المعتمد في إساره والأوفياء من الشعراء وغيرهم

١

أبو بكر محمد بن عيسى الداني المعروف بابن اللبانة

وفاء ابن اللبانة للمعتمد بن عباد، مَثل كريم من الوفاء للصديق في نكبته ومواساته في مصيبته.

اتصل الشاعر ببني عباد ومدحهم منذ أيام المعتضد أبي المعتمد، وحمد صحبتهم، وشكر نعمتهم، وكتب في تاريخهم كتاب «الاعتماد في أخبار بني عباد» وكتب بعد ما حلت بهم الفاجعة: «نظم السلوك في مواعظ الملوك»؛ يبين العبرة والموعظة فيما أصاب هؤلاء الأمراء الأدباء الكرماء.

وأنقل هنا كلمات للفتح بن خاقان في كتابه «قلائد العقيان» فيها إجمال حال الشاعر مع المعتمد بن عباد في دولته ومحنته:
كان المعتمد على الله يميزه بالتقريب، ويستعذب ما يأتي به من النادر الغريب، ويوليه إنعامًا وإحسانًا، ويريه الزمان كله آذارًا ونيسانًا،١ فلما نبت صِعاده، وأعوزه من دهره إسعاده، ورُحل به إلى المغرب، وحلَّ فيه محل النازح المغترب، وغدرته الأيام غدر أهل خراسان بقتيبة، وفَّى له أبو بكر بالرحلة إليه وفاء الظعينة لعتيبة، وتراسلا هناك بأشعار شفى بها المعتمد نفسه، واستوفى سلوَّه وأنسه، وشكر له ما ناله من مسلاته، وحمد عقد موالاته، وصار له بذلك حق مشهور، وفخر لا تبليه الدهور.

ولست في حاجة إلى الإطناب في وفاء هذا الرجل الكريم فهذه نبذ من أنبائه، تدل على عظيم وفائه:

شهد هول الواقعة في إشبيلية ورأى رأي العين المعتمد وآله يؤسرون، وأنشأ قصيدته التي قدمت:

تبكي السماء بمزن رائح غادي
على البهاليل من أبناء عباد
يقول الشاعر: «ورُحل بالمعتمد وآله بعد استئصال جميع ماله، لم يصحب معه بُلغة زاد، ولا بغية مراد، فأمضيت عزيمتي في اتباعه، فوصلت إليه بأغمات عقب ثقاف استنفذه الله منه،٢ فذكرتُ به شعرًا كان لي في صديق اتفق له مثل ذلك في الشهر بعينه من العام الماضي، وهو الأمير عبد الله بن الصفار، وهو:
لم أقل في الثقاف كان ثقافا
كنت قلبًا به وكان شغافَا

وجرت بيني وبينه مخاطبات ألذ من غفلات الرقيب، وأشهى من رشفات الحبيب، وأدل على السماح، من فجر الصباح.»

فهذا شاعر وفيٌّ يذهب في إثر صاحبه من إشبيلية في الأندلس إلى أغمات في المغرب، وهو لا يرجو خيرًا ولا يأمل مغنمًا، بل يحتمل المشقة ويركب الخطر؛ حفاظًا على الذمام، ووفاء بالعهد، ومواساة للصديق.

ويقول ابن اللبانة: كنت مع المعتمد بأغمات، فلما قاربت الصدَر، وأزمعت السفر، صرف حيلَه واستنفد ما قِبَله، وبعث إليَّ مع شرف الدولة ولده — وهذا من بنيه أحسن الناس سمتًا، وأكثرهم صمتًا، تُخجله اللفظة، وتجرحه اللحظة، حريص على طلب الأدب، مسارع في اقتناء الكتب، مثابر على نسخ الدواوين، مفتح فيها من خطه زَهر الرياحين — بعشرين مثقالًا مرابطية وثوبين غير مخيطين، وكتب معها أبياتًا منها:

إليك النزر من كف الأسير
وإن تقنع تكن عين الشكور
تقبَّل ما يذوب له حياء
وإن عذرته حالات الفقير

فامتنعت من ذلك عليه وأجبته بأبيات منها:

تركت هواك وهو شقيق ديني
لئن شُقَّت برودي عن غَدور
ولا كنتُ الطليق من الرزايا
إذا أصبحتُ أجحف بالأسير
جذيمة أنت، والزباء خانت
وما أنا من يقصِّر عن قصير
تُصَرِّف في الندى حيَل المعالي
فتسمح من قليل بالكثير
وأعجب منك أنك في ظلام
وترفع للعُفاة منار نور
رويدك سوف توسعني سرورًا
إذا عاد ارتقاؤك للسرير
وسوف تُحلني رتب المعالي
غداة تحل في تلك القصور
تزيد على ابن مروان عطاء
بها، وأزيد ثَمَّ على جرير
تأهب أن تعود إلى طلوع
فليس الخسف ملتزم البدور

وأتبعتها أبياتًا منها:

حاش لله أن أجيح كريمًا
يتشكى فقرًا وكم سد فقرا
وكفاني كلامك الرطب نيلًا
كيف ألفى درًّا وأطلب تبرا
لم تمت إنما المكارم ماتت
لا سقى الله بعدك الأرض قطرا

اختصر ابن اللبانة الأبيات التي أرسلها المعتمد مع الهدية والأبيات التي أجاب هو بها، كما أغفل أبيات المعتمد التي أرسلها إليه حينما رد الهدية معتذرًا، وكذلك اختصر الأبيات التي أجاب بها هو عن أبيات المعتمد.

فرأيت أن أثبت الأبيات التي اختصرها الشاعر والتي أغفلها، على ما في هذا من إطالة؛ حرصًا على تعريف القارئ بما نظمه المعتمد في أيام أسره وما راسل بها الشاعر الوفي ابن اللبانة خاصة.

أثبت ابن اللبانة بيتين للمعتمد أولهما:

إليك النزر من كف الأسير
… … … …

وبعدها هذه الأبيات:

ولا تعجب لخطب غضَّ منه
أليس الخسف ملتزم البدور؟
ورجَّ لجبره عُقبى نداه
فكم جبرتْ يداه من كسير
وكم أعلت علاه من حضيض
وكم حطَّت ظُباه من أمير
وكم من منبر حَنَّتْ إليه
أعالي مرتقاه، ومن سرير
زمانَ تزاحفت عن جانبيه
جيادُ الخيل بالموت المُبير
فقد نظرت إليه عيون نحس
مضت منه بمعدوم النظير
نحوس كُنَّ في عقبى سعود
كذاك تدور أقدار القدير
وكم أحظى رضاه مِن حَظِيٍّ
وكم شهرت علاه من شهير
زمانَ تنافست في الحظ منه
ملوك قد تجور على الدهور
بحيث يطير بالأبطال ذعر
ويلفى ثَمَّ أثبت من ثبير

فأجاب ابن اللبانة بهذه الأبيات:

سقطتَ من الوفاء على خبير
فذرْني والذي لك في ضميري
تركت هواك وهو شقيق ديني
لئن شُقَّت برودي عن غَدور
ولا كنتُ الطليق من الرزايا
لئن أصبحت أجحف بالأسير
أسير ولا أصير إلى اغتنام
معاذ الله من سوء المصير
إذا ما الشكر كان، وإن تناهى،
على نعمى، فما فضل الشكور؟
جذيمة أنتِ والزباء خانت
وما أنا من يقصِّر من قصير
أنا أدرى بفضلك منك إني
لبست الظل منه في الحَرور
غنيُّ النفس أنت وإن ألحَّت
على كفيك حالات الفقير
تصرف في الندى حِيَل المعالي
فتسمح من قليل بالكثير
أحدِّث منك عن نبع غزير
تفتح عن جنَى زَهر نضير
وأعجب منك أنك في ظلام
… … … …

إلخ.

تأتي خمسة الأبيات الأخيرة على النسق الذي في رواية ابن اللبانة.

•••

وهذه الأبيات التي أنشأها المعتمد حين أبى ابن اللبانة قبول الهدية:

ردَّ بِرِّي بغيًا عليَّ وبِرًّا
وجفا فاستحق لومًا وشكرا
حاط نزري إذ خاف تأكيد ضري
فاستحق الجفاء أن حاط نزرا
فإذا ما طويتُ في البعض حمدًا
عاد لومي في البعض سرًّا وجهرًا
يا أبا بكر الغريبَ وفاء
لا عدمناك في المغارب ذخرا
أي نفع يجدي احتياط شفيق
متّ ضرًّا فكيف أرهب ضرا

فأجاب ابن اللبانة:

أيها الماجد السميدع عذرًا
صرفي البر إنما كان برا
حاش لله أن أجيح كريمًا
يتشكى فقرًا وكم سدَّ فقرا
لا أريد الجفاء فيه عقوقًا
غدر الدهر بي لئن رمت غدرا
ليت لي قوة أو آوي لركن
فترى للوفاء مني سرا
أنت علمتني السيادة حتى
ناهضت همتي الكواكب قدرا
ربحت صفقة أزيلُ برودًا
عن أديمي بها وألبس فخرا٣
وكفاني كلامك الرطب نيلًا
كيف ألقى درًّا وأطلب تبرا
لم تمت إنما المكارم ماتت
لا سقى الله بعدك الأرض قطرا
واستمع ما يقول الفتح بن خاقان عن الشاعر وأميره حين زاره في محبسه:
وفي هذه الحالة زاره الأديب أبو بكر بن اللبانة، وكان المعتمد رحمه الله يميزه بالشفوف والإحسان، ويجوِّزه على فرسان هذا الشأن، فلما رآه وحلَقات الكبل قد عضت ساقيه عض الأسود، والتوت عليه التواء الأساود السود، وهو لا يطيق إعمال قدم، ولا يريق دمعًا إلا ممزوجًا بدم، بعد ما عهده فوق منبر وسرير، ووسط جنة وحرير، تخفق عليه الألوية، وتشرق منه الأندية، وتَكِف الأمطار من راحته، وتَشرفُ الأقدار بحلول ساحته، ويرتاع الدهر من أوامره ونواهيه، ويقصر النسر أن يقارنه أو يضاهيه، ندبه بكل مقال يُلهب الأكباد، ويثير فيها لوعة الحارث بن عباد، أبدع من أناشيد مَعبَد، وأصدع للكبد من مراثي أربد٤ أو بكاء ذي الرمة بالمربد، سلك فيها للاحتفاء طريقًا لاحبًا، وغدا فيها لذيول الوفاء ساحبًا، فمن ذلك قوله:
انفض يديك من الدنيا وساكنها
فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا
وقل لعالمها السفلي قد كتمت
سريرةَ العالم العلوي أغمات
طوت مظلتُها، لا بل مذلتها
من لم تزل فوقه للعز رايات
من كان بين الندى والبأس أنملُه
هندية، وعطاياه هنيدات
رماه من حيث لم تستره سابغة
دهرٌ مصيباته نبلٌ مصيبات
أنكرتُ إلا التواءات القيود به
وكيف تنكر في الروضات حيات
غلطتُ بن همايين٥ عُقدن له
وبينها، فإذا الأنواع أشتات
وقلت هن ذؤاباتٌ فلم عُكست
من رأسه نحو رجليه الذؤابات
حسبتُها من قنا أو من أعنته
إذا بها لثقاف المجد آلات
درَوه لينًا فخافوا منه عادية
عذرتهم، فلعَدو الليث عادات
لو كان يُفرج عنه بعضَ آونة
قامت بدعوته حتى الجمادات
بحر محيط عهدناه تجيء له
كنقطة الدارة، السبعُ المحيطات
لهفي على آل عباد فإنهم
أهلَّة ما لها في الأفق هالات
راح الحيا وغدا منهم بمنزلة
كانت لنا بُكَر فيها ورَوْحات
أرض كأن على أقطارها سُرُجًا
قد أوقدتهن بالأدهان أنبات
وفوق شاطئ واديها رياض رُبًا
قد ظللتها من الأنشام دوحات٦

إلى أن يقول بعد تعديد مواطن السرور واللهو في ديار بني عباد:

معاهد ليت أني قبل فرقتها
قد متُّ والتاركوها ليتهم ماتوا
فُجعتُ منها بإخوان ذوي ثقة
والأرض فيها من الإخوان آفات

وسنة ست وثمانين وأربعمائة بعد أسر المعتمد بسنتين، كان الشاعر في أغمات يواسي الأمير، ويندب حظه، وينظم القصائد أوزانها وقوافيها من اللوعات والزفرات، أنشأ هناك قصيدة طويلة منها:

لئن عظمت فيك الرزية إننا
وجدناك منها في البرية أعظما
قناةٌ سعت للطعن حتى تقصَّفت
وسيف أطال الضرب حتى تثلما

ومنها:

بكى آل عباد ولا كمحمد
وأولادِه صوب الغمامة إذ همى
حبيب إلى قلبي حبيب، لقوله:
«عسى طلل يدنو بهم ولعلما»٧
صباحهم كنَّا به نحمد السرى
فلما عدمناهم سرينا على عمى
وكنا رعينا العز حول حماهم
فقد أجدب المرعى وقد أقفر الحمى

ومنها:

حكيتُ وقد فارقت ملكك مالكًا
ومن وَلَهي أحكي عليك مُتمما٨
مصاب هوى بالنيِّرات من العلا
ولم يُبقَ في أرض المكارم مَعْلما
تضيق عليَّ الأرض حتى كأنما
خلقتُ وإياها سوارًا ومعصما
ندبتك حتى لم يُخلِّ لي الأسى
دموعًا بها أبكي عليك ولا دما
وإني على رسمي مقيم، فإن أمت
سأجعل للباكين رسمي موسما
بكاك الحيا، والريح شقت جيوبها
عليك، وناح الرعد باسمك معلما
ومزِّق ثوب البرق واكتست الضحى
حدادًا وقامت أنجم الجو مأتما
وحار ابنك الإصباح وجدًا فما اهتدى
وغار أخوك البحر فيضًا فما طمى
وما حلَّ بدر التم بعدك دارة
ولا أظهرت شمس الظهيرة مبسما

وكانت قيود المعتمد انفكت عنه فأشار إلى هذا في القصيدة:

قيودك ذابت فانطلقت لقد غدت
قيودك منهم بالمكارم أرحما
عجبت لأن لان الحديد وإن قَسوا
لقد كان منهم بالسريرة أعلما
سينجيك من نجى من السجن يوسفًا
ويؤويك من آوى المسيح ابن مريما

هذا الشاعر الوفي يُشيد بممدوحه في أسره، ويلوم آسريه وهم أصحاب الدولة والسطوة، ويؤمل له النجاة والعود إلى ملكه، وفي هذا مخاطرة بنفسه، وتعرض لعقاب المرابطين وهو في سلطانهم، والشاعر في هذا كله لا يريد جزاءً ولا شكورًا، ولكنه الرثاء للصديق، والوفاء لصاحب المعروف.

قال المقري في نفح الطيب:
ولأبي بكر الداني المذكور في البكاء على أيامهم وانتثار نظامهم عدة مقطعات وقصائد هي قرة عين الطالب، ونجعة الرائد، وقد اشتمل عليها جزء لطيف صدر عنه في هيئة تصنيف سماه «السلوك في وعظ الملوك»،٩ ووفد على المعتمد بأغمات عدة وفادات لم يخل في جميعها من إفادات، وقال في إحداها: «هذه وفادة وفاء لا وفادة اجتداء.»

أقول: تقدم أنه أبى أن ينال شيئًا من المعتمد بعد نكبته، فقول المقري أو من نقل عنه: «لم يخلُ في جميعها من إفادات»، لا أدري ما سَنده.

•••

وتصور هذا المرأى الفظيع: مر ابن اللبانة في أحد الأسواق؛ فإذا ابن من أبناء المعتمد، كان يلقب في سلطان أبيه بفخر الدولة، اضطره نكد الدنيا وقسوة الزمان، إلى أن يخدم في حانوت صائغ؛ ليحصل قوته، رآه ينفخ في الفحم ليشعل النار، فماذا يقول الصديق الشاعر حين يرى ابن المعتمد — وكم رآه في ظلال النعمة والسؤدد — ينفخ النار في حانوت صائغ؟! أيُّ مرأى يهيج الأحزان، ويُملي عبر الزمان … قال:

شكاتنا لك يا فخر العلا عَظُمت
والرزء يعظم فيمن قدره عَظُما
طُوِّقَت من نائبات الدهر مخنقة
ضاقت عليك وكم طوَّقتنا نعما
وعاد طوقك في دكان قارعة
من بعد ما كنتَ في قصر حكى إرما
صرَّفت في آلة الصوَّاغ أنملة
لم تدرِ إلا الندى والسيف والقلما
يد عهدتك للتقبيل تبسطها
فتستقل الثريا أن تكون فما
يا صائغًا كانت العليا تُصاغ له
حَليًا وكان عليه الحلْي منتظما
للنفخ في الصور هول ما حكاه سوى
هول رأيتك فيه تنفخ الفحما
وددت إذ نَظرت عيني إليك به
لو أن عيني تشكو قبل ذاك العمى
ما حطك الدهر، لما حطَّ، من شرف
ولا تحيف من أخلاقك الكرما
لُح في العُلا كوكبًا إن لم تلح قمرًا
وقم بها ربوة إن لم تقم علما
واصبر فربَّتما أحمدت عاقبة
من يلزم الصبر يحمد غبَّ ما لزما
والله لو أنصفتك الشهب لانكسفت
ولو وفَى لك دمع الغيث لانسجما
أبكَى حديثك حتى الدر حين غدا
يحكيك رهطًا وألفاظًا ومبتسما

وأختم حديث الشاعر الوفي والأمير التعيس، بأبيات نظمها الشاعر يذكر معاهد العز والجذل من ديار بني عباد:

أستودع الله أرضًا عندما وضحت
بشائر الصبح فيها بُدلت حلكا
كان المؤيد بستانًا بساحتها
يُجنى النعيم وفي عليائها فلكا١٠
في أمره لملوك الدهر معتبر
فليس يغتر ذو ملك بما ملكا
نبكيه من جبل خرَّت قواعده
فكل من كان في بطحائه هلكا

٢

وفاء ابن حمديس

ومن الشعراء الذين وفوا للمعتمد في أسره، وواسوه في محنته الشاعر عبد الجبار بن حمديس.

لما أسر المعتمد وأخذ إلى أغمات، أنشأ الشاعر قصيدة تنبض حزنًا ولوعة، وتنطق بما كرب الشاعر في هذه النازلة:

أباد حياتي الموت إن كنت ساليا
وأنت مقيم في قيودك عانيا
وإن لم أُبارِ المزن قطرًا بأدمع
عليك فلا سقيتُ منها الغواديا
تعرَّيت من قلبي الذي كان ضاحكًا
فما ألبس الأجفان إلا بواكيا
وما فَرَحي يوم المسرة طائعًا
ولا حَزَني يوم المساءة عاصيا
وهل أنا إلا سائل عنك سامع
أحاديثَ تُبكي بالنجيع المعاليا

إلى أن يقول:

وما كنت أخشى أن يقال محمد
يميل عليه صائب الدهر قاسيا
حسامُ كفاحٍ بات في السجن مُغمدًا
وأصبح من حَلْي الرياسة عاريا
فيا جبلًا هَدَّ الزمان هضابه
أما كنتَ بالتمكين في العز راسيا؟
قصرتَ ولما تقض حاجتك التي
جرى الدهر فيها راجلًا لك حافيا

ويقول:

أمرُّ بأبواب القصور وأغتدي
لمن بان عنها في الضمير مناجيا
وأنشد لا ما كنت فيهن منشدًا
ألا حيَّ بالدوِّ الرسوم الخواليا
وأدعو بنيها سيدًا بعد سيد
ومن بعدهم أضحت رمامًا بواليا
مضيت حميدًا كالغمامة أقشعت
وقد ألبستْ وشيَ الربيع المغانيا
سأدمي جفوني بالسهاد عقوبةً
إذا وقفتْ عنك الدموعَ الجواريا
وأمنع نفسي من حياة هنيئة
لأنك حيٌّ تستحق المراثيا

وكتب المعتمد إلى ابن حمديس الأبيات التي أولها:

غريب بأرض المغربين أسير
سيبكي عليه منبر وسرير

وقد أثبتُّها فيما تقدم.

فأجاب الشاعر:

جرى بك جَدٌّ بالكرام عَثور
وجار زمان كنت فيه تجير
لقد أصبحتْ بيض الظُّبى في غمودها
إناثًا لترك الضرب، وهي ذكور
تجيء خلافًا للأمور أمور
ويعدل دهر في الورى ويجور
أتيأس من يوم يناقض أمسه
وزُهر الدراري في البروج تدور
وقد تنبه الأقدار بعد خمولها
وتخرج من تحت الخسوف بدور
لئن كنت مقصورًا بدار عمرتَها
فقد يقصر الضرغام وهو هصور
أعزَّ الأسارى أن يقال: محمد
غريب بأرض المغربين أسير

إلى أن يقول:

إلى اليوم لم تذعر قطا الليل قرَّح
يُغير بها عند الصباح مغير
ولا راح من نادى المكارم بالغنى
يقلِّبه في الراحتين فقير
لقد صنتَ دين الله خير صيانة
كأنك قلب فيه وهو ضمير
ولما رحلتم بالندى في أكفكم
وقُلقِل رَضوى منكم وثَبير
رفعت لساني بالقيامة قد أتت
فهذي الجبال الراسيات تسير

وذهب الشاعر لزيارة المعتمد في أغمات فصرفه بعض خدمه بأنه لا يوجد في ذلك الوقت، فرجع عبد الجبار إلى منزله، فأخبر المعتمد بمجيئه ورجوعه، فعسر ذلك عليه وعنف خدمه، وكتب إليه بالغداة بهذا الشعر يعتذر إليه:

حُجبتَ فلا والله ما ذاك عن أمري
فأصغ فدتك النفس سمعًا إلى عذري
فما صار إخلال المكارم لي هوًى
ولا دار إخجال لمثلك في صدري
عدمت من الخدَّام كل مهذب
أشير إليه بالخفي من الأمر
ولم يبقَ إلا كل أدكن ألكن
فلا آذن في الأذن يبري
حمار إذا يمشي، ونسر محلق
إذا طار، بعدًا للحمار وللنسر
وليس بمحتاج أتانًا حمارُهم
ولا نسرُهم ممن يحن إلى وكر
وهل كنتَ إلا البارد العذب، إنما
به يشتفي الظمآن من غُلة الصدر
ولو كنتُ ممن يشرب الخمر كنتَهَا
إذا نزعتْ نفسي إلى لذة الخمر
وأنت ابن حمديس الذي كنتَ مُهديًا
لنا السحر إذ لم يأتِ في زمن السحر

فأجابه ابن حمديس بأبيات منها:

وإني امرؤ في خجلة مستمرة
يذوب لها في الماء جامدة الصخر١١
أتتني قوافيك التي جل قدرها
بما نقطة منهن مُغرقة بحري
لعلك إذ أغنيتي منك بالندى
أردتَ الغنى لي مِن مديحك بالفخر
لعمرك إني ما توهمت ريبة
تبرقع وجه العرف عندك بالنكر

•••

وكنتُ أملُّ الجود منك وأنت لا
تمل عطاء منك يأتي على الوفر
فكيف أظن الظن غير مبرأ
تواضع فيها كوكب الجو عن قدر
يخف على خُدام مَلك حجابتي
كما خفَّ هُدبٌ في العيون على شفر

إلى أن يقول:

لياليَ لا أشدوك إلا مطوقًا
بنعماك في أفنان روضاتك الخضر
وما زال صوبٌ من نَداك يبلني
ويُثقلني حتى عجزت عن الوكر
بكيت زمانًا كان لي بك ضاحكًا
وكسر جناحي كان عندك ذا جبر
وأطرقت لما حالت الحال حَيرة
تحيَّر منها عالم النفس في صدري
فخذها كما أدري، وإن كَلَّ خاطري
وإن لم يكن منها البديع الذي تدري

٣

المعتمد وابن زهر في أغمات
يقول المراكشي في كتاب «المعجب في تلخيص أخبار المغرب»:

وكان الوزير أبو العلاء بن زهر بن عبد الملك بن زهر بمراكش، قد استدعاه أمير المسلمين لعلاجه، فكتب إليه المعتمد راغبًا في علاج السيدة ومطالعة أحوالها بنفسه.

فكتب إليه الوزير مؤديًا حقه، ومجيبًا له عن رسالته، ومسعفًا له في طلبته، واتفق أن دعا له في أثناء الرسالة بطول البقاء، فقال المعتمد في ذلك:

دعا لي بالبقاء وكيف يهوَى
أسيرٌ أن يطول به البقاء
أليس الموتُ أروحَ من حياة
يطول على الشقيِّ بها الشقاء
فمن يكُ من هواه لقاء حِبٍّ
فإن هواي من حتفي اللقاء
أأرغب أن أعيش أرى بناتي
عواريَ قد أضرَّ بها الحَفاء
خوادمَ بنت مَن كان قد أعلى
مراتبه — إذا أبدو — النداء
وطردُ الناس بين يدَيْ ممرِّي
وكفهم إذا غصَّ الفناء
وركض عن يمين أو شمال
لنظم الجيش إن رُفع اللواء
يعنيه أمام أو وراء
إذا اختل الأمام أو الوراء١٢
ولكن الدعاء إذا دعاه
ضمير خالص نفع الدعاء
جُزيتَ أبا العلا جزاء بَرٍّ
نوى برًّا، وصاحبك العلاء
سيُسلي النفسَ عما فات علمي
بأن الكل يدركه الفناء
١  آذار ونيسان من شهور الربيع؛ أي يجعل زمانه كله ربيعًا.
٢  الثقاف: القيد والأغلال التي يصفد بها السجين.
٣  كان في هدية المعتمد ثياب، فالشاعر يقول: لبست الفخر بعد البرد وهي صفقة رابحة.
٤  معبد المغني المعروف، وأربد أخو لبيد الشاعر؛ رثاء أخوه رثاء موجعًا.
٥  همايين جمع هميان، وهو حزام عريض أجوف يوضع فيه المال ويُشد على الوسط.
٦  الأنشام جمع نشم وهو شجر.
٧  حبيب … أبو تمام الشاعر.
٨  مالك بن نويرة رثاه أخوه متمم بقصائدَ مبكية.
٩  ذكر آنفًا باسم نظم الملوك في مواعظ الملوك.
١٠  المؤيد هو المعتمد على الله.
١١  هذه الأبيات محرفة في الديوان — وكل قصائد الديوان محرفة — وقد صححتُها قدر الطاقة، ومن أمثلة التحريف أن الشطر الثاني من البيت الثاني جاء في الديوان: بما نقطة منهم معروفة تجري، وصححتها كما يرى القارئ.
١٢  الظاهر أنه يعني عريف الشرطة، وقد أرسلت بنته صوفًا إلى بنات المعتمد ليغزلنه لها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤