المعتمد والأدب

نشأت دول الطوائف الأندلسية في القرن الخامس الهجري، وهو عصر زَهَر بالعلوم والآداب في الأندلس، على ما كان فيها من اضطراب سياسي أطاح بدولة الخلافة الأموية وزاده سقوط الخلافة شدة وانتشارًا.

والقرن الخامس في الأندلس كالقرن الرابع في المشرق الإسلامي؛ اضطربت فيه دولة الخلافة وتقلَّص ظلها ونشأت منها دول صغيرة تنافست في دعوة العلماء والأدباء، وتبارت في الاحتفاء بمن يفد إليها من الشعراء، وإغداق العطاء لهم؛ رغبة في حسن السمعة، وبُعدِ الصيت.

نشأت دول الطوائف في الأندلس في القرن الخامس كما نشأت في المشرق دول السامانيين والبوبهيين والغزنويين والحمدانيين وغيرها.

وأرى أن سير العلم والأدب في الأندلس يتأخر قرنًا عن سيره في المشرق، فكبار الفلاسفة ونوابغ الشعراء والكُتَّاب الأندلسيين يتأخرون في الجملة عن نظرائهم في المشرق قرنًا، ولهذا أسباب لا يتسع لها هذا المجال.

تنافست دول الطوائف في الأندلس في المكارم والمفاخر، وفي تشييد الأبنية، وفي الاعتزاز بالعلماء والأدباء والشعراء الذين ينعمون في ظلالها ويتنافسون في تخليد مآثرها وتسيير ذكرها في كتب التاريخ والعلم والأدب.

•••

وبنو عباد كانوا أكثر ملوك الطوائف حظًّا من القوة وسعة السلطان وبُعد الصيت، وأوفرهم نصيبًا في وفود الأدباء والشعراء والعلماء إليهم؛ بما تسلطوا على إشبيلية وقرطبة وما يتبعهما، وكانت قرطبة حاضرة الخلافة الأموية ومركز العلوم والآداب ثلاثة قرون، في عهد الأمويين، وبلغت فيها الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس أوجها.

وبنو عباد عرب من لخم ورثوا السيادة والعزة وورثوا حب الأدب، ولا سيما نظم الشعر والإعجاب به والمشاركة فيه والإثابة عليه.

يقول الأستاذ بالنثيا في كتابه «تاريخ الفكر الأندلسي»:١

وكان الحال في إشبيلية شبيهًا بما كان عليه في المِريَّة؛ إذ طغى الشعر فيها على ما عداه من أضرُب الأدب في ظل بني عباد، ولقد كان المعتضد والمعتمد من أعلام الشعراء، ومن ثم لا نستغرب أن يكون بلاطهما مدرسة تخرج فيها أهل الآداب، وقد وصلت الخمريات وشعر النسيب والغزل أعلى درجات الكمال في هذا البلاط المصقول؛ حيث عجز شعراء مجيدون — من طبقة علي بن حصن، وابن حمديس الصقلي وأبي بكر بن زيدون وأبي بكر بن اللبانة وغيرهم كثيرون — عن إدراك ما وصل إليه ابن عمار وزير المعتمد النابه الذكر المنكود الحظ من تحليق في سماء الشعر، وقصروا كذلك في ملاحقة اعتماد نفسها زوجِ المعتمد وجارية رُميك التاجر الإشبيلي قبله، فضلًا عن مجاراة الملك الشاعر المعتمد فيما أبدعه من رائع القصيد، والحق أن المعتمد وُفِّقَ أيام مجده وسعوده إلى درجة من التجويد مكَّنت له مِن أن يصل بشعره في أبواب الغزل ووصف مجالس السرور ووصف الحرب والنصر إلى آفاق استدرت إعجاب البدو أنفسهم.

وثبَت هذا أن ينظر القارئ فيما كان بين المعتمد وكبار الشعراء من تقارض الشعر في أحوال شتى، سيجد القارئ أن المعتمد لم يقصر في مجاراة ابن زيدون وابن عمار وابن حمديس وابن اللبانة بل يجده مبرزًا عليهم أحيانًا، وسيمر بالقارئ كثير من تقارض الشعر بين المعتمد وشعرائه في نعيمه ودولته وبؤسه ومحنته.

وحسبنا هنا شهادة لسان الدين بن الخطيب، وما نقله عن ابن الصيرفي، قال عن المعتمد:
كنيته أبو القاسم، وهو الجواد الشجاع البليغ، ذو الأخبار الشهيرة الذكر، والأنباء الموروثة على الدهر، قال ابن الصيرفي:
المعتمد على الله محمد بن عباد نسيج وحده في الجود، وأصلب نظرائه مكسر عود، فذ في البلاغة، طرِف في الشعر والكتابة، بارع النظم والنثر، كثير الأدب، جزل الألفاظ، كثير المعاني، حسن المآخذ، لدن معاطف الكلام، رقيق الحاشية، كثيف المتن، كثير البديع، رائق الديباجة، لائق الاستعارة، حَسن الإشارة، جَم التوليد، لم ينشده من الوزراء والشعراء أشعر منه، على كثرة ما اجتلب إليه من أعلامه الثناء، ونثر عليه من دُر الحمد، ووضع في يديه من حرِّ القريض.٢

كان المعتمد شاعرًا مجيدًا رقيق الطبع، مرهف الحس، يعرب بالشعر عن عواطفه، ويسجل به خواطره في فرحه وترحه، وجده وهزله.

كان هو شاعرًا والرميكية أم أولاده شاعرة، وكان بنوه شعراء، ومنهم من ترجم له بين أدباء الأندلس، وكانت بنته بثينة شاعرة ذُكرت في الشواعر الأندلسيات.

وسيأتي ذكر أولاد المعتمد وزوجه وأمثلة من شعرهم في الفصول الآتية.

١  ترجمة الدكتور حسين مؤنس.
٢  منقول من مقدمة ديوان المعتمد للأستاذين: أحمد بدوي، وحامد عبد المجيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤