الفصل الثالث والعشرون

المعلم جرجس الجوهري

fig54
شكل ٢٣-١: المعلم جرجس الجوهري: تُوفِّي سنة ١٨١١ (نُقلت هذه الصورة بالموتوغراف عن رسم له بباريس ولكنها أُخذت من موضع منحرف فظهرت كما نرى).

كان للأقباط في أثناء دولة أمراء المماليك شأن كبير في مصالح الدولة، فنبغ منهم في القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر رجال اشتهروا بالحزم والدراية، ونالوا نفوذًا عظيمًا لدى الأمراء حتى كانت الأمور كلها إليهم، منهم المعلم رزق كاتب علي بك الكبير، والمعلم إبراهيم الجوهري رئيس كُتَّاب الأمير إبراهيم بك، وكان لهما تأثير كبير في تاريخ الأمة القبطية، وقد ذكر الجبرتي أن النصارى اعتز جانبهم في أيامهما بما كان لهما من التأثير على صاحب الأمر والنهي، وجاء في «تاريخ الأمة القبطية» لمؤلفه يعقوب بك نخلة روفيلة تفاصيل مهمة من أخبارهما، ومن هذا الكتاب استخرجنا ترجمة المعلم جرجس هذا، وهو أخو المعلم إبراهيم الجوهري المتقدم ذكره، فلما تُوفِّي أخوه قلَّده إبراهيم بك رئاسة الكُتَّاب كما كان أخوه قبله، ورافق أعمال هذا الأمير إلى آخر أيامه.

وقد جاء ذكره في كتاب الجبرتي بين وفيات عام ١٢٢٥ﻫ، وهاك نص قوله:

ومات المعلم جرجس الجوهري القبطي، كبير المباشرين بالديار المصرية، وهو أخو المعلم إبراهيم الجوهري، ولما مات أخوه في زمن رئاسة الأمراء المصرية تعيَّن مكانه في الرئاسة على المباشرين والكتبة، وبيده حل الأمور وربطها في جميع الأقاليم المصرية، نافذ الكلمة وافر الحرمة، وتقدم في أيام الفرنسيس فكان رئيس الرؤساء، وكذلك عند مجيء الوزير والعثمانيين، وقدموه وأجلسوه لما يسديه إليهم من الهدايا والرغائب حتى كانوا يسمونه جرجس أفندي، ورأيته يجلس بجانب محمد باشا خسرو بجانب شريف أفندي الدفتردار، ويشرب بحضرتهم الدخان وغيره، ويراعون جانبه ويشاورونه في الأمور، وكان عظيم النفس، ويعطي العطايا، ويفرق على جميع الأعيان عند قدوم شهر رمضان الشموع العسلية والسكر والأرز والكساوي والبن ويعطي ويهب. وبنى عدة بيوت بحارة الونديك والأزبكية وأنشأ دارًا كبيرة وهي التي يسكنها الدفتردار الآن، ويعمل فيها الباشا (محمد علي) وابنه (إبراهيم) الدواوين عند قنطرة الدكة، وكان يقف على أبوابه الحجاب والخدم، ولم يزل على حالته حتى ظهر المعلم غالي، وتداخل في هذا الباشا وفتح له الأبواب لأخذ الأموال، والمعلم جرجس يدافع في ذلك، وإذا طلب الباشا طلبًا واسعًا منه يقول له: هذا لا يتيسر تحصيله، فيأتي المعلم غالي فيسهل له الأمور، ويفتح له أبواب التحصيل، فضاق خناق المعلم جرجس وحق على نفسه فهرب إلى قبلي، ثم حضر بأمان كما تقدم، وانحط قدره ولازمته الأمراض حتى مات في أواخر شعبان، وانقضى وخلا الجو للمعلم غالي، وتعيَّن بالتقدم، ووافق الباشا في أغراضه الكلية والجزئية، وكل شيء له بداية وله نهاية، والله أعلم. ا.ﻫ.

fig55
شكل ٢٣-٢: مراد بك أحد أمراء المماليك في أواخر القرن الثامن عشر.
وذكر صاحب تاريخ الأمة القبطية من سبب خوفه وهربه إلى الوجه القبلي:

أنه لما كثرت معارضته لمحمد علي باشا وتوقفه له في تحصيل النقود التي كان في غاية الاحتياج إليها قبض عليه ومن معه من الأقباط بحجة أنه متأخر عليه مبالغ من حساب التزامه، وحجزهم ببيت كتخداه وأحضر المعلم غالي وكان كاتبًا عند الألفي (أحد كبار المماليك وعدوَّ محمد علي باشا الألدَّ) وعيَّنه رئيسًا مكانه، وكلفه بعمل حساب التزامه عن الخمس سنين الماضية، وبعد سبعة أيام أمر بالإفراج عنه ومن معه على شرط أن يدفع أربعة آلاف وثمانمائة كيس، فقام هو بدفع مبلغ عظيم من هذا المقدار ووزَّع الباقي على الكُتَّاب والصيارف ما عدا المعلم غالي وشخص آخر يقال له المعلم فلتاؤس؛ لأسباب اختلفت فيها الأقوال نضرب صفحًا عن ذكرها، فحصلت له ولهم مضايقات شديدة اضطرته إلى التنازل عن أفخر أملاكه، ولا سيما التي كانت على بركة الأزبكية وقنطرة الدكة، ولم تزل باقية في وقف القصر العالي للآن، ومن ذاك الحين أخذ نجم المعلم جرجس في الأفول ونجم المعلم غالي في الظهور والصعود، فلم يسعه غير الهرب إلى الوجه القبلي حيث كان الأمراء المماليك، ثم نزع محمد علي باشا البلاد التي كانت تحت التزامه وطرحها في المزاد على الراغبين فأخذها القادرون. وفي رواية أنه لم يهرب، بل إن محمد علي باشا نفاه إلى الصعيد، وقبل قيامه إلى الصعيد إما هاربًا أو منفيًّا كما قيل جمع كل حجج أملاكه وسلَّمها إلى البطركخانة لتنفق من ريعها على أهل بيته فوضعت اليد عليها وبقيت في حوزتها للآن.

وبعد أربع سنين صرَّح له الباشا أن يعود بأمان إلى القاهرة فوصلها في اليوم الثالث عشر من شهر شوال سنة ١٢٢٤ﻫ. قال الجبرتي: «ولما حضر ذهب إلى الباشا فقابله وأكرمه ونزل في بيته الذي بحارة الونديك، وفرشه له المعلم غالي وقام له بجميع لوازمه، وذهب الناس مسلمهم ونصرانيهم وعالمهم وجاهلهم للسلام عليه.» وفي سنة ١٢٢٥ﻫ مات ودُفن بمصر العتيقة بدير مارجرجس، ولا يزال قبره موجودًا ولكنه قد تخرَّب وليس من يفكر في إصلاحه. ا.ﻫ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤