الكعك والبسكويت، بدت جدتي شابة من جديد، بشرتها ناعمة خالية من التجاعيد، تلون شفتيها بالروج الأحمر الخفيف، أصبح شعرها أسود بعد أن كان أبيض، ضفيرة طويلة تهتز فوق ظهرها كلما ضحكت وألقت برأسها إلى الوراء، أصبحت تمشي بظهرٍ مستقيم من دون الانحناء إلى الأرض.

تحكي جدتي لأمي قصة حبها لروبرت.

– الحب مالوش علاقة بالعمر يا فؤادة.

– أيوه.

– أنا في عز الشباب يا دوب خمسة وخمسين سنة، وهو أصغر مني بعشرين سنة بس.

– أيوه.

– ستنا خديجة أم المؤمنين مرات النبي أتجوزته وهي أكبر منه بعشرين سنة.

– أيوه.

تجلس داليا تستمع إلى الحوار، ترمقها جدتها بعينين تلمعان وتهز رأسها.

– جدك يا داليا اتجوز بنت أصغر منك، بينه وبينها تسع وأربعين سنة، لكن روبرت أصغر مني بعشرين سنة بس.

– أيوه من حقك تعيشي حياتك.

والزمن بيجري.

لم أكن أشعر بمرور الزمن إلا حين أقف أمام المرآة، تطل من داخلها فتاة لم يعد لها وجه الطفلة، تشبه الفتاة في الصورة المثبتة في بطاقتي الشخصية، يتغير وجهي داخل المرآة بأسرع من الصورة في بطاقتي، أرى نفسي شابة محمرة الخدين ناعمة البشرة تتفجر حياة، إن اقتربت من المرآة أكثر وتأملت وجهي يتغير لونه مع حركة العين، أو الجفن، يصبح شاحبًا مائلًا إلى الصفرة أو الزرقة، تظهر تجاعيد فجأة من بين ثنايا الجلد، أرى أمامي فتاة حزينة في ربيع العمر أو امرأة كهلة لا أعرفها، يغوص قلبي في القاع حين أدرك أنني هذه الواقفة أمام المرآة، وأن مراحل عمري تمر والزمن يمضي من دون أن أدري.

قد يعود الزمن إلى الوراء وأنا أحملق في المرآة، يظهر أمامي فجأة وجه الطفلة، خداها متوردان يتفجر منهما الدم، شفتاها تنفرجان عن ابتسامةٍ مشرقة كالشمس، عيناها تلمعان ملؤهما الضوء، في مفكرتي السرية كتبت ما كان يدور في خيالي من أسئلة:

هل تفعل أمي مع أبي شيئًا سريًّا في الليل؟

هل يخفي أبي عن أمي شيئًا خارج البيت؟

هل أبي هو أبي؟

هل الله هو الله؟

هل أباح لجدي خيانة جدتي؟

هل يحرقني في النار لأنه خلقني أنثى؟

أشطب بأصابع مرتجفة كلمة أنثى، سمعتها لأول مرةٍ من فم جدي، لفظها بطرف لسانه كأنما يبصق، ثم أخرج منديله الحريري النبيذي من جيبه ومسح فمه.

كرهت جدي وكرهت أبي والله، وجميع المعلمين في المدرسة، كرهت جدتي أيضًا وأم رءوف وجميع النساء إلا أمي.

لم تكن أمي في نظري امرأة، كانت أمي، هي الوحيدة التي تحبني ويمكن أن تموت من أجلي، وهي الوحيدة التي يمكن أن أموتَ من أجلها.

سمعت أبي يقول إنه مستعدٌّ للموت من أجل الوطن، لكني لم أعرف ما هو الوطن، تصوَّرت أنه المكان الذي يذهب إليه أبي في الليل ويمارس العادة السرية، لم أعرف معنى الموت حتى رأيت وجه أم رءوف الميت، ظل روحها بالرغم من موتها يأتي إلينا يدق جرس الباب، تصورت أن الموت ليس موتًا بل مجرد الانفصال بين الروح والجسد، لم أعرف أن الروح والجسد يموتان معًا.

صحوت من النوم فجأة على الرنين، ترتجف عضلة تحت ضلوعي لدى سماع الجرس، خوفٌ غامض راسب في أعماقي منذ ولدت، أتوقع خبرًا سيئًا أو كارثة أو هزيمة جديدة، لما أعرف بعد معنى الهزيمة، أقفز من السرير، أرتدي ملابسي في غمضة عين، أخرج من دون فطور، أمشي إلى حيث ينتظرني الأوتوبيس الأحمر، عند ناصية الشارع أرى الرجل واقفًا يقرأ الجورنال، أتعرَّف وجهه، يأتي إلى بيتنا يوم الإثنين من كل أسبوع، يتظاهر أنه لا يراني، تبربش عينه من وراء الجورنال ويرمقني بنظرةٍ جانبية.

فوق عمود النور في الشارع أرى الصورة الضخمة معلقة، الوجه المربع بأنفه الطويل وشاربه الأسود وأسنانه البيضاء الحادة في ابتسامة تشبه التكشيرة، صورته كانت معلقة في صالة بيتنا، وفي المدارس والشوارع والأبنية وأعمدة النور، ترمقه عيون الناس في وجل، يهمسون من دون صوت «الراجل الكبير».

يخلع أبي الصورة من فوق الجدار في الصالة، إلا يوم الإثنين، حين يبقى في البيت مرتديًا البذلة ومنتعلًا الحذاء، بذلته أنيقة وحذاؤه لامع يشبه حذاء جدي، يقرأ الصحف في غرفة الصالون، ينتظر مجيء رجل نحيف أسمر اللون يرتدي بذلةً صفراء شاحبة، يحمل حقيبةً رمادية باهتة، تقدم أمي له القهوة أو الشاي، وقطعةً من الكيك أو البسكوت، وأحيانًا تناوله بضعة جنيهات داخل مظروف أبيض مغلق، تهمس في أذنه: مصاريف المواصلات يا أستاذ.

يخرج الرجل مع أبي من الصالون، الحقيبة تحت إبطه، يبتسم في وجهي، أسنانه صفراء مشرشرة، عند زوايا فمه لعاب أبيض متجمد.

ويسألني: اسمك إيه يا شاطرة؟

– داليا.

– عمرك كام سنة؟

– ثمانية.

– في مدرسة إيه؟

– ماعرفش.

تخرج كلمة «ماعرفش» من فمي مثل قذيفة ألقي بها في وجهه، في عينيه نظرة مخيفة تتخفى تحت جفونه، كنت في المدرسة النموذجية للبنات، أشعر بنوعٍ من السرور حين أخفي عنه اسم مدرستي، في زوايا عينيه الغائرتين دموع متجمِّدة تشبه العمش، تبربش عيناه بحركةٍ خفيفة، يتلصص على كل شيء في بيتنا، حتى صدر أمي يرمقه حين تنحني لتقدِّم له القهوة قبل أن يخرج.

يتطلع إلى الوجه المربع في الصورة المعلقة في الصالة، ينحني قليلًا يؤدي له التحية، ثم يرشقني بنظرةٍ فاحصة: معبود الجماهير، عارفاه يا شاطرة؟

– ماعرفوش.

تنطلق من فمي كلمة «ماعرفوش» حادة مدببة مثل قطعة لعابٍ متجمِّدة في حلقي.

بعد أن يخرج الرجل تقول أمي إنه مخبرٌ في الجهاز السري. يضحك أبي من دون صوت أو يبتسم، كان الضحك غائبًا في بيتنا، تنفرج شفتا أبي المطبقتان عن ابتسامةٍ أو نصف ابتسامة، لم أسمعه يضحك بصوتٍ مسموع، أمي تضحك بصوتٍ عالٍ مع الضيوف في غرفة الصالون، كانت لأمي ضحكةٌ ترنُّ في الجو فيزول عني الخوف الغامض الدفين، وأحيانًا أسمعها تغنِّي لنفسها أو مع الراديو، فأغني معها أغنية أم كلثوم، افرح يا قلبي، من دون أن يفرح قلبي، تحيطني أمي بذارعيها فنرقص معًا على إيقاع الموسيقى، كان جسمي نحيفًا خفيفًا لكن قلبي ثقيلٌ بالحزن، إلا لحظات قليلة مفاجئة يشق ضوء الشمس قلبي، تحت ضلوعي أحس بالخفقان، أتلفت حولي أتوقَّع شيئًا يحدث، أن يدق الجرس ويدخل أبي.

كانت صورته معلقة فوق الحائط، ملامحه لا تُشبه ملامح أبي.

أشعر بالفرح حين تصطحبني أمي إلى مكتبها، له نافذةٌ كبيرة تكشف مدينة القاهرة من هضبة الأهرامات إلى جبل المقطم وقلعة محمد علي ونهر النيل، كان لها زميلة في الجورنال اسمها كوكب، سمينة مربعة الجسم تترجح فوق كعبها العالي، تقرصني في خدي.

– بنتك حلوة يا فؤادة.

– أيوه.

– مش شبهك ولا شبه جوزك.

– أيوه.

– يا ترى جيبتيها منين؟

– من عند ربنا؟

– زي ستنا مريم؟

– أيوه.

– لا يمكن حد يغلبك يا فؤادة؟

– لا يمكن.

– تمشي من إسكندرية لإيطاليا؟

– أيوه.

تضحك كوكب وتقهقه بصوتٍ ناعم متقطع يشبه الشهيق أو النشيج، وتسير إلى مكتبها تفرقع بحذائها فوق الأرض الناعمة الممسوحة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤