الفصل الأربعون

قاسم أمين

fig77
شكل ٤٠-١: قاسم أمين نصير المرأة المسلمة والداعي إلى إصلاح العائلة (وُلد سنة ١٨٦٥ وتُوفِّي سنة ١٩٠٨).

أصيب الإسلام في أوائل هذا القرن بفقد غير واحد من كبار رجاله ونوابغ عماله، نخص بالذكر اثنين من دعاة الإصلاح الاجتماعي أو الديني، أحدهما الشيخ محمد عبده زعيم النهضة الإصلاحية الإسلامية في هذا العصر، والثاني قاسم بك أمين نصير المرأة المسلمة والداعي إلى إصلاح العائلة، وقد مات كلاهما وبينهما ثلاث سنين، فخسرنا بذلك خسارة لا يعرف مقدارها إلا الذين يعلمون افتقار الشرق إلى ذلك الإصلاح، ولا سيما العائلة فإنها قوام الأمة، وقوام العائلة المرأة، فلا تصلح الأمة إلا بإصلاحها.

(١) المرأة العربية قبل الإسلام وبعده

تبين لنا من أبحاثنا في «تاريخ العرب قبل الإسلام» الذي صدر ملحقًا للهلال أن المرأة العربية كان لها مقام رفيع في التمدن العربي القديم، فتعاطت الكتابة وتولت الإدارة وعانت سائر أعمال الرجال في الألف الثالث قبل الميلاد؛ أي منذ أكثر من ٤٠٠٠ سنة، وعرفنا دولًا عربية في أعالي الحجاز لا يتولى الملك فيها إلا النساء. ناهيك بما تناقله العرب من أخبار بلقيس صاحبة اليمن والزَّبَّاء (زينوبيا) صاحبة تدمُر. عدا اللواتي اشتهرن في أثناء الجاهلية من العرَّافات والكواهن، ولا يتولى الكهانة إلا الممتازون بالعقل والتدبير بعد أن ينالوا المقام الرفيع ويحرزوا العلم الواسع. ويقال بالإجمال: إن المرأة في الجاهلية كان لها شأن وإرادة وأنفة ورأي وحزم، ونبغ غير واحدة منهن قبيل الإسلام وفي أوائله بالسياسة والحرب والأدب والشعر والتجارة والصناعة على أثر ما حصل من النهضة في النفوس والعقول يومئذٍ، فاشتهر جماعة منهن بمناقب رفيعة تضرب بها الأمثال، وممن اشتهرن بالحزم والرأي خديجة بنت خويلد زوج النبي، وأسماء بنت أبي بكر، وسكينة بنت الحسين وغيرهن١

ظلت المرأة العربية على أنفتها وعزة نفسها وسمو منزلتها في أيام الراشدين، وزاد توسعها في طلب المعرفة إذ اتسع المجال للعقول والمواهب، فنبغت غير واحدة بالشعر والأدب، وأتت بعضهن أعمالًا يعجز عنها كبار الرجال، فلما أفضت الدولة إلى بني أمية في أواسط القرن الأول للهجرة، أصاب المرأة العربية صدمة قوية غيرت كثيرًا من طبائعها؛ لتكاثر الجواري والغلمان في دور الأمراء، وانغماس بعض الخلفاء في الترف والقصف، وانتشار الغناء والمسكر، وتكاثر المخنثين في المدن وتوسطهم بين الرجال والنساء بالباطل.

ولما استبحر عمران المسلمين في العصر العباسي زادوا انغماسًا في القصف واللهو والخلاعة، وفسدت النية بين الرجل وامرأته، وهو صاحب الذنب؛ لأنه بدد شعائره وأمياله بين عدة نساء فقلَّت ثقة امرأته به، ولم ينضج التمدن في ذلك العصر حتى تنوسيت المرأة العربية وذهبت حريتها وغيرتها وانحطت نفسها وذهبت أنفتها واستقلال فكرها، فاحتقرها الرجل وساء الظن بها، وصار يعاشرها على غل وسوء رأي، يقفل عليها الأبواب والنوافذ، وأصبح الطعن في طباعها وسوء سريرتها شائعًا على ألسنة الناس حتى ألفوا فيها الروايات والقصص، ونظموا بها الشعر وتفننوا في وضع الجمل الحكمية، والعبارات البليغة في تحذير الناس من المرأة وعدم الوثوق بها. هذه قصة ألف ليلة وليلة تمثل حال المرأة في الأعصر الإسلامية الوسطى بعد شيوع التسرِّي وانغماس المسلمين في الترف. وأما الأشعار فإليك ما قاله أبو العلاء المعري:

إذا بلغ الوليد لديك عشرًا
فلا يدخل على الحرم الوليد
وإن خالفتَنِي وأضعتَ نصحي
فأنت وإن رزقت حِجًا بليد
ألا إن النساء حبال غيٍّ
بهن يُضَيَّع الشرف التليد

وأصبح الكاتب إذا أراد تعزية صديق على فَقْد بنتٍ له قال ما قاله أبو بكر الخوارزمي إذ كتب إلى رئيس بهراه يعزيه ببنته وهو قوله:

ولولا ما ذكرته من سترها، ووقفت عليه من غرائب أمرها، لكنت إلى التهنئة أقرب إلى التعزية، فإن ستر العورات من الحسنات، ودفن البنات من المكرمات، ونحن في زمان إذا قدم أحدنا فيح الحرمة، فقد استكمل النعمة، وإذا زف كريمة إلى القبر، فقد بلغ أمنيته من الصهر

قال الشاعر:

ولم أرَ نعمة شملت كريمًا
كنعمة عورة سُترت بقبر

وقال آخر:

تهوى حياتي وأهوى موتها شفقًا
والموت أكرم نزَّال على الحُرم

وقال آخر:

وددت بنيَّتي ووددت أني
وضعت بنيَّتي في لحد قبر

وقال آخر:

ومن غاية المجد والمكرمات
بقاء البنين وموت البنات

وقال آخر:

سمَّيتُها إذ وُلدت تموت
والقبر صهرٌ ضامنٌ زَمِيت

هذا مثال من آراء أدباء المسلمين وشعرائهم في المرأة بين القرنين الرابع والخامس للهجرة، وقد زادت حطَّةً وصغارًا في الأجيال الإسلامية الوسطى تبعًا للتقهقر العام، وبلغت غاية ذلك في القرون الأخيرة قبل النهضة، وقد تساوت في ذلك الانحطاط المرأة المسلمة وغير المسلمة من نساء الشرق الإسلامي على الإجمال والناس سكوت؛ لأن القرائح جامدة، والنفوس ميتة بما تولى الناس من فساد الأحكام وتفشي الجهل.

فلما أخذ القوم بأطراف التمدن الحديث، واستنارت العقول بالعلم انتبه العقلاء إلى المرأة، وعمدوا إلى النظر في تحسين حالها ورفع شأنها، بدأ بذلك المسيحيون لكثرة اختلاطهم بأصحاب هذا التمدن، وقد أصابوا منه حظًّا وافرًا؛ إذ ليس في تقاليدهم أو عقائدهم ما يمنع حريتها، ثم أخذ عقلاء المسلمين يفكرون في حال المرأة المسلمة ويشعرون بحاجتها إلى الإصلاح؛ لعلمهم أن الأمة يتوقف إصلاحها على إصلاح المرأة. فطفقوا يتهامسون في ذلك تهيُّبًا من مقاومة تيار العامة الذين يعدُّون التضييق على المرأة من حقوق الرجل.

ثم أخذ بعضهم يتظاهرون بنصرتها، وأنشئت المدارس لتعليمها، وظهر القائلون بوجوب إصلاحها، وليس بينهم من تصدى للمجاهرة بذلك على الملأ بالكتابة والخطابة؛ لأن الشجاعة الأدبية كانت قليلة بيننا، وأسبق المسلمين إلى طلب الإفراج عن المرأة في هذا العصر الأتراك في الآستانة؛ لكثرة اختلاطهم بالأجانب، وسبقهم في الاطلاع على أسباب التمدن الحديث، ولذلك كان كتَّابهم أسبق إلى المجاهرة بوجوب رفع الحجاب، وأول من فعل ذلك من العرب هناك الشيخ أحمد فارس صاحب الجوائب.

أما في مصر فما زال العقلاء يتهامسون في هذا الموضوع وفي غيره مما يشعرون بحاجتهم إليه من الإصلاح الاجتماعي أو الديني حتى صرح الشيخ محمد عبده بآرائه فلاقى ما لاقاه من المعارضة والنقمة، وكانت وجهته الإصلاح الإسلامي على العموم بحل قيود التقاليد، وتحكيم العقل في التفسير والتأويل إلى ما فيه ترقية شئون المسلمين، فكثر مريدوه والمؤَمِّنون على أقواله وإن قل المجاهرون بذلك على المنابر أو في الصحف. ومن أولئك القليلون فقيد الأمس قاسم بك أمين؛ فإنه أخذ على عاتقه القيام بأهم أسباب الإصلاح المطلوب، نعني تحرير المرأة. تصدى لذلك بشجاعة يندر مثلها.

(٢) الشجاعة الأدبية

الشجاعة الأدبية أن يقول الإنسان اعتقاده، ولو كان فيه ما يسيء الكبراء أو يهيِّج عليه العامة مما يئول إلى الخطر على حياته أو مصلحته، وأصحاب هذه المنقبة قليلون، ولا سيما في الشرق بعد ما توالى على أهله من أصناف الذل والخسف. وأما في إبَّان تمدنه فقد اشتهر من رجاله جماعة نضرب الأمثال بشجاعتهم الأدبية لسيادة العدل ونزوع ولاة الأمور إلى نصرة الحق، والضرب على أيدي الظالمين، فلم يكن الناس يخافون أن يقولوا ما يعتقدون حتى كان الرجل من العامة ربما انتقد الخليفة أو الأمير في وجهه لا يخشى بأسًا، وقد تعود المسلمون ذلك من زمن الراشدين، فلما أفضت الدولة إلى بني أمية وعمدوا إلى الدهاء والشدة في تأييد سلطانهم أمسكوا على الناس حريتهم، ومع ذلك فقد نبغ غير واحد بذلوا حياتهم في سبيل شجاعتهم كما أصاب أبا ذر الغفاري، وحجر بن عدي الكندي، وسعيد بن حبير وغيرهم، ولا تقتصر تلك الشجاعة على المسائل السياسية أو الدينية، بل هي لازمة في العلم والأدب فقد عرَّض غاليليو حياته للخطر لمخالفة الأولين في قولهم عن ثبوت الأرض.

والإنسان من فطرته حرُّ الفكر، يدلك على ذلك ما يبدو في كلام الأطفال من الصراحة والحرية، ولكن تربيته على الخوف والحذر وتضييق الفكر منذ الصغر بالخرافات والأوهام تقيِّدان العقل حتى يعجز صاحبه عن التفكير إلا على القالب الذي صب عقله فيه، فعلى طالب الإصلاح قبل أن يحل لسانه من خوف العقاب أن يحل فكره من قيود التقليد، هذه هي الخطوة الأولى نحو الشجاعة الأدبية، وجمهور العامة مقيدو الفكر لا تتمشى أفكارهم إلا على الخطة التي رسمتها عاداتهم، فتبدو آراؤُهم مسبوكة في القوالب التي اقتضتها تربيتهم أو معتقداتهم، فقبل أن نطالبهم بحرية القول أو الشجاعة الأدبية يجب علينا أن نعلمهم «حرية الفكر»؛ أي نجعلهم ينظرون فيما يعرض لهم من المسائل بعين العقل لا بعين الغرض، وأن يبحثوا عن الحقيقة المجردة بقطع النظر عما غرس في أذهانهم مما يخالفها فيحكموا عقولهم وليس عاداتهم ومعتقداتهم، ذلك ما يعبرون عنه باستقلال الفكر.

فمتى أطلق الرجل فكره من قيود الغرض أو التقليد بقي عليه أن يصرح بما يرشده إليه عقله إذ قد يكون في تصريحه ما يسوءُ سواه أو يعود عليه بالضرر، فيمسك عنه خوفًا أو مسايرة فيسكت، وقد يتمادى في جرِّ المنفعة لنفسه فيقول عكس ما يعتقده التماسًا لرضى الآخرين، ونرى أمثلة من ذلك شائعة بيننا لهذا العهد.

فالناس من هذا القبيل ثلاث طوائف: طائفة غلبت عليها الأوهام وقيدتها التقاليد، فلا تنظر في الأمور إلا بعين الغرض وبما تقتضيه تلك القيود، فلا يلام أصحابها إلا على الجهل، وطائفة حلت أفكارها من تلك القيود ونظرت في الأمور بعين العقل فظهر لأصحابها في شئون العامة خلل يقتضي إصلاحًا، فمنهم من يسكت عن إبداء رأيه خوفًا من غضب الجمهور أو مراعاة لرئيس أو صديق، وهي جبانة وضعف، ومنهم من لا يكتفي بالسكوت عن الحق بل يجاري تيار الجهلاء فيقول عكس ما يعتقد، وهو النفاق والرياء، ومنهم من يقول ما يعتقده بشجاعة وصراحة لا يبالي بما قد يلحقه بسبب ذلك من الضرر، وهي الشجاعة الأدبية وأصحابها هم رجال الفضل على المجتمع الإنساني ومنهم كبار المصلحين والشارعين، وليس المصلح أو الشارع إلا رجلًا دعا الناس إلى غير ما ألفوه أو تعودوه من الإصلاح الديني أو الاجتماعي وضحى نفسه أو مصلحته في هذا السبيل، وصاحب الترجمة من أولئك المصلحين.

(٣) ترجمة حاله

كان أبوه أمين بك ابن أمير من أمراء الأكراد أخذ رهينة في الآستانة على أثر خلاف وقع بين الدولة العليَّة والأكراد، ثم جاء إلى مصر على عهد إسماعيل باشا، وانتظم في الجيش المصري ورقِّي فيه إلى رتبة أميرالاي، وتزوج بكريمة أحمد بك خطاب أخي إبراهيم باشا خطاب، فولدت له أولادًا أكبرهم قاسم صاحب الترجمة.

وليس في ترجمة قاسم أمين ما نراه في تراجم رجال الحرب أو السياسة من الحوادث العديدة، فقد رُبِّي كما يربو أمثاله من أولاد الوجهاء، وتثقف في مدارس الحكومة المصرية، وكان ممتازًا في صغره بالذكاء وحدة الذهن، ولما أكمل دروسه كان في جملة الذين اختارتهم الحكومة للإرسال إلى أوروبا يتعلمون بنفقتها على جاري العادة في ذلك الحين، فدرس الحقوق في فرنسا وعاد إلى مصر سنة ١٨٨٥ فتعيَّن وكيلًا للنائب العمومي في محكمة مصر المختلطة، وما زال يرتقي حتى صار مستشارًا في الاستئناف، وكان في كل أعماله مثال الأمانة والنشاط واستقلال الفكر حتى توفاه الله بالسكتة في ٢١ أفريل الماضي وهو في الثالثة والأربعين من عمره.

(٤) صفاته وأعماله

كان رحمه الله ربع القامة، أسمر اللون، كثير التفكير، قليل الكلام، وكان حرَّ الفكر، صادق اللجة، وقد زاده التبحر في القوانين والنظر في أقوال الفلاسفة الاجتماعيين استقلالًا في الفكر، وصراحة في القول؛ لأن القضاء يعوِّد صاحبه التمسك بالحق وإجلال قدر الحقيقة، وممارسة القضاة الأحكام، وتعوُّدهم إذعان الناس لأقوالهم بلا مراجعة يزيدهم جرأة لإبداء آرائهم في كل مسألة تعرض عليهم؛ ولذلك رأيت المحاباة والرياء نادرين فيهم.

وكان كبير النفس، شديد الحرص على كرامتها؛ ولذلك رأيناه محبًّا لأمته راغبًا في رفع منزلتها؛ لأن حب الأمة من حب الذات، ولا يحب أمته إلا الذي يحب كرامة نفسه، ومن يتغالى في خدمة أمته فإنما يفعل ذلك حبًّا بنفسه.

واطلع قاسم على أحوال الأمم الراقية في أثناء إقامته بأوروبا، فتمنى أن تكون أمته مثلها، فنظر في أسباب الرقي فرآها كثيرة لا يمكن تناولها دفعة واحدة، ولا يتيسر تناول شيء منها قبل إصلاح العائلة، لأن الأمة تكون كما تكون العائلة، والعائلة تكون كما تريد المرأة، فوجَّه عنايته إلى إصلاح المرأة المسلمة، وليس هو أول من رأى ذلك أو فكر فيه كما قلنا، ولكنه كان حازمًا مقدامًا لا يكتفي بالقول والتذمر أو الاستسلام على عادة أكثر المفكرين بيننا، ومنهم طائفة لا يقِلُّون تعقلًا وسدادًا عن المفكرين في العالم المتمدن، ولكنهم يقولون ولا يفعلون، وهي آفة المشارقة. أما قاسم أمين فكان فعالًا إذا اقتنع بصواب فكر أخرجه إلى حيز العمل، فلما عرف الطريق المؤدي إلى إصلاح أمته بادر إلى مباشرته وهو يعلم ما يعتور مشروعه من العقبات، وما سيلقاه من مقاومة تيار الرأي العام؛ لأن إصلاح المرأة يقتضي منحها الحرية، ويتناول تقبيح الحجاب والنهي عن الطلاق وتعدد الزوجات مما يعدُّه العامة من قبيل العقائد الدينية وهو ليس من الدين في شيء، فاضطر أن يبين ذلك في أثناء بحثه، وبعد إعمال الفكرة ألف كتابه «تحرير المرأة»، واسمه ينمُّ على منزلة المرأة المسلمة في اعتباره، فهو يعدُّها مستعبدة، وقد أخذ على نفسه أن يحررها، وعلم أن الناس سيكبرون قوله، وينكرون عليه مشروعه، حتى المرأة؛ لأنها ألِفَت الذل وتعودت أن تعتبر نفسها من أدوات المنزل، فلم يكن يتوقع أن يرى ثمرة سعيه في حياته، فرضي أن يضع الأساس لسواه، فصدَّر كتابه المشار إليه بقوله:

وغاية ما أريد هو أن أستلفت الذهن إلى موضوع قلَّ المفكرون فيه، لا أن أضع كتابًا يوفي الكلام في شأن المرأة ومكانتها من الوجود الإنساني، وقد يوضع مثل هذا الكتاب بعد سنين متى نبتت هذه البذرة الصغيرة، ونما نباتها في أذهان أولادنا، وظهرت ثمراتها، وعملوا على اقتطافها والانتفاع بها.

ثم بين حاجة المرأة المصرية أو المسلمة إلى الإصلاح موجهًا كلامه إلى الخاصة والعقلاء، فأورد فصلًا في «إن حال المرأة في الهيئة الاجتماعية يتبع حال الآداب في الأمة»، لا يقرؤه قارئ إلا توسم من خلال سطوره الحماسة، ونصرة الحقيقة، وصدق اللهجة، فقد افتتح كلامه بقوله:

إني أدعو كل محب للحقيقة أن يبحث معي في حالة النساء المصريات، وأنا على يقين أنه يصل وحده إلى النتيجة التي وصلت إليها، وهي ضرورة الإصلاح فيها، هذه الحقيقة التي أنشرها اليوم شغلت فكري مدة طويلة كنت في خلالها أقلِّبها وأمتحنها وأحللها، حتى إذا تجردت عن كل ما كان يختلط بها من الخطأ استولت على مكان عظيم من موضوع الفكر مني، وزاحمت غيرها وتغلبت عليه، وصارت تشغلني بورودها، وتنبهني إلى مزاياها، وتذكرني بالحاجة إليها، فرأيت أن لا مناص من إبرازها من مكان الفكر إلى فضاء الدعوة والذكر.

ثم أخذ يبحث في علاقة المرأة بالأمة، ويورد الأدلة والبراهين التاريخية والاجتماعية ويستنهض الهمم، ويستحث القرائح على العمل بعبارات ملؤها الحماسة والإخلاص، وقال:

ولا يركن إلى حب السكينة إلا أقوام على شاكلتنا، فقد أهملنا خدمة عقولنا حتى أصبحت كالأرض البائرة التي لا يصلح فيها نبات، وحتى مال الكسل بنا إلى معاداة كل فكر صالح مما يعدُّه أهل الوقت حديثًا غير مألوف، سواءٌ كان من السنن الصالحة الأولى، أو قضت به المصالح في الأزمنة.

وكثيرًا ما يكتفي الكسول وضعيف القوى في الجدل بأن يقذف بكلمة باطلة على حق ظاهر يريد أن يدفعه، فيقول: تلك بدعة في الإسلام، وما يرمي بهذه الكلمة إلا حبًّا بالتخلص من مشقة الفهم أو الخروج من عناء العمل في البحث أو الإجراء. كأن الله خلق المسلمين من طينة خاصة بهم، وأقالهم من أحكام النواميس الطبيعية التي يخضع لسلطانها النوع الإنساني وسائر المخلوقات الحية.

سيقول قوم إن ما أنشره اليوم بدعة، فأقول: نعم، إني أتيت ببدعة، ولكنها ليست في الإسلام بل في العوائد وطرق المعاملة التي يُحمد طلب الكمال فيها.

وأفاض في بسط الموضوع وتأييده فأفرد فصلًا لتربية المرأة، وهو يعتقد أنها مساوية للرجل لا تختلف عنه إلا بما يستدعيه اختلافها في الصنف، وأن تعليمها العلوم الطبيعية والعقلية والأدبية يساعدها على القيام بواجباتها المنزلية وترقية نفوس أبنائها، وقسم الكلام في التربية إلى التربية بالنسبة إلى الوظيفة الاجتماعية وبالنسبة إلى الوظيفة العائلية، ثم تكلم في الحجاب، وكان قد ألَّف كتابًا بالفرنساوية قبل «تحرير المرأة» ردَّ به على كتاب الدوك داركور الذي طعن فيه على المصريين، وقبَّح أخلاقهم وعاداتهم، واختصر قاسم في دفاعه عن الحجاب هناك فأفاض هنا في حقيقة الحجاب من الوجهة الدينية ومن الوجهة الاجتماعية، واستأنف الكلام في «المرأة والأمة» وبين ارتباطهما في فصل طويل.

وختم كلامه بفصل في «العائلة» وتوسع في الكلام على الزواج وشروطه، وبين أن الشريعة الإسلامية تأمر بحسن المعاملة، وتنهى عن تعدد الزوجات وتقبح الطلاق؛ مسندًا أقواله إلى القرآن والحديث والقواعد الاجتماعية والأحكام العقلية، وفي كل فقرة دليل على صراحة فكره وصدق لهجته وتفانيه في خدمة أمته، ومع ذلك فلم يكد يظهر كتابه وتتناقله الأيدي حتى تصدى لتخطئة أقوام جاهروا بالسخط على صاحبه بين منتقد وهازئ، إما تمسكًا بالقديم أو مجاراة لإحساس العامة لارتباط ذلك بمصالحهم وطرق معائشهم. وفيهم من فعل ذلك عن اعتقاد خالص، ولكنَّ بعضهم تجاوز حد الانتقاد إلى الاستهزاء والقول الهراء، فاتهمه بعضهم بالمروق من الدين، وآخرون بالخروج عن الآداب، وزعم غيرهم أنه يرمي إلى قلب الهيئة الاجتماعية المصرية وممالأة الإنكليز على ضياع البلاد.

أما هو فأغضى عن ذلك كله ورجع إلى الموضوع فزاده بسطًا بكتاب آخر سماه «المرأة الجديدة» تكلم فيه عن «المرأة في حكم التاريخ» من أقدم أزمنته إلى الآن في الأمم القديمة والحديثة تأييدًا لرأيه في وجوب تحريرها ورفع شأنها، وفي «الواجب على المرأة لنفسها» وفصول في «الواجب على المرأة لعائلتها» و«التربية والحجاب».

ولم يكتفِ بطلب تحرير المرأة، لكنه وضع لحريتها حدودًا، وبيَّن ما يجب عليها وما يحق لها، ووضع للطلاق نظامًا جعله نموذجًا تنسج الحكومة على منواله إذا شاءت تحرير المرأة، وأعطاها حقها الشرعي والمدني، فقيَّد إرادة الرجل في الطلاق بحكم القاضي أو المأذون بعد أن يرشد الزوج إلى ما جاء في الكتاب والسنة من كره الطلاق عند الله وينصحه ويبين له تبعة عمله، وإذا أبى الإصغاء وسَّط حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها للإصلاح بينهما، فإذا لم يُفلح في ذلك كله أذن بالطلاق، ولا يخفى ما في ذلك من تدارك الأضرار التي تصيب العائلات بتسرُّع البعض في تنفيذ طلب الطلاق، وقد يكون طلبه عن غضب مؤقت فإذا ثاب إليه رشده ندم على ما فرط منه.

ظهرت كتابات قاسم في هذا الشأن من تسع سنوات، فشغلت الألسنة والأقلام عامًا أو عامين تنبهت فيهما العقول وثارت الخواطر، وقام الناس وقعدوا، وقد لاقى من العقلاء إعجابًا كثيرًا فنصره بعضهم بألسنتهم وأقلامهم، وسكت الآخرون مجاراة للعامة ونصرائهم، وأكثر مجاهرة في نصرته وأخذًا بيده زميلنا إبراهيم بك رمزي فإنه أنشأ يومئذٍ مجلة سماها «المرأة في الإسلام» جعلها وقفًا على هذا المشروع، ظهرت سنة ثم احتجبت، ثم سكت الناس لا عن إهمال أو إغفال، ولكنها فترة الحضانة ريثما تتكيف عقول الأمة لقبول تلك الآراء، كالتلقيح بالجواهر النافعة فإنه يحدث عند دخوله البدن تهييجًا، وقد يولد صديدًا ثم يسكن في الظاهر ويعمل عمله رويدًا رويدًا. وقد أخذت نتائج ذلك السعي تظهر برغبة الناس في تعليم بناتهم وإنشاء المدارس لهذه الغاية. وهذا من أدلة تسرُّب فكر قاسم بالتدريج.

ستتوالى الأجيال وتمر السنون قبل أن تتحرر المرأة المسلمة، لكنها ستتحرر وترتقي وتتولى الأعمال الهامة، وترفع شأن العائلة كما كانت سالفاتها في جزيرة العرب منذ آلاف السنين، فإذا بلغت إلى ذلك الرقي تذكر أنه كان صاحب الفضل عليها، ويعظم ذكره فيبقى اسمه منقوشًا بحروف من نور على تاريخ الاجتماع الشرقي في التمدن الحديث.

(٥) أعماله في غير تحرير المرأة

قد تمرُّ القرون والناس على ما ساقتهم إليه الفطرة في طلب المعاش لا يفقهون معنى الحياة ولا الاجتماع حتى تتمخض الطبيعة فتلد من أبنائها أفرادًا ينهضون بالأمة إلى ما يظنون فيه خيرها، هؤلاء هم أقطاب العالم ودعائم الهيئة الاجتماعية، فمنهم من يرى ثمرة سعيه وينال الفخر بحياته، ومنهم من يراها خلفاؤه ويطوِّبونه بعد موته.

وصاحب الترجمة واحد من هؤلاء؛ لم يجنِ ثمر سعيه، ولكن معاصريه عرفوا فضله واعترفوا بما طُبع عليه من سعة العقل وسداد الرأي، والرغبة في خدمة الأمة، فعهدوا إليه، بأعز المشروعات لديهم؛ نعني إنشاء «الجامعة»، فولَّوه رئاسة اللجنة، فلم يذَّخر وسعًا في سبيلها إلى آخر ساعة في حياته.

ذكرنا للفقيد فضله في نصرة المرأة، لأنه أظهر أعماله الاجتماعية، ولكنه كان راغبًا في سائر سبل الإصلاح، يطلبها من أبوابها القانونية مع تطبيقها على القواعد الاجتماعية الصحيحة، لا يغريه إطراءٌ ولا يخيفه صياح، ولا يستغرب نقمة الناس وتخوفهم من كل جديد، وكان يشير إلى ذلك في أثناء أقواله ويحتاط له ويدفعه، وله في الإصلاح على إجماله مقالات كان ينشرها في المؤيد، عنوانها: «أسباب ونتائج وأخلاق ومواعظ» لم يذكر فيها اسمه، وكان لها وقع حسن.

وله أقوال مأثورة وجمل يتناقلها الناس عنه ويتخذونها قاعدة أو مثلًا، نشرتها إدارة الجريدة في كتاب سمته: «كلمات لقاسم بك أمين» هو عبارة عن مختارات أفكاره أو مذكراته، وفيه حكم فلسفية اجتماعية، وشذرات علمية يجدر بالأدباء الاطلاع عليها والتمثل بها، وهذه أمثلة منها:

إن الذي مدحك بما ليس فيك إنما هو مخاطب غيرك.

إذا استشارك عدوك فأخلص له النصيحة؛ لأنه باستشارتك قد خرج من عداوتك ودخل في مودتك.

تعصب أهل الدين وغرور أهل العلم هما منشأ الخلاف الظاهر بين الدين والعلم، وليس بصحيح أنه يوجد بينهما خلاف حقيقي لا في الحال ولا في الاستقبال، ما دام موضوع العلم هو معرفة الحقائق المؤسسة على الاستقراء، فمهما كثرت معارف الإنسان لا تملأ كل فكر، بعد كل اكتشاف يتحققه العلم يبحث عن اكتشاف آخر، وفي نهاية كل مسألة نحلها تظهر مسألة جديدة تطالبه بحلها. الآن وغدًا يشتغل عقل الإنسان بالعلم أي بمعرفة الحوادث الثابتة، ولا يمنعه ذلك من التفكير في المجهول الذي يحيط بها من كل طرف، هذا المجهول الذي لا قرار له ولا حد لا في الزمان ولا في المكان هو دائرة اختصاص الدين.

إن كان في الوجود إنسان يستحق أن يحسد على نعمته فهو العاشق.

من اختباري لأرباب الأفكار الذين اختلطت بهم يظهر لي أن الحمية عندهم سطحية لا تذكيها نار تتوقد في القلب، حمية ألفاظ متى انتشرت عادت هباءً لا تترك أثرًا بعدها.

لا أدري ما هي غاية الكُتَّاب الذين إذا أرادوا التعبير عن اختراع جديد يجهدون أنفسهم في البحث عن كلمة عربية تقابل الكلمة الأجنبية المصطلح عليها، كاستعمالهم مثلًا كلمة السيارة بدلًا من كلمة الأوتوموبيل. إن كان القصد تقريب المعنى إلى الذهن فالكلمة الأجنبية التي اعتادها الناس تقوم بالوظيفة المطلوبة منها على وجه أتم من الكلمة العربية، وإن كان قصدهم إثبات أن اللغة العربية لا تحتاج إلى اللغات الأخرى فقد كلفوا أنفسهم أمرًا مستحيلًا؛ إذ لم يوجد ولن توجد لغة مستقلة عن غيرها مكتفية بنفسها.

لا تكمل أخلاق المرء إلا إذا استوى عنده مدح الناس وذمهم إياه (انتهت أقواله).

وجملة القول أن قاسم أمين من المصلحين العظام الذين يحفظ التاريخ ذكرهم، وتزداد منزلتهم رفعة وفضلهم ظهورًا بتوالي الأجيال، وفضله يشمل العالم الإسلامي على الإجمال بنصرته للمرأة المسلمة، وله فضل خاص على القطر المصري بما نشره بين المصريين من النصائح الخاصة بهم، وبما كان له من القدوة الحسنة بين زملائه وأصدقائه وغيرهم. لأنه خدم القضاء ٢٣ سنة كان فيها مثال النزاهة واستقلال الفكر، والشجاعة الأدبية، لا يراعي في الحق صداقة ولا قرابة ولا مقامًا.

١  نرى تفصيل ذلك في الجزء الخامس من تاريخ التمدن الاسلامي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤