الفصل الحادي والعشرون

عثمان باشا الغازي

fig49
شكل ٢١-١: عثمان باشا الغازي (وُلد سنة ١٨٣٢ وتُوفِّي سنة ١٩٠٠).

هو عثمان نوري باشا القائد العثماني الشهير، وُلد في طوقات إحدى مدن سيواس في شمالي آسيا الصغرى. قدم الآستانة صغيرًا، وكان شقيقه حسين أفندي أستاذَ اللغة العربية في المدرسة الإعدادية هناك فأدخله في تلك المدرسة فتلقى فيها مبادئ العلم، ثم انتظم في سلك المدرسة الحربية فنبغ بين رفاقه، وخرج منها سنة ١٨٥٣ ضابطًا ملازمًا في فرقة الفرسان (سواري).

ولما انتشبت حرب القرم أُلحق بأركان حرب عمر باشا القائد الشهير، وشهد مواقع كثيرة أظهر فيها بسالة استلفتت انتباه رؤسائه، فلما عاد من الحرب ترقى إلى رتبة يوزباشي في الحرس الشاهاني بالآستانة.

وكان عثمان باشا في جملة رجال العسكرية الذين توسطوا في إصلاح شئون الحوادث السورية عام ١٨٦٠ وهو في رتبة بكباشي، واشتغل سنة ١٨٦٦ في إخماد ثورة ظهرت في كريد، فارتقى على أثر ذلك إلى رتبة قائمقام، وعاد إلى الآستانة فارتقى هناك إلى رتبة أميرالاي، وترى مما تقدم أنه إنما كان يرتقي على أثر أعمال تؤهله للارتقاء.

وفي سنة ١٨٧٤ أحرز رتبة لواء، وفي السنة التالية صار فريقًا، وتولى قيادة الفيلق الخامس، وخرج لمحاربة الصرب ففاز في كل المواقع وعاد وقد حمل الصربيين على التماس الصلح كما سيأتي، فصدرت الأوامر السنية بترقيته إلى رتبة المشيرية مكافأة له.

وفي سنة ١٨٧٧ انتشبت الحرب الشهيرة بين الدولة العليَّة والروس فتولى قيادة ٦٨ طابورًا و١٧ كوكبة و١٧٤ مدفعًا، وحارب جند الروس في مواقع كثيرة، وفي هذه الحرب نال هذا القائد شهرته الكبرى.

(١) حرب الروس

وسبب هذه الحرب أن البوسنة والهرسك في غربي بلاد الروملي تمردتا على الدولة العليَّة سنة ١٨٧٥ وامتنع أهلهما عن دفع الرسوم الأميرية، وربما كان سبب ذلك متصلًا بمطامع النمسا فيهما، وتفاقم أمر هذه الثورة حتى خيف منها على السلم العام، فاجتمع قناصل الدول العظمي في مستار بالهركس في سبتمبر سنة ١٨٧٥ وأقروا على تسوية تقضي على الباب العالي ببعض الإصلاح وعلى الثائرين بالامتثال فلم يجدِ سعيهم نفعًا، فأنفذت الدولة العليَّة جندها لإخماد الثورة بالسيف، فجرت مواقع كثيرة سُفِكت بها دماءٌ غزيرةٌّ، ولكنها لم تقرر النصر لأحد الفريقين.

وتوقفت الحكومة العثمانية في أكتوبر من تلك السنة عن دفع فائدة الدَّين العمومي، وأصدر الباب العالي بلاغًا إلى الدول يعدهن فيه بدفع نصف المطلوب معجلًا، واتخاذ الاحتياطات اللازمة لدفع النصف الآخر، ولكنه لم ينجز الوعد، فوضع الكونت أندراسي رئيس وزارة النمسا لائحة طلب بها من الدولة العليَّة مطاليب إصلاحية صادقت عليها روسيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا وإنكلترا ورفعوها إلى الباب العالي في ٢١ يناير سنة ١٨٧٦ فوعد بإجراء ذلك، ولكن البوسنة والهرسك لم تقبلا لأن الدول لم تشركهما في كيفية التسوية، وفي مارس من تلك السنة عادت الحرب إلى ما كانت عليه.

ووقع في ٦ مارس المذكور خصام بين المسيحيين والمسلمين في سالونيك قُتِل فيه قنصلا فرنسا وألمانيا فاحتج سفيرا هاتين الدولتين في الآستانة على الحكومة العثمانية، فأمر الباب العالي بقتل الجانين، وعوَّض على عائلتي القتيلين، ووعد بتجنب مثل هذه الحوادث في المستقبل.

ولكن ذلك لم يمنع مطالبة الدول بإجراء الإصلاح، فاجتمع البرنس غورتشاكوف وزير روسيا، والبرنس بسمارك وزير ألمانيا، والكونت أندراسي وزير النمسا في منزل البرنس بسمارك في برلين في ١١ مايو عام ١٨٧٦ واتفقوا على مذكرة وضعها غورتشاكوف يطلب فيها إنفاذ لائحة أندراسي، فأبت إنكلترا المصادقة على هذا الطلب لأنه يقضي باتحاد الدول الست على استخدام السلاح إذا لم يتم ما طلبوه.

وزد على ذلك أن البوسنة والهرسك لم تقبلا بتلك المذكرة فأُلغيت.

وفي أثناء ذلك الشهر نزل المغفور له السلطان عبد العزيز عن العرش العثماني، وحصل ما حصل من الاضطراب على إثر خلعه، وتولى السلطان عبد الحميد.

وكانت إمارة الصرب منذ ثورة البوسنة والهرسك واقفة وقوف المتحفز للقتال، وكذلك الجبل الأسود فإنه انتصر للهرسك، فأصبح الباب العالي في حرب مع البوسنة والهرسك والصرب والجبل الأسود بدأت في يوليو عام ١٨٧٦ وقُتل فيها كثيرون حتى جرت الدماء سيولًا، وكانت الجنود العثمانية تحارب الصرب بقيادة عثمان باشا صاحب الترجمة، ودرويش باشا، وحافظ باشا، وسليمان باشا، وعبد الكريم باشا، وغيرهم، وكان الفوز نصيبهم في معظم المواقع، أما في الجبل الأسود والهرسك فكان الجند العثماني بقيادة مختار باشا وسليم باشا، والبلاد هناك أكثر وعورة فقاسوا فيها عذابًا شديدًا، وأخيرًا تضايق الصربيون فالتمسوا الصلح في سبتمبر عام ١٨٧٦.

وكانت الثورة قد ظهرت في بلغاريا من مايو السابق، فأرسل الباب العالي بعض الشراكسة والباشبوزق لإخمادها، فارتكبوا في أثناء ذلك فظائع تقشعر من ذكرها الأبدان، دوَّى صداها في سماء أوروبا، فقام شعب الإنكليز قومة واحدة يطلبون توسط دولتهم في هذه الشئون، فتوسطت والتمست من الباب العالي تحري تلك الفعال ومعاقبة الجانين فوعد ولكنه أبطأ في الإنجاز، وأصدر منشورًا يقول فيه إنه سيوقف دفع الدين ريثما تخمد الثورات القائمة في ولاياته، وكان لإنكلترا أكبر حصة في هذا الدين فآل ذلك إلى فتور بينها وبين الدولة العليَّة.

وعرضت الدول من الجهة الأخرى شروطًا للصلح بين الدولة العليَّة ومحاربيها طال أمد المخابرة بشأنها، وأخيرًا رفضها الباب العالي فاعتبر الروس رفضها مهينًا لهم لعلاقاتهم الجنسية والدينية بالصرب، فنشأت الضغائن بين الدولتين، وتداولت الدول بشأن الإصلاح فاقترحت روسيا أن تتوسط الدول جميعًا يدًا واحدة في شئون تركيا، فرفضت فرنسا وإنكلترا والنمسا هذا الاقتراح، فصرحت روسيا بميلها إلى مساعدة الصرب وهو أول ما ظهر في رغبتها في الحرب، فطلب الباب العالي هدنة ستة أشهر، فلم تسمح روسيا إلا بستة أسابيع وأذاعت ذلك بمنشور على الدول العظمى، قالت فيه: إنها إذا لم ينفذ طلبها هذا حملت على تركيا واكتسحتها، فاهتزت أوروبا لذلك التهديد، وأخذت كل دولة تتحفز وتتأهب وخصوصًا إنكلترا فإنها استاءت من الروس لأنهم لم يساعدوها على طلب التعويض عن فظائع بلغاريا.

أما روسيا فعبأت الجند في بندار وتفليس، وقد عولت على محاربة الدولة العليَّة في أوروبا وآسيا معًا والدول التي تسعى من الجهة الأخرى في التسوية، وسعيهن ذاهب هدرًا وما قُدِّر فقد كان.

وليس من غرضنا البحث فيما دار من المخابرات، ولا ما لعب من الأيدي إذ لا محل له هنا، وإنما المراد أنه لما تقررت الحرب بين الدولتين زحف الروس على بلاد الدولة في أوروبا وآسيا، فزحف ١٧٥٠٠٠ مقاتل بقيادة الغراندوق ميخائيل والجنرال مليكوف نحو بلاد الدولة في آسيا إلى أرمينيا، وقلوب الأرمن مع الروس أيضًا.

ولا حاجة بنا إلى الدخول في تفاصيل هذه الحرب، ولكننا نقول بالاختصار إنه كان من نصيب صاحب الترجمة ملاقاة الروس في الروملي، ومعه عبد الكريم باشا، وسليمان باشا، ولم ينقض شهر مايو سنة ١٨٧٧ حتى احتلَّت جنود الروس ضفة الطونا (الدانوب) الشمالية من كلفات إلى غلانس، على أن معظمهم كان في جورجيفو مقابل روستجق، والطونا — كما لا يخفى — فاصل بين رومانيا وبلغاريا، وكان عدد الجند العثماني في جنوب ذلك النهر نحو مائتي ألف مقاتل بقيادة عبد الكريم باشا، ومركز المعسكر في شملة على حدود البلقان. ولكنهم احتلوا كل الحصون على ضفة الطونا الجنوبية، وأصبح الموقف حرجًا وصرحت الدول بحيادتها، وهدأت الحال شهرين والطونا فاصل بين الجيشين، ثم حاول الروس عبور النهر وعددهم ٤٠٠٠٠٠ مقاتل، وفي يونيو من تلك السنة عبروه من أماكن مختلفة، واحتلوا بعض المدن في بلغاريا وزحف البعض الآخر إلى جبال البلقان، وفي طريقهم هذه من الطونا إلى البلقان لقيهم صاحب الترجمة في بلافنا وردَّهم إلى الوراء في ٧ يوليو.

ولكن قائدًا روسيًّا اخترق حدود البلغار في جبال البلقان بشجاعة غريبة فكان لخبر تقدمه هذا وقع موجع في الآستانة، فنقل الباب العالي قيادة الجند من عبد الكريم باشا إلى محمد علي باشا، وهو بروسياني واسمه الأصلي شلوتز، وأصبح الجند العثماني في ساحة الحرب أربع فرق يقودها أربعة من القواد العظام، وهم: عثمان باشا في ويدين على ضفة الطونا في الغرب، ومحمد علي باشا في شملة بالشرق، وكلاهما شمالي جبال البلقان، وأما القائدان الباقيان، وهما: سليمان باشا، ورءوف باشا، فكانا في جنوبي تلك الجبال.

(٢) حصار بلافنا

وفي ٣٠ يوليو هجم أربعون ألفًا من الروسيين على بلافنا وفيها عثمان باشا وخمسة آلاف جندي، فدافع العثمانيون دفاعًا حسنًا، ولكن الروسيين لكثرتهم وُفقوا في أول الأمر للاستيلاء على ذلك المكان الحصين، وكأن صاحب الترجمة نفخ في جنوده روحًا حيَّة فانقضُّوا على الروس انقضاض الصواعق، وصبُّوا عليهم نارًا حامية، فتقهقر الروسيون وعاد العثمانيون إلى حصونهم، فتجدد القتال في اليوم التالي والفوز لا يزال مع العثمانيين، ففرَّ الروس من ساحة الوغى وقد تركوا خمسة آلاف من جندهم بين قتلى وجرحى، وحدث فشل عظيم في معسكرهم.

وفي ٦ سبتمبر ١٨٧٧ عاد الروسيون إلى بلافنا بمدافعهم وبنادقهم، وأطلقوا القنابل على حصونها يومين متواصلين، فاستولوا على تلال في جنوبها في مساء ٨ منه، وواصلوا الإطلاق طول الليل واليوم التالي والذي بعده، وفي ١١ منه فتحوا حصن كريغتزا بعد جهاد اليأس. أما العثمانيون فتشددوا في اليوم التالي بتشجيع قائدهم الباسل وانقضوا على الروس بقلوب لا تهاب الموت فطردوهم واسترجعوا كل الحصون إلا كريغتزا، وخسر الروس في هذه المعركة سبعة آلاف رجل بين قتيل وجريح، ولما بلغ خبر هذا النصر إلى الآستانة أنعم جلالة السلطان على صاحب الترجمة بالنيشان العثماني المرصع مع لقب «غازي».

وعاد الروسيون مرة ثالثة بقيادة الجنرال تودلين بطل سباستبول فحاصروا بلافنا وصبُّوا عليها النيران من مدافعهم، وفي ١٩ أكتوبر فتحوا حصن كريغتزا الثاني بعد أن ارتدُّوا عنه مرتين، على أن العثمانيين عادوا فاستولوا عليه في تلك الليلة بقوة السلاح، وبنوا سورا آخر داخليًّا لزيادة المناعة.

ونظر صاحب الترجمة في مركزه الحرج فعلم أنه يحتاج إلى النظام أكثر منه إلى الرجال، فأمر كلَّ من كان معه من الشراكسة والباشبوزق بالخروج من بلافنا، وثبت هو بمن بقي من جنده فيها ثبات الجبال.

وكان الروسيون في أثناء ذلك يحاربون ما يحيط ببلافنا من الحاميات العثمانية، ويطاردونهم حتى خلت تلك البقاع من الجند العثماني، إلا بلافنا فإنها ظلت ممتنعة إلى ١٠ دسمبر وقد نفدت مئونتها وانقطع عنها المدد، فخرج عثمان باشا من حصنه وهو ينوي أن يخترق صفوف المحاصرين لعله ينجو من حصاره، فسار في مقدمة رجاله، ومشوا جميعًا إلى جهة واحدة والروسيون يطلقون عليهم النار وهم لا يبالون، فاخترقوا خطين من خطوط الجند الروسي ولم يبقَ لنجاتهم إلا خط واحد كادوا يخترقونه لو لم يروا بطلهم عثمان باشا سقط إلى الأرض هو وجواده وقد أصيب برصاصة اخترقت فخذه وأصابت الجواد، فظنوه قُتِلَ ففشلوا واضطروا للتسليم، فسلموا أسلحتهم بلا شرط وعددهم أربعون ألفًا فضلًا عن ٢٠٠٠٠ بين مريض وجريح، فلما سلم عثمان بعث إليه قائد الروسيين مركبة يركب فيها إلى بلافنا لمداواة جراحه فركب، وهو في الطريق لقيه الغراندوق نيقولا ومعه البرنس شارل أمير رومانيا فأوقفا عربته وسلَّما عليه مصافحة.

وفي صبيحة اليوم التالي سار صاحب الترجمة يتوكأ على طبيبه الخاص إلى القصر الذي نزل به القيصر إسكندر الثاني ببلافيا، فلما أقبل عثمان وقف له القيصر وسلم عليه وأثنى على بسالته وأمانته، وأُعجِبَ بما أبداه من الشجاعة في محاولته الخروج من بين صفوف المدافع والبنادق إلى أن قال: «وهذا سيفك أردُّه إليك إقرارًا ببسالتك وأهليتك، ولك أن تتقلده في بلادي، وهذه مركبتي وهؤلاء حرسي تحت أمرك إذا شئتَ ركبت، وإن شئتَ مكثت.»

fig50
شكل ٢١-٢: القيصر إسكندر الثاني.

ولا يخفى ما في ذلك من الإكرام الذي لم يصدر من هذا القيصر إلا لما يعتقده من فضل هذا القائد العظيم، ومما يزيد فضله في هذا الحصار أن الذين حاصروا بلافنا يزيد عددهم على ١٥٠٠٠٠ ومعهم ٦٠٠ مدفع، وقوات هذا الغازي لم تكن أكثر من خمسين ألفًا وثمانين مدفعًا، وقد رأينا مع ذلك أنه لما يئس من الزاد والذخيرة لم يطلب التسليم وهو داخل الحصون، ولكنه خرج مستقتلًا فإما أن يَسْلَم وإما أن يُسَلِّم، وكان لسقوط بلافنا دويٌّ عظيم؛ ففرح به الروسيون واستاء العثمانيون.

(٣) أواخر أيامه

وبعد انقضاء تلك الحرب وعقد شروط الصلح في مارس ١٨٧٨ عاد عثمان باشا إلى الآستانة وتعيَّن قائدًا للحرس الشاهاني، وفي ١٠ يونيو من تلك السنة عُيِّن مشير المابين ثم واليًا لجزيرة كريد.

وفي آخر تلك السنة انتُدِب لوزارة الحربية وتقرَّب من الحضرة الشاهانية فنال كل التفات ورعاية وتقلب في أحسن مناصب الدولة وأشرفها ونال أشرف وساماتها ووسام كومندور اللجيون دوتور من فرنسا.

ومن غريب ما تقوله الناس على أثر ما ظهر من بسالته في حصار بلافنا أن كل أمة حاولت أن تدَّعيه لنفسها، فقال الأمريكان: إن الرجل أمريكاني الأصل، وقال الفرنساويون: إنه فرنساوي، وقال غيرهم غير ذلك، ولكنهم تحققوا بعد ذلك أنه تركي لا شك فيه.

وكان صاحب الترجمة في آخر أعوامه مشير المابين الهمايوني وقائد الفيلق الخاص، ولا يجتمع مجلس في سراي يلدز إلا وهو من أعضائه، وإليه النظر في شئون جند المابين وملاحظة كل ما يتعلق بالمابين وكل ما يحدث فيه، وله دائرة خصوصية هناك يقيم فيها وله الكُتَّاب والمأمورون.

ومما ناله من التفات جلالة السلطان أن اثنين من أولاده تزوجا بكريمتي جلالته. ثم أصيب بمرض عز شفاؤه فتوفي في الآستانة في أوائل أفريل ١٩٠٠ وهو لم يتجاوز الثامنة والستين من عمره، وفي موته خسارة كبرى على الدولة العثمانية؛ لأنه من أعاظم أفرادها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤