القوة الخفية

لم يستقرَّ الرجل الأشقر إلا ثوانيَ فقط على قدميه … فقد أطارته ضربة من يد «أحمد» في الهواء ثم سقط على الأرض … واستولى «أحمد» على مسدَّسه ووضعه جانبًا … ثم حاول فتح الباب الزجاجي للدخول مع «مصباح» و«بو عمير» إلى المولدات الضخمة … ولكن الباب لم يفتح …

وفجأةً تسربت رائحة خفيفة في الغرفة … وصاح «بو عمير»: غاز مخدِّر!

واندفعوا ليخرجوا من الباب الذي دخلوا منه … ولكنَّه كان مغلقًا … وكان الغاز يتسرب بشدة … وبدءوا يحسُّون بأثره … فلم يتردَّد «أحمد» وأطلق الرصاص على الباب الزجاجي … ولكن الزجاج لم يصب بخدش واحد … وكان واضحًا أنه زجاج مصفَّح … ضد الكسر والرصاص … وملأت الغرفة رائحة الغاز المخدِّر …

وبدأ الشياطين الثلاثة يترنَّحون … فقد وقعوا في مصيدة الزجاج … وسلطت عليهم القوة الخفية نوعًا جديدًا من السلاح لم يستعدُّوا له … ولم تمضِ سوى عشر دقائق، حتى انهار كلٌّ منهم جالسًا على مقعد في الغرفة، وقد ذهب في غيبوبة كاملة.

عندما استيقظ الشياطين الثلاثة بعد ذلك … كان الظلام قد هبط … ووجدوا أنفسهم في غرفة واسعة نظيفة … نائمين على أسرَّة بيضاء كأسرة المستشفيات وقد جُرِّدوا من أسلحتهم.

كان «أحمد» أول من استيقظ … وأخذ يتذكَّر الأحداث الأخيرة التي مرت به … ونظر حوله فوجد «مصباح» يتثاءب ويفتح عينيه … ثم استيقظ «بو عمير» … وتبادل الشياطين النظرات … إنهم أسرى القوة الخفية … والشيء العجيب أن «أحمد» أحسَّ بنوع من السرور الخفي … لأنه أخيرًا سيعرف طبيعة هذه القوة … ولماذا تختفي في هذه الواحة المفقودة داخل جبال تيبستي … حتى لو كلفه ذلك حياته.

كان مُلحقًا بالغرفة دورة مياه … وقام «أحمد» فدخلها وأخذ حمامًا باردًا رد عليه نشاطه … وتبعه «مصباح» ثم «بو عمير» … وبعد أن اجتمعوا مرةً أخرى في الغرفة دخلت فتاة بدوية حسناء ودَعتهم لتناول الطعام في غرفة مُلحَقة بغرفة النوم.

كان كل شيء نظيفًا ولامعًا … حتى أحس الشياطين بقدر من السعادة بعد رحلة الصحراء المرهقة … وكانت ثمة موسيقى خفيفة تنبعث في الغرفة … ولولا أنهم كانوا متأكدين أنهم في قلب الجبال … لظنُّوا أنهم في قلب عاصمة … وفي فندق عظيم!

جلسوا إلى مائدة الطعام. وتناولوه بشهية مفتوحة … وسرعان ما جاءت البدوية الحسناء بأطباق من الفاكهة الطازجة والحلوى والشاي … فقال «مصباح»: لا بأس أن نقضيَ هنا بقية عمرنا!

أحمد: ربما كان هذا هو قصد القوة الخفية من هذا الإكرام والبذخ.

انتهى الطعام، وأكلوا الفاكهة وقال «بو عمير»: إنها من ألذ وأحلى ما أكلنا في حياتنا!

وبعد لحظات دخل رجل أشقر … أزرق العينين ودعاهم لأن يتبعوه … وخرجوا من غرفة الطعام إلى دهليز طويل مُضاء … ثم وقفوا أمام باب فُتح فوجدوا مصعدًا دخلوا فيه … وارتفع بهم المصعد ثلاثة أدوار وخرجوا، ووجدوا حارسًا مسلَّحًا في انتظارهم طلب منهم أن يتبعوه.

كان كل شيء يسير في دقة تامة … وكل شخص في مكانه … ولم تكن هناك أصوات عدا صوت هديرٍ بعيد لماكينات تدور … وأخيرًا دخلوا غرفة واسعة مضاءة بشكل مريح، ومفروشة بفخامة … وفي صدرها على مكتب مرتفع كان الرجل الذي يقود هذه الواحة … أو كما قال لهم الحارس: الدكتور.

وقف الدكتور مرحِّبًا بهم … وتأملوه … كان طويل القامة نحيلًا ذا لحية شقراء وخَطَها الشيب … يضع على عينيه نظارة ذات إطار ذهبي خفيف، وقال مقدِّمًا نفسه: دكتور كارل فون مانشتاين.

وعرف الشياطين من الاسم أنه ألماني … وقال «أحمد» مقدمًا الشياطين: «مصباح» … «بو عمير» … «أحمد» …

دكتور كارل: إنني أرحب بكم في عالمي الصغير … وأتمنى أن تتفهَّموا أهدافي وأن تكونوا أعضاءً صالحين في هذا العالم، وأتمنَّى أن نتحدث بصراحة.

قال «أحمد»: أرجو أن توضح لنا يا دكتور معنى هذا كله!

دكتور كارل: أي معنى؟! إنكم اقتحمتم عالمنا دون استئذان … ولعلَّكم قتلتم ثلاثة من رجالي … ولكن احترامًا لشجاعتكم أعرض عليكم شرف الانتساب إلى عالَمِنا الصغير.

أحمد: لعالم القوة الخفية!

ابتسم «الدكتور كارل» وأشعل غليونه وقال: نعم القوة الخفية … كيف سمعتم بها؟!

أحمد: إن العالم الخارجي يبحث عن حقيقة هذه القوة منذ أكثر من ثلاثين عامًا … ونحن جزء من هذه المحاولة …

زادت ابتسامة «الدكتور كارل» وقال: ولن يَصل أحد أبدًا إلى حقيقتها … فنحن نملك القوة التي تمنَع اقتحام عالَمنا الخفي مهما كانت المحاولة.

أحمد: قوة الطاقة الشمسية؟!

تغضَّن وجه «الدكتور كارل» وقال: كيف عرفت؟!

أحمد: ذلك واضح من الأجهزة المنتشرة في وسط الواحة، وأي واحد على قدر من المعرفة بالعلم يستطيع أن يعرف أن الحياة في هذا المكان تقوم على طاقة مُستمَدَّة من الحرارة الشمسية.

كارل: هذا صحيح … إنني العالم الوحيد الذي استطاع أن يَملك أسرار الشمس ويتمكَّن من تحويل هذه الطاقة الجبارة إلى خدمة الناس.

أحمد: ليس كل الناس يا دكتور!

اضطجعَ «كارل» على كرسيِّه وأشعل غليونه ثم قال: ليس كل الناس يستحقُّون الحياة … لقد كنت أعمل في أبحاث الطاقة الشمسية في ألمانيا قبل الحرب العالَمية الثانية، وتوصلت إلى جهاز يمكنه أن يجتذب الطاقة الشمسية كلها وهي أقوى مصدر للطاقة في الوجود … ولكن في الوقت الذي بدأتُ فيه تطبيق أبحاثي هُزمَت ألمانيا وسقطت واستطعت الفرار أنا وعدد من زملائي وزميلاتي إلى هذا المكان.

بو عمير: ولكن لماذا هذا المكان بالذات؟!

كارل: إن عمِّي الذي كان رحالة مشهورًا اكتشف هذه الواحة منذ أربعين عامًا … وأخفى سرها عن العالم … وقد كنتُ معه عندما اكتشفها … وكان في نيته أن يُعلن عنها في وقت مناسب ولكنه مات قبل أن يحقِّق أمنيته … وهكذا عندما هُزمت ألمانيا … هربتُ مع عدد من زملائي إلى هنا ومعنا ما يكفي من أجهزة لتحقيق حلمنا.

مصباح: أي حلم؟!

كارل: حلم السيطرة على العالم … وقد أقنعنا قبيلة العليات أن تنضمَّ إلينا … وهي قبيلة من الطوارق تحلُم باستعادة مجدها القديم أيام ملكتهم العظيمة «تين هنان» التي كانت تُسيطِر على الصحراء … وقد وعدتُهم أن أعيد إليهم مملكتهم …

وتذكر «أحمد» رسم الملكة الذي كان على الأيقونات، والوشم الذي كان على ذراع الطارقي «عميد بن شعبان» وقال: تلك الملكة المرسومة على أذرعهم؟

كارل: نعم … والتي وجدوا جثتها عام ١٩٢٥م في مقبرة تضمُّ ١١ غرفة، وهي موجودة الآن في متحف باردو بالجزائر … لقد أنجبَتِ الملكة طفلة … ومن نسل هذه الطفلة هؤلاء الطوارق الذين يحلمون باستعادة مملكتهم.

بو عمير: ولكن الطوارق يعيشون الآن كمواطنين في الجمهورية الجزائرية … ولم أسمع عن محاولة استعادة مملكتهم إلا منك!

ابتسم «كارل» قائلًا: إنك لكي تقنع هؤلاء الطوارق بمساعدتك لا بد أن تعدهم بشيء عظيم … وليس هناك أعظم من استعادة المجد … والسلطان!

أحمد: والبعثات التي أرسلت للكشف عن القوة الخفية … أين ذهبت دون أن تترك آثارًا؟!

كارل: بعضُهم يعيش معنا الآن … وبعضهم حاول المقاومة وهؤلاء تكفَّلت الطاقة الشمسية بمحوهم من الوجود.

ومضى «كارل» يقول: سأريكم الآن معنى قوة الطاقة الشمسية.

ثم ضغط على زرٍّ أمامه فأظلمَت الغرفة … وفي نهايتها ظهر مسرح صغير عليه هيكل سيارة صغيرة … وضغط «كارل» على زر آخر … وانبعث شعاع يُبهر الأبصار … وتلاشى هيكل السيارة كأنه لم يكن.

وضحك «كارل» ضحكة عصبية عالية وقال: هذا مصير من لم يستمع إلى صوت العقل … والآن ما رأيكم؟

أضيئت الأنوار مرةً أخرى … وصمت الشياطين الثلاثة … لقد أدركوا أنهم أمام عالِم مجنون يملك قوة لا حدَّ لها … وردَّد «كارل» جملته الأخيرة: الآن … ما رأيكم؟!

ولمَّا لم يسمع ردًّا قال: على كل حال ما زال أمامنا وقتٌ طويل.

وقبل أن يُتمَّ جملته سمعوا صوت نفير عميق يُطلق دويًّا متواصلًا … ثم دق جرس التليفون على مكتب «كارل»، ورفع الدكتور السماعة وأخذ يتحدث، وبعد لحظات أخذ يكرر جملة واحدة في هيستيرية وانفعال: لا يُمكن! كيف حدث هذا؟! أين كان الحراس؟! لا يمكن … كيف؟!

ثم وضع السماعة في عنف وقال: إن لكم شركاء؟

وتذكر الشياطين الثلاثة … «زبيدة» و«إلهام» و«هدى» … ودقَّت قلوبهم في خوف ولكن «كارل» عاد يقول: لقد اقتحموا الواحة … وهم الآن يسيطرون على المولدات الرئيسية للطاقة ويُهدِّدون بنسفها ما لم نُفرج عنكم.

كان ذهول الشياطين الثلاثة أكثر من ذهول «الدكتور كارل» … كيف استطاعت الشيطانات الثلاث اقتحام هذه القلعة الحصينة ودخولها؟! إنها معجزة!

أخذ التليفون يدقُّ وأمسك «كارل» بالسماعة ويده تَرتجِف وأخذ يستمع والعرق يتصبب على وجهه وهو يردد نفس الكلمات: لا يمكن! في خلال ربع ساعة!

ووضع السماعة ووقف … واقترب من الشياطين وقال: تحدثوا إليهن. إنهنَّ ثلاث فتيات … قولوا لهن إنني سأُحسن معاملتكم جميعًا … إنكم ستعيشون أجمل حياة، سيكون في متناول أيديكم كل ما تحلُمُون به … عندنا مجوهرات لا مثيل لها … عندنا القوة التي ستُسيطِر على العالم … ستصبحون من حكام العالم … صدقوني إنها فرصتكم!

كان يتحدث وعينه على ساعة كبيرة فوق مكتبه … وأدرك الشياطين الثلاثة أن الشيطانات الثلاث حدَّدن موعدًا للإفراج عنهم وإلا نسفن المولدات الرئيسية … وكان «كارل» يسير في الغرفة وهو يحدث نفسه: المولدات الرئيسية … لقد قضيت ثلاثين عامًا في بنائها … ولن أستطيع تهريب أجهزة أخرى … وإذا نُسفت انتهت الواحة إلى الأبد!

كان عقرب الدقائق يقفز بين النقط السوداء مُعلنًا أن الوقت ينقضي … والتفت «كارل» إلى الشياطين وقال: ما هو ردُّكم؟! استمعوا لصوت العقل.

وقف «أحمد» قائلًا: ليس لنا إلا ردٌّ واحد … الإفراج عنا فورًا … للانضمام إلى زميلاتنا.

ونظر الدكتور إلى الساعة … كانت خمس دقائق قد انقضت … ومرةً أخرى أخذ يتحدث ويدور في الغرفة … وظهر رجلان عند الباب … اقتربا بسرعة من «الدكتور كارل» وتحدَّثا إليه همسًا … ورفع الدكتور يدَيه وتركهما يهبطان ثم قال: لقد انتهى كل شيء … أفرجوا عنهم …

واقتاد الرجلان الشياطين الثلاثة عبر الدهاليز المضاءة … ونزلوا بالمصعد واجتازوا شارعًا ثم دخلوا مبنًى كبيرًا آخر … ومشوا فترة في دهاليز أخرى … ثم وجدوا أنفسهم وجهًا لوجه مع «زبيدة»، و«إلهام»، و«هدى».

لم يكن هناك وقتٌ للعواطف وقالت «إلهام»: لقد قامت «زبيدة» بنزع الأجهزة الدقيقة الهامة في المولِّدات الرئيسية حتى لا يُمكن استخدامها … وبهذا يمكن مغادرة الواحة فورًا!

أحمد: هذا لا يكفي … سنأخذ معنا «الدكتور كارل» كرهينة حتى نخرج …

هدى: لقد وضعت المواد الناسفة في أماكن خفية وهي من النوع الذي يُمكن تفجيره باللاسلكي … وبهذا يمكن السيطرة عليهم ونحن على مسافة بعيدة.

أحمد: لقد حقَّقتن معجزة! ولكن كيف؟!

ابتسمت «إلهام» وقالت: إن الفضل للكلب «جولد»؛ لقد استطاع أن يَتتبع أثر الجمال الثلاثة، وقد قفزنا من الأسوار عندما هبط الظلام … واستطعنا التسلُّل إلى المولدات بعد أن أسرنا أحد الحراس.

أحمد: عظيم! عظيم جدًّا!

ثم التفت إلى أحد الرجلين وقال: أخبر «الدكتور كارل» أنه سيأتي معنا كرهينة ونعدكم بإطلاق سراحه بعد أن نخرج من وادي الموت.

بعد يومين من هذه الأحداث كانت السيارة الوحيدة التي تمَّ إصلاحها تحمل الأصدقاء في قلب الصحراء عائدة إلى بنغازي في ليبيا … وهم يحملون أسرار الواحة المفقودة ويفكرون في وقع هذه الأخبار على رقم «صفر» بل على العالم كله … وكان «جولد» بطل الإنقاذ يَرقُد مصابًا بينهم … وكانوا جميعًا يرمقونه في إعجاب وتقدير …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤