الفصل الثاني والعشرون

حميد بن محمد المرجبي فاتح الكونغو

fig51
شكل ٢٢-١: حميد بن محمد المرجبي فاتح الكونغو.

لم يتعود قراء هذا الزمان الاطلاع على أخبار الهمم العالية، والنفوس الكبيرة، وظهور نوابغ القواد ورجال الدهاء إلا بين أهل العرب، ويعجبهم على الخصوص إذا قرءوا عن قائد أو وزير أو ملك نبغ من بين العامة وتسلم عرش السيادة بجدِّه وسعيه، ولكن بين أهل الشرق اليوم نوابغ لا تقل نفوسهم كبرًا ولا هممهم سموًّا عن أولئك، فقد ينبغون في أواسط آسيا وأفريقيا ويأتون بمعجزات السياسة والدهاء والقيادة ولا نعرف أخبارهم، وإليك ترجمة رجل منهم وُلد في الفقر والضنك، وارتقى بهمته وسعيه حتى قاد الألوف وفتح البلاد؛ نعني به حميد بن محمد بن جمعة المرجبي الملقب بتيوتيب فاتح الكونغو بأواسط أفريقيا، وقد بعث إلينا برسمه وترجمة حاله حضرة الشيخ ناصر بن سليمان بن ناصر اللمكي ساكن زنجبار فأثبتناهما مع الثناء على غيرته في نشر مآثر الشرقيين، قال:

(١) تمهيد

كانت الأقطار الزنجبارية ملكًا للبرتغال كما لا يخفى على ذوي الإلمام بالتاريخ، فلما أراد العرب تخليص هذه الأقطار من يد الإفرنج بقوة سلطانهم سيف بن سلطان اليعربي، جهزوا جيشًا من بلاد عُمان مؤلفًا من قبائل شتى من العرب، وفيهم القبائل المراجية، فبرح هذا الجيش مسقط في سفن شراعية فوصل إلى ممبسة سنة ١٦٦٥ مسيحية، وهناك جرت بينهم وبين البرتغال وقائع كثيرة قضى الله بعدها بانجلاء البرتغال من تلك الأقطار واستلم العرب أزمَّة الملك، ولما رجع السلطان إلى مسقط أحب بعض أصحابه الإقامة في تلك الأقطار، فأقاموا وفيهم العائلات من قبائل الحواتم والنباهنة واليعاربة والمراجية، واتخذ كل فريق منهم المناخ الموافق له، ولا تزال هذه القبائل باقية هناك إلى الآن، ولكن رجالها لا يتكلمون إلا اللغة الزنجبارية وإنما حفظوا اسم القبيلة فقط، فالمراجية اختاروا قرية بجنوب دار السلام اسمها مبوماجي مناخًا لهم ولا يزالون فيها إلى اليوم.

ثم آل أمر تلك الأقطار مع توالي الزمن إلى الانحطاط حتى جاءها سعيد بن سلطان الأزدي جد العائلة المالكة الآن في زنجبار وعمان، فأخذت في التقدم، وفتحت أبواب التجارة، وجعلت عاصمة المملكة جزيرة زنجبار، ثم رحل إليها العرب من عمان كما رحل إليها قبائل البراري والإفرنج.

(٢) ترجمة حاله

في هذه الجزيرة وُلِد صاحب الترجمة، وهو حميد بن محمد بن جمعة المرجبي في سنة ١٢٤٨ﻫ وقد نشأ في عصر مظلم وبلاد مظلمة، ولم يرَ بين يديه إلا أقوامًا لباسهم الجهل وطعامهم الفقر، خالين من كل فضيلة، متردِّين بكل رذيلة، لا يميزون بين الخير والشر. ولما بلغ السنة الخامسة من العمر اجتهد والده بتعليمه القراءة والكتابة وكتاب الله فأخذ منه بالقسط الأوفر في أقرب وقت، ثم مكث في حالة الفقر عدة سنوات كأنه على الناس إذ كان يشعر في نفسه بشيء يستحثه على طلب العلى، وهو لا يدري بأي وسيلة يسمو إليها، واتفق أن والده سافر إلى داخل البلاد لطلب الرزق وترك ولده في زنجبار، فالولد لم يقر له قرار لأنه رأى في نفسه ضيقًا شديدًا لم يعلم له سببًا، ذلك هو دأب عظماء الرجال يحسون بالكبرياء والعظمة وهم في المهد، فإذا أتيحت لأحدهم الوسائط لقضاء مراده، وجد لذلك طريقًا يسهل عليه الأمر، واستعمل الحيلة والمال لبلوغ أربه، ولكن المترجَم لم يجد لنيل بغيته طريقًا مع مطالبة نفسه بها، وظل كذلك حتى تطرق إلى قلبه اليأس فأخذ في طلب ما يسد رمقه به.

ولما بلغ من العمر اثنتي عشرة سنة اقترض اثني عشر ريالًا اشترى بها ملحًا سافر به إلى دار السلام، ومنها إلى داخل البلاد للاتجار، ولبث شهورًا يتردد في بيع الملح، وقد ذاق حلاوة الجد والاجتهاد، وكانت أسفاره لا تزيد عن مسير يومين أو ثلاثة، ثم طال سفره شيئًا فشيئًا واطمأن إليه التجار بأموالهم، فاتجر في الثياب والمأكولات والكوتشوك وغيرها حتى اجتمع عنده شيءٌّ يسير من المال، ثم بلغه أن والده وصل إلى مدينة تبورة وتزوج بابنة سلطان الأنيموز (قبيلة من الزنوج لا يختتنون، وهم كثيرو العدد)، فشمَّر عن ساعد الجد، وعزم على اللحاق به في تلك البلاد، فسافر من باجمويو، وبعد مسير ثمانين يومًا في البراري والقفار وصل إلى تبورة فوجدها كبيرة، وفيها من العرب نحو خمسمائة نفس، وجملة سكانها أربعون ألفًا، ثم واجه السلطان وهو صهر والده، فلقي منه إكرامًا وأهدى إليه عاجًا، وقرَّبه منه فقوي نفوذه لديه وبقي هناك متاجرًا.

ثم حصل خلاف بين صهر والده وسلطان آخر من سلاطين الزنوج، فتحاربا مدة، وخرج حميد بن محمد لنجدة صهر والده ببعض الزنوج والمماليك، فدخل بلاد العدو ليلًا وأحرقها واستباحها قتلًا وسلبًا، وجمع الكثير من العاج، واستتبَّ أمره في تلك البلاد حتى صارت ملكًا له، وأطاع أهلها أمره، ولما عاد إلى والده منصورًا أخذ ما كان معه من العاج، وقفل راجعا إلى زنجبار فحظي بمقابلة سلطانها يومئذٍ ماجد بن سعيد بن سلطان، ثم باع ما معه من العاج ووفَّى ما عليه من الديون، وأخذ في تجهيز ما يحتاج إليه في سفره، فلما تم ما أراد تجهيزه عمد إلى السفر.

(٣) نشأته السياسية

لقي حميد في هذه النشأة من المصاعب والمشاغب ما تشيب له الولدان؛ لأنه كان يسافر إلى مكان لم تطأه أقدام أسلافه، ولكنه لم يتهيب من ذلك بل كان يسافر والسعد حليفه والعناية تساعده والاجتهاد نصيره على المصائب. برح زنجبار ومعه من الثياب والخرز والبارود والرصاص ما قيمته تسعون ألف ريال حتى وصل باجمويو، ثم برحها في سنة ١٢٧٩ هجرية، وبعد مضي ١٥ يومًا من سفره قطع اللصوص الطريق عليه، وأرادوا نهب ما معه فدافعهم، لكنهم أخذوا بعض أمواله فلم يرهبه ذلك وقد أصابت رجاله الشمس، فمكثوا ٥ أيام يشربون بول الدواب، ثم أصابهم طاعون فمات منهم خمسمائة رجل، ولم يجد من يحمل الخمسمائة حمل التي كانوا يحملونها فتركها ومضى إلى حال سبيله، وسار مجدًّا حتى وصل تبورة وقد أنهكه التعب ومعه نصف أمواله، فتاجر بها سنتين ثم مضى إلى البلاد التي كان قد أخذها قبلًا، فوجد سلطانها استنجد بسلطان آخر فحاربهما فانكسر شر انكسار وضل عن الطريق، وتشتت أصحابه من الهزيمة، فوصل تبورة مقهورًا مدحورًا ثم برحها إلى أوجيجي فربح منها أموالًا طائلة، وركب في بحيرة تنكنيكة فوصل إلى الجانب الثاني منها سنة ١٢٧٤هجرية، فمكث هناك نحو سنة ونصف سنة بين الزنوج، وقد خاف أن يسافر إلى الكونغو لقلة معداته، فعاد إلى أوجيجي ومنها إلى تبورة سنة ١٢٨٦.

fig52
شكل ٢٢-٢: الأفيال في أواسط أفريقيا.

وبعد سنة وصلهم الخبر بوفاة سلطان زنجبار ماجد بن سعيد وتعيين أخيه برغش بن سعيد مكانه، فكتب حميد بن محمد لسلطان زنجبار كتابًا يهنئه بالملك، ويطلب منه بارودًا، ثم سافر لمحاربة السلطان المغتصب للبلاد التي كان قد أخذها، فوصل إليه فوجده متحصنًا في مدينته، فحاصره ستة أشهر ولم يقدر عليه، فجمع أصحابه وحفروا قناة حولوا إليها النهر الذي يشرب أهل المدينة منه فانقطع الماء عن المحصورين، فأسلم السلطان نفسه بشرط أن يسلم ماله لحميد بن محمد ويكون خاضعًا لأمره، فرضي السلطان، وقويت شوكة حميد وهابه الأهالي فرجع والسلطان معه، وقبل وصوله إلى تبورة جاءه أحد أصحابه بكتاب من سلطان زنجبار برغش بن سعيد يخبره أنه أرسل إليه ألفي رطل من البارود، فلما وصلته عزم على السفر إلى أوجيجي فأخذ أمواله وأرسل العاج إلى تبورة ليبيعوه ويبتاعوا له بثمنه الثياب، فنزل أوجيجي وأقام فيها حتى وصلته البضائع فقطع بحيرة تنكنيكة في أواخر سنة ١٢٨٧ وسار قاطعًا البراري بين همجية الزنوج وأنياب الضواري يتلقى الأهوال مرة بالعطايا وتارة بالسيف، والنصر حليفه والشهرة تتقدمه، فترتعد الملوك خوفًا منه، فيصالح المطيعين ويحارب العاصين، ولم يشغله هذا عن البيع والشراء من العاج والثياب. اتجه جنوبًا وعاد إلى الشمال الغربي فوصل إلى نهر الكونغو عند المدينة التي يسمونها «ستانلي فولس» ولبث فيها مدة يلتمس الراحة، ولما عزم على السفر في نهر الكونغو بلغه أن أحد سلاطين الزنوج قطع عليه السبيل ليأخذ أمواله فتركها في تلك المدينة، وجهز جيشًا من رعاياه ومماليكه قدره ٣٠٠٠٠ نفس وأمرهم بالسير إلى الشرق فالشمال ليأتوا العدوَّ من ورائه، وجهز جيشًا آخر وسيَّره على شاطئ الكونغو بحذاء قواربه، وعددها ٤٠٠ قارب، فاستمر السير شهرين كان في خلالها يبيع ويشتري، وبعد هذه المدة التقى به العدو، وكان شديدًا عزيز الجانب، والجيش الذي بعثه المترجَم في البراري لم يصل بعد، فانكسر حميد شر انكسارة وغنم العدوُّ القوارب، واستولى على شيء كثير من ماله، وبعد ١٤ يومًا من الهزيمة وفد الجيش فعاد به إلى عدوِّه وهجم عليه فتحارب الفريقان ثلاثة أشهر انجلت عن قتل السلطان واستيلاء حميد بن محمد على أملاكه، وأقام هناك مدة رتب فيها جيشه على أربعة أقسام: قسم مؤلف من ٢٠٠٠٠ نفس أنفذه في الطريق الذي جاء منه ليصلوا إلى ستانلي فولس ويخبروا أهله وأصحابه بالنصر، ويحفظوا الأموال التي له هناك، ويذهبوا منها إلى الشرق حتى يبلغوا وسط المنيما في مكان عيَّنه لهم، وقسم مثل الأول عدة وعددًا سيَّره من المكان الذي هو فيه من الجنوب الشرقي ليدعو الناس لطاعته، ثم يتحولوا إلى المحل الذي عينه للقسم الأول، وقسم مؤلف من ٢٠٠٠٠ نفس أمرهم بالبقاء في ذلك المكان وخرج بمن معه وهم ٦٠٠٠٠ نفس لمحاربة قبائل نيام نيام.

ومن ينظر في هذه السياسة ينذهل لصدورها من رجل لم يتعلم فنون الحرب، ولم يدخل مدرسة حربية، وقد اتخذ نقطًا عسكرية لحفظ خطوط الرجعة. أما الجيش الذي كان يقوده بنفسه فوصل إلى قبائل نيام نيام وحاربهم، وانتصر عليهم وأخذ أموالهم وسبى أولادهم، ثم اتجه نحو الشرق فالجنوب فوصل إلى النقطة التي عيَّنها لأصحابه فوجدهم سبقوه، ولم يلقَ في طريقه هذه المرة حربًا فاستتبَّ الأمن وأمنت السبل قليلًا، وأدركه العرب من أصحابه وانفتحت طرق التجارة إلى باجمويو فكثرت مداخيل زنجبار.

وقد يقول القارئ كيف يمكن لحميد بن محمد أن يجيش مائة ألف وكيف كان يطعمهم ويكسوهم؟ فنقول: إنه لا محل للدهشة؛ لأن الثوب الذي قيمته فرنك في زنجبار كان يباع هناك في ذلك الزمان بألف رطل من الأرز، ثم إن الأهالي كانوا يحبون متابعته ليغنموا عند انكسار العدو، ولما استتبَّ الأمن عاد بأمواله وبعض مماليكه إلى زنجبار تاركًا ولاية الأمر لإخوته وصحبه، وفي عودته هذه عبر بحيرة تنكنيكة في السفن الشراعية، واتصل به في أوجيجي نعي والده محمد بن جمعة، فبكى عليه وحزن لأنه لم يجنِ شيئًا من ثمار أعمال ابنه، ومرَّ على تبورة فوجد أرملة والده وصهره، فأقام عندهما ريثما استراح من عناء السفر، ثم واصل السير حتى دخل دار السلام، وقبل وصوله إليها لقيه في الطريق أخوه من أمه محمد بن مسعود الوردي، وأرسل سلطان زنجبار السيد برغش رجلًا يسلم عليه من قِبَله أو يهنئه بما ناله من النعمة والشهرة وكتب إليه كتابًا هذا نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم

من برغش بن سعيد إلى حضرة الشيخ الأفخم حميد بن محمد بن جمعة المرجبي سلمه الله تعالى، وبعد السلام عليك، أخبرني المحب ابن مسعود بأنك واصل إلينا قريبًا فوجبت علينا التهنئة لك، وأرسلنا هذا الكتاب للسلام عليك، والسلام.

fig53
شكل ٢٢-٣: الأخطار في أواسط أفريقيا.

وصل حميد بن محمد دار السلام ومعه ٧٠٠٠٠ رطل من العاج وغيره من أنواع التجارة، فسافر إلى زنجبار بحرًا فوصلها في أوائل سنة ١٢٩٤هجرية، وباع ما كان معه من العاج وغيره، فاجتمع عنده مبلغ ٣٠٠٠٠ جنيه صافي بلا ديون.

ثم تجهز للسفر فاشترى بضائع كثيرة خرج بها من زنجبار سنة ١٢٩٦ إلى باجمويو، ومنها إلى داخل البلاد يقتحم الأخطار والمفاوز، وبعد عشرة أشهر وصل البلاد التي اتخذها عاصمة له فوجد الأمر على غير ما كان يعهده؛ إذ شاهد التجارة كثيرة والأرزاق واسعة، والتجار من الإفرنج والهنود والعرب عديدين. أما أهل البلاد فكانوا على ما تركهم من السذاجة والجهل، وكان الأمن متزعزعًا فتكبَّد مشاق جسيمة في محاربتهم، ومضت أيامه في الحروب ولكنها لم تشغله عن التجارة، بل كانت تجارته الرابحة لأنه كان يكسب منها أموالًا طائلة غير العاج والعبيد والغنم، وكان جميع ما يحصله يرسله إلى زنجبار لوكيله ويطلب منه البضاعة الصالحة للزنوج.

فلما توفر عنده المال والرقيق عاد إلى زنجبار سنة ٣٠٠ﻫ وباع ما جلبه من البضائع فيها واشترى ما أراده ثم برحها سنة ١٣٠٢ قاصدًا الجهات الداخلية، ولسنا ذاكرين هنا جميع ما أصابه في طريقه من الحرب والجوع والعطش وما لقيه من اللصوص والوحوش، وإنما نقول: إنه وجد هناك عند وصوله هذه المرة رجلًا بلجيكيًّا قنصلًا لدولته، وكان الخطر محدقًا به؛ لأنه طلب من سيف بن حميد بن محمد أن يأتيه بجميع العاج الموجود هناك ليكتب عليه اسم الدولة البلجيكية، فقبض عليه سيف وأرسله إلى سردار الجيش راشد بن محمد فحكم عليه بضرب خمسين جلدة وحبس سنتين، ولولا وصول حميد بن محمد في تلك الأيام لنال البلجيكي جزاءً شديدًا، وكان البلجيكيون قبل ذلك يهاجمون العرب مرارًا فيصدهم هؤلاء ويقتلون منهم كثيرين، وربما يسأل القارئ عن الرجال الذين كانوا ينصرون البلجيك؛ إذ كان جميع الزنوج رعايا العرب، فالجواب أن العرب كانت لهم عادة يكرهها الزنوج وهي أنهم كانوا يحملون أولاد الزنوج يبيعونهم في زنجبار، فلما دخل الإفرنج تلك الديار خدعوا الزنوج وزخرفوا لهم القول بأنهم سيحررونهم ويعملون كيت وكيت من الخير، وما زالوا بهم حتى استمالوهم واستعانوا بهم على محاربة العرب. ولم تَخْفَ على حميد بن محمد هذه الحيلة فكان دائمًا يُعرض عن محاربة الإفرنج، ويعدهم خيرًا، وكان يقول: «دخلت هذه البلاد صغيرًا فقيرًا، وملكت هذه الرقاب جميعها ولم يكن لدي مال ولا سلاح، فهل أقوى بهم على الإفرنج!»

وكان يكلِّم أولاده دائمًا بهذا المعنى، ويحذرهم من غدر الزنوج، ولما باع تجارته هناك رجع إلى زنجبار فوصلها سنة ١٣٠٤ هجرية فوجد الإنكليز له بالمرصاد، وقد أخبره قنصل الإنكليز بما تم عليه الاتفاق، وأن البلجيك سيدخلون الكونغو، ونصحه بعدم معارضتهم، وأنهم لا يريدون سوى التجارة، وأنه سيكون كسابق أمره مطلق الحرية وتدفع دولة البلجيك له مقابل تجارتها ٦٥ جنيهًا شهريًّا فأبى أولًا، فقال له قنصل الإنكليز: إن إنكلترا تعهدت بمساعدة البلجيك، وإنه إذا أصر على إبائه فأول شيء تفعله هو منعه عن السفر مرة أخرى.

فلم يجد بدًّا من القبول، وعندئذ قيل له: إن أيَّ شيء يطلبه من إنكلترا يُعطَى له، وتتحقق أمانيه فطلب من القنصل تحميل عبيده من باجمويو إلى زنجبار، وكان الإنكليز متشددين في منع بيع الرقيق وتحميله، ولكنهم أذنوا له بذلك لحاجة كانت في نفوسهم، فحمل حميد بن محمد سبعمائة عبد من باجمويو إلى زنجبار، ثم وصلت الأخبار من الكونغو أن البلجيك هجموا على العرب مرارًا فصُدُّوا عنهم، وأن العرب أخرجوا جميع الإفرنج من تلك البلاد فلم يبقَ بها بلجيكي ولا ألماني، وكلما أراد البلجيك المسير إليهم التقوا بهم على ضفاف نهر الكونغو ورموهم بالرصاص، فشق هذا الخبر على الإنكليز، وطلبوا من حميد بن محمد أن يعجِّل بالسفر إلى الكونغو ومعه المعتمدان الإنكليزي والبلجيكي، فسافروا سنة ١٣٠٥ في باخرة عن طريق رأس الرجاء الصالح فوصلوا إلى مدينة الكاب ومنها إلى بنتا عند مصب نهر الكونغو، ثم سارت الباخرة في النهر ٤ ساعات فوقفت بسبب الشلالات، فركبوا الفلك وساروا بها شهرين حتى وصلوا إلى مدينة ستانلي فولس، ولما أطل العرب على هذه الفلك ورأوا فيها الإفرنج رموهم برصاص البنادق، فأشاروا إليهم أنهم ليسوا محاربين فلم يقبلوا، وأخيرًا رمى حميد بن محمد نفسه في النهر فلما رأوه عرفوه وأمسكوا عن إطلاق البنادق، ونزل هو والإفرنج الذين معه وبوَّأ لهم مكانًا وأمَّنهم، وبواسطته تم الاتفاق بين العرب والإفرنج، وفي غضون ذلك أتتهم الأخبار بوفاة برغش بن سعيد سلطان زنجبار، وارتقاء خليفة بن سعيد سلطانًا مكانه، فمكث حميد يتاجر بماله إلى سنة ١٣٠٧ ثم عقد النية إلى الرجوع إلى زنجبار فسافر، وبعد مسير عشرة أيام أتاه الخبر بوفاة خليفة بن سعيد وولاية علي بن سعيد مكانه، فواصل السير حتى بلغ تبورة، وفيها أصيب بمرض فتأخر هناك، وبعد شهرين وصل إليه ولداه سيف وثابت فوجداه مريضًا، فكانا قاصدين الكونغو فأمرهما بالسفر إليها، ومكث هو في تبورة سنة، حتى إذا عوفي من مرضه برحها إلى زنجبار فبلغها سنة ١٣٠٩ وبعد أن صفا الجوُّ للبلجيك هجموا على العرب مرارًا فصُدُّوا عنهم، وطلبوا منهم أن يسافروا جميعًا إلى زنجبار فأبوا، ولما أعيت البلجيك الحيلة خدعوا الزنوج وزخرفوا لهم القول فانفضوا عن العرب وانحازوا إلى البلجيك، ثم هجموا على العرب فهزموهم وغنموا أموالهم، وقُتِل سيف بن حميد، وهرب ثابت أخوه ومحمد بن سعيد وغيره، واستولى البلجيك على أموال حميد بن محمد، ويقدِّرونها بمائة ألف جنيه، وكان حميد بن محمد يتمثل دائمًا بقول الشاعر:

ومن يفعل المعروف مع غير أهله
يلاقي كما لاقى مجير ام عامر

حيث ذهبت أمواله، وقُتِل ولده جزاء إحسانه إلى البلجيك.

وفي سنة ١٣١١ وصلت أخبار الهزيمة إلى زنجبار ووصل ثابت وإخوته وأنفار من العرب إليها، أما بقية أولاد محمد بن سعيد فأسرهم البلجيك وبقوا في أسرهم إلى ١٣٢١ حيث أطلقوا سراحهم وسمحوا لهم بالعودة إلى زنجبار فبلغوها في حال يُرثى لها، وهكذا انتهت دولة العرب في أفريقيا الوسطى، وتقلص ظل ملكهم منها، وكانت نهاية أمرهم أنهم عاشوا في زنجبار فقراء.

(٤) لكل أجل كتاب

ولما وصل حميد بن محمد إلى زنجبار سنة ١٣٠٩ حسب ثروته فوجدها نيفًا ومائة ألف جنيه، إلا أن وكيله الذي كان في زنجبار احتال عليه وقدَّم وأخَّر في دفاتره فاختلس من تلك الثروة ٣٠٠٠٠ جنيه، و٢٠٠٠٠ جنيه كانت في يد هندي أعطيت له للتجارة فذهب ولم يحصل إلا على ٤٠٠٠ و٧٠٠٠ جنيه أعطاها محمد بن خلفان الذي ادَّعى الشركة في ملكه، وحكمت له محكمة دار السلام بدفع هذا المبلغ، ونحو ١٦٠٠٠جنيه دفعت إلى المحامين عنه في دعاويه حينما أراد الدفاع عن نفسه في أمر الشركة وغيرها من الدعاوي، وكان دائمًا يقول: «ذهب ربع ملكي في أفواه المحامين.»

والذي بقي عنده اشترى به بيوتًا وبساتين فعاش من ريعها، وفي سنة ١٣١٠ تُوفِّي سلطان زنجبار علي بن سعيد، وعين حمد بن ثويني مكانه فنال منه رتبة، وفي سنة ١٣١٤ تُوفِّي حمد بن ثويني، وهبت ثورة في البلاد فأطلقت الإنكليز القنابل على القصر السلطاني، ثم عُيِّن حمود بن محمد بن سعيد سلطانًا، وفي سنة ١٣٢٠ تُوفِّي السيد حمود بن حمد فخلفه ابنه علي بن حمود وهو السلطان الحالي أدام الله ملكه.

مضى هذا الزمان وحمد بن حميد بين الدعاوي والشكاوي، وفي شهر ذي الحجة سنة ١٣٢٢ أصابه مرض الاستسقاء ثم عوفي منه، ولكن صحته بقيت ضعيفة فاشتد به الألم حتى كانت الساعة الخامسة من ليلة الأربعاء عاشر ربيع الثاني (١٤ يونيو) قبضه الله إليه، وما شاع هذا الخبر حتى توافدت الجموع إلى منزله وفي مقدمتهم قنصل جنرال أمريكا وفيس قنصلها، وتتابعت الجموع، وسار في جنازته أناس كثيرون، وفي الصباح جاء قنصل جنرال الإنكليز، وقنصل الألمان وغيرهما من معتمدي الدول والتجار الأجانب، وأعيان العرب والهنود والزنوج لتعزية أهله، ونقل البرق خبر وفاته إلى العالم المتمدن، فأتت جرائده مملوءة بالكلام عن سيرته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤