الفصل السادس والعشرون

بوغوص بك

fig57
شكل ٢٦-١: بوغوص بك (وُلد سنة ١٧٦٨ وتُوفِّي سنة ١٨٤٤).

هو بوغوص بك يوسفيان، وُلد في أزمير سنة ١٧٦٨ وتثقف في مدارسها حتى برع في اللغات الأرمنية والتركية واليونانية والإيطالية والفرنساوية تكلُّمًا وكتابة، وتعاطى في أوائل شبابه التجارة عملًا بمشورة أبيه، ثم تعيَّن مترجمًا في قنصلية إنكلترا.

وفي سنة ١٧٩٠ تُوفِّي والده، فقضت عليه الأحوال أن يأتي رشيد بالقطر المصري، فجاء وتعيَّن في بعض مصالح الكمرك ثم انتقل إلى كمرك الإسكندرية، حتى إذا كانت الحملة الفرنساوية عام ١٧٩٨ بقيادة نابليون بونابرت هاجر بوغوص إلى وطنه، ولما انسحب الفرنساويون سنة ١٨٠١ عاد إلى الإسكندرية.

وكان كمرك الإسكندرية إذ ذاك يُحتكر بالمزايدة، ففي سنة ١٨١٠ انتهى المزاد عنده على أن يدفع خمسين كيسًا في العام، والكيس يساوي خمسمائة غرش، وكان محمد علي قد تولى عرش الحكومة المصرية، فلما دنا انقضاء مدة الاحتكار استدعاه إليه لتجديد الشروط، وكان محمد علي على بينة من مقدار دخل الكمارك، فلما اجتمع به طلب منه خمسمائة كيس في العام لمدة خمس سنوات، فلم يقبل بوغوص في بادئ الرأي خوف الخسارة، فتعهد محمد علي إذا قلَّ دخل الكمرك عن ٥٠٠ كيس في السنة أتمَّ له المبلغ من جيبه، وإذا زاد على ذلك قسم الربح بينه وبين الحكومة المصرية، فقبل بوغوص بك بذلك؛ لعلمه أن محمد علي لا يُقدم على هذا الأمر إلا وهو ينوي للإسكندرية خيرًا، وبالواقع أنه احتفر الترعة المحمودية فتسهلت وسائل النقل، وعظمت تجارة الإسكندرية فربح بوغوص أرباحًا حسنة اقتسمها هو ومحمد علي، فأصبح شريكا للحكومة المصرية، وكان محمد علي قد جعل فوق يد بوغوص كاتبًا يراقب حساباته، فوشى به سنة ١٨١٣ بأنه قبض مبلغًا لم يدونه في دفاتره، فاستدعاه محمد علي إليه وكان يومئذٍ في دمياط وحاكمه، فأثبت الواشي دعواه بالحساب، فأمر محمد علي بإعدام بوغوص، فساقوه إلى السجن على أن يقتلوه في صباح الغد، وتولى الاحتفاظ به تلك الليلة رئيس حرس الباشا وهو كردي الأصل، وكان لبوغوص فضل عظيم عليه لأنه أنقذه مرة من القتل فعوَّل هذا على مكافأته بالمثل.

فلما أمره محمد علي بإعدامه ساقه إلى منزله في دهبية على النيل، وجاء في الصباح التالي إلى السراي، فلما رآه محمد علي سأله عن بوغوص، فأجابه بقوله: «أطال الله بقاء سمو مولاي»، ففهم محمد علي على أنه قتله فلم يعد يذكره قط.

واتفق بعد بضعة أيام أن محمد علي قدم القاهرة لتعهد شئون حكومته فسمع باختلال أحوال الولاية، وكانت التقارير ترد عليه من الكشاف (المديرين) تناقض بعضها بعضًا، فشق ذلك عليه وتذكر بوغوص لأنه كان عمدته في حل هذه المشاكل.

فصاح بأعلى صوته قائلًا «من لنا ببوغوص الآن! كيف أني قتلته!» وكان رئيس حرسه حاضرًا، فامتقع لونه واضطرب، فأدرك محمد علي ذلك، فقال له والغضب ظاهر على وجهه: «ادعه حالًا» فخاف الكردي خوفًا شديدًا، واصطكت ركبتاه فترامى على قدمي الباشا فرفسه محمد علي برجله، ولم يزد على قوله: «ادعهُ إليَّ»، فجاءه به وبوغوص يرتعد خوفًا ورهبةً. أما الباشا فلم يبدِ ملاحظة، ولكنه استشارهُ في حل المشكلة التي وقع فيها فتناول بوغوص الأوراق فتلاها وحل رموزها، واستطلع ما بطن منها وما ظهر، فأصدر محمد علي حكمه فيها طبقًا لمشورة بوغوص، ولما انفضت الجلسة وانصرف الكتبة دعاه للطعام معه فتناولاه ولما همَّ بوغوص بالانصراف، قال له محمد علي: «قد تناولت الخبز والملح معك ونسيت ما مضى، فاذهب إلى الإسكندرية بسلام.» فالتمس بوغوص منه أن يعفو عن رئيس الحرس، فعفا عنه على شرط أن لا يرى وجهه بعد ذلك، فأخذه بوغوص معه وأسكنه في أهله زمنًا طويلًا ثم أراد النزوع إلى وطنه، فجهزه بمال يكفي لمعيشته بالرخاء والنعيم كل حياته.

وأصبح بوغوص بك من ذلك الحين موضع ثقة محمد علي ومرجع مشورته ولم تبقَ ثمة حاجة إلى تجديد شروط احتكار كمرك الإسكندرية، وأصبح بوغوص بك من موظفي الحكومة المصرية بلا راتب معين، فكان يستولي على ما أراده من دخل الكمارك بلا حساب على أن محمد علي لم يرَ منه طمعًا ولا إسرافًا، فرقَّاه إلى رتبة فريق مع لقب بك، وأطلق له التصرف في كل أعماله. ولما نظم محمد علي حكومته، وأنشأ فيها النظارات ولاه نظارة الخارجية والتجارة، فقضى في ذلك المنصب نحوًا من عشرين سنة ومحمد علي يعتمد عليه اعتمادًا تامًّا في كل ما يتعلق بعلاقاته السياسية والتجارية مع الدول الأخرى، وكانت كل محاصيل القطر المصري تمرُّ تحت يده كأنه ناظر المالية، ونظم له أقلام الحسابات فاكتسب صداقة محمد علي فضلًا عن ثقته.

وتُوفِّي بوغوص بك في الإسكندرية أول عام ١٨٤٤ عن ٧٦ عامًا، وكان محمد علي يومئذٍ في القاهرة فحزن حزنًا شديدًا، فأصدر أمره أن يحتفلوا بجنازته على نفقة الحكومة، فدفنوه في كنيسة الأرمن الغريغورية في الإسكندرية، ولم يكن من أقاربه في مصر يومئذٍ إلا نوبار باشا، وكانت سنه ١٩ سنة فخدمه في أثناء مرضه.

وكان محمد علي لما سافر إلى السودان عام ١٨٣٩ لتفقد أحوالها سلَّم إلى بوغوص بك أوراقًا مختومة على بياض لاستخدامها فيما يقتضي إصداره من الأوامر أو المنشورات سريعًا، فبعد انقضاء مدة الحداد فتحوا صناديقه فوجدوا تلك الأوراق لا تزال كما كانت عليه، ومعها جواهر ومصاغ كان محمد علي قد عهد إليه بها قبل سفره، ويدل ذلك على أمانته وإخلاصه في خدمته.

وكان ربعة مع ميل إلى القصر، قوي البنية، يتقلد العمامة ويلبس القفطان والجبة، لا يختار من ألوان الألبسة إلا المظلمة، ولم يلبس الطربوش قط، ولم يخلِّف بوغوص أولادًا، فورثه أخوه بدروس يوسفيان، وكان يقيم في تريستا ولم يعش بعده إلا قليلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤