الفصل السادس والثلاثون

كيرلس الرابع

fig72
شكل ٣٦-١: كيرلس الرابع بطريرك الأقباط الأرثوذكسيين العاشر بعد المائة.

هو أحد رجال الإصلاح الذين يفتخر تاريخ الأمة القبطية بذكرهم؛ نظرًا لما له من الأيدي البيضاء في إصلاح الكنيسة القبطية في هذا القرن، وقد آثرنا شرح ترجمة حاله إقرارًا بفضله أسوة بأمثاله من أعاظم الرجال نقلًا عن أصدق المصادر وفي جملتها ما سمعناه من أفواه جماعة ممن عاشروه ورأوا أعماله رأي العين.

وُلد هذا الرجل سنة ١٥٣٢ قبطية (١٨٠٦م) في قرية الصوامعة الشرقية من مديرية جرجا في مصر العليا، وكان اسمه داود، وكان والده مزارعًا معروفًا بين قومه بالسذاجة وسلامة النية وكان أميًّا لا يعرف القراءة، ولكنه لم يغفل عن تربية ولديه، وهما: داود — المتقدم ذكره — ويوسف وهو أصغرهما، فعُني في تعليمهما فتعلَّما القراءة والكتابة في اللغتين العربية والقبطية ومبادئ الحساب.

فلما أكمل داود تعلمه على قدر ما سمحت به مدارس تلك الأيام عكف على معاضدة والده في أعماله الزراعية، فكان يقضي يومه بين المزارع والغياض في الأعمال الخشنة، فنما جسمه وتشددت عضلاته. أما أخوه فاختار الكتابة والحسابة، فكان يقضي معظم يومه جالسًا في الديوان عاملًا فكرته، مجهدًا عقله، فنما ضعيفًا نحيفًا خلافًا لداود الذي لما بلغ أشده اختلط بالعربان المجاورين لقريته، وتعلَّم منهم ركوب الخيل حتى صار يراكبهم ويسابقهم ويرافقهم في أسفارهم في الجبال والبراري والصحاري، وألِف كثيرًا من طرق الصحراء حتى إنه لم يحتج إلى دليل يرشده إلى طرق الدير عندما أراد الترهُّب.

وقلَّما نعلم عن حالة صاحب الترجمة فبل انخراطه في سلك الرهبنة، وإنما علمنا أنه لم يكن يهمه شيء من أعمال هذه الدنيا، ولم يكترث بعمل من الأعمال العالمية، كأن العناية حفظته لخدمة لا يقوم بأعبائها إلا نفر قليلون من بني الإنسان، فلما بلغ الثانية والعشرين من عمره برح بيت أبيه، وفارق أصحابه وخلانه وقصد دير القديس أنطونيوس في الجبل الشرقي لمجرد الترهيب والانقطاع للعبادة وخدمة الله، فوصله بعد مسيرة ثلاثة أيام، وترهب على يد القس أثناسيوس القلوصني رئيس ذلك الدير، ولم يلبث هناك مدة حتى اشتهر بين رفقائه الرهبان بالذكاء والورع ودماثة الأخلاق والهمة والنشاط، فكان الرئيس إذا غادر الدير لغرض له في العزبة أو مكان آخر يعهد بتدبير الدير لداود دون سواه لما رأى فيه من الأهلية وحسن التدبير والغيرة على مصلحة الدير والمواظبة على مطالعة الكتب المفيدة حتى رآه يجمع إخوانه الرهبان في ساعات الفراغ، ويقرأ عليهم ويشرح لهم ويحثهم على المطالعة. وبعد دخوله الدير بسنتين تُوفِّي القس أثناسيوس المشار إليه، فأجمع الرهبان كافة على إسناد منصب رئاسة الدير إليه، فاستحضره الأنبا بطرس بطريرك الأقباط إذ ذاك وثبَّته في ذلك المنصب ودعا له وباركه، فانصرف القس داود إلى مقر وظيفته في بوش بمديرية بني سويف، وشرع في مباشرة المهام التي عُهدت إليه بهمة ونشاط ودراية، وكان على كثرة تجواله لقضاء مهام الدير المتعددة في البلاد المختلفة لا يهمل شيئًا من لوازم الدير في الجبل في أوقاتها حتى لا يتخذ الرهبان تأخرها ذريعة لمغادرة الدير والتجول في البلاد من جهة أخرى مما يخالف عهود الرهبنة؛ إذ كان في اعتقاده أن الراهب لا يجب أن يبرح ديره إلا إذا دعاه رئيسه إلى ذلك، فإذا خالف أحد الرهبان هذا الأمر كان يتظاهر القس داود بالإغضاء عنه ثم يعمل على إجباره بحسن السياسة على إيثار البقاء في الدير على الخروج منه، وما زال ذلك اعتقاده في الرهبنة إلى آخر أيامه، حتى إنه لما صار بطريركًا أصدر منشورًا يقضي بملازمة الرهبان الديور، وأن لا يخرجوا منها إلا بإذن منه، ولم يبقَ في العزبة في بوش إلا الرهبان الذين لا غنى عنهم في الأعمال الزراعية ومتعلقاتها، ومن أقواله من هذا القبيل: «إن من يختار ثوب الرهبنة فقد مات عن الدنيا، ودُفِن في الدير فلا يخرج الميت من قبره، والرئيس الذي يؤذن للراهب في الخروج من ديره فقد أخرج ميتًا من قبره.»

ومما يذكر من آثاره في أثناء إقامته في بوش رئيسًا للدير أنه خصص مكانًا في العزبة جمع إليه ما كان هناك من الكتب وضم إليها بعضًا آخر من كتب الدير، وكان يجمع الرهبان إليه في ساعات الفراغ ويستحثهم على المطالعة والمفاوضة في المواضيع الدينية، والأدبية، والتاريخية، وأنشأ مدرسة لتعليم شبان بوش الأقباط اللغة العربية بفروعها واللغة القبطية، واعتنى هو في تعلم النحو والصرف فاكتسب منهما ما يكفي لضبط القراءة والكتابة. وبالجملة فقد كان نورًا تنبعث منه أشعة الفضيلة، والقدوة الحسنة في سائر مديرية بني سويف، وأجمع أهلها على اختلاف المذاهب على حبه واحترامه ومشاورته في مهامهم.

وحدث في أثناء ذلك خلاف بين الأنبا سلامة مطران الحبشة وإكليرسهم، وسببه أن المطران سلامة لما تولى أسقفية الحبشة رأى الشعب وإكليرسهم هناك على ما هو مخالف لروح الكتاب، واستغرب تساهل أسلافه المطارنة في هذا الأمر وسكوتهم عنه، فأراد ردعهم وإهداءهم إلى الطريق الحق، فغضبوا وأصروا على اعتقادهم بدعوى أنه اعتقاد أجدادهم ولا يريدون الجنوح إلى سواهُ، فلما يئس من ردعهم بالبراهين الدينية هددهم بالسلطة الكنائسية، فشكوه للبطريرك الأنبا بطرس — المتقدم ذكره — وكان مشهورًا بالحلم والوداعة والتقوى، فكتب إلى المطران سلامة يحرضه على معاملة الرعية بالرفق واللين وتجنب كل ما يئول إلى الشقاق، فلما قرأ هذا الكتاب شقَّ عليه ما نُسب إليه فيه من القسوة والحدة ولو تلميحًا، فكتب إلى البطريرك يبرئ نفسه من تلك التهم، وقد شرح المسألة شرحًا وافيًا وقال في آخر الكتاب: إن موضوع الخلاف ليس عالميًّا حتى يتساهل فيه، وطاعة الله أولى من طاعة الناس. فلما تناول البطريرك الكتاب سُرَّ لثبات المطران وإخلاصه، وكان يرجو أن تنفرج تلك الأزمة على يده، ثم علم بتفاقم الخطب لتداخل بعض رجال الحكومة هناك ومقاومتهم له، فخاف العاقبة فلم يرَ بدًّا من ملافاة الأمر بالحزم، فبعث القسيس داود وأسرَّ إليه حقيقة الواقع، وأظهر له أسفه مما حصل، وأنه يخشى وقوع الانشقاق في الطائفة بسبب ذلك، وأنه لشيخوخته لا يستطيع الذهاب إلى الحبشة بنفسه لتسوية الخلاف؛ ولذلك فإنه لم يرَ من يليق لهذه المهمة أفضل منه، وعهد إليه بالمسير نائبًا عنه لما يعهد فيه من الدراية والحكمة والعزيمة، فأذعن القسيس لأمره، ولكنه طلب إليه أن يصرح لكاهن آخر بمرافقته ليكون له عونًا في ذلك، فأذن له فاصطحب راهبًا اسمه القس برسوم الراهب (ثم صار الأنبا يوأنس أسقف المنوفية)، فسار القس داود أولًا إلى بوش يتأهب للمسير، وفي اليوم المعين سارا بكتاب من البطريرك للمطران وآخر إلى القسوس وسائر الشعب الحبشي، ولما ودعاه، قال البطريرك للقس داود على مسمع من الناس: «إنك إذا أديت هذه المهمة على وجهٍ مرضٍ تنال فيه نصيبًا صالحًا عند عودتك مكافأة لك.» وقال آخرون: إنه وعده بمنصب مطران عند رجوعه، فسار على بركة الرحمن سنة ١٥٦٧ قبطية ١٨٥١م وقد أحسن بمرافقة الأنبا يوأنس؛ لأنه جدير بثقته وأهل لمثل ذلك المسعى الخيري.

وفي يوم ٢٨ برمهات سنة ١٥٦٨ الموافق ١٨٥٢م تُوفِّي البطريرك إلى رحمة الله في أثناء غياب القس داود بعد أن أقام في كرسي الكرازة المرقسية نيفًا وأربعين عامًا، وكان رجلًا كاملًا أسف الناس على فقده.

وبعد وفاته بقليل جاء العاصمة أساقفة الوجه البحري والوجه القبلي لكي يتَّحدوا مع الشعب في انتخاب من يقوم مقامه، وفي اجتماعهم الأول في دار البطريركية كان اسم القس داود في جملة المرشحين لذلك المنصب، فاعترض بعضهم على انتخابه؛ لأنهم لا يعلمون من أمر حياته شيئًا بدعوى أنهم سمعوا بخروجه من بلاد الحبشة منذ مدة ولم يعودوا يعلمون ما كان من أمره، وألحُّوا في انتخاب سواه فارفضَّت هذه الجلسة ولم يتم الانتخاب، ومن غريب الاتفاق أنه قبل حلول ميقات الجلسة الثانية ورد من القس داود كتاب لبعض أصدقائه ينبئه بوصوله حدود مصر، وأنه سيكون في القاهرة بعد قليل فسُرَّ منتخبوه بذلك، فلما التأمت الجلسة صرحوا بكتابه وطلبوا انتخابه، فطلب بعضهم انتخاب الأنبا يوساب أسقف أخميم إذ ذاك وأوقفه جماعة من الحضور، فاعترض منتخبو القس داود على ذلك، وارفضَّت الجلسة بلا نتيجة، فأخذ حزب القس داود في كتابة تزكية باسمه وقَّع عليها كثير من أبناء الطائفة؛ لكي يكون شاهدًا لرضاء الجمهور عن انتخابه، وكان في جملة أحزابه تادرس شلبي وتادرس عريان وبرسوم واصف وحنا عبيد ويوسف نصر الله وحنين حنس وأخوه أسطفانوس حنس ورفائيل الطوخي وحنا القسيس وبطرس نخلة وإبراهيم لطف الله ويوسف مفتاح وتادرس سيدهم، وجميعهم من أعيان الطائفة ووجهائها، وكان من أشد الناس اهتمامًا في ذلك حنا أفندي جريس وإبراهيم أفندي خليل.

وبقي النزاع مدة وصل في أثنائها القس داود إلى القاهرة فسُرَّت أحزابه وتقاطروا للسلام عليه، وكانت مدة غيابه هذه المرة نحو ثمانية عشر شهرًا.

فلما رأت أحزاب أسقف أخميم ميل الجمهور إلى انتخاب القس داود عولوا على تنفيذ مآربهم بالحيلة، بأن يجتمعوا ذات ليلة ويسيموا الأسقف بطريركًا، فإذا أصبح الناس رأوا السهم قد نفذ، وادَّعى بعض الراغبين في ذلك أنه تحصل على أمر شفاهي من المغفور له عباس باشا الأول برسم الأسقف بطريركًا، ولكنهم لم يستطيعوا كتم تواطئهم، فعلمت أحزاب القس بذلك فجاءوهم في الوقت الذي عيَّنوه لذلك، وأخرجوهم من الكنيسة بالقوة وأقفلوا الأبواب وسلموا المفتاح لرجل حبشي اسمه سلطان كان في البطريركية مع جماعة من أبناء وطنه، وكان يدعي أنه من عائلة النجاشي ملك الحبشة، ثم اجتمعوا وعرضوا للحكومة يشكون سوء تصرف بعض الأساقفة في هذا الأمر، وألحُّوا في انتخاب القسيس لرضاء الشعب عنه بشهادة التزكية التي كتبوها عنه، فأحالت الحكومة تسوية الأمر على الأنبا كبريل ورتبيت الأرمن إذ ذاك، فأخفق سعيه لتمسك كلٍّ من الفريقين برأيه وغرضه، ومن الغريب أن تلك المقاومة لم يكن لها أساس حقيقي سوى حب السيادة ونفوذ الكلمة؛ غير أن حزب القس داود كانوا على بينة مما دعوا إليه لأنهم كانوا يعلمون صفات ذلك الرجل، وأنه لائق بذلك المنصب لما عرف به من شدة الميل إلى إصلاح الطائفة، وسعة اطِّلاعه وحسن درايته، وأما المتشيعون لغيره فكانوا يظنون أنه يكفي لرئيس الطائفة والقابض على أزمَّتها أن يكون حسن السيرة ورعًا تقيًّا وقد يلتمس لهم في ذلك بعض العذر لأنهم لم يكونوا يعرفون للبطريرك عملًا غير الصلاة، والفصل في بعض القضايا الجزئية كتأييد الصلح بين رجل وامرأته أو ما شاكل، أما مصلحة الأمة العمومية فلم يكونوا يفقهون لها معنى.

ولما خابت مساعيهم جعلوا يختلقون على القس داود أقاويل وأراجيف لا أصل لها، فادعى عليه بعضهم أنه تزوج في الحبشة وله ولدان في قيد الحياة، وكان المختلق لهذه الأكذوبة قسيسًا حبشيًّا جاء مصر لضغينة بينه وبين القس داود بسبب ما ذهب القس إلى الحبشة من أجله، وكان في عزم ذلك الحبشي أن يشي به إلى البطريرك، فلما رأى البطريرك قد تُوفِّي والشعب قائمًا على القس داود اختلق عليه تلك الأكذوبة واتهمه بالمداخلة في أمور السياسة في الحبشة مما يشبه خيانة الحكومة المصرية، ولكن حبل الكذب قصير، فما لبثت هذه التقوُّلات زمنًا حتى ظهر فسادها ظهور الشمس لذي عينين، وكان عباس باشا قد تغير عليه بسبب ما نُسب إليه من المداخلات السياسية فلما تحقق الخبر اعتقد صدق طويته.

وما زال الخلاف والنزاع قائمًا بهذا الشأن نحو عشرة أشهر انتهت بواسطة وتربيت الأرمن بتعيين القس داود مطرانًا على مصر ثم إذا اتضح من أعماله أنه لائق بالبطريركية تقلَّدها فتنصب مطرانًا في ١٠ برمودة سنة ١٥٦٩ قبطية ١٨٥٣م وأخذ من ذلك الحين في مباشرة أعماله وإدارة البطرخانة، وأظهر من الأهلية والهمة والغيرة ما استدرَّ الثناء عليه من القاصي والداني، وأول أمر باشره بعد رسمه مطرانًا بناء مدرسة للأقباط بجوار البطرخانة، وهي أول مدرسة أقيمت لهذه الطائفة، فاشترى عدة منازل، وأقام على أنقاضها مدرسة ذاع صيتها وفاح أريجها في سائر الديار المصرية وغيرها.

وكان بناء هذه المدرسة ونجاحها من موجبات إجماع الجميع على محبته حتى انتخبوه بطريركًا في ليلة الأحد ١١ بئونة سنة ١٥٧٠ قبطية الموافق ١٨٥٤م بحضور جميع الأساقفة ما عدا أسقفي أخميم وأبي تيج، ولقبوه أنبا كيرلس الرابع.

فلما أصبح مستقلًّا في عمله شرع في إخراج مقاصده من حيز الفكر إلى الفعل فأتم بناء المدرسة، وأحضر لها الأساتذة الماهرين، وكان يقبل التلامذة فيها ويصف لهم الكتب والأدوات المدرسية مجانًا، وكان يباشر التعليم بنفسه، فلا يمرُّ عليه يوم لا يتفقد فيه حالتها مرة أو غير مرة، ولزيادة الاعتناء بها اتخذ له محلًّا فيها، فإذا أتى إليه زائر من الأجانب أو غيره من ذوي المعرفة باللغات والعلوم وطرق التعليم كلفه بزيارة المكاتب، وفحص التلامذة، وإبداء ملاحظته فيما يعود إلى تحسين حالتها وتسهيل طرق التعليم فيها. وكثيرًا ما كان يطيل الإقامة في المكتب مصغيًا لما يلقيه الأستاذ على الطلبة، ثم يقول مخاطبًا التلامذة قبل خروجه: «قد استفدت معكم اليوم فائدة لم أكن أعرفها قبلًا.» وكان أحيانًا يلقي على التلامذة عبارات أدبية وتاريخية مما يناسب سنَّهم وإدراكهم، وقد جعل تعليم اللغة القبطية جبريًّا، وكان يلاحظ سير دروسها بنفسه.

ولما رتب مدرسة الأزبكية وارتاح باله من جهتها ورأى أن بعض الطلبة يأتون إليها من جهات بعيدة مثل حارة السقايين أشفق عليهم وأنشأ مدرسة وكنيسة هناك، ولم يكن بها من قبل كنيسة، وناط المرحوم حنا أفندي القسيس بملاحظتها وتقديم ما يلزم لها من المعدات والأدوات، وكان حنا أفندي هذا من أفاضل القوم الغيورين، ولم يكتفِ جناب البطريرك بذلك، بل كان يزورها ويفحص حالتها مرة في كل أسبوعين على الأقل، هذا فضلًا عن تكليفه معلمها الأول بتعريفه عن حالتها وكيفية سيرها أول فأول.

ولكن مع كل التسهيلات التي أجراها رحمه الله وعدم تكليف الوالدين شيئًا لم يزد عدد التلامذة في أيامه بمدرسة الأزبكية على مائة وخمسين تلميذًا مع أنه لم يكن بمصر واسطة لتعليم أبناء الأمة القبطية غير هذه المدرسة، وكثيرًا ما كان يحمل الوالدين على إحضار أولادهم إلى المدرسة جبرًا، ولكنهم مع ذلك كانوا يفضلون وجود أولادهم بمكاتب العرفان القذرة الرديئة الهواء، وكان معظم هؤلاء التلامذة من أبناء وجهاء القوم ومعتبريهم؛ ولذا كان يعاملهم أحسن معاملة ويحث الأساتذة على تربيتهم التربية الحسنة، وبذل الجهد في توسيع عقولهم وتثقيف أذهانهم بالنصائح الأدبية والروايات الحكمية كما كان يفعل هو بنفسه في أكثر الأحيان.

وعهد إلى أحد قسوس كنيسة الأزبكية المسمى القمس تكلا المشهود له بإتقان فن الموسيقى والألحان الكنائسية أن ينتخب من بين تلامذة المدرسة الشمامسة عددًا معلومًا من ذوي الأصوات الحسنة، وناطه بتعليمهم التراتيل الكنائسية بطريقة مضبوطة، وجعل لهم ملابس مخصوصة على طراز جديد لطيف يلبسونها في أثناء وجودهم في الكنيسة في أيام الآحاد والأعياد والمواسم، فنتج عن هذا التحسين الظاهري فائدتان: إحداهما إظهار مزايا المدارس وترغيب الأهالي في وضع أولادهم بها، والثانية مواظبتهم على الحضور إلى الكنيسة وهم منشرحو الصدر من سماع التراتيل. وهاك ما قاله إبراهيم أفندي الطبيب في كتابه المسمى «مصباح الساري ونزهة القاري» المطبوع في بيروت سنة ١٢٧٣ﻫ في أثناء كلامه عن مصر ومدارسها، قال:

وفي حارة الأقباط مدرسة عظيمة يعلِّمون فيها اللسان القبطي القديم والتركي والإيطالي والفرنساوي والإنكليزي والعربي، وهم يقبلون فيها من جميع الطوائف، وينفقون على التلاميذ من مال المدرسة، وهذه بناها البطريرك كيرلس القبطي وأنفق عليها نحو ستمائة ألف قرش، وكل هذا بخلاف ما نعهده في بلادنا من الإكليرس وأوجه الشعب.

ولم يمضِ زمن حتى خرج من هاتين المدرستين عدة تلامذة، واتفق حدوث مصلحة السكة الحديدية بالديار المصرية فانتظموا في خدمتها وانتشروا في جميع محطاتها، وكانوا يؤدون أعمالهم باللغة الإنكليزية وبعضهم استخدم في البنوكة وعند التجار لمعرفتهم اللغة الطليانية، وقد عرف جناب إسماعيل باشا الخديوي الأسبق مقدار هذه الخدمة الوطنية فاستدعى إليه الأنبا ديمتريوس البطريرك خلف السعيد الذكر الأنبا كيرلس، وأظهر ارتياحه للخدمة الوطنية التي قامت بها المدارس القبطية؛ لأن معظم مستخدمي السكة الحديد المصرية من تلامذتها، وأنعم عليه بألف وخمسمائة فدان ليتساعد بإيراداتها على توسيع نطاق المدارس، ورتب لها أيضًا مائتي جنيه مصري سنويًّا، ولكن هذه منعت عنها فيما بعد بسبب عسر المالية واضطرار الحكومة للاقتصاد.

ووجه نظره إلى تحسين حالة إدارة البطركخانة، فأنشأ لها ديوانًا وعين له المستخدمين الأكفاء، وقسم الإدارة إلى قسمين: قسم يختص بالأوقاف والمكاتبات الرسمية وغيرها، وقسم يختص بالأعمال الدينية والشرعية، وخص إبراهيم أفندي خليل بالقسم الأول، وأحد القسوس ومطران مصر بالقسم الثاني، وكلاهما تحت ملاحظاته الشخصية، ورأى أن أعمال الأوقاف جارية بطريقة غير منتظمة، وكان بعضها ضائعًا ولم يعرف الضائع منها والموجود، فأمر بإنشاء سجل لحصر جميع الأوقاف به من واقع الحجج، واستخدم لهذا العمل عمالًا اشتغلوا به زمنًا حتى أتموه على الوجه الذي كان يريده، وأنشأ أيضًا مطبعة وبعث يستحضر أدواتها من أوروبا على يد المرحوم الخواجا رفلة عبيد السوري الأرثوذكسي، وقبل إحضارها اختار من أبناء الأمة القبطية أربعة من شبانها النجباء، ورتب لهم رواتب شهرية وملابس سنوية تصرف لهم في أوقاتها من الدار البطركية، وتحصَّل على أمر من المرحوم سعيد باشا بقبولهم في مطبعة بولاق الأميرية ليعلموا صناعة الطباعة إذ لم يكن في القطر المصري إذ ذاك مطبعة غيرها.

ومما يدلك على شدة احترامه للعلم ورغبته في نشره وتنشيطه أنه لما أنبأه الخواجا رفلة عبيد — المتقدم ذكره — بوصول أدوات المطبعة إلى الإسكندرية، وكان البطريرك في الدير بالجبل بعث إلى وكيل البطركخانة بمصر يأمره باستقبال تلك الأدوات عند وصولها القاهرة باحتفال رسمي يقوم فيه الشمامسة بالملابس الرسمية المختصة بالخدمة الكنائسية يرتلون التراتيل الروحية، وكان لاستقبال تلك المطبعة احتفال تحدث الناس به زمنًا لغرابته، غير أن التقادير لم تفسح له بالأجل حتى يُتم المعدات ويباشر العمل بنفسه، فتولى أمرها بعده المرحوم رزق بك جرجس وطبع فيها عدة كتب دينية وأدبية، ثم صارت المطبعة تحت يد أخيه الخواجه إبراهيم جرجس وعرفت بمطبعة الوطن.

وفي أواخر شهر مِسرَى سنة ١٥٧٢ قبطية ١٨٥٦م بعثه المغفور له سعيد باشا بمهمة سياسية إلى الحبشة فذهب وقلبه عالق بالمدارس، فأوصى المرحوم المعلم برسوم واصف بإدارة البطركخانة والمدارس، وطالت مدة غيابه في الحبشة فقلق الناس خوفًا عليه، ثم سمعوا أنه قام من جهة الخرطوم مع اثنين من خاصة ثيودور ملك الحبشة، فاطمأن الناس واستبشروا بنجاح مهمته، وفي ٧ أمشير سنة ١٥٧٤ وصل القاهرة فاستقبلوه باحتفال يليق به حتى غصَّت الشوارع بالناس، ولا سيما جهات الأزبكية، وما وصل البطركخانة حتى تهافت الناس عليه يقبلون يديه ويتبركون به، وأعدوا له زينة فاخرة في المدرسة والبطركخانة، ولما انتهت الزينة عاد هو إلى مباشرة أعماله في بناء الكنيسة واحتفل بتأسيسها احتفالًا عظيمًا جدًّا، حضره جميع رؤساء الطوائف وأعيان البلاد ورجال الحكومة يوم الخميس ٢٩ برمودة سنة ١٥٧٥ (٢٢ أفريل (نيسان) سنة ١٨٥٩).

وفي ليلة الأربعاء ٢٣ طوبة سنة ١٥٧٧ قبطية ١٨٥١م تُوفِّي إلى رحمة الله، وحزن لفقده كل من عرفه أو سمع عنه، ولا سيما الطائفة القبطية لأنها خسرت بفقده خسارة جسيمة جدًّا، وكانت مدة توليه البطريركية سبع سنوات.

وكان البطريرك كرلس الرابع طويل القامة، ممتلئ الجسم، قوي البنية، صحيح الأعضاء، أسمر اللون، حاد النظر والذهن، كبير الرأس عريض الجبهة، كثيف اللحية أسودها، طلق الوجه واللسان، سريع الإقدام على ما ينويه، كثير الأمثال في حديثه، فقلَّما يلقي عبارة لا يسندها إلى مثل، وكان عالي الهمة، وديعًا فطنًا، سديد الرأي، قريب الرضا سريع العفو، لا يشرب الخمر، كثير الاحترام للرهبنة، محافظًا على أصولها، وكان شديد الكره لمقابلة النساء وجمع المال، لا يحب الاستبداد في رأيه ولو كان مصيبًا، وكان كلفًا بمخالطة العلماء ومجالسة الفضلاء ومكالمتهم ومناظرتهم، ولم يكن يستنكف من الإقرار بغلطه إذا اتضح له. ومن أفضل ما اتصف به رحمه الله حبه لرعيته، وسهره على مصلحتهم، ورفع كل ما يوجب النفرة بينهم، والسعي في كل ما فيه تهذيب الشبان بإنشاء المدارس وتسهيل طرق التعليم.

ومن أعماله الحميدة أن القسس كانوا قبل زمانه يعيشون على حسنات الطائفة وصدقاتها، فرتب هو لهم رواتب شهرية تُصرف لهم من البطركخانة، ورغبة في رفعة منزلتهم وحفظ مقاماتهم أصدر منشورًا يقضي بأن الراتب لا يُصرف إلا لمن يعرف خدمة القداس باللغة القبطية معرفة جيدة.

وعند عودته من الحبشة رتب للقسس ميقاتًا يجتمعون فيه كل سبت في المدرسة يتباحثون في أمور دينية، وكان هو يحضر معهم يناقشهم ويشرح لهم واجبات القسوس وآدابهم وما يكسبهم مقامًا رفيعًا بين الناس، وكان في نيته أن يعقب ذلك بتأسيس مدرسة إكليريكية فلم تمهله منيَّته، وفتح في آخر أيامه مدارس للبنات ولكنها لم تثبت.

وكان كثير التيقُّظ لإصلاح ما يقع من النفور بين أولاده أو بين الرجال ونسائهم، على أنه كان يكره مواجهة النساء حتى إنه لم يكن يقابل والدته إلا نادرًا.

وكانت العادة في الزيجة أن يعقد القسيس بين الشاب والشابة عقدًا يدعونه «عقد تمليك» قبل الإكليل بمدة، غير أن هذا العقد لا يقبل الحل أو هو بمنزلة عقد الزيجة، فأصدر البطريرك منشورًا بجعل ذلك العقد «عقد صلح وسلام»، حتى إذا عرض لأحد الطرفين ما يمنع إتمام الاقتران يمكن حلُّه، وهذا لا يزال جاريًا في الطائفة إلى الآن، وكانت العادة أن يزوجوا البنات صغيرات جدًّا فأمر أن لا يتم عقد الزواج على الفتاة إلَّا إذا تجاوزت الأربع عشرة سنة من العمر، وجعل الاعتراف قبل الإكليل فرضًا واجبًا على العروسين؛ حتى لا يحصل ما يكره أحد الفريقين بسبب ما كان من التحجب بين الرجال والنساء في تلك الأيام، وأمر أن لا يعقد القسس إكليلًا إلا بعد استئذان البطركخانة حتى يسجل ذلك في دفاترها، والبطركخانة لا تؤذن بالإكليل إلا بعد الاطلاع على محضر الاتفاق بحيث لا يكون ما يمنع الاقتران.

ولشدة رغبته في تعليم أبناء طائفته ورفعة منزلتهم استأذن المغفور له سعيد باشا أن يدخل تلامذة مدرسته في مدرسة الطب وغيرها من المدارس الأميرية بصفة رسمية.

وخلاصة القول أنه كان قدوة البطاركة، وعنوان رجال الفضل، ولو أمهلته المنيَّة بضع سنين أخرى لجاء من الأعمال العظيمة بأضعاف ما جاءه، ولكنها عاجلته فلم يتولَّ كرسي الكرازة المرقسية إلَّا سبع سنين، عمل في أثنائها أعمالًا لا يعملها غيره بأضعاف تلك المدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤