الفصل الرابع والعشرون

المعلم غالي

تُوفِّي سنة ١٨٢١
هو من مشاهير رجال الإدارة من الأقباط، نبغ في أوائل أيام محمد علي باشا الكبير. قال صاحب كتاب تاريخ الأمة القبطية: إنه كان في الأصل كاتب الأمير الألفي من أمراء المماليك ثم تركه لسبب غير معلوم، وتعلق بخدمة محمد علي باشا، قال:

وكان على جانب عظيم من الذكاء والنباهة، ويعرف من أين تؤكل الكتف، فلم يظهر للباشا معارضة في أوامره بل كان يساعده على تنفيذ أغراضه بتسهيل الأمر له، ولا سيما فيما يختص بتحصيل الأموال، وقيل: إنه كان يعرف اللغة التركية ويتكلم بها، فأحبه ورفع منزلته، وعوَّل عليه في الأعمال المالية، وركن إليه وعمل برأيه وفكره فيها. ولما قصد محمد علي باشا تأسيس حكومة منتظمة، وكان لا يخفى على المعلم غالي أنه توجد أراضٍ كثيرة يزرعها أصحاب الاقتدار بغير دفع أموال عليها، شرع في مساحة عموم أراضي القطر المصري فأخذ جملة أراضٍ، فرُبطت عليها الأموال، وبذلك نمت الإيرادات فكانت هذه خدمة وطنية عظيمة قام بها، وقسم أطيان كل بلد إلى حيضان وقبائل، وجعل لكل بلد زمامًا مخصوصًا، وغير ذلك مما لا تخفى فائدته فلا حاجة لإطالة الشرح فيه.

ولما نكب المعلم جرجس الجوهري وأسندت رئاسة الكُتَّاب إليه طلب منه الباشا ألف كيس فوزعها على المباشرين والكتبة وجمعها في أقرب وقت، ولكن كان جمعها بسرعة موجبًا لغير ما يتوقعه المعلم غالي، وسببًا في جلب الضرر عليه وعلى غيره، فإن الباشا بعد قليل أوقع الحوطة على بيته وبيت المعلم جرجس الطويل، وحنا أخيه، وفرنسيس أخي المعلم غالي، والمعلم فلتاؤس، واثنين آخرين، وأخرجوهم منها بصورة منكرة وسمروا دورهم وأخذوا دفاترهم، فلما حضروا بين يديه، قال لهم: أريد حسابكم بموجب دفاتركم هذه. وأمر بحبسهم إن لم يدفعوا ثلاثين ألف كيس، وبعد أيام أفرج عنهم بواسطة شخص يسمى حسين أفندي الرونامجي على شرط أن يدفعوا سبعة آلاف كيس، فقاموا بدفعها، ولكن لم تمضِ سبعة شهور حتى قبض عليهم ثانية وحبسهم في القلعة، وختموا على دورهم ثم أنزلوا المعلم غالي والمعلم فلتاؤس في مركب ليسافرا إلى دمياط كمنفيين، وكان على ديوان الجمرك رجل يقال له: المعلم منصور صريمون ومعه كاتبان آخران: يسمى أحدهما بشارة، والآخر رزق الله الصباغ، والبعض يقول: إن الثاني من عائلة المعلم جرجس الجوهري، فأحضر الباشا المعلم منصور وقلَّده مباشرة الدواوين، ثم سعى الساعون في مصالحة المعلم غالي ورفقائه، فقبل الباشا العفو عنهم والرضا عليهم بشرط أن يدفعوا أربعة وعشرين ألف كيس، ولما حضر المعلم غالي من دمياط طلع إلى القلعة وقابل الباشا فخلع عليه وألبسه فروة سمور، وتنازل له عن أربعة آلاف كيس، وأمر أن ينزلوا به إلى داره وأمامه الجاويشية بالعصي المفضضة، وأعاده إلى الرئاسة كما كان أمام المعلم منصور فجعله كاتبًا لابنه إبراهيم باشا.

وتكرر حصول ذلك من الباشا فكان يغضب عليه تارة ويعزله ويقلد غيره من رفقائه، ويرضى عليه أخرى فيرده إلى منصبه بعد دفع مبلغ طائل لا يستطيع القيام به من ماله الخاص فيختص هو بجانب منه، ويوزع الباقي على زملائه وغيرهم من رؤساء الكتبة، فنتج من ذلك أنه داخل بعض رفقائه الغيرة منه فانفكت رابطتهم وتفرقت كلمتهم، وكان هذا غاية مقصد الباشا.

واتفق أن الباشا كان قد توجه إلى الإسكندرية لمهمة واحتاج لنقود فحوَّل على المعلم غالي صرف ستة آلاف كيس كانت باقية عليه، فاعتذر بعدم الاقتدار على أدائها في الحال بدعوى أنها بواقٍ على أربابها وهو ساعٍ في تحصيلها، فلم يقبل هذا العذر منه، وأرسل إلى كتخداه في مصر بالقبض عليه وعلى أخيه فرنسيس وأمينه المدعو المعلم سمعان وسجنهم في القلعة حتى يدفعوا هذا المبلغ، وخاف المعلم جرجس الطويل وحنا أخوه سوء العاقبة، وكان في نفسيهما شيء من جهة المعلم غالي فتحاملا عليه ووسوسا للباشا أنه إذا حوسب يظهر عليه ثلاثون ألف كيس، وتعهدًا بأنه إذا فوض لهما عمل حسابه ولم يظهر عليه هذا المقدار فيكونان ملزومين بأدائه للخزينة، فاشتد غضبه عليه وعزله من رئاسة الكتابة وولى آخر مكانه يسمى المعلم منقريوس البتانوني، وضيق عليه في الحبس وأهانه إهانة شديدة وكرَّر الضرب على أمينه حتى أشرف على الهلاك، وبعد ذلك أفرج عن أخيه وأمينه ليسعيا في التحصيل، أما المعلم غالي فبقي في الحبس مدة، وبعد قليل شرع الباشا في تغيير هيئة الدواوين واستبدالها بأنظم منها بحيث تعود بالفائدة على الخزينة، فرضي على المعلم غالي وأناطه بذلك، فقسم البلاد إلى مديريات وأقسام، والأطيان إلى أحواض وقبائل.

وبعد أن غاب المعلم غالي نحو سنة في الصعيد وهو يشتغل في ذلك عاد إلى مصر وكان المتولي إمارة الصعيد رجلًا يدعى محمد بك الدفتردار، فلما قصد المعلم غالي العود إلى مصر زوَّده بكتاب منه للباشا يمدح فيه نصحه وسعيه في فتح أبواب تحصيل الأموال للخزينة، وأنه ابتكر أشياء وحسابات يتحصل منها مقادير وافرة من المال، فقابله الباشا بالرضا وأثنى عليه ومن ثم اتخذ كاتبًا لسره وخصه بمباشرة الأعمال الحسابية التي ابتكرها فكانت يده فوق يد الجميع حتى حكام الأقاليم، واستمر في هذا المنصب الجليل إلى أن قُتِل سنة ١٨٢١م لأسباب لا تزال حقيقتها خافية علينا. وبقيت جثته ملقاة في الخلاء ببعض بلاد مديرية الشرقية يومين إلى أن استأذن أحد الأقباط في رفعها فأخذها ودفنها. ا.ﻫ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤