وفاة المعتمد على الله وقبره

قال الفتح بن خاقان في قلائد العقيان:

ولم تزل كبده تتوقد بالزفرات وخلده يتردد بين النكبات والعثرات ونفسه تتقسم بالأشجان والحسرات إلى أن شفته منيته وجاءته بها أمنيته، فدفن بأغمات وأريح من تلك الأزمات.

وعطلت المآثر من حلالها
وأفرزت المفاخر من علاها

ورفعت مكارم الأخلاق وكسدت نفائس الأعلاق، وصار أمره عبرة في عصره، وصاب أندى عبرة في مصره.

وبعد أيام وافاه أبو بكر بن عبد الصمد شاعره المتصل به المتوصل إلى المنى بسببه، فلما كان يوم العيد وانتشر الناس ضحى وظهر كل متوارٍ وضحى قام على قبره عند انفصالهم من مصلاهم واختيالهم بزينتهم وحلاهم، وقال بعد أن طاف بقبره والتزمه وخرَّ على تربه ولثمه:

ملك الملوك أسامع فأنادي
أم قد عدتك عن السماع عواد
لما خلت منك القصور ولم تكن
فيها كما قد كنت في الأعياد
أقبلت في هذا الثرى لك خاضعًا
وجعلت قبرك موضع الإنشاد
قد كنت أحسب أن تبدد أدمعي
نيران حزن أضرمت بفؤادي
فإذا بدمعي كله أجريته
زادت عليَّ حرارة الأكباد
فالعين في التسكاب والتهتان
والأحشاء في الإحراق والإيقاد
يأيها القمر المنير أهكذا
يمحى ضياء النير الوقاد
أفقدت عيني مذ فقدت إنارة
لحجابها في ظلمة وسواد
ما كان ظني قبل قبرك أن أرى
قبرًا يضم شوامخ الأطواد
الهضبة الشماء تحت ضريحه
والبحر ذو التيار والإزباد
عهدي بملكي وهو طلق ضاحك
متهلل الصفحات للقصاد
والمال ذو شمل بداد والندى
يهمي وشمل الملك غير بداد
أيام تخفق فوقك الرايات فو
ق كتائب الرؤساء والأجناد
والأمر أمرك والزمان مبشر
بممالك قد أذعنت وبلاد
والخيل تمرح والفوارس تنحني
بين الصوارم والقنا المياد

وهي قصيدة أطال إنشادها وبنى بها اللواعج وشادها، فانحشر الناس إليه وأحفلوا وبكوا لبكائه وأعولوا وأقاموا أكثر نهارهم مطيفين به طواف الحجيج، مديمين البكاء والعجيج.

ثم انصرفوا وقد نزفوا ماء عيونهم، وأقرحوا مآقيهم بفيض شئونهم، وهذه نهاية كل عيش، وغاية كل ملك وجيش، والأيام لا تدع حيًّا، ولا تألو كل نشر طيًّا، تطرق رزاياها كل سمع، وتفرِّق مناياها كل جمع، وتصمي كل ذي أمر ونهي، وترمي كل مشيد بوهي، ومن قبله طوت النعمان بن الشقيقة، ولوت مجازها في تلك الحقيقة.»

•••

وقال مؤلف نفح الطيب:

قال غير واحد: من النادر الغريب أنه نودي على جنازته: «الصلاة على الغريب» بعد عظم سلطانه وسعة أوطانه وكثرة صقالبه وحبشانه وعظم أمره وشأنه، واجتمع عند قبره جماعة من الأقوام الذين لهم في الأدب حصة، ولقضية المعتمد في صدورهم غصة … إلخ.

وخاتمة هذه الحوادث الدامية وتلك القصة الباكية أبيات أوصى المعتمد أن تُكتب على قبره:

قبر الغريب سقاك الرائح الغادي
حقًّا ظفرت بأشلاء ابن عباد
بالحلم بالعلم بالنعمى إذا اتصلت
بالخصب إن أجدبوا بالري للصادي
بالطاعن الضارب الرامي إذا اقتتلوا
بالموت أحمر بالضرغامة العادي
بالدهر في نقم بالبحر في نعم
بالبدر في ظلم بالصدر في النادي
نعم هو الحق حاباني به قدر
من السماء فوافاني لميعاد
ولم أكن قبل ذاك النعش أعلمه
أن الجبال تهادى فوق أعواد
كفاك فارفق بما استودعت من كرم
رواك كل قطوب البرق رعاد
يبكي أخا الذي غيبت وابله
تحت الصفيح بدمع رائح غادي
حتى يجودك دمع الطل منهمرًا
من أعين الزهر لم تبخل بإسعاد
ولا تزال صلاة الله دائمة
على دفينك لا تحصى بتعداد

قصة المعتمد مأساة لا تحتاج إلى افتنان ناثر، وقصيدة حزينة لا تفتقر إلى مبالغة شاعر.

ولا ريب أنها سارت في أهل عصره وسرت إلى العصور من بعده، وبقي قبره مزار الأدباء ومقصد العلماء.

ويقول المقري بعد ذكر أخبار المعتمد:
وقد جمح بنا القلم في ترجمة المعتمد بن عباد بعض جموح، وما ذلك إلا لما علمنا أن نفوس الأدباء إلى أخباره رحمه الله تعالى شديدة الطموح، وقد جعل الله تعالى له كما قال أمين الأبار في «الحُلَّة السِّيَرَاء» رقة في القلوب وخصوصًا بالمغرب، فإن أخباره وأخبار الرميكية إلى الآن متداولة بينهم، وإن فيها لأعظم عبرة، رحم الله الجميع.١

فهذا لسان الدين بن الخطيب وزير الأندلس وعالمها وأديبها الذي ألف المقري كتابه الواسع لتاريخ الأندلس ولسيرته فسماه «نفح الطيب، من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب»، وناهيك بهذا نباهة شأن وعِظم مكانة.

لسان الدين هذا يزور قبر المعتمد بعد ٢٧٣ سنة من وفاته وينشد عنده شعرًا.

قال لسان الدين بن الخطيب:٢

وقفت على قبر المعتمد بن عباد بمدينة أغمات في حركة راحة أعملتها إلى الجهات المراكشية باعثها لقاء الصالحين ومشاهدة الآثار سنة ٧٦١ﻫ، وهو بمقبرة أغمات في نشز من الأرض وقد حُفت به سدرة وإلى جانبه قبر اعتماد حظيته مولاة رميك، وعليهما هيئة التغرب ومعاناة الخمول من بعد الملك، فلا تملك العين دمعها عند رؤيتهما، فأنشدت في الحال:

قد زرت قبرك عن طوع بأغمات
رأيت ذلك من أولى المهمات
لم لا أزورك يا أندى الملوك يدًا
ويا سراج الليالي المدلهمات
وأنت من لو تخطى الدهر مصرعه
إلى حياتي لجادت فيه أبياتي
أناف قبرك في هضب يميزه
فتنتحيه حفيات التحيات
كرمت حيًّا وميتًا واشتهرت علًا
فأنت سلطان أحياء وأموات
ما رئي مثلك في ماض، ومعتقدي
ألا يرى الدهر في حال وفي آتِ
ويتبع صاحب نفح الطيب هذا الخبر بقوله:

وقد زرت أنا قبر المعتمد بمدينة أغمات سنة ١٠١٠ﻫ، ورأيت فيه مثل ما ذكره لسان الدين رحمه الله تعالى، فسبحان من لا يبيد ملكه، لا إله إلا هو.

فهذا عالم مؤرخ يزور قبر المعتمد بعد وفاته بأكثرَ من خمسة قرون، وأحسب أن زيارة قبر المعتمد سارت سُنة الأدباء والعلماء منذ مات في القرن الخامس الهجري إلى عصر المقري القرن الحادي عشر، ولعلها استمرت من بعدُ عصورًا أخرى.

١  نفح الطيب ج٦، ص١.
٢  نفح الطيب ج٥، ص٢٣٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤