كوكب

اعتُقِل سكرتير التحرير منذ يومين، التقطت الأذن السحرية حديثه مع زوجته في غرفة النوم، قبض عليهما البوليس في الصباح قبل أن يرتديا ملابسهما، وقُدما للمحاكمة بتهمة الخيانة الوطنية. الساعة فوق مكتبها تشير إلى الواحدة والربع، ساعتان إلا ربعًا أمامها لتنتهي من كتابة مقالها الأسبوعي، كل يوم أربعاء يظهر المقال في الصفحة الأخيرة، أشادت الصحف العالمية بالديموقراطية في مصر، نشرت النيويورك تايمز أخبار الانتخابات المصرية في الصفحة الأولى، نجح الرئيس بأغلبية كبيرة، أعلن الرئيس الأمريكي وقوفه مع الرئيس المصري في خطواته الحثيثة نحو الديموقراطية، صدر قرارٌ من رئيس التحرير بخصوص سفر الصحفية كوكب إلى مدينة نيويورك لتغطية المؤتمر الصحفي الدولي عن الديموقراطية، لم يبقَ على موعد السفر إلا أسبوع واحد، كان رئيس التحرير قد كلَّمها عبر التلفون الشهر الماضي، مقالك الأربع اللي فات كان رائع يا كوكب، ناس كثير مدحت المقال منهم معالي الوزير، سألني عنك، قلت له دي أحسن صحفية عندي في الجورنال، ولها قرَّاء كتير، سألني هي حلوة زي صورتها المنشورة مع المقال، قلت له هي أحلى من الصورة مليون مرة. يُقهقه رئيس التحرير من خلال سماعة التلفون، تهتز الأسلاك مع الجدران مع الصورة فوق الحائط، إنتي عارفة يا كوكب إن الوزير بتاعنا من أقرب الناس للراجل الكبير، ويمكن تبقي رئيسة التحرير وأنا أروح في شربة ميه.

هذه هي طريقة رئيس التحرير في التعبير عن أي حدث، ربما لم يحدث شيء على الإطلاق، وربما حدث العكس، أي أن الوزير أبدى غضبه من مقالاتها، لا يمكن معرفة إن كان رئيس التحرير جادًّا أم هازلًا.

– أنا مش عاوزة أكون رئيسة التحرير.

– عاوزة تكوني إيه؟

– عاوزة أكون زوجة وأم.

– اتجوزي بكري هو غرقان في حبك لشوشته.

الاجتماع الكبير في قاعة التحرير، حضرَتْه كوكب قبل سفرها، كانت القاعة مزدحمةً بالمحررين، أصوات مناقشات وصخب ودخان سجائر، وغليون بني غامق من هافانا يهتزُّ بين شفتي رئيس التحرير، وشفاه المحررين الكبار ذوي الأعمدة اليومية، بينما هي جالسة رأَتْ بكري جالسًا في الصف الأمامي، يُتابع ما يدور باهتمامٍ كبير، أنفه من الجانب مقوس قليلًا شفتاه مطبقتان، يبدو عليه الاستغراق، أو النوم العميق وعيناه مفتوحتان.

كان رئيس التحرير يتحدث بصوته الجهوري عن الديموقراطيات في ظل الرأسمالية الحديثة وما بعد الحديثة في القرن الواحد والعشرين، يقول: إن العالم سيشهد نوعًا جديدًا من الديموقراطية، يجمع بين مزايا الرأسمالية ومزايا الاشتراكية، إيجابيات القطاع الخاص وإيجابيات القطاع العام، لن يكون للدولة سيطرةٌ على رجال الأعمال إلا بالقدر الضروري لضمان حرية التجارة، والديموقراطية، وعدم هروب المستثمرين الأجانب.

قال محررٌ في الصفوف الخلفية: إن دور الدولة لا بد أن يزداد، وإلا طغى المال على السياسة وتجاوز الفساد ما هو عليه الآن.

دب الصمت في القاعة، اتجهت أضواء الكاميرات والفلاشات إلى الوجه المغمور في الصف الأخير، بدا طويلًا نحيلًا أصفر شاحبًا يزداد شحوبًا، ثم عادت الأضواء إلى وجه رئيس التحرير. في لحظاتٍ أصبح مقعد المحرر المغمور خاليًا، أين اختفى لم يعرف أحد، أكد رئيس التحرير أن الشيوعية والنازية والفاشستية وجميع النظم الشمولية كلها سقطت في مزبلة التاريخ إلى غير رجعة؛ لأنها تقوم على الدكتاتورية والاستبداد وعدم حرية التعبير، وأن طريق المستقبل الوحيد نحو الديموقراطية هو الرأسمالية التي ثبت نجاحها في كل البلاد شرقًا وغربًا، حتى الصين وروسيا أيها السادة اتجهتا إلى نحو الرأسمالية.

انتهى الاجتماع بالتصفيق، وتدافع الجميع خارجين من القاعة، لمحت بكري يمشي أمامها ببضعة صفوف، يختفي ظهره في الزحام بين الأجسام، يهرولون بخطًى مسرعة نحو مناطق النفوذ، رجال ونساء يتطلعون إلى الأضواء، يهرول زيدان مع المهرولين، راحت تجري متمايلة فوق كعبها العالي الرفيع، خارج القاعة رأته واقفًا، اقترب منها وصافحها كل سنة وإنتي طيبة يا كوكب. قبل أن يسحب يده ترك في كفها ورقة صغيرة مطوية.

دخلت مكتبها وأغلقت الباب، أطفأت النور، ربما هناك عين سحرية تلتقط الكلمات في الرسالة، جلست ساهمة وفي كفها الورقة مطوية لم تفتحها، ربما يكون بيتها أكثر أمانًا من المكتب، علقت حقيبتها الجلدية بالحزام في كتفها، هبطت السلالم إلى الدور الأرضي، خرجت من الباب الخلفي إلى موقف السيارات، ركبت سيارتها إلى البيت، كانت أمها في السرير تئنُّ بصوتٍ خافت.

– ما لك يا ماما؟

– تعبانة شوية يا كوكب.

– أطلب الدكتور؟

– لأ، مش ضروري.

– يمكن شوية إرهاق؟

– يمكن.

– قلت لك يا ماما لازم تستريحي.

– ما قدرش يا كوكب.

– ليه يا ماما؟

– اتعودت ع الشغل.

– اتعودي ع الراحة يا ماما.

– مين يصرف ع البيت؟

– أنا يا ماما.

– مش كفاية.

– كفاية جدًّا.

– مهنة الصحافة يا كوكب على كف عفريت.

– لكن أنا مستقرة في شغلي يا ماما.

– ما فيش أمان في الزمن ده، فيه جرانيل كتيرة جديدة عاوزة محررين ومحررات، طيب يا بنتي أقوم أسخن لك الأكل؟

– أكلت في الكافيتيريا ولازم أكمل المقال قبل ما أنام.

أسرعت كوكب إلى غرفتها، خلعت ملابسها، استحمت ثم ارتدت قميص النوم، دخلت فراشها الناعم وفتحت الورقة المطوية:

كوكب، هل يمكن أن نتحدث معًا قبل سفرك إلى نيويورك؟

أرجو الاتصال بي في أقرب وقت.

خط يده حروفه دقيقة صغيرة، تُوحي بالدقة والتردُّد، متعرجة قليلًا فوق السطر توحي بعدم الاستقامة، تكاد تشبه حروف أبيها، لا تميل إلى أبيها منذ الطفولة.

غلبها النوم وهي تفكر في أبيها، يشهد كثيرون أنه إنسانٌ كفء في عمله مخلص للوطن، قضى في المعتقل ستة شهور قبل أن تولد، كانت جريمته المقال الوحيد الذي نشره، يربط فيه بين القوانين الاشتراكية الاقتصادية والديموقراطية السياسية.

قبل أن تستغرق تمامًا في النوم تذكرت بكري، الرسالة المتبادلة بينهما عبر النظرة السريعة، كانت أقوى تأثيرًا من رسالته المكتوبة.

هل يكشف خط اليد حقيقة الإنسان أكثر من عينيه؟ هل تستطيع العين إخفاء الحقيقة أكثر من حروف الخط؟

لم تذهب إلى مكتبها في اليوم التالي، أصابها أرق فلم تغفُ إلا قرب الفجر، صداعٌ حاد في نصف رأسها يصاحبها دائمًا مع الشعور بالاكتئاب، سمعت جرس المنبه فانتفضت رعبًا، لكنها عادت إلى النوم حتى أيقظها جرس التلفون، جاءها صوت الدكتور طبيبها النفسي: يا كوكب كان معادك امبارح؟

– آه نسيت يا دكتور.

– يبقى الحالة أحسن؟

– الحالة زي ما هي يا دكتور.

– عاوزة تيجي النهارده؟

– أنا تعبانة في السرير.

– تعبانة من إيه؟

– شوية برد وزكام.

– استريحي يومين.

– حاضر يا دكتور.

– وبعدين كلميني.

– حاضر.

أغمضت عينيها وغطت في النوم، دخلت أمها توقظها.

– رئيس التحرير ع التلفون.

– أنا نايمة يا ماما.

– قلت له إنك نايمة.

– شكرًا يا أمي.

– قالي صحيها.

– باشتغل في عزبة أبوه؟

– قلت له ما قدرش أصحيها.

– برافو عليكي يا أعظم أم في الدنيا.

– كرامتك يا كوكب فوق الكل.

أمي الوحيدة أحس منذ طفولتي أنها تحبني، في عينيها نظرة مستقيمة غير ملتوية، العيون الأخرى تلتوي إن أطلت النظر إليها، حتى أبي لم تكن عيناه تثبتان في عيني، تنحرف إلى الناحية الأخرى بنظرةٍ جانبية، عيون الناس ومنهم جدي وجدتي وعمي وعمتي كلها تلتوي بحركةٍ غير مستقيمة.

كانت أمي الوحيدة صديقتي وعائلتي ووطني، وكل من لي في الدنيا، الوحيدة التي أحس أنها من دمي وجسدي وعقلي وروحي، يمكن أن أضحي بحياتي من أجل أمي فقط، لم أشعر أن الوطن هو وطني أو أبي هو أبي لأموت من أجلهما.

في اليوم التالي، جاءها صوت رئيس التحرير: إنتي فين يا كوكب؟

– أنا عاوزة إجازة مرضية يومين.

– مش ممكن المفروض تسافري نيويورك.

– ما اقدرش أسافر.

– ليه؟

– عيانة.

– عيانة بإيه؟

– عندي حرارة أربعين والدكتور أمرني أبقى في السرير أسبوعين.

– أسبوعين ليه؟ هي أنفلونزا الطيور؟

– ماعرفش يمكن أنفلونزا الخنازير!

– اسمعي يا كوكب لازم تحضري المؤتمر في نيويورك.

– ماقدرش أسافر.

– الوزير قرر إنك تسافري.

– أنا مش باشتغل عند الوزير.

– كده؟

– أيوه كده.

جسدها ينتفض رعبًا، قد يصدر الوزير قرارًا بفصلها، في أعماقها تود أن يصدر قرار الفصل وترتاح من عبء كتابة مقالها الأسبوعي، من عبء الكذب على القراء كل أربعاء، إلا أنها في اليوم التالي ذهبت إلى مكتبها في الجورنال، كتبت مقالها في ساعةٍ واحدة وسلمته إلى المطبعة، اتصلت برئيس التحرير وقالت إنها تحسَّنت ويمكن أن تسافر لحضور مؤتمر نيويورك.

تحت لمبة النور تواصل فؤادة القراءة من كراسة حميدة، تسرب الحلم الممنوع إلى سريري ذات ليلة، رأيته يمشي خلسة مثل دودة الحرير تحت اللحاف، لم أدوِّن شيئًا عن هذا الحلم قبل أن أتعلم الكتابة.

«الكتابة» تصرخ أمي «لعنها الله الكتابة.» عبارة واحدة من كلماتٍ ثلاث لم أفهمها، أحس بها فقط حين تنطقها بقشعريرة برد، ورجفة تبدأ أسفل البطن وتنتهي بأطراف أصابعي، حتى بلغت الرابعة من عمري، قبل أن أتعلم الحروف أدركت أن الكتابة مثل جريمة القتل، تؤدي إلى السجن والموت ثم الجحيم بعد الموت (تقول أمي إن بابا يعيش في الجحيم بعد موته في السجن)، أدركت قبل النطق أن ما قبل الموت يمتد إلى ما بعد الموت، حروف الكلمات حين تنطقها أمي تتحول فوق جسدي إلى كائناتٍ حية دقيقة، لها أرجل مشرشرة مثل أسنان المنشار، تترك فوق جلدي بقع دم مريبة، تلتقطها عين أمي في البيت وعين الله في السماء، وعيون الجيران المتلصصة من شقوق النوافذ والأبواب، قبل أن أتعلم الكتابة أدركت أنني أعيش رهن الرقابة الدائمة، عيونٌ كثيرة تطل على سريري في اليقظة والنوم، في الأرض والسماء (كانت الأرض تبدو ممدودة في السماء لتصبح جزءًا منها)، تصورت أن أبراج المراقبة الكونية تدون تفاصيل الحلم من تحت اللحاف، في خيالي صورة لها ترضعني، قطرات لبنها تملأ فمي مع دموعها، لم أفرق بين لبن الأم ودموعها في طفولتي المبكرة، كلاهما دافئ ناعم أبتلعه من دون وعي، حتى تعلمت تركيز نظرتي لأدقق الرؤية، أصبحت أفرق بين عين أمي وحلمة ثديها، لولا صورة أبي فوق الجدار لتصورت أنه لم يكن موجودًا، كل الأشياء تبدو لي غير موجودة حتى أحسها بيدي، لا أكف عن ملامسة الصورة بأصابعي داخل إطارها الأسود؛ لأدرك عن يقينٍ أن أبي عاش في الحقيقة، حتى اليوم بعد أن قاربت الثلاثين يبدو أبي حلمًا … أسمع أمي تهمس لجارتنا فتحية «عنيدة زي المرحوم أبوها.» تقرب فتحية فمها من أذن أمي «راكبها عفريت اسمه الكتابة.» بعد أن تعلمت لغة الكلام عرفت أن ضمير الغائب في أحاديثهما الهامسة يعود إليَّ «أنا»، أحيانًا ألتقط اسمي حميدة حين تسقط كلمة من بين أسنانهما المضمومة في لعاب داخل فم واحد، أتظاهر أنني لم أسمعهما، أخشى عقاب أمي (لم أتخيل في الحقيقة أنها أمي)، تقرصني في ذراعي أو فخذي، قرصتها لادغة غائرة تترك في اللحم حفرة حمراء تصبح زرقاء، لم يكن لشفتَيْها قدرة على الابتسام حين تلتقي عيناها عيني، كان أبي في الصورة يبتسم لي دائمًا، إن غيرت مكان الصورة فوق الجدار أو غيرت مكاني فوق الأرض، لا تتغير ابتسامة أبي، كنت أقضي الساعات في غرفتي، أغلق بابي بالمفتاح وأخلو إلى أبي، أنظر إلى صورته من الزوايا كافة، من اليمين واليسار والوسط، أصعد فوق الخزانة لأنظر إليها من فوق، أهبط إلى الأرض وأرقد فوق بطني لأنظر إليها من تحت، لم تتغير ابتسامة أبي ولا النظرة في عينَيْه المشعة بالضوء.

كنت مشغولة بسؤالٍ يراودني قبل النوم وبعد النوم، يمتد النوم في اليقظة دائمًا، والحلم يمتد في النهار أيضًا، أسأل نفسي منذ الرابعة من عمري (حتى هذه اللحظة لم تتغير الأسئلة منذ طفولتي): هل أحببت أبي لأني أحبه أم لأني أحب نفسي؟ هذا السؤال كان يراودني كالإثم كلما وقعت في الحب، أول حب في حياتي كان حب الله، ثم سمعت أمي تهمس في أذن فتحية «ربنا وضع بابا في السجن.» بعد موت أبي سمعتها تقول: «بابا مات في السجن بإرادة ربنا.» هكذا شفيت من الحب الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤