مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

١

جاز المسلمون بحر الزقاق إلى جزيرة الأندلس سنة اثنتين وتسعين من الهجرة في خلافة الوليد بن عبد الملك.

وساروا فاتحين حتى استولوا على مدينة طُلَيطلة في السنة التالية؛ وهي مدينة حصينة صعبة المنال يسَّر لهم الاستيلاءَ عليها فتحُ ما وراءها.

وامتد بهم الفتح حتى بلغوا جبال البُرتات (جبال البرانس) الجبال الفاصلة بين إسبانيا وفرنسا، اجتازوها في خلاقة عمر بن عبد العزيز (٩٩–١٠١ﻫ) وفتحوا مدينة أربونة (ناربون) وجعلوها مبدأ غزواتهم في فرنسا، ثم فتحوا طلاشة (طولوز) سنة اثنتين ومائتين، وامتد بهم الفتح إلى سنة سبع ومائة ففتحوا جنوبي فرنسا.

وفي رمضان سنة أربع عشرة ومائة، بين مدينة تور ومدينة بواتيي، كانت موقعة بلاط الشهداء، وكان قائد المسلمين عبد الرحمن الغافقي وقائد المسيحيين شارل مارتل، واضطر المسلمون إلى التراجع؛ إذ رأوا أنهم لا قِبَل لهم بهذه الجحافل الحاشدة في تلك الأصقاع النائية، وهذا كان منتهى فتح المسلمين في فرنسا، ولكنهم احتفظوا بمدينة أربونة إلى سنة اثنتين وأربعين ومائة حين استولى عليها ملك فرنسا في عهد الدولة الأموية الأندلسية.

٢

زالت الدولة الأموية في المشرق سنة اثنتين وثلاثين ومائة من الهجرة، وقام بأمر المسلمين بنو العباس، فأتبعوا بني أمية تقتيلًا وتشريدًا، وكان فيمن فرَّ من شباب بني أمية عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الملقَّب صقر قريش؛ لقَّبه أبو جعفر المنصور؛ إعجابًا بهمته، وعزيمته، وسياسته.

ضرب عبد الرحمن في شمال أفريقية حتى المغرب الأقصى ثم اجتاز البحر إلى الأندلس فبايعه الناس أميرًا عليهم فجمع أمرهم ورد عنهم جيوش العباسيين حينما حاولوا أن يمدوا سلطانهم على الأندلس كما امتد على سائر البلاد الإسلامية.

ودامت دولة بني أمية زهاء ثلاثة قرون، قويت الدولة وتمكنت وامتد سلطانها في البر والبحر، وتوالى على تدبيرها عشرة أمراء من عبد الرحمن الداخل إلى هشام حفيد عبد الرحمن الناصر في إحدى وستين ومائتي سنة، ثم اضطرب أمر الدولة فتوالى عليها أربعة عشر حاكمًا في ثلاثٍ وعشرين سنة.

وبلغت الدولة أوج مجدها وعزها، وبلغت الحضارة أزهر أعوامها وأنضر أيامها في ولاية عبد الرحمن الناصر الذي دبر الملك من سنة ٣٠٠ إلى ٣٥٠ﻫ فرد الأعداء في الشمال خائبين، وأرهب الطامعين في المغرب، فاستتب له الملك وتمكن سلطانه، وعَمَّ الأمن دولته، وعظمت هيبته، وبَعُد صيته، وازدهرت المدنية واستبحر العمران، فبنى الناصر مدينة الزهراء في ضواحي قرطبة آية في العمران، وبرهانًا على غنى الدولة وعظمتها وبلوغ الصناعات فيها غايتها.

وخلف عبد الرحمن الناصر ابنه الحَكم المستنصر ستة عشر عامًا وأمور الدول متسقة وأمنها مستتب، ومات الحكم فخلفه ابنه هشام، وهو صبي، فتطلع إلى مقاليد الأمور رجل من عباقرة التاريخ، أَهَّله للسلطان طموحُه وحزمه وشجاعته وخلقه ودينه: محمد بن أبي عامر، تسلط ابن أبي عامر على أمور الدولة كلها وأحكم تدبيرها ومكَّن هيبتها وأخاف أعداءها، وبلغت مغازيه صوب الشمال أبعد ما بلغت في عصر الدولة الأموية، غزا أكثر من خمسين غزوة لم يُهزم في واحدة حتى مات غازيًا في الشمال ونُقل إلى مدينة سالم فدُفن بها سنة ٣٩٢ﻫ.

ثبَّت ابن أبي عامر أركان الدولة ولكنه أضعَف البيت الأموي بما استبد دونهم بالأمر، وأورث السلطان بنيه، ولم يُقر الناس لبني عامر بما أقروا لبني أمية، فزالت هيبة الملك وتنازعه بنو أمية وبنو حمود العلويون حتى زالت الدولة كلها سنة ٤٢٢ﻫ.

٣

ملوك الطوائف

تقسَّم بلاد الأندلس — بعد زوال الدولة الأموية — أمراء تنازعوا رقعتَها وظفر كل واحد بما قدر عليه، فقامت إمارات تولاها أمراء سُموا ملوك الطوائف، واستمر عصرهم زهاء خمسين عامًا.

وكان للطوائف أربع عشرة دولة في أرجاء البلاد لا يتسع المجال لذكرها، ولا يحتاج هذا المقال إلى تعدادها، فإنما قصدنا إلى بني عباد من بينهم.

٤

بنو عباد

كان أعظم ملوك الطوائف وأفسحهم ملكًا وأبعدهم صيتًا وأكثرهم ذكرًا في التاريخ والأدب بني عباد ملوك إشبيلية وقرطبة.

قامت دولتهم في إشبيلية سنة ٤١٤ﻫ، ثم اتسعت فاستولت على ملك بني حمود في الجزيرة سنة ٤٥٠ﻫ، وعلى ملك بني جهور في قرطبة سنة ٤٦١ﻫ، وامتدت حتى شملت مرسية في الشرق.

ودامت دولة بني عباد سبعين سنة وتولاها منهم ثلاثة: أبو القاسم محمد، وابنه أبو عمرو عباد الملقب بالمعتضد، وابن هذا أبو القاسم محمد بن عباد الملقب بالمعتمد.

استمر مُلك الأول تسع عشرة سنة (٤١٤–٤٣٣ﻫ)، ومُلك الثاني ثمانيًا وعشرين (٤٣٣–٤٦١ﻫ)، واستمر مُلك المعتمد ثلاثًا وعشرين (٤٦١–٤٨٤ﻫ).

وكان للمعتمد في الجهاد بلاء عظيم، وفي الجود صيت ذائع، وفي الأدب منزلة عالية، ومن غِيَرِ الأيام ومصائب الحدثان نصيب موفور. وقصته — كما تأتي — كأنها في المآسي خيالُ شاعرٍ لا حقيقة واقع، وافتنان كاتب لا حادثات تاريخ.

•••

ينتمي بنو عباد إلى لخم، ثم إلى مناذرة الحيرة، تردد ذكر هذا النسب في أقوالهم وأقوال من أرَّخوا لهم أو مدحوهم:

من بني المنذرين وهو انتساب
زاد في فخرهم بنو عباد
فتية لم تلد سواها المعالي
والمعالي قليلة الأولاد

وفد جدُّهم نعيم وابنه عطَّاف من العريش إلى الأندلس، واستوطنا إقليم إشبيلية، ويعلم أن جدهم إسماعيل بن عباد، وهو جد المعتضد، اتصل بالمنصور بن أبي عامر فولاه القضاء فلبث قاضيًا إلى أن اضمحلت الدولة الأموية في أوائل القرن الرابع الهجري، ثم خلفه في القضاء والرياسة ابنه محمد بن إسماعيل القاضي جد المعتمد، عظمت مكانته وهو قاضٍ، وكان يحيى بن علي بن حمود الحسني الملقَب بالمستعلي، تغلَّب على قرطبة أيام اضطراب الدولة الأموية فذهب إلى إشبيلية محاصِرًا، فاجتمع أهلها وبايعوا القاضي على الإمارة، وقد مكَّن لمُلكه برجل ادعى أنه هشام المؤيد بن الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر — وكانت أخباره انقطعت منذ نيف وعشرين سنة ثم قيل: إنه حي في قلعة من قلاع الأندلس — فدعاه القاضي وجعل له اسم الملك ووطد به سلطانه، وثبَّت إمارته حتى توفي الرجل المدعو هشامًا فاستبد القاضي محمد بن إسماعيل بالمُلك، وكان أديبًا شاعرًا جوادًا حَسنَ السياسةِ.

•••

وأبدأ الكلام في بني عباد بجمل للفتح بن خاقان صاحب «مطمح الأنفس» و«قلائد العقيان». وكلامه كلام كاتب متنوق لا مؤرخ محقق، والقصد في هذا المقال ذِكر المعتمد بن عباد في حالَيْ نعيمه وبؤسه، وإثبات طرف من أخبار بني عباد في معرض الأدب وفي زينة الشعر والنثر في غير إخلال بالتاريخ ولا تحريف للحقائق؛ ليجمع القارئ بين حوادث التاريخ الأندلسي، وصور من أدب الأندلسيين في ذلك العصر.

قال الفتح بن خاقان في كتابه مطمح الأنفس وهو يذكر الوزير أبا القاسم محمد بن عباد وهو أول من ملك منهم:
هذه بقية منتماها في لخم،١ ومرتماها إلى مفخر ضخم، وجدهم المنذر بن ماء السماء، ومطلعهم في جو تلك السماء.

وبنو عباد ملوك أَنِس بهم الدهر، وتنفس منهم عن أعبق الزهر، وعمروا رَبع الملك، وأمروا بالحياة والهُلك.

ومعتضدهم أحد من أقام وأقعد، وتبوأ كاهل الإرهاب واقتعد، وافترش من عِرِّيْسَته، وافترس من مكايد فريسته، وزاحم بعَود، وهدَّ كل طود، وأخمل كل ذي زيٍّ وشارة، وقتل بوحي وإشارة.

ومعتمدهم كان أجود الأملاك، وأحد نيرات تلك الأفلاك.

إلى أن يقول:
والقاضي أبو القاسم هذا جدهم، وبه سفر مجدهم، وهو الذي اقتنص لهم الملك النافر، واختصهم منه بالحظ الوافر، فإنه أخذ الرياسة من أيدي جبابر، وأضحى٢ من ظلالها أعيان أكابر … وفاز من الملك بأوفر حصة، وغدت سمته به صفة مختصة، فلم يمحُ رسم القضاء، ولم يتسم بسمة الملك مع ذلك النفوذ والمضاء، وما زال يحمي حوزته، ويجلو غرته، حتى حوته الرجام، وخلت منه تلك الآجام.

وانتقل المُلك إلى ابنه المعتضد، وحل منه في روض نُمِّق له ونُضد … وتسمى بالمعتضد بالله، وارتمى إلى أبعد غايات الجود بما أناله وأولاه، لولا بطش في اقتضاء النفوس كدَّر ذلك المنهل، وعكَّر في أثناء ذلك صفو العل والنهل، وما زال للأرواح قابضًا، وللوثوب عليها رابضًا، يخطف أعداءه اختطاف الطائر من الوكر، وينتصف منهم بالدهاء والمكر، إلى أن أفضى المُلك إلى ابنه المعتمد فاكتحل منه طرفه الرَّمِد، وأحمد مجده، وتقلد منه أي بأس ونجدة، ونال به الحق مناه، وجدد سناه، وأقام في المُلك ثلاثًا وعشرين سنة لم تُعدم له فيها حسنة، ولا سيرة مستحسنة، إلى أن غلب على سلطانه، وذُهب به من أوطانه، فنُقل إلى حيث اعتُقل، وأقام كذلك إلى أن مات، ووارته تربةُ أغمات.

هذه كلمات الفتح، وأثبت هنا كذلك قول ابن اللبانة الشاعر — وهو الشاعر الوفي، مدح المعتمد أميرًا، وأشاد به وواساه أسيرًا — وسيأتي طرف من شعره في المعتمد.

قال في بني عباد:

بماذا أصفهم وأحلِّيهم، وأي منقبة من الجلالة أوليهم، فهم القوم تجل مناقبهم عن العدِّ والإحصاء، ولا يُتعرض لها بالاستيفاء والاستقصاء، ملوك بهم زُيِّنَبِ الدنيا وتحلَّت، وترقت حيث شاءت وحلَّت، إن ذكرت الحروب فعليهم يوقف منها على الخبر اليقين، أو عُدَّت المآثر فهم في ذلك في درجة السابقين، أصبح المُلك بهم مشرق القَسام، والأيام ذات بهجة وابتسام، حتى أناخ بهم الحِمام، وعطل من محاسنهم الوراء والأمام، فنَقل إلى العدم وجودهم، ولم يرعَ بأسهم وجودهم، وكل ملك آدمي فمفقود، وما نؤخره إلا لأجل معدود.

فأول ناشئة مُلكهم، ومحصل الأمر تحت مِلكهم، عظيمهم الأكبر، وسابقة شرفهم الأجلُّ الأشهر، وزينهم الذي يعد في الفضائل بالوسطى والخنصر، محمد بن عباد ويكنَّى أبا القاسم، ابن إسماعيل.

وقال ابن اللبانة يصف المعتضد خاصة، وهو ثاني أمرائهم:
المعتضد أبو عمرو عباد — رحمه الله تعالى — لم تخلُ أيامه في أعدائه من تقييد قدم، ولا عطل سيفه من قبض روح وسفك دم؛ حتى لقد كانت في باب داره حديقة لا تُثمر إلا رءوسًا، ولا تنبت إلا رئيسًا ومرءوسًا.٣ فكان نظره إليها أشهى مقترحاته، وفي التلفت إليها استعمل جل بُكرَه وروحاته، فبكى وأرَّق، وشتَّت وفرَّق، ولقد حُكي عنه من أوصاف التجبر ما ينبغي أن تُصان عنه الأسماع، ولا يتعرض له بتصريح ولا إلماع.
ويقول المرَّاكشي:

وكان قد اتخذ خشبًا في حديقة قصره جللها برءوس الملوك والرؤساء عوضًا عن الأشجار التي تكون في القصور، وكان يقول: في مثل هذا البستان فليُتَنَزَّهْ. وجملة أمر هذا الرجل أنه كان أوحد عصره شهامة وصرامة وشجاعة قلب، وحدَّة نفس، كانوا يشبهونه بأبي جعفر المنصور من ملوك بني العباس، وكان قد استوى في فخامته ومهابته القريب والبعيد لا سيما منذ قَتَلَ ابنه وأكبر أولاده المرشح لولاية عهده.

وفي كلام المراكشي تفسير قول الفتح: كانت في باب داره حديقة لا تثمر إلا رءوسًا!
وقال ابن بسَّام في «الذخيرة»:

وكان قد أوتي أيضًا من جمال الصورة وتمام الخِلقة، وفخامة الهيئة وسباطة البنان، وثقوب الذهن، وحضور الخاطر، وصدق الحدس ما فاق على نظرائه.

ونظر مع ذلك في الأدب — قبل ميل الهوى به إلى طلب السلطان — أدنى نظر، بأزكى طبع، حصل منه لثقوب ذهنه على قطعة وافرة علقها من غير تعمد لها، ولا إمعان النظر في غمارها، ولا إكثار من مطالعتها، ولا منافسة في اقتناء صحائفها، أعطته سجيته على ذلك ما شاء من تحبير الكلام وقرض قطع من الشعر ذات طلاوة ظاهرة في معانٍ أمدته فيها الطبيعة، وبلغ فيها الإرادة، واكتتبها الأدباء للبراعة، جمع هذه الخلال الظاهرة إلى جود كف بارى السحاب بها.

وتوفي المعتضد سنة ٤٣٣ﻫ بعد أن وسَّع ملكه، ومكَّن سلطانه، وأرهب أعداءه، وخلد في الأدب ذكره بلسانه ولسان شعرائه.

وأما المعتمد فالواصفوه كثيرون، وقد افتَنَّ الشعراء في مناقبه ومآثره، وأولع الكتاب بأخباره وآثاره.

يقول ابن اللبانة:٤

ملك مَجيد، وأديب على الحقيقة مُجيد، وهمام تحلى به للملك لبَّة وللنظم جيد، أفنى الطغاة بسيفه وآد؛ وأنسى بسيبه ذِكر الحارث بن عباد، فأطلع أيامه في الزمان حجولًا وغررًا، ونظم معاليه في أجيادها جواهرَ ودررًا، وشيد في كل مَعلُّوة فناءه، وعمر بكل نادرة مستغربة وبادرة مستظرفة أوقاته وآناءه، فنفقت به للمحامد سوق، وبسقت ثمرات إحسانه أيَّ بسوق، منع وقرى، وراش وبرى، ووصل وفرى.

وكان له من أبنائه عدة أقمار نظمهم نظم السلك، وزين بهم سماء ذلك المُلك، فكانوا معاقل بلاده وحُماة طارفه وتلاده، إلى أن استدار الزمان كهيئته، وأخذ البؤس في فيئته، وأثمر الخلاف وظهر، وسلَّ الشتات سيفه وشهر، والمعتمد — رحمه الله تعالى — يطلب نفسه في أثناء ذلك بالثبات بين تلك الثُّبات، والمُقام في ذلك المَقام، إلى أن بُدل القطب بالواقع، واتسع الخرق على الراقع.

فاستعضد بابن تاشفين؛ فورد عليه كتابه يشعر بالوفاء، فثاب إليه فكر خاطره وفاء، وثبت خلال تلك المدة للنزال، ودعا من رام حربه نَزال، إلى أن أصبح والحروب قد نهبته، والأيام تسترجع منه ما وهبته، فَثُلَّ ذلك العرش، واعتدت الليالي حين أمنت من الأرش، فنُقل من صهوات الخيول إلى بطون الأجفان،٥ وهذه الدنيا جميع ما لديها زائل، وكل من عليها فانٍ، فما أغنت تلك المملكة وما دَفَعَتْ، وليتها ما ضرت؛ إذ لم تكن نفعت، وكل يلقى معجَّله ومؤجَّله، ويبلغ الكتاب أجله.
ونقل المقري قول علي بن القطاع في كتابه «لُمَح المُلَح» عن المعتمد بن عباد:

أندى ملوك الأندلس راحة، وأرحبهم ساحة، وأعظمهم سمادًا، وأرفعهم عمادًا، ولذلك كانت حضرته مُلقى الرحال، وموسم الشعراء، وقبلة الآمال، ومألف الفضلاء؛ حتى إنه لم يجتمع بباب أحد من ملوك عصره من أعيان الشعراء وأفاضل الأدباء ما كان يجتمع ببابه وتشتمل عليه حاشيتا جنابه.

وفي «نَفْحِ الطِّيب»:
وقال الفقيه القاضي أبو بكر بن خميس — رحمه الله تعالى — حين ذكر تاريخ بني عباد: وقد ذكر الناس للمعتمد من أوصافه ما لا يبلغ مع كثرته إلى إنصافه، وأنا الآن أذكر نبذة من أخباره، وأردفها بما وقفت عليه من منظومات أشعاره، فإنه — رحمه الله تعالى — جم الأدب رائعه، عالي النظم فائقه.٦
ويقول المراكشي في كتاب المعجب:

وكان المعتمد هذا يشبَّه بهارون الواثق بالله من ملوك بني العباس، ذكاء نفس وغزارة أدب، وكان شعره كأنه الحلل المنشَّرة، واجتمع له من الشعراء وأهل الأدب ما لم يجتمع لملك قبله من ملوك الأندلس، وكان مقتصرًا من العلوم على علم الأدب وما يتعلق به وينضم إليه.

وكان فيه مع هذا من الفضائل الذاتية ما لا يحصى؛ كالشجاعة والسخاء والحياء والنزاهة، إلى ما يناسب هذه الأخلاق الشريفة، وفي الجملة فلا أعلم خصلة تُحمد في رجل إلا وقد وهبه الله منها أوفر قسم، وضرب له فيها بأوفى سهم، وإذا عُدَّت حسنات الأندلس من لدن فتحها إلى هذا الوقت؛ فالمعتمد هذا أحدها بل أكبرها.

هذا كلام مؤلف من المغرب عاش في القرن السابع، بعد المعتمد بقرنين لا يمدح رغبة ولا رهبة، ولست أوافقه في كل ما قال، ولكني أنقل قوله وقول غيره؛ إشهادًا على ما اعتقده أدباء الأندلس والمغرب وشعراؤها ومؤرخوها في المعتمد بن عباد، وما كان لسيرته من الأثر في نفوس أهل عصره، والعصور التي تلته.

وقال مؤلف نفح الطيب بعد نقل طرف من أخبار المعتمد:
وأخبار المعتمد بن عباد، وما رآه من المُلك والعز في كل حاضر وبادٍ، وما قاساه في الأسر، من الضيق والعسر وسوء العيش، أمر عجيب يتعظ به العاقل الأريب. وأما ما مدحته به الشعراء، وأجوبته لهم في حالَيْ يُسرِه وعسره، وملكه وأسره، وطيه ونشره، وتجهمه وبِشره، فهو كثير، وفي كتب التاريخ منه نظيم ونثير، وقد قدمنا منه في هذا الكتاب ما يبعث الاعتبار ويثير.٧
وقال ابن بسام في «الذخيرة»:

كان للمعتمد بن عباد شعر كما انشق الكِمام عن الزهَر، لو صار مثله ممن جعل الشعر صناعة، واتخذه بضاعة، لكان رائعًا معجِبًا ونادرًا مستغربًا … والعجب من المعتمد أنه مري سحابه في كلتا حالتيه فصاب، ودعا خاطره فأجاب، ولا تَرَاجَعَ له طبعٌ، في الملك ولا بعد الخلع، بل يومه في هذا الشأن دهر، وحسنته في هذا الديوان عشر.

وقال الفتح بن خاقان في قلائد العقيان:٨
ملك قمع العدا، وجمع الباس والندى، وطلع على الدنيا بَدر هدى، لم تتعطل يومًا كفُّه ولا بنانه، آونة يراعه وآونة سنانه، وكانت أيامه مواسم، وثغور برِّه بواسم، ولياليه كلها دررًا، وللزمان أحجالًا وغررًا، لم يُغفلها من سمات عوارف، ولم يُضِحها من ظل إيناس وارف، ولا عطَّلها من مأثرة بقي أثرها باديًا، ولقي معتفيه منها إلى الفضل هاديًا، وكانت حضرته مطمحًا للهمم، ومسرحًا لآمال الأمم، وموقفًا لكل كميٍّ، ومقذفًا لذي أنف حميٍّ، لم تخلُ من وفد، ولم يصحُ جوُّها من انسجام رِفد، فاجتمع تحت لوائه من جماهير الكُماة، ومشاهير الحُماة، أعداد يَغص بهم الفضاء، وأنجاد يُزهى بهم النفوذ والمضاء، وطلع في سمائه كل نجم متقد، وكل ذي فهم منتقد، فأصبحت حضرته ميدانًا لرهان الأذهان، وغاية لرمي هدف البيان، ومضمارًا لإحراز خَصل، في كل معنى وفصل، فلم يرتسم في زمامه إلا بطل نجد، ولم يتسق في نظامه إلا ذكاء ومجد، فأصبح عصره أجمل عصر، وغدا مصره أكمل مصر، تسفح فيه ديم الكرم، ويُفصح فيه لسانا سيفٍ وقلم، ويفضح الرضيُّ في وصفه أيام ذي سلَم.٩

وكان قومه وبنوه لتلك الحلبة زينًا، ولتلك الجملة عينًا، إن ركبوا خلت الأرض فُلكًا يحمل نجومًا، وإن وهبوا رأيت الغمام سَجومًا، وإن أقدموا أحجم عنترة العبسي، وإن فخروا أقصر عَرابة الأوسي. ثم انحرفت الأيام فألوت بإشراقه، وأذوَتْ يانع إيراقه، فلم يدفع الرمح ولا الحسام، ولم تنفع تلك المنن الجسام، فتُمَلَّكَ بعد المُلك، وحُطَّ من فلكه إلى الفُلك.

١  ينتسب بنو عباد إلى قبيلة لخم ومنها كان أمراء الحيرة المسمون المناذرة.
٢  أضحى: سيرهم ضاحين أي بارزين للشمس غير مظللين.
٣  منقول عن ابن خلكان، ترجمة المعتمد بن عباد.
٤  نفح الطيب ج٥، ص٣٧٦.
٥  نوع من السفن.
٦  نفح الطيب ج٥، ص٣٧٧.
٧  نفح الطيب ج٦، ص١٠٥.
٨  «القلائد»، ترجمة المعتمد بن عباد.
٩  يعني الشريف الرضي في غزله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤