الفصل الثالث والأربعون

مدحت باشا

(١) نشأته الأولى

وُلد مدحت باشا١ في الآستانة سنة ١٨٢٢ ووالده الحاج علي أفندي أصله من روستشوك. نشأ مدحت في حجر أبيه، ولم يتلقَّ من العلم في صباه إلا المبادئ الأولية، وكان يتنقل مع أبيه ويقيم حيثما أقام حتى استقر في الآستانة سنة ١٨٣٦ وشب هناك وفيه ذكاء وهمَّة. وأهل الهمم والمطامع في ذلك العهد كانت تتوجه رغائبهم إلى خدمة الحكومة، فألحق مدحت أولًا بسكرتارية الصدارة العظمى في الآستانة، وتنقل منها إلى مناصب مختلفة في الولايات، فأقام في دمشق سنتين ثم عاد إلى الآستانة سنة ١٨٤٤ وبرحها إلى قونية سكرتيرًا لمجلس تألف تحت رئاسة سامي بكير باشا، وارتقى سنة ١٨٤٩ إلى سكرتير ثاني لمجلس الولاية، وفي سنة ١٨٥١ صار سكرتيرًا أول له.
fig80
شكل ٤٣-١: مدحت باشا، أبو الأحرار (وُلد سنة ١٨٢٢ وتُوفِّي سنة ١٨٨٣).

واتفق أن قبرصلي محمد باشا قائد جند الشام أساء التصرف في بعض الشئون المتعلقة بالأموال غير الأميرية في دمشق وحلب فاقتضت الحال انتداب من يتحرى الأسباب، ويحكم بما يتراءى له، فانتدبوا مدحت فسافر، وبعد ستة أشهر عاد وقد نظم مسألة الجمارك هناك وردَّ إلى خزينة الدولة ١٥٠٠٠٠ ليرة عثمانية، وأثبت اشتراك القائد المشار إليه في الاضطرابات التي حصلت وأشار بعزله، وأظهر مدحت في قضاء هذه المهمة ذكاءً واقتدارًا استلفتا انتباه الصدر الأعظم رشيد باشا، فولاه منصبًا هامًّا في المجلس العالي فبقي في ذلك المنصب أثناء صدارة رشيد باشا وعالي باشا ورفعت باشا، وفي هذا المنصب عرف دخائل الأمور، واطلع على المخابرات المهمة التي دارت بين رفعت باشا وهو وزير للخارجية والبرنس منتشكوف مندوب قيصر الروس قبل حرب القرم.

وفي سنة ١٨٥٤ أفضت الصدارة إلى قبرصلي محمد باشا الذي كان مدحت قد أشار بعزله عن الشام، فأراد الانتقام لنفسه من ذلك الشاب الجريء، فعهد إليه حل أعقد المسائل السياسية وأدقها يومئذٍ، وهي مسألة البلقان، وكانت ثائرة وقد تكاثرت فيها العصابات المتمردة، فوكل إليه تسكين الثورة وتنقية البلاد من العصابات، فذهب في هذه المهمة ونجح فيها نجاحًا باهرًا، ولما عاد من سفرته كان رشيد باشا قد رجع إلى الصدارة، ودارت المداولة بينه وبين عالي باشا بشأن منح الولايات العثمانية استقلالًا إداريًّا Decentralisation وأخذ في وضع القوانين اللازمة لذلك، فقدم مدحت تقريره عن مهمته فأعجب الصدر الأعظم باقتداره، فعقد له على أهم ولايات الطونة (بلغاريا) على أن يجرب فيها الاستقلال الإداري، فحدث تغيير فجائي في الوزارة حال دون كل إصلاح.

وتعيَّن بعد مدة قصيرة مندوبًا خصوصيًّا لتفتيش ولايتي أيدن وسيلسترية؛ لأنهما كانتا قد تمردتا على الدولة فقضى تلك المهمة كما قضى مهمة سوريا من قبل، واطلع بذلك على مواضع الضعف في نظام الولايات، ورأى الخلل السائد فشكا الولاة فسعوا لدى الباب العالي في تبرئة أنفسهم، فأمر السلطان عبد المجيد يومئذٍ بإعادة النظر، وخاف العقلاء أن يتغلب الباطل، فرفع خير الدين أفندي أحد العلماء المشهورين في الآستانة تقريرًا أيَّد به أقوال مدحت.

وتُوفِّي رشيد باشا سنة ١٨٥٨ وخلفه عالي باشا فأعطى مدحت إجازة ستة أشهر يقضيها سائحًا في أوروبا يتفقد أحوال دولها ويدرس نظام بعض الإدارات الأوربية، فسافر وهو في السادسة والثلاثين من عمره، فزار باريس ولندن وفينا وبروكسل، وامتاز بين رجال الدولة من ذلك الحين بمهارته الخصوصية في تدبير شئون الولايات، فلا تحدث ثورة أو اضطراب أو خلل في ولاية ويحتاجون إلى من يصلحها إلا انتدبوه لذلك.

فانتُدب مرة أخرى لتدبير شئون بلغاريا، وكان أهلها المسيحيون قد خافوا على حياتهم وأموالهم فأخذوا يهجرونها بعائلاتهم وأموالهم والجند لا يستطيع منعهم، فعُهد بذلك إلى مدحت ومُنح رتبة الوزارة (١٨٦١) فسافر وفي عزمه أن يصلح الأمور بالمسالمة، فحالما وصل إلى بلغاريا بعث إلى أعيان البلاد وجمعهم في مؤتمر عرضوا فيه شكواهم، فطلب إليهم أن يشتركوا معه في إصلاح الحالة، وكانت تشكِّياتهم ترجع إلى أمرين رئيسيين:
  • الأول: خلو البلاد من وسائل النقل والمخابرات التي تساعد الأهالي، ولا سيما المزارعين على نقل حاصلاتهم وتصريفها.
  • والثاني: شيوع اللصوصية والعصابات المتمردة حتى أصبح الناس لا يأمنون على أرواحهم ولا أموالهم.

ولهذين السببين فضل البلغاريون الهجرة إلى بلاد السِّرب؛ لأنها أقرب إلى الأمن، فرأى مدحت أنهم محقون في شكواهم فأخذ يبحث مع أولئك الأعيان في سبل الإصلاح، وأشار عليهم أن يستخدموا نفوذهم أولًا في إيقاف الناس عن المهاجرة، وعاهدهم على إصلاحات وافقوه عليها، وقد برَّ بوعده فأعاد الجند إلى معسكراتهم وأخذ في تنظيم الطريق الأعظم بين نيس وصوفيا وفروعه الكثيرة، وبذل جهده في مطاردة العصابات وأنشأ الجسور وغيرها، وبالجملة لم يغادر أمنية يحلم بها البلغاريون إلا حققها لهم، وأقام نقطًا عسكرية على الحدود تمنع تعدي السِّربيين، فلما تمت هذه الإصلاحات عادت العائلات البلغارية من مهاجرها إلى مواطنها، وأدخلت إصلاحات كثيرة أثرت في أخلاق القوم وعاداتهم، وألف فرقة الجندرمة، ونظم تحصيل الضرائب، ومنع الاضطهادات الدينية، وأنشأ المدارس والمستشفيات للبلغاريين بلا تمييز بين أديانهم أو طبقاتهم، فاستتب الأمن وتعاقد القوم على السعي في مصلحة بلادهم.

(٢) تنظيمه أعمال البلقان

إن ما أدخله مدحت باشا من الإصلاح في بلغاريا وفي أيدن وسليسترية وقع وقعًا حسنًا لدى الباب العالي في صدارة فؤاد وعالي خليفتي رشيد باشا، فاستقدماه إلى الآستانة سنة ١٨٦٤ للمداولة في نظام جديد يضعونه للولايات وقوانين يجري عليها الولاة، فأعدُّوا ذلك النظام وقرروا أن يعهد إلى مدحت بتنفيذه في ولايات سيلسترية وأيدن ونيش على أن تتحد كلها باسم ولاية الطونة (١٨٦٥) رغم مقاومة حزب التقهقر بإيعاز سروري أفندي، ولهذا الرجل شأن في الحكم على مدحت سيأتي ذكره.

وخلاصة النظام المشار إليه قسمة الولايات إلى سبعة سناجق، ويقسم السنجق إلى أقضية، والقضاء إلى نواحي، وفي كل ولاية مجالس خصوصية لوضع الأموال الأميرية وجمعها، وتولى مدحت هذه الولاية على هذا الطراز، وألغى السخرة ومهد ٢٠٠٠ كيلومتر من الطرق وبنى ١٤٠٠ جسر، وأنشأ سفنًا تجري في الطونة (الدانوب) عليها العلم العثماني، وأبطل اللصوصية، ونظم جندرمة، وأنشأ مصارف وطنية لتسليف فقراء المزارعين.

وقاعدة هذا النظام اشتراك الأهالي في تدبير شئون بلدهم مع الحكومة في تقدير الأملاك وتعيين خراجها فلا يحصل فيها حيف، فباتت تلك الولاية بسعادة استلفتت أنظار أهل الآستانة إلى مدحت، فجاءته التهاني من المابين والباب العالي، وصدرت الأوامر إلى سائر الولاة في المملكة العثمانية أن يجعلوا نظامات ولاياتهم مثل نظام مدحت في ولاية الطونة، فتوسم الناس مستقبلًا مجيدًا لهذه الدولة.

وانتبه مدحت أيضًا إلى أمر ذي بال كان سببًا في أكثر متاعب الدولة في البلقان، وذلك أن بعض البلغاريين كانوا يرسلون أبناءهم للتخرج في جامعات أودسا أو خركوف أو كيف وكلها في بلاد الروس، فكانوا يتشربون حب الجنس السلافي، ويعودون لبث تلك الروح في الأهالي فيثيرون التعصب الجنسي أو الديني، فيعود ذلك بالقلاقل والمتاعب على الدولة، فارتأى مدحت أن يتلافى ذلك بإنشاء المدارس العالية في الولاية نفسها بحيث يغني الناس عن إرسال أبنائهم إلى الخارج، فضلًا عن تألف الشبان على اختلاف مذاهبهم إذا شبوا في مدرسة واحدة، وتربوا تربية واحدة، ورفع بذلك لائحة للباب العالي وقسم النفقات اللازمة لهذا العمل إلى نصفين: النصف يؤخذ من فضلات الخراج في الولاية، والنصف الآخر يكتتب به الأهالي.

فلما وصلت هذه اللائحة إلى الآستانة علم بها إغناتيف سفير روسيا هناك، فقاومها بكل قوته لأنها تخالف الترتيب الذي رتبه الروس لتحويل قلوب البلغاريين عن دولتهم، وبذل جهده في إيغار صدر السلطان عبد العزيز على مدحت فأوهمه أن الخطة التي يتحداها في الولايات تنافي سيادة الخليفة المطلقة، وتأول إلى تشتت شمل المملكة العثمانية باستقلال كل ولاية بشئونها، فلم يصغِ السلطان لوشايته في بادئ الرأي، لكنه وفِّق إلى غلطة وقعت في لائحة نشرها مدحت في الجريدة الرسمية يطلب فيها تعيين أعضاء مجلس الأهالي المشتركين مع الحكومة في تدبير شئون الولاية، فسماهم «نواب»، ولم يغفل إغناتيف عن تنبيه ذهن السلطان إلى ذلك، فاقتنع بسوء عاقبة تلك البدع، وأبى المصادقة على طلب مدحت تجنبًا للنفقة، ولم يذكر السبب الحقيقي.

فذهبت أعمال مدحت في سبيل الإصلاح أدراج الرياح، وأيد أصحاب إغناتيف غرضه باستنهاض بعض العصابات في البلقان للتعديات ونحوها، فما أحس مدحت إلا وقد ظهرت عصابات فتكت بالمسلمين، وقتلت أطفالًا من الرعاة، فنهض المسلمون لمثل هذا العمل في المسيحيين، فركب مدحت بنفسه وقبض على بعض المتمردين من النصارى فوجد باستنطاقهم أنهم رسل من جمعية السلاف في بوخارست وفي كشنو، فحكم المجلس على الرؤساء بالإعدام، وعلى الآخرين بأحكام أخرى، فانفضت الثورة وعادت السكينة، على أن جرائد أوروبا شددت النكير على تصرف القضاء العثماني في هذا السبيل، وعدوا أحكامه بربرية ونسبوها إلى مدحت، فبرأ نفسه، لكنهم لم يعدموا وسيلة أخرى لنكايته، وذلك أنه سمع برسل سرِّية قادمة من غلائز إلى بلغراد لدسِّ الدسائس وإعداد مشاكل جديدة فقبض عليهم على ظهر باخرة نمساوية عند روستشوك وبعث صورتهم إلى قنصل النمسا، وطلب إليه أن يأذن بفحص تذاكرهم وأخذت الضابطة العثمانية في تفتيشهم ومعها مندوب من القنصلاتو النمسوية، فأطلق أحد الرسل مسدسًا على الضابطة في قاعة السفينة، فأجابهم العثمانيون، والتحم الفريقان وانجلت الواقعة أخيرًا عن القبض على أولئك الدساسين وقد جُرحوا جراحًا بليغة.

فكان لهذه الحادثة دويٌّ في أوروبا، واتخذ إغناتيف ذلك ذريعة لطلب إقالة مدحت فلم يفلح، فأخذوا يسعون في قتله سرًّا، فأطلق عليه أحدهم في روستشوك رصاصة أخطأته، وحاول سربيٌّ قتله ففشل، ولما قُبض عليه وسئل عن سبب عمله، قال: إن اثنين من كبار السِّرب أغروه على ذلك فحوكم الرجل وعوقب.

وبعد هذه الحوادث بقليل (١٨٦٨) استدعي مدحت إلى الآستانة ليتولى رئاسة مجلس أنشئوه حديثًا فأتاها، ولكن وقع اختلاف في الرأي بينه وبين عالي باشا الصدر الأعظم في بعض الشئون فاعتزل مدحت باشا الرئاسة على أن يتولى ولاية بغداد سنة ١٨٦٩.

(٣) إصلاحاته في ولاية بغداد

شخص مدحت إلى بغداد فوجد فيها من المشاكل غيَّر ما في ولاية الطوفة أعني مسألة التجنيد، وكانت من المشاكل الصعبة؛ لأن القبائل العربية التابعة لولاية بغداد لم تكن ترضخ لحكم التجنيد، وكانت يومئذٍ قد تمردت على الدولة حتى عجزت عن إخضاعها لتفرق الكلمة بين والي بغداد ومشير جندها، ولم يكن إخضاعها ممكنًا إلا إذا كانت القوتان العسكرية والإدارية في يد واحدة، فأخذ مدحت على نفسه الجمع بين القوتين، وعزم على إخضاع الثائرين بالقوة، ولم يكلفه ذلك إلا الحزم والشدة، فأذعن الثائرون صاغرين بسرعة أدهشت الباب العالي فسماه مشير الفيلق السادس ووالي بغداد.

وكان الولاة قبله يقاسون في تحصيل الضرائب من أولئك العرب عذابًا شديدًا، فتحدى الشدة في تحصيلها بقوة الجند وقد أفلح، ولكنه أعمل فكرته في حال أولئك البدو فوجد إذلالهم بالقوة يفضي إلى تجديد التمرد، فرأى أن يتخذ في إخضاعهم طرقًا أخرى فعمل على تغيير نظام ملكية الأرضين فيهم؛ وذلك أن الفلاح العربي كان يدفع للحكومة أجرة الأرض التي يستثمرها وثلاثة أرباع غلتها، وفي ذلك حيف عليه، فقسم مدحت الأرض إلى قطع عرضها للبيع بشروط سهلة، فلم تمضِ مدة يسيرة حتى ذاق ثمر ذلك العمل إذ تكاثر دخل الحكومة، وقلَّ تمرد العربان، وزادت غلة الأرض فزادت حركة الأعمال الأخرى، وكان من نتائج ذلك تسيير السفن في دجلة والفرات وتسهيل المواصلات بين المدن القائمة على ضفافهما.

وكانت إدارة السفن هناك بيد شركة إنكليزية تشتغل بين بغداد والبصرة، فألَّف مدحت شركة عثمانية، ورمم السفن القديمة، وأوصى على سواها واختزن لها الفحم في مسقط وعدن وبندر عباس وبو شهر، وكانت هذه السفن أول سفن عثمانية عبرت قنال السويس إلى الآستانة، فرأى مدحت نجاح ذلك العمل فوسعه، وأوصل تلك البواخر شمالًا إلى آخر ما يستطاع من شواطئ النهرين فعمر كثير من البقاع واتسعت الأرض المزروعة، وعزم على ردم البقاع التي كان قد أغرقها الفيضان، فعلقت الآمال أن يعود العراق إلى خصبه في الدولة العباسية.

وأنشأ مدحت خط ترمواي بين بغداد والكاظمية طوله سبعة كيلومترات، وابتنى معملًا للنسج تام الأدوات، وأنشأ المدارس في كل قضاء، وشاد المستشفيات والملاجئ، فتكاثرت البيوت المالية كالمصارف ونحوها، وأنشأ مطبعة تطبع فيها جريدة الزوراء الرسمية، وشكل مجالس بلدية في أهم المدن، واكتشفوا في أثناء ولايته منجمًا للبترول فسهل الانتفاع به، فتقدم العراق على يده تقدمًا مدهشًا، وقدم شاه الفرس سنة ١٨٧٠ لزيارة النجف وكربلاء مزار الشيعة، فاغتنم مدحت تلك الزيارة وقرر أشياء كانت محل نظر بين الدولتين وفي جملتها تعديات الأكراد على ما يمرون به في طريقهم على تركيا، فاتفقت الدولتان على إنشاء نقط عسكرية عند الحدود على نحو ما فعل عند حدود السِّرب من قبل. وبلغه أن في بعض مزارات الشيعة بنجد كثيرًا من الجواهر والتحف اجتمعت هناك من هدايا الهنود والفرس ولا فائدة من اختزانها، فأشار مدحت باستخراجها وبيعها وهي تساوي نحو ١٣٠٠٠٠٠ ليرة عثمانية على أن تصرف في إنشاء خط حديدي بين حدود إيران وبغداد أو بإقامة المستشفيات والمدارس وغيرها، فأبى علماء الشيعة عليه ذلك، فأغفل المشروع.

وجملة القول: لم يذَّخر مدحت وسيلة لإحياء العراق اقتصاديًّا وإداريًّا وأدبيًّا فضلًا عن تحسن العلائق مع الأمم المجاورة. من ذلك أنه حمل مشائخ الكويت على الاعتراف برعاية الدولة العثمانية بعد أن امتنع ذلك على سلفه نامق باشا، والكويت تبعد عدة أميال من البصرة على شاطئ نجد، وهي فرضة تجارية تحكمها أسرة الصباح وأصلهم من نجد، لا يداخل في شئونهم أحد، وهم يتعاطون التجارة البحرية مع شواطئ الهند وفارس وأفريقيا، واحتكروا مغاوص اللؤلؤ في البحرين، وكانوا ينصبون على سفنهم علمًا خاصًّا بهم، وربما نصبوا علمًا هولنديًّا إنكليزيًّا لغرض من الأغراض، فما زال مدحت يخابرهم بالحسنى حتى قبلوا برفع العلم العثماني على شرط الاستقلال بإدارتهم وسائر شئونهم الداخلية، فأصبحت الكويت من ذلك الحين سنجقًا من سناجق ولاية بغداد، وفعل نحو ذلك بنجد وغيرها والبحرين مما يطول بنا بسطه، وفي كل عمل منه دليل على علو همة مدحت باشا، ورغبته في تأييد الدولة العثمانية.

فزادت واردات العراق وتعددت السفن العثمانية التي تمخر في تلك البحار، ولم يكن للدولة هناك قبل فتح قنال السويس إلا دارعتان قد أفسدهما الإهمال فأصلحهما في بمباي، وأضاف إليهما سبعًا أخر وعشرًا لسلك الأنهر، ووسع مرفأ البصرة، فاعترفت له الدولة بالفضل بكتاب جاءه من الصدر الأعظم عالي باشا مؤرخًا سنة ١٨٧١ يثني فيه على همته لتسهيل طريق الحرمين، وأرسل إليه السلطان سيفًا مرصعًا وقد نقش عليه كلمة «نجد».

واتفق في أثناء ذلك أن الآستانة تبدلت أحوالها بموت رجليها فؤاد وعالي وبينهما ثلاثة أشهر، وكانا زعيمي الإصلاح؛ ينصران مدحت في مطاليبه واقتراحاته، فاتفقت وفاتهما على أثر عودة السلطان عبد العزيز من سياحته في أوروبا، ولم تكسبه تلك السياحة شيئًا من رغبة ملوك أوروبا في الأحكام الدستورية والرجوع إلى الشورى، لكنها أكسبته التصريح بما كان يخالج ذهنه من كره المشيرين من الوزراء، وعاد إلى تكليف الماثلين بين يديه بما كان يكلفهم به أجداده القدماء، وتوسع من الجهة الأخرى في النفقات الباهظة على الدولة وعلى نفسه، فأمر بابتناء الدوارع وإنشاء القصور الرخامية على شاطئ البوسفور وهو لا يقدر للنفقات عاقبة، ووافقه على ذلك الصدر الأعظم نديم باشا تملقًا له والتماسًا للنفوذ عنده، ففسدت الأحوال وتبدلت النيات، وامتد ذلك طبعًا إلى الولايات، ولما قلَّت الأموال في خزائن الآستانة بعثوا يطلبونها من الولايات ويلحون في طلبها ولو ظلموا الأهالي في تحصيل الأموال مضاعفة، فآل ذلك طبعًا إلى إيقاف المشروعات النافعة فيها، فضاق مدحت ذرعًا عن احتمال ذلك، فاستقال من ولاية بغداد ورحل إلى الآستانة.

وعلم حال وصوله إليها أن الإرادة صدرت بتعيينه واليًا على أدرنة، فعدَّ ذلك نفيًا لا ولاية، فطلب مواجهة السلطان فأذن له، وانطلق لسانه في تلك المقابلة فأفاض بما يكنُّه ضميره من الانتقاد على الحكومة وبيَّن ضعف الدولة والخطر المحدق بها، فأثرت أقواله في السلطان حتى عزل الصدر الأعظم نديم باشا وولى مدحت مكانه سنة ١٨٧٣ فوجد حوله أعوانًا نشيطين أهل نزاهة منهم رشدي باشا الشرواني وجميل باشا وصادق باشا، فشرع قبل كل شيء بتنظيم المالية وهو عمل شاق لاختلال الحسابات وسوء إدارتها وكثرة التلاعب فيها.

فأخذ في تحقيق كل حادثة، ومن جملة ذلك مبلغ ١٠٠٠٠٠ جنيه خرجت من الخزينة ولم يعرف مصيرها، ثم ثبت أنها دخلت على الصدر السابق نديم باشا، فطولب بها رسميًّا بين يدي المجلس فادَّعى أنه إنما أخذها ليدفعها إلى القصر السلطاني، ثم سعى نديم بمساعدة والدة سلطانة وأصدقائها في المابين حتى أفسدوا نية السلطان على مدحت فأمر بنفيه إلى أدرنة ومنها إلى طرابزون، وعاد نديم إلى نفوذه، فانقسم رجال الدولة إلى حزبين: أحدهما مدحت ومريدوه الأحرار وفيهم جماعة كبيرة من العلماء وكل الشبيبة العاقلة في الآستانة والولايات، والحزب الآخر نديم ووالدة سلطانة ورجال المابين، ومن أكبر أنصار هذا الحزب إغناتيف سفير روسيا بالآستانة وكان له نفوذ في المابين، ومما جعل السلطان ينفي مدحت أيضًا تصديه لنقد أعمال جرت على يد سلفه، وفيها خسارة على الخزينة، ومن جملتها امتياز سكة حديدية أعطي للبارون هرش أفسد مدحت العقد به.

(٤) خلع عبد العزيز

غاب مدحت عن الآستانة بضعة أشهر قضاها في سلانيك ثم عاد إلى الآستانة، وتولى فيها وزارة العدلية ورئاسة مجلس الشورى، لكنه اضطر إلى الاستقالة لأنه رأى الوزارة سائرة على طريق يؤدي إلى خراب الدولة، وقد بيَّن ذلك بكتاب بعث به إلى سكرتير السلطان (الباشكاتب) في شوال سنة ١٢٩١/سنة ١٨٧٤ واعتزل الأعمال ولجأ إلى منزل له بجوار الآستانة أقام فيها يترصد تبدل الأحوال فلم يرها تزداد إلا فسادًا وخللًا، وكثر تبديل الصدور، فلا يقيم الصدر منهم إلا بضعة أشهر، وممن تناوبوا الصدارة في ذلك العهد محمد رشدي باشا وأسعد باشا، ولم يستطيعوا إصلاحًا، ولم يرضَ بالحالة كما هي إلا محمود نديم باشا، فتولى الصدارة والمالية في ضيق لا مثيل له، ومع أن الدولة لم تكن دخلت في الدين الأهلي إلا منذ عشرين سنة، فقد هدَّدها الإفلاس وشعر بذلك الخطر أصدقاء الدولة من الدول الأخرى، وصرحوا به على منابرهم، وأشار بعضهم بالمداخلة في شئونها، فخاف عقلاء الأمة عاقبة هذا التصريح.

fig81
شكل ٤٣-٢: السلطان عبد العزيز.

وحدث في صدارة أسعد باشا مناوشة على حدود الجبل الأسود آلت بالإهمال إلى فتنة أو ثورة عامة، وكان أسعد باشا حسن النية، لكنه ضعيف الرأي ساء التصرف، وأظهر الضعف لدى الدول فزادت الثورة سعيرًا، وتوسطت روسيا والنمسا فأقيل أسعد وخلفه نديم باشا سنة ١٨٧٥، ولم يستطع هذا إخماد الثورة، فما زالت تنتشر حتى بلغت حدود البلغار، وأحس البرنس ميلان صاحب السِّرب بضعف الدولة فطلب أن تتحول إمارته إلى مملكة، وأخذ يهيئ معدات الحرب عند الحاجة وفعل ذلك نحو الهرسك، وفي أوائل السنة التالية تضاعف الخطب بثورة البلغار وكان الجنرال إغناتيف لا يترك فرصة في أثناء ذلك لم يغتنمها لتمشية أغراضه، فتفاقم الخطب وساد الاضطراب في المملكة العثمانية، وأصبح العقلاء ينظرون إلى هذه الحالة نظرة اليأس، فدخل ربيع سنة ١٨٧٦ وبلغاريا والجبل الأسود والهرسك تتقد بنيران الثورة والسِّرب قد تهيأت للحرب بقيادة ضباط من الإفرنج، وهمَّت رومانيا بأن تقتدي بها، والصدر الأعظم يصغي إلى دسائس إغناتيف فينقلها إلى السلطان، وهذا لا همَّ له إلا الانغماس في ملذاته، والدول الأوربية من الجهة الأخرى فتحت المسألة الشرقية وطلبت الاجتماع للنظر فيها، وأخذت المذكرات والمفكرات تتساقط على المابين كتساقط المطر، ولم تكن تلك الاحتجاجات الخارجية أقل خطرًا على الدولة من الاضطرابات الداخلية.

fig82
شكل ٤٣-٣: رشدي باشا.

ففي هذه الظلمات المدلهمَّة انبثق نور ضعيف من منزل مدحت باشا مجتمَع عقلاء الأحرار. وكان مدحت في أثناء تلك الاضطرابات يفكر في وسيلة لإنقاذ الدولة، وقد لقي سفير إنكلترا وأسرَّ إليه رأيه في جعل الحكومة العثمانية دستورية؛ لأنها إذا ظلت سائرة على هذه الخطة ذهبت إلى الدمار لا محالة، وأظهر أمله أن إنكلترا تأخذ بيده في تأييد هذا الطلب، وأنه إنما يقتدي بها في هذا النظام لأنها أم الدول الدستورية، فأجابه السفير جوابًا مبهمًا لكنه شجعه على عادة رجال السياسة في مثل هذه الحال. وعقب هذه المحادثة تجمهر العلماء (الصفتاء) وتصديهم للبرنس يوسف عز الدين ابن السلطان في طريقه إلى نظارة الحربية، وتقدموا إليه إبلاغ والده أن الشعب يطلب عزل محمود نديم الصدر الأعظم وحسن فهمي أفندي شيخ الإسلام، فأجاب السلطان هذا الطلب فعزلهما وولى محمد رشدي باشا للصدارة، وحسن خير الله أفندي للمشيخة، وكان رشدي شيخًا طاعنًا في السن، وأكثر مدحت من التردد إليه ففهم القوم أن هذه الصدارة سيديرها مدحت فاستبشروا، ولكن فرحهم لم يطل لأن السلطان عيَّن في فروع الإدارة أناسًا من الطاقم القديم، والناس لا يزدادون بذلك إلا طلبًا للدستور على لسان العلماء، وأذاعوا على رءوس الملأ أن تعاليم القرآن تأمر بالشورى ومن خالفها لا تجب طاعته، فأصبح مركز السلطان في خطر وما زالوا حتى خلعوه.

(٥) كيف خلعوه

والعامل الرئيسي في خلعه حسين عوني باشا وزير الحربية، وكان جنديًّا شجاعًا وهمامًا حازمًا شديد الغيرة على دولته مع حدة في مزاجه ومضاءٍ في عزيمته، وكان قد تولى أرقى المناصب العسكرية ثم نفاه السلطان عبد العزيز من الآستانة، وكان يكره محمود نديم ويخافه، ولم يكن يدرك حقيقة الحكومة الدستورية كما أدركها صديقه مدحت، ولكنه كان كثير الاعتماد على آرائه، وتبادل الوزراء الأفكار فأقروا على خلع السلطان ولكي يكون خلعه شرعيًّا استفتوا شيخ الإسلام حسن خير الله أفندي، فأفتاهم بالخلع وهذه صورة الفتوى:

إذا كان زيد الذي هو أمير المؤمنين مختل الشعور، وليس له إلمام في الأمور السياسية، وما برح ينفق الأموال الميرية في مصارفه النفسانية، في درجة لا طاقة للملك والملة على تحمُّلها، وقد أخلَّ بالأمور الدينية والدنيوية وشوَّشها وخرب الملك والملة، وكان بقاؤه مضرًّا بها، فهل يصح خلعه؟ الجواب: يصح.

كاتبه الفقير حسن خير الله

فلما حصل الوزراء على هذه الفتوى أسرعوا في تنفيذ قرارهم، وقام بتدبير ذلك عوني ورشدي ومدحت، واختلف مدحت وعوني في أسلوب الخلع، فكان مدحت يرى أن تصادق الأمة على الخلع أولًا، وأما عوني فكان يرى أن الخلع يجب أن يكون حالًا على عادة العسكرية في سائر أحكامها، فأشار مدحت أن يجتمع العلماء وأعيان إسطانبول في مسجد نور عثمانية يبدون أسف الأمة، ويطلبون إبدال النظام الحالي، فوافقه على هذا الرأي أكثر الوزراء وعيَّنوا لتنفيذ القرار يوم ٣١ مايو، وكادوا يعملون به، لكن طرأ أمر أوجب الرجوع إلى رأي عوني، وذلك أن امرأة من نساء يلدز أتت مدحت في ٣٠ من الشهر المذكور، وأخبرته أن مؤامرتهم كادت تنكشف للسلطان، فخاف مدحت العاقبة إذا لم يبادر إلى العمل وتحقق قول المرأة؛ لأن السلطان دعا عوني باشا إليه مرتين في ذلك النهار مع أنه ادَّعى المرض فلم يقبل السلطان عذره، فأقر الوزراء على المبادرة في تلك الليلة إلى خلعه، ففي منتصف ليل ذلك اليوم خرج رشدي ومدحت وبين يدي كل منهما خادم يحمل فانوسًا، والليلة ممطرة حتى أتيا سركجي فركبا قاربًا إلى باشا ليماني حيث يقيم عوني باشا على البوسفور، وكان عوني في انتظارهما على أحرَّ من الجمر، فتفاوضوا وافترقوا وذهب عوني نحو سراي طولما بغجه وسار رشدي ومدحت إلى السرعسكرية، وكانوا قد قرروا أن يجتمع كبار الموظفين الملكيين والعسكريين في ساحة السرعسكرية ينتظرون مجيء السلطان مراد. وكان عوني مكلفًا باستقدامه، وأنهم عند وصوله يبايعونه وينادون باسمه سلطانًا، وأن يشعلوا نارًا على برج السرعسكرية يعلم منها أهل الأسطول في البحر بتنصيب السلطان الجديد فتطلق الدارعة (أحمد باشا) المدافع إيذانًا بذلك.

فمشى عوني إلى السراي حيث التقى بسليمان باشا أحد مشيري الجند، وكانا قد تواعدا ليعاونا على تدبير أمر الخلع، وكان سليمان من أقرب أعوان عوني وأنجد أنصار مدحت، وكانت الجنود المقيمة في طاش قشلة وغيرها قد تلقت الأوامر من رديف باشا قومندان فيلق الآستانة أن تكون على الأهبة لمنع أي اقتراب من جهة البر، وكان الأسطول بقيادة ناظر البحرية نفسه قيصرلي أحمد باشا، وقد أعطى الأوامر بقطع الطريق عن القصر من جهة البحر، واصطحب سليمان نخبة من رجاله الذين يثق بأمانتهم وبسالتهم تحت قيادة الضباط أحمد بك وبدري بك ورفعت بك، وبعد أن رتب هذا الترتيب توجه إلى قصر البرنس مراد، وكان مراد عالمًا بما أعدُّوه وعزموا عليه، لكنه لم يعلم بتقديم الميعاد المضروب، فلما جاء سليمان في تلك الليلة وطلب إليه أن يخرج معه إلى عوني وأنه ينتظره بباب القصر ليرافقه إلى السرعسكرية حسب الموعد ظن في الأمر دسيسة، على أنه ما لبث أن تحقق الواقع فأطاعهما وسار معهما في طريق السرعسكرية.

أما سليمان فتقدمهما لإتمام المهمة الكبرى التي لا بد منها قبل كل شيء، وهي تبليغ السلطان عبد العزيز الخلع، فلما أتى القصر السلطاني (طولما بغجه) اعترضه الخدم فأجابهم أنه يطلب مقابلة السلطان لأمر هام، فأخذوه إليه، فبلَّغه سليمان ما جاء من أجله، وقرأ عليه الفتوى بخلعه فغضب السلطان وانتهر سليمان، ولكنه ما عتَّم أن سمع المدافع تطلق من الدارعة (أحمد باشا) فتحقق وقوع القضاء وأدرك حقيقة مركزه، وسلم نفسه لسليمان فأبلغه أنه مكلف بنقله من سراي طولما بغجه إلى سراي طوب قبو ليقيم فيها.

وعند ذلك نودي بالسلطان مراد سلطانًا، فأقر الوزارة كما هي، وأضاف إلى حاشيته الخصوصية كمال بك وأبا الضيا بك، وكلاهما من كبار أنصار الحرية والدستور، وبوجودهما في الحاشية يأمن الوزراء من الدسائس التي تعوَّد المفسدون نقلها إلى السلطان.

وطبيعيٌّ أن الأحرار لم يدبروا هذا التدبير إلا وقد أخذوا على السلطان مراد المواثيق أن يعلن الدستور الذي أعده مدحت ورفاقه، فكادت تتحقق آمال الأحرار، ولكن حال دون تلك الأمنية عارضٌ أوقفها دهرًا طويلًا، وذلك أن عوني باشا لحظ في السلطان مراد في الليلة نفسها التي رافقه فيها من قصره أنه مضطرب وأصابته نوبة عصبية، وبعد الاحتفال بمبايعته في أثناء رجوعه إلى سراي طولما بغجه زادت فيه الأعراض العصبية، وكان معه مدحت باشا، فرأى من الحكمة أن لا يفارقه، فمكث معه ثلاثة أيام، واستشار الأطباء فأشاروا بعلاج وحِمية، ولم يكبروا العلة، فاتفق في أثناء ذلك حادثتان أزعجتا السلطان وزادتا علته، وهما:

(٦) موت عبد العزيز

الأولى موت عبد العزيز: وذلك أن هذا السلطان أقام بعد خلعه خمسة أيام، وفي صباح ٥ يونيو طلب من خادمه الخصوصي فخري بك مقراضًا ليقلم أظافره ويصلح لحيته، فتردد حينًا في إجابة طلبه ثم عرض الأمر على والدة سلطانة فأمرت أن يعطى المقراض الذي يطلبه. واتفق بعد حين أن بعض الحاشية أشرفن من إحدى النوافذ على المكان الذي كان عبد العزيز فيه فرأينه جالسًا على كرسي وظهره محول ورأسه مدلًّى إلى الأمام فأسرعن إلى الباب فلم يستطعن فتحه وظنن سوءًا، فأنبأن والدته فأمرت بخلع الباب، فدخلوا فرأوا عبد العزيز ميتًا وقد نزف دمه من جرحين في ذراعيه، ورأوا المقراض بجانبه الأيسر كأنه استخدمه بيمناه لقطع أوعية اليد اليسرى، ثم أراد استخدامه باليسرى لقطع أوعية اليد اليمني فلم تسعفه قواه أن يتمَّ العمل جيدًا.

فاستقدموا الأطباء حالًا فأثبتوا أنه ميت، وخاف الوزراء العاقبة فأمروا بلجنة من الأطباء تتولى فحص الجثة، فاجتمع ١٧ من أمهر أطباء الآستانة فأقروا بالإجماع أن الموت إنما كان بالانتحار ولا يمكن أن يكون بسواه، وكتبوا بذلك شهادة مؤرخة في ٤ يونيو سنة ١٨٧٦، ثم دُفنت الجثة في مقام السلطان محمود بعد غسلها، فلما بلغ السلطان مراد خبر هذه الفاجعة أثرت على أعصابه تأثيرًا كبيرًا.

(٧) واقعة حسن الشركسي

ثم وقعت حادثة حسن الشركسي فأتمت عليه، وكان حسن هذا من ياوران عبد العزيز، وأراد عوني إبعاده فأمره بالسفر إلى بغداد ليلحق بجندها فأبى، وأخذ يشِيع اتهام عوني بقتل السلطان كما اتهم بخلعه، فأمر عوني بالقبض عليه وسجنه، فأرسل حسن بعد يومين يقول إنه مستعد لإطاعة أوامره بالسفر إلى بغداد، لكنه يستأذنه في البقاء بضعة أيام في الآستانة ليتأهب للرحيل، فأذن له، ففي يوم ١٥ يونيو وهو اليوم المعين لسفره ذهب إلى بيت عوني وطلب مقابلته بإلحاح، فقالوا: إنه سار إلى منزل مدحت باشا للاجتماع بسائر الوزراء، فذهب إلى إسطانبول فنزل في مطعم تناول فيه بعض الخمر، ثم تحول إلى منزل مدحت في طوخان طاش فوصله نحو الساعة العاشرة، وقد اجتمع الوزراء وهم عشرة ومعهم شريف مكة وقد همُّوا بافتتاح الجلسة.

fig83
شكل ٤٣-٤: حسن الشركسي.

دخل حسن الدار كما يدخل صاحب المنزل إلى منزله، فسأله الحرس عما يريده، فقال إنه مسافر في الغد إلى بغداد، وعنده أمور هامة يريد عرضها على السرعسكر عوني باشا قبل سفره، فأجابه الحارس أن ذلك لا يتأتَّى إلا بعد انفضاض الجلسة، فوقف حسن ريثما غافل الحرس، ووثب على السلم وتسلَّقه ليدخل إلى قاعة الجلسة، فمنعه خادم مدحت، ونادى خادم عوني باشا ليشتكي هذا الشركسي لرئيسه، فصعد الخادم لمقابلة عوني وتبعه حسن ليتحقق مجلس كلٍّ من الوزراء، ولم ينتظر الإذن فدخل وسلَّم سلامًا عسكريًّا ثم أشار إلى عوني أن لا ينتقل من مكانه، وأطلق عليه المسدس فأصاب صدره، فتناثر الوزراء فرارًا من القتل، ولجئوا إلى غرفة أخرى، إلا ناظر البحرية فإنه حاول أن يقبض على ذراع حسن فأفلت منه وجرحه جروحًا كثيرة في يديه ومنكبيه، وكان عوني لا يزال فيه رمق، فنهض يطلب السلم فأدركه حسن وطعنه طعنات عديدة، وعاد إلى القاعة وخاطب الصدر الأعظم وهو في الحجرة الأخرى قائلًا: «إني أحتاج إلى قيصرلي، سلِّمه إليَّ فلا أؤذيك بشيء.» فلم يُجبه، فلما يئس ولم يظهر له أحد، جمع أبسطة القاعة وكراسيها وأوقد فيها النار فأدركه رجل من رجال مدحت باشا اسمه أحمد آغا، وطعنه في قفاه طعنة مميتة، فأطلق عليه حسن المسدس في عينيه فأماته وأطلق رصاصة أيضًا على ناظر الخارجية. قضى حسن في هذه المعركة نصف ساعة أجرى فيها مذبحة، وهو فرد وهم جماعة، وعاش إلى اليوم التالي، واعترف أنه إنما جاء لينتقم من عوني باشا، وأنه يأسف لمقتل رشيد وزير الخارجية، فحكموا عليه بالإعدام فمات قبل تنفيذ الحكم.

(٨) خلع السلطان مراد وتولية عبد الحميد

فلما بلغت هذه الواقعة إلى السلطان مراد زاد اضطراب عقله وبعد أن كان الأطباء يرجون قرب شفائه رأوه بعيدًا عنه، فانقسم رجال الدولة بالنظر إلى هذا الحال إلى قسمين: قسم يرى استبقاء السلطان مراد وانتظار شفائه وهم الصدر الأعظم محمد رشدي ومدحت وأكثر زملائهم، والقسم الآخر أشاروا بخلعه وتولية من يخلفه، وزعماء هذا الحزب داماد محمود جلال الدين باشا صهر السلطان ورديف باشا مشير فيلق الآستانة، ومشيران آخران ممن يرغبون في الرجوع إلى الحال القديم، فقد كانوا أصحاب النفوذ فيه، والدستور لا يوافق مطامعهم ولا هم يفهمون معنى الدولة والأمة، وكان هذا الداماد مجردًا من العلم كثير الحب لذاته، يكره الإصلاح لأنه يرفع أناسًا كانوا دونه، وإنما رفعته عنهم المصاهرة، فهؤلاء وغيرهم سعوا جهدهم في خلع مراد لعلة المرض، وقد ساعدهم الشرع على ذلك، وتداخل السفراء وألحُّوا في تسوية الحالة الحاضرة؛ لأنهم لا يأمنون على مصالح دولهم والدولة في هذا الاضطراب، وأشاروا بخلع مراد وتولية عبد الحميد. وسعى الداماد في إثارة خواطر أهل الآستانة لتأييد هذا الطلب، وأن الحاكم اليوم على الأمة ليس السلطان خليفة الرسول وإنما هو مدحت باشا ورشدي باشا، فلم يبقَ بدٌّ من خلع مراد، ولكن مدحت ورفاقه رأوا أن يأخذوا المواثيق على السلطان الجديد قبل مبايعته، فقرروا أن يذهب مدحت بنفسه إلى موصلو أوغلو حيث يقيم البرنس عبد الحميد أفندي ويستطلعه رأيه في الإصلاح الذي أخذوا في إدخاله من حيث الدستور وغيره، حتى إذا خالفهم في ذلك عرضوه على أخيه رشاد أفندي، وقد قام باستطلاع رأي رشاد في هذا الشأن امرأة مدحت بطريقة سرية.

أما الشروط التي عرضوها على البرنس عبد الحميد إذا تولى السلطة فهي:
  • (١)

    أن يعلن الدستور حالًا.

  • (٢)

    أن لا يستشير في أعمال الدولة إلا مشيريه المسئولين.

  • (٣)

    أن يعين ضيا بك وكمال بك سكرتيرين خصوصيين للسلطان مع سعد الله بك رئيس السكرتيرية (الباشكاتب).

فأجاب مطالبهم بكل رضا، ووعد بأكثر منها وأن يوسع النظام الدستوري إلى أكثر مما يطلبون، وقال إنه يتخلى عن العرش حالما يشفى أخوه مراد من المرض.

فعاد مدحت إلى إسطانبول وبلَّغ الوزراء نتيجة زيارته، فأقروا على خلع مراد وتولية عبد الحميد، ولم يكن لهم بد من فتوى الخلع فاستصدروها من خير الله أفندي شيخ الإسلام، فخلعوا مرادًا وولَّوا السلطان عبد الحميد الحالي في أول سبتمبر سنة ١٨٧٦.

(٩) جلوس السلطان عبد الحميد وتعيين أعوانه

جلس السلطان عبد الحميد على العرش العثماني في أول سبتمبر سنة ١٨٧٦ واحتفلوا ببيعته احتفالًا شائقًا في سراي طولما بغجه حضره الوزراء والقناصل ورجال الدولة والأعيان، ولما بايعوه خاطبهم قائلًا: «اشكر لكم تهانئكم، ولا أشتهي شيئًا غير تقدم مملكتنا وراحة رعايانا، وسترون من أعمالنا ما يؤيد وعودنا بالإصلاح، فعلى رعايانا أن يقوموا من الجهة الأخرى بما عليهم.» وخطب في وزرائه خطابًا حثهم به على الاتحاد في الرأي والعمل، وبعد ثلاثة أيام احتفلوا بتقليده سيف عثمان في مسجد أيوب بقرن الذهب على جاري عادتهم في تنصيب السلاطين، ثم عاد إلى قصر طوب قبو حيث ألبسوه البردة وسلَّموه العلم النبوي، ويذكرون أن رشدي باشا الصدر الأعظم، قال لرفاقه ساعة خروجهم من طولما بغجه: «أظننا تسرعنا بخلع مراد، فعسى أن لا يحدث ما يبعث على الندم.»

وأول عمل باشره جلالته أنه عيَّن الداماد محمود جلال الدين باشا قائدًا عامًّا للجند (سرعسكر)، وعين سعيد باشا (الإنكليزي) رئيسًا للياوران، فلم يعارضه أحد في ذلك، كأن تعيينهما من حقوق السلطان، ولم يعلق مدحت باشا على تعيينهما أهمية، وإنما اهتم على الخصوص بتسمية سكرتيرية السلطان؛ لأن تقربهم منه يجعل لهم نفوذًا كبيرًا لا يقل عن نفوذ الصدر الأعظم.

وقد كان ينبغي له أن لا يستخفَّ بمنصب السرعسكرية ولا يقبل أن يعيَّن له إلا واحد من أهل ثقته، وقد علم بالاختبار أن خلع عبد العزيز لم يكن ممكنًا لو لم يكن السرعسكر عوني باشا في جملة القائلين به والساعين فيه، فهل غفل مدحت عن ذلك أو تغافل؟ أو لعله أحسن الظن في مساعي أهل المابين، وحُسن الظن في مثل هذه الحال من ضعف الرأي.

وقد يُعترض بأن تعيين السرعسكر من حقوق السلطان، فكان الأجمل بمدحت أن يجعل من ضمن الشروط التي اشترطها على جلالته في مقابلته الأخيرة قبل المبايعة أن يكون السرعسكر فلانًا، كما اشترط أن يعين كمال بك وضيا بك سكرتيرين وسعد الله بك رئيس السكرتيرية (باشكاتب)، وهم من خيرة الأحرار.

على أن اشتراطه هذا لم يأتِ بفائدة؛ لأن السلطان وعده بتعيينهم ولم يفِ، فلما قابل جلالته بعد المبايعة أخبره أنه عيَّن للباشكاتبية سعيد بك، وهو من رجال محمود نديم الصدر الذي تقدم ذكره، فاعترض مدحت واحتج ونصح فلم يجدِ ذلك نفعًا فأغضى، ولو أصر لانقلب وجه المسألة، وربما فاز فيولي في تلك المناصب أحرارًا يؤيدون الدستور. فبإغضائه هذا جعل أهم مراجع النفوذ في قبضة رجال من حزب التقهقر، وقد كانت دسائسهم فاتحة عصر الاستبداد الذي انقضى بالأمس، وظهر للناس بعد انقضائه أن السياسة الخرقاء التي اتبعها جلالة السلطان في مقاومة الأحرار إنما كانت بدسائس أولئك المقربين وأمثالهم.

فأغروه أولًا على التخلص من مدحت زعيم ذلك الحزب ولا خوف عليه؛ لأن الجند في قبضته وقائده طوع إشارته، لكنه لم يشأ أن يفعل ذلك مصادرة فعمد إلى سياسة المقاومة بالمطل والتسويف فجعل يتباطأ في إجابه مطاليب الصدارة ويعترض على أعمالها، فبدأ بالاعتراض على الفرمان الذي نصه مدحت وعرضه على جلالته ليخاطب الوزارة به، وهو عبارة عن خطة سياستة بالدستور، فنقحه السلطان وحذف كثيرًا من مواده الهامة كما بينا ذلك في مقالتنا «الانقلاب السياسي العثماني» في الهلال الأول من السنة ١٧، فقبل مدحت بذلك التبديل اعتمادًا على أن إعلان الدستور واجتماع مجلس المبعوثان يعوضان تلك الخسارة.

(١٠) تعديل البند ١١٣ من القانون الأساسي

على أنه لم يكد يفكر في ذلك حتى جاءه في ٢٣ نوفمبر سنة ١٨٧٦ كتاب من السلطان بخط يده يقول فيه «إنه مع ما يرجوه من الراحة والسعادة لشعبه بالنظام الدستوري الجديد فهو يطلب أن تكون حقوق السلاطين أيضًا مضمونة فيه؛ ولذلك فهو يرى عرض القانون الأساسي على مجلس الوزراء لتنقيحه.» فأجابه مدحت: «إن هذا القانون قد يكون في حاجة إلى التنقيح، ولكن عرضه على المجلس لتنقيحه يستغرق زمنًا لا يسمح به حال الدولة؛ لأن المضايق الحرجة التي وقعت فيها تدعو إلى المبادرة في نشر الإصلاحات وتسكين الخواطر إرضاء للدول التي تهددنا بعقد المؤتمر الدولي الذي قررت عقده في الآستانة حتى أصبحنا وليس لنا إلا أحد وجهين: إما أن نعلن القانون الأساسي وننشر الإصلاحات قبل عقد المؤتمر فلا يبقى للدول حجة علينا، أو أن نؤخر إعلانه فينعقد المؤتمر ويقرر المراقبة على أعمالنا، فإذا تأجل عقد مجلس المبعوثان لا يبقى لنا بد من الدخول في وصاية الدول.»

فلما رأي أهل المابين قوة حجته في هذه المسألة أتوه من طرق أخرى، وذلك أنهم وافقوه على وجوب السرعة في إعلان الدستور، لكنهم اشترطوا تعديلًا في البند (١١٣) المتعلق بظهور التمرد أو الخلل في بعض الولايات، فقد جاء في البند المذكور «إنه يحق للحكومة أن تعلن الإدارة العرفية مؤقتًا؛ أي تبطل القوانين والنظامات.» فطلبوا أن يضاف إليه هذه الفقرة: «إن الذين يثبت بواسطة تحقيقات الضابطة الصحيحة أنهم سبب في اختلال أمنية الحكومة فللحضرة السلطانية وحدها الحق أن تخرجهم من الممالك المحروسة وتبعدهم عنها.»

فقبل مدحت هذا التعديل رغبة في سرعة العمل؛ ولأن التعديل المشار إليه يتعلق بالولايات، ولم يخطر بباله أنه سيجري عليه هو نفسه؛ لأنه كان قد احتاط لهذا الأمر بالمواد ٣١ و٣٢ و٣٣ وفحواها أن الوكلاء أو الوزراء لا يُعزلون إلا بعد المحاكمة بالمجالس، وهذه نقطة أخرى يلام مدحت على تساهله فيها لأنها كانت علة نفيه.

وبنفيه تزعزع حزب الأحرار.

(١١) إعلان القانون الأساسي

ولكن السلطان لم يذَّخر وسعًا في تقريب مدحت وترقيته، فلما استقال رشدي باشا من الصدارة لشيخوخته في ١٩ دسمبر سنة ١٨٧٦ انتدب مدحت باشا لذلك المنصب، فكان أول شيء أجراه عند ذلك تعجيل إعلان القانون الأساسي، وعقد مجلس المبعوثان لئلا تسيء الدول الظن بالدولة وتقلب لها ظهر المجنِّ، وقد لاقى مقاومة شديدة من المتملقين ومن جملتهم جودت باشا وزير العدلية، ففي الجلسة الأولى التي عُقدت للوكلاء في بيت الداماد محمود، اقترح جودت باشا تأخير إعلان الدستور إلى أجل غير مسمى؛ «إذ لم يبقَ حاجة إليه بعد أن أفضت أزمَّة السلطنة إلى جلالة السلطان.» فغضب مدحت لذلك الاقتراح غضبًا عظيمًا، وألح في وجوب إعلانه بلا تأخير، وهددهم إذا لم يفعلوا، وقد أفاد تهديده، فلو اتبع هذه الشدة فيما تقدم لغلب الحق على الباطل.

على أن الاختلاف بين مدحت ورجال المابين لم يكن قاصرًا على مسألة الدستور، لكنهم خالفوه في أمور كثيرة. منها مقاومتهم في تعيين ولاة مسيحيين وإدخال غير المسلمين في المدارس الحربية، ومنها إصرارهم على تعيين غالب باشا وزيرًا للمالية، ونفي ضيا بك صاحب الاستقلال. أما تعيين الولاة من المسيحيين فقد ذهب مدحت إلى التعجيل فيه إرضاء للدول التي ستجتمع في المؤتمر فيكون تعيينهم حجة للدولة في إدخال الإصلاح، فأجاب السلطان «إنا لا نعرف رأي عامة المسلمين في التغيير الذي سيدخل على الدولة بالدستور؛ فتعيين ولاة من المسيحيين ربما هاج خواطرهم وآل إلى ما لا تحمد عقباه.» وبعد أخذ ورد أجَّلوا الإقرار على ذلك كله إلى ما بعد اجتماع المؤتمر على أن يبادروا إلى إعلان الدستور وانتخاب نواب الأمة.

فأُعلن الدستور رسميًّا في ٢٤ دسمبر سنة ١٨٧٦، وتلا سعيد باشا (الباشكاتب) الفرمان بإعلانه في حضور الصدر الأعظم مدحت وكبار رجال الدولة والعلماء وغيرهم، ثم تقدم سعيد المذكور وسلم صورة القانون الأساسي إلى مدحت بعد أن قبلها، وتفرق منها نسخ على الحاضرين، وخطب مدحت خطابًا مآله قبول الدستور وقانونه، ثم صلى المفتي وأُطلقت مائة مدفع ومدفع، فعلم الناس أن الدستور قد أُعلن، فتهافت الكبراء وفي مقدمتهم شيخ الإسلام خير الله أفندي والعلماء ورجال الدين من النصارى مع بطاركتهم والوزراء وغيرهم يرفعون إلى مدحت التهاني على فوزه بإعلان الدستور وكانوا يصيحون: «يحيا السلطان ومدحت»، وانهالت عليه الرسائل البرقية من الولايات وغيرها والكل فرحون مستبشرون إلا سراي بشكطاش فإنها لم تحرك ساكنًا؛ لأن جلالة السلطان كان يشكو انحرافًا.

وفي اليوم التالي خفَّ مدحت لزيارة بطريرك الروم، وهي المرة الأولى منذ الفتح العثماني زار فيها الصدر الأعظم بطريرك الروم، وإنما أراد بذلك إقناع الدول أن النصارى مشاركون للمسلمين في الدستور، واحتفل اليونان بزيارته فخطب فيهم وأجابه البطريرك بما يدل على الائتلاف والولاء.

(١٢) مؤتمر الآستانة

ومن غريب الاتفاق أن اليوم الذي تعيَّن لعقد المؤتمر هو نفس اليوم الذي أُعلن فيه الدستور (٢٣ دسمبر) فاجتمع المؤتمر في ذلك اليوم للمداولة مع مندوبي الدولة فيما ينبغي اتخاذه من الوسائل لتسكين الأحوال في الولاية العثمانية بأوروبا، ولم يكد يعلن افتتاح الجلسة حتى دوَّت أصوات المدافع عن إعلان الدستور، فنهض صفوت باشا أحد مندوبي الدولة في ذلك المؤتمر، وقال: «أيها السادة إن ما تسمعونه إنما هو إشارة إلى إعلان الدستور الضامن لما تطلبونه، فلا حاجة إلى المباحثة.» فوجم الحضور هنيهة ثم تكلم إغناتيف معتمد روسيا فطلب الرجوع إلى مدار البحث، فعادوا إليه، فطلب استقلال بلغاريا بأحكامها، وأن يتعيَّن عليها والٍ مسيحي، فتباحتوا واتفقوا على أن تكون بلغاريا ممتازة بأحكامها، وبحثوا مثل ذلك في شئون الهرسك والبوسنة وغيرهما مما لا محل له هنا، وأقرُّوا على لائحة عرضها إغناتيف على الباب العالي للمصادقة عليها، فشكل مدحت مجلسًا عاليًا مؤلفًا من الوزراء والمشيرين وكبار رجال الدولة والرؤساء الروحانيين من كل الطوائف، وعرض عليهم اللائحة، وأخبرهم أن ردَّها يئول إلى الحرب فتباحثوا وتحمسوا وأبوا إلا ردَّها، فردها مدحت وانفضَّ المؤتمر، وبفضِّه اضطربت العلائق بين أوروبا والباب العالي.

(١٣) نفي مدحت باشا

ولم يكد ينفض المؤتمر حتى عاد رجال المابين إلى متابعة ما كانوا فيه من معاكسة رجال الإصلاح، فاستأنفوا البحث في إدخال المسيحيين المدارس الحربية، وعُزل غالب باشا ناظر المالية، وكان مدحت يرى عزله لاعتقاده عجزه عن القيام بهذا المنصب، فرضي السلطان بعزله، لكنه اشترط أن يُجعل عضوًا في مجلس الأعيان، فطلب مدحت أن تُفحص أوراقه، وتُراجع حسابات أعماله، وكتب أخيرًا إلى المابين كتابًا بين فيه عدم لياقة غالب لهذا المنصب، ثم تحوَّل إلى البحث في مسألة المدارس، وكان يعتقد — واعتقاده صواب — أن مسألة الإصلاح في المملكة العثمانية لا يمكن حلها إلا بتوحيد العناصر على اختلاف الطوائف والنِّحل، ولا يكون ذلك إلا إذا نشأ شبانهم في مدارس واحدة، وتربَّوا تربية واحدة، فأراد أن يبدأ مشروعه هذا بالمدارس الحربية فطلب إدخال غير المسلمين فيها لينشأ منهم ضباط غير مسلمين يشتركون مع إخوانهم المسلمين في خدمة الأمة، فأجيب بالمدافعة والمماطلة والمعارضة، وطال الأخذ والرد بين الصدارة والمابين، أو بين مدحت وباشكاتب المابين بالنيابة عن السلطان، وأخيرًا كتب مدحت إلى جلالة السلطان كتابًا شديد اللهجة جاء في جملته:

إني شديد الاحترام لشخص جلالتكم، أما من حيث القوانين والشرع فعليَّ يا مولاي أن أعصى كل أمر يصدر منكم إذا كان مخالفًا لمصلحة الأمة، وإلا فإني أتحمل مسئولية أنوءُ تحت أثقالها، وأخاف صوت ضميري؛ لأني تعهدت بأن تكون أعمالي مطابقة لمصلحة الوطن ورفاهيته …

إلى أن قال:

مضت تسعة أيام منذ عرضت على جلالتكم مشروعات لا غنى عنها لسعادة الأمة وصيانة الدولة، فلم تصادقوا عليها؛ مما يئول إلى خرابٍ لم نكد ننجو من مخالبه إلا بشقِّ النفس.

بعث مدحت كتابه ومكث في منزله ثلاثة أيام، فوجد أهل المابين مندوحة للتخلص من هذا العدو القوي، فأوفد إليه السلطان صفوت باشا ناظر الخارجية أن يأتي فأبى إلا أن يصادق السلطان أولًا على مشاريعه فبعث إليه سعيد باشا (الإنكليزي) فأكد له أنه إذا أتى السراي فالإرادة تصدر حالًا بالمصادقة على مطاليبه، فوثق مدحت بقوله وركب معه، وما عتَّم أن لحظ وهو في الطريق أن الشوارع غاصَّة بالجند، وخصوصًا حول منزله في نيشان طاش، ولم يكن يعلم أن الباخرة «عز الدين» في مرسى طولما بغجه منذ بضعة أيام لتحمل أبا الأحرار إلى منفاه، وهب أنه علم بذلك حينئذٍ فلم يكن علمه لينفعه لفوات الفرصة، فبحال وصوله لسراي طولما بغجه استمهلوه ريثما تصدر الأوامر السلطانية لمقابلته، فجلس في غرفة الانتظار، وإذا هو برئيس الياوران جاءه، وأخذ منه ختم الدولة وساقه توًّا إلى الباخرة عز الدين، وكانت على أهبة السفر، فأقلعت ومع ربانها أوامر مختومة لا يجوز فتحها إلا بعد ٢٤ ساعة، ثم فتحها فإذا فيها أن يحمل مدحت باشا إلى المحل الذي يختاره من سواحل أوروبا، فأُنزِل في برنديزي بإيطاليا.

ولا يخفى ما كان من تأثير هذا النفي على الأحرار في الآستانة، لكن أهل المابين لم يقدموا على نفي زعيم الأحرار وأبي الدستور، وإلا قد مهدوا السبيل واحتاطوا لما يخشى وقوعه، وكانت حجتهم في نفي مدحت أن: «وجوده يسبب اختلال أمنية الحكومة»، فللسلطان الحق بنفيه كما جاء في المادة ١١٣ من القانون الأساسي، وكان في الآستانة عصابة من أهل الوجاهة لا يرون وجود مدحت نفسه ضروريًّا لتأييد الدستور ونشر الإصلاح، وكانوا يعتقدون أن السلطان مخلص في إجراءاته، وإنما يريد بها سلامة الدولة وسعادة الأمة، وتمكَّن هذا الاعتقاد من نفوسهم لمَّا رأوه نفى مدحت وظل محافظًا على دستوره، وأمر بعقد مجلس المبعوثان، وإنما فعل ذلك تسكينًا لخواطر الأمة أو بالحري لخواطر الأحرار مريدي مدحت وأنصاره، وكانت الانتخابات جارية فتعجلها لفتح البرلمان في أول مارس سنة ١٨٧٧ ولم يتم عدد الأعضاء الكافي لعقده إلا في ٤ منه، فاحتفلوا بافتتاحه في سراي طولما بغجه بحضور السلطان نفسه، ولم يطل عمره إلا سنة وبعض السنة.

(١٤) مدحت في منفاه

وكانت الدول في أثناء ذلك تنظر في رفض الدولة العثمانية لقرارات المؤتمر — المتقدم ذكره — وكنَّ يتوقعن إصلاح الأحوال بإعلان الدستور، فلما نفي مدحت سبق إلى أذهانهن سوء الظن، ولا سيما روسيا فإنها عادت إلى العدوان، وأعلنت الدولة العثمانية بذلك في ٢٤ أفريل سنة ١٨٧٧، فساعد الإعلان على تغلب حزب المابين، فلم يتقرب منه غير الذين يوافقون على سياسته، وضعف حزب الدستور بعد نفي صاحبه.

انتشبت الحرب بين روسيا والدولة ومدحت منفي في أوروبا، فلم يذَّخر وسعًا في مصلحة دولته ولا سيما في لندن، وكتب إلى الباب العالي أنه سعى في عقد صلح يحجب الدماء وطلب مصادقته فلم يُجبه على ذلك؛ لأن كفة الحرب كانت لا تزال راجحة في جانب الدولة. ثم ما لبث الروس أن اخترقوا البلقان وأقبلوا على الآستانة، فجدد مدحت الهمة في الدفاع عن حقوق بلاده لدى الدول والباب العالي بالمكاتبات، فوسوس بعضهم لجلالة السلطان أنَّ تَصدُّر مدحت باسم الدولة لدى دول أوروبا يُخشى منه فعمل على استقدامه إلى الآستانة، فكتب إليه رئيس التشريفات الشاهانية كتابًا سريًّا يبثه فيه شعور السلطان معه بما يقاسيه في غربته، وأن جلالته بكى لما بلغه خبر عذابه، وأنه أمر له بألف جنيه ينفقها في مرافقه المستعجلة، ولا يعلم أحدٌ بها، وطلب إليه أن يعلمه كيف ينبغي أن يرسل هذا المبلغ إليه، فأجابه مدحت بالرفض، وأظهر تفانيه في خدمة دولته ووطنه، فدعاه للقدوم إلى الآستانة لأن بعده عنها يوجب الهواجس وسوء الظن، وما زال به حتى أقنعه بالمجيء رغم نصيحة أصدقائه أن لا يفعل.

فسافر، ولكنه فضل النزول في كريد ليمكث فيها بعيدًا عن الدسائس، وأدرك من مجاري الأحوال أن سياسة المابين تقضي بإبعاد رجال الأعمال عن الآستانة واستخدام الضعفاء، فقبل السلطان اقتراحه وبعث إليه عائلته إلى كنديا في سبتمبر سنة ١٨٧٨، فاحتفل الكريديون بمدحت وعرفوا قدره على اختلاف طوائفهم، وأطلقت الدوارع الراسية في مياهها المدافع لأجله، فنُقل ذلك إلى السلطان فأوجس خيفة، وكان في عزمه أن يعقد له على كريد فعقد له عليها، وبعد شهرين جاءه تلغراف من الباب العالي بتعيينه واليًا على سوريا، فأطاع وركب إليها مع أهله على الباخرة «فوائد»، حتى أتى بيروت وسافر منها إلى دمشق مركز الولاية يومئذٍ.

(١٥) ولايته على سوريا

ولم ينسَ السوريون أعمال مدحت في أثناء تلك الولاية، وكانت شهرته في مساعيه الحرة قد بلغت إلى مسامعهم، فلما وصل إليهم احتفلوا به احتفالًا عظيمًا، وقد حقق أمانيهم بما أدخله من الإصلاح فيها نحو ما فعل في العراق من قبل، فأنشأ مدرسة للصنائع والفنون، وأخرى للأيتام، وأيد الأمن فبات الناس في راحة وعدل، وفتح الشوارع في المدن ومهد الطرق بين القرى والبلاد لتسهيل الانتقال، وأنشأ خطًّا للترامواي بين مدينة طرابلس الشام والمينا، وقد نجحت نجاحًا باهرًا، ولا ينسى أهل دمشق كيف أنشأ لهم الشارع الأعظم. وأهم ما كان من تأثير ولايته أنه جمع العناصر المختلفة، وألَّف بين قلوبهم على اختلاف المذاهب والأجناس على شكل لم يسبق له مثيل في تلك البلاد. وأطلق حرية المطبوعات ونشط الكتَّاب والأدباء والشعراء فتألَّفت الجمعيات السياسية والعلمية.

وفي أيامه ظهرت القصيدة السينية المشهورة التي مطلعها «دع مجلس الغيد الأوانس»، وفيها تحريض للعرب أن يطلبوا الاستقلال كما فعل أهل الجبل الأسود، وكان السوريون إذا لقوا مدحت في محفل صاحوا ليحيا مدحت باشا، وهو لا يحاذر المجاهرة بانتقاد المابين، وربما تغنى بما تمَّ على يده من الخلع والتنصيب، فساء السلطان الظن بمقاصده، وزاد حذره من أغراضه، وأصبح يخاف أن تنتظم أحوال سوريا وتجتمع كلمة أهلها فتخرج من يده، فأصبح إذا عُرضت عليه مشروعات مدحت أجَّل المصادقة عليها أو رفضها، وأوحى إلى مشير الفيلق الخامس في الشام أن يكون على حذر منه، فأصبح المشير ينظر إليه نظر الرقيب، وتباعدت القلوب بينهما، وتضايق مدحت من ذلك فعزم على الاستقالة، وبعد مخابرات طويلة خيَّر الباب العالي فيها بين قبول استعفائه أو المصادقة على مشروعاته فكانوا يماطلونه ويدافعونه مع حاجتهم إلى آرائه يومئذٍ في أثناء تمرد الدروز في حوران، وقد خدم الدولة في إخماد ذلك العصيان خدمة حسنة بإعادة الأمن إلى تلك البلاد مع المحافظة على شرف الدولة ونفوذها، ولما فرغ من هذا الواجب لم يعد يصبر على مضايقة الباب العالي ومعارضته بما يعمله، فاستقال بحجة شيخوخته وضعفه فأبت الحكومة إعفاءه، ولكنها نقلته من ولاية سوريا إلى ولاية أزمير سنة ١٨٨٠.

(١٦) ولايته على أزمير

إن ولاية أزمير هي ولاية آيدين وعاصمتها مدينة أزمير، وكانت في خلل واضطراب مثل سائر الولايات في ذلك العهد، بل هي من أكثرها اضطرابًا بالنظر إلى تكاثر أهل الدعارة واللصوص وقطاع الطرق فيها، ولم يجهل مدحت أن مشروعاته في إصلاح هذه الولاية ستصادف ما كانت تصادفه مشروعاته لإصلاح سوريا، لكنه أطاع الأمر وقبل المنصب وانتقل إلى أزمير، وفكر في تسكين الخواطر وإعادة الأمن، وكان فيها فرقة من الجاندرمة فوجدها غير كافية لحفظ النظام، فأنشأ الضابطة على النسق الأوربي ولم يكن لها وجود في تركيا من قبل، وأخذ في العمل جهد طاقته والسلطان يزداد فيه سوء ظن ويخافه، فزيَّن له مشيروه ورجال خاصته أن يتخلص منه ويريح فكره من أخطاره، ولم يجدوا شراكًا يأخذونه بها إلا مسألة السلطان عبد العزيز فأحيوها، ورغم ما أثبته الأطباء في تقاريرهم عن موت ذلك السلطان بالانتحار ادَّعى رجال المابين أنه مات مقتولًا، وأن قتلته هم حسين عوني باشا الذي قتله حسن الشركسي في بيت مدحت سنة ١٨٧٦ والد أمادان محمود باشا ونوري باشا وأنه اشترك معهم أيضًا مدحت باشا ورشدي باشا وخير الله أفندي شيخ الإسلام.

فلما اعتقد السلطان هذا القول أمر بالقبض على الدامادين محمود ونوري، ونشرت الصحف عود قضية عبد العزيز إلى التحقيق، وتزلف بعض كتابها إلى المابين فألح بالقبض على كل من اشترك في مسألة عبد العزيز أو شهدها، فقبض علي رشدي باشا زميل مدحت وحكم عليه بالنفي ليقضي شيخوخته في منغيسيا من ولاية آيدين، وحكم على خير الله بالنفي إلى مكة، وأبعد سائر من بقي من الأحرار في الآستانة، ولم يبقَ حول السلطان إلا المتملقون الذين أخذوا بناصره أو حرضوه على إفساد أمر الأحرار والتضييق عليهم، وفيهم جماعة كانوا يتظاهرون بالحرية ثم انقلبوا طمعًا في الدنيا.

(١٧) القبض على مدحت

وكان مدحت باشا يومئذٍ في أزمير وجاءه النبأ أنه متهم وأن حياته في خطر، فأجاب أصدقاءه الذين أنبئوه أنه لا يجد في ضميره ما يوجب القلق؛ لاعتقاده براءته لدى القضاء. أما السلطان فعمد إلى المبادرة بالقبض على مدحت فجأة، فأنفذ اللواء حلمي باشا والأميرالاي رضا بك (ثم صار رضا باشا سرعسكر) مع جماعة من الضباط والضابطان للقيام بهذه المهمة، فوصلوا أزمير على غرة والناس لا يفهمون سبب مجيئهم. أما مدحت فجاءه النذير بأمرهم فبث عليهم العيون يراقبون حركاتهم فتحقق أنهم جاءوا بأوامر من يلدز للقبض عليه. عرف ذلك من أحد رجال الضابطة التي أنشأها في أزمير كان قد تنكَّر بلباس تاجر ونزل في الفندق الذي نزل فيه حلمي باشا، وعاشره وتقرب إليه حتى وثق به، واعترف له أنه جاء للقبض على مدحت وأنه ينتظر أوامر أخرى، فبادر مدحت إلى الاحتياط، ففتح في قصره بابًا سريًّا يؤدي إلى الشاطئ، وأعدَّ هناك سفينة لشركة إنكليزية تنقله إلى حيث يشاء.

ففي مساء أحد الأيام جاء جاسوس مدحت المشار إليه، وأخبره أن حلمي باشا دُعي إلى مكتب التلغراف على عجل، ولما عاد تسلح وذهب إلى القشلاق، وكان سبب ذلك أن حلمي باشا تلقى الأوامر بقتل مدحت وذبح عائلته، ولم يكن يستطيع ذلك إلا إذا كان له من يواطئه عليه من أهل بيت مدحت، وكان قد عرف خادمًا من أهل ذلك البيت اسمه نذير، فاتفق معه أنه حالما يرى الجند قادمين إلى القصر يطلق عليهم طلقًا ناريًّا من مسدس فيكون ذلك حجة لهم في الهجوم والقتل، ويؤكدون وقوع هذه المواطأة بما ناله نذير هذا من الحظوى في المابين بعد نفي مدحت.

فلما علم مدحت بدنو الخطر أعمل فكرته بتروٍّ وأطلع أهل بيته على الأمر، وأوصاهم ألا يُبدوا حراكًا، وأخبرهم عزمه على الخروج من تركيا بحرًا من ذلك الباب السري والالتجاء إلى أوروبا، ففي نصف الليل أطلقت الثكنة العسكرية ثلاثة مدافع هي علامة الحريق عندهم، فأدرك مدحت أنهم فعلوا ذلك ليصرفوا أذهان الناس عن أغراضهم الحقيقية، فعمد إلى الخطة التي كان رسمها للفرار، فخرج مع سكرتيره من ذلك الباب السري يطلب الشاطئ، ولم يبعد بضع خطوات حتى رأى الجنود قائمة على المرفأ تحرسه، فركب مركبة وسار إلى قنصلاتو إنكلترا فوجد قنصلها غائبًا فتحول إلى قنصلاتو فرنسا وطلب حمايتها فآوته.

أما حلمي باشا فإنه أتى برجاله إلى قصر مدحت بحجة أنه جاء يستفتيه في أمر الحريق الذي شبَّ في المدينة، فأجابه أهل المنزل أنه خرج الساعة فظنهم يخدعونه، فأمر رجاله فكسروا الأبواب ودخلوا البيت عنوة حتى فتحوا غرف الحريم للبحث عنه، وكان الخادم نذير جالسًا على مقعد والمسدس في يده، فهمَّ أن يقوم بمهمته ويطلقه فهجم عليه خادم آخر عارف بغرضه واستخرج المسدس من يده بالقوة وسقط ميتًا من التأثر، ولم يترك الجند مكانًا لم يفتشوا فيه عن مدحت حتى سرير الطفل، فلما رأت امرأة مدحت باشا تطاول القوم إلى هذا الحد، خاطبت حلمي باشا قائلة: «أرجع رجالك عن منزلنا وإلا فإني أفتح النوافذ وأستنجد الأمة عليهم.» فخاف حلمي تهديدها؛ لأنه أُمر أن يعمل عمله بدون أن يشعر أحد به، فصرف رجاله إلا جماعة منهم استبقاهم معه وخرج. علم أن مدحت في قنصلاتو فرنسا فذهب إلى هناك، وسد عليه منافذ الطرق من كل ناحية حتى يقبضوا عليه إذا خرج أينما كانت وجهته، وكان قنصل فرنسا الموسيو بليسيه قد أنبأ سفير فرنسا بالآستانة بما جرى، وبعث مدحت إلى قناصل الدول العظمى في أزمير يدعوهم إلى الاجتماع في قنصلاتو فرنسا فجاءوا وقص عليهم الخطر الذي يحدق به، وطلب إليهم أن يوسطوا دولهم لدى الباب العالي، وأنه لا يطلب منهم عفوًا ولا رحمة وإنما يطلب إذا كان متهمًا أن يُحكَم جهارًا في محكمة قانونية قضاتها نزيهون، فجرت المخابرات التلغرافية وأخذت الدول المواثيق والعهود على ذلك، فلم يبقَ لمدحت بدٌ من السفر إلى الآستانة للمحاكمة، وبعد أيام جاء اليخت السلطاني، فحملوه عليه إلى الآستانة، وأنزله السلطان في كشك مالطة في يلدز ريثما تتألف المحكمة لمحاكمته.

(١٨) محاكمته والحكم عليه

وأخذوا في استنطاقه، وبعد الفراغ من ذلك عقدوا جلسة في سراي يلدز حضرها السلطان من وراء الستار، ولم يحضرها إلا السفراء وبعض مكاتبي الصحف الإفرنجية، مع أن الشرط أن تكون المحاكمة في جلسة جهارية، وكان القضاة خمسة: ثلاثة مسلمين، واثنين مسيحيين برئاسة سروري أفندي أحد العلماء، وقد تقدم ذكره في مكان آخر من هذه الترجمة، وكان في جملة المتهمين مع مدحت الدامادان محمود باشا ونوري باشا وعلي بك ونجيب بك وفخري بك الجزائرلي وبعض الخدم.

ولما فُتِحت الجلسة قُرِئت ورقة الاتهام، وفحواها: «إنه بعد خلع عبد العزيز ببضعة أيام تواطأ الدامادان نوري باشا ومحمود باشا مع اثنين من المصارعين، وأحد حرس السراي على قتل السلطان المخلوع، ووعدهم براتب قدره ثلاثة جنيهات عثمانية لكل واحد في الشهر مكافأة على هذه الخدمة، فقتلوا السلطان بمساعدة فخري بك أحد الحجاب، وأن علي بك ونجيب بك أدخلا القتلة إلى غرفة عبد العزيز، وأنه كان في الآستانة يومئذٍ لجنة مؤلفة من مدحت ورشدي وعوني وشيخ الإسلام خير الله، والداماد محمود لم يكن يَصدر أمر أو يجري حادث ما لم تصادق هي عليه، فلا بدَّ أن يكون القتل قد حصل بعلمهم؛ ولذلك كان مدحت مشتركًا في ارتكاب تلك الجريمة.»

وبعد تلاوة ورقة الاتهام أخذ القضاة يسألون المتهمين أسئلة مختلفة وهم يدافعون عن أنفسهم، وتوالت جلسات هذه المحاكمة بين ٢٣ يونيو و٢٩ منه، وانتهت بالحكم على مدحت ومحمود ونوري وآخرين بالإعدام، وكانت أخبار هذه المحاكمة تُنقل يوميًّا بالتلغراف إلى صحف أوروبا، ولم يستطع المكاتبون انتقادها؛ لأن رسائلهم كانت تمر على المراقب قبل إرسالها، يشهد بذلك رسالة مكاتب التيمس المؤرخة في أول سنة ١٨٨١ بعد صدور الحكم، فقد صدَّرها بقوله إنه لم ينتقد أعمال القضاة في رسائله السابقة خوفًا من المراقبة، ثم أفاض في النقد، ومآله أن المحاكمة كانت مهيأة، وأنها جرت على رغائب أهل المابين فأكثروا من الشهود وفي جملتهم شاهد لم يُذكر اسمه في قائمة الشهود، ولم يكن يجوز سماع شهادته، واسمه رفعت أفندي، شهد أنه سمع مدحت يقول في دمشق إنهم إنما قتلوا عبد العزيز لئلا يعود إلى السلطة ويقتل الوزراء الذين خلعوه، وفي جملة انتقادات مكاتب التيمس أن المتهمين لم يكن يتيسر لهم المفاوضة مع المحامين الموكلين في الدفاع عنهم، وأن مدحت لم يتداول مع محاميه إلا مرتين، وغير ذلك مما يطول شرحه، وهو مفصل في رسالة التيمس المشار إليها، ثم توسطت الدول في الحكم فأُبدل بالنفي، وعُيِّن لكل واحد منفاه.

(١٩) مدحت في منفاه إلى مقتله

أما مدحت فتعيَّن منفاه في الطائف بقرب مكة، ومعه الدامادان محمود ونوري، فحُمِل مع رفاقه في باخرة أنزلته في جدة، فالتقى هناك بصديقه خير الله أفندي شيخ الإسلام المنفي إلى مكة كما تقدم. أما عائلة مدحت فظلت في أزمير تنتظر ما يأتي به القدر. ففي السنة الثالثة من منفى رجلها جاءهم منه كتاب مؤَرخ جمادى الآخرة سنة ١٣٠١ يقول فيه إنه مصاب بخراج في كتفه اليمنى شديد الألم — وظهر بعد ذلك أنه الجمرة (فرخ جمر) — وأن طبيبه غلام غير محنك، وذكر ما يقاسيه من العذاب بجهل الطبيب، وما اتخذه رفاقه من الوسائط لراحته مع يأسه من الشفاء، وذكر طعامهم، فقال: إنه عبارة عن طبق شوربا لثمانية أشخاص وطبق ورق الفجل ونحوه، وذكر في كتاب آخر أن الخُرَّاج تتحسن حالته، لكنه يشعر بالضعف، وقال في كتاب آخر: إنه ربما كان آخر كتبه إليهم؛ لأنه لحظ أن القوم عاملون على التخلص منه بواسطة السُّم، وأنه يقاسي العذاب من شدة التيقظ لنفسه؛ لأنه محاط بأقوام أشرار لا يبالي أحدهم من يقتل ولا كيف يقتل، وذكر على الخصوص أحدهم بكير الشركسي رفيق حسن الشركسي الذي قتل عوني باشا قديمًا، وختم كتابه بالدعاء بحفظ العائلة، والكتاب مؤرخ في ٢٤ سبتمبر سنة ١٨٨٢.

فلما وصل الكتاب إلى امرأته عرضته على سفير إنكلترا في الآستانة فوعدها ببذل الجهد، واجتهد اللورد دفرين بالبحث عن صحة مدحت بواسطة ترجمان قنصلاتو فرنسا في جدة، فأجاب بعد البحث على يد شريف مكة أن صحته حسنة، وتُوفِّي في أثناء ذلك الداماد نوري باشا مجنونًا.

وفي ٢٦ أفريل سنة ١٨٨٣ كان مدحت راقدًا في غرفته، فدخلها بضعة رجال فقبضوا عليه وعلى رفيقه الداماد محمود وقتلوهما خنقًا، وكتب بذلك خير الله أفندي تقريرًا مطولًا نُشر في تاريخ مدحت الذي ألَّفه ابنه علي حيدر، ولم ينجُ خير الله من القتل إلا خوفًا من نقمة العلماء على الدولة لصِبغته الدينية.

وجاء في تقريره المشار إليه أسماء الأشخاص الذين اشتركوا في ذلك القتل، وهم تسعة قتلوا مدحت و١١ قتلوا محمودًا، وهذه أسماء قتلة مدحت: اليوزباشي إبراهيم الشركسي، والضابط الصغير نوري، أصله من كوما أحمد جاويش، والأنفار قندرجي إسماعيل، وأحمد، ومحمد وكلاهما من كوتاهية، ورجب، وعثمان من قراحصار، وإسماعيل البربري. وأما الذين قتلوا محمد الداماد فهم: الضابط الصغير مميش أصالة من سبارطة، ومحمد وحسن جاويش من قوتاهية، وسليمان جاويش، ومحمد الأونباشي، وعثمان البلطاجي، وأحمد، وعلي الروملي، ومصطفى بربر.

ويقال إنهم بعد أن قتلوا مدحت أرادوا أن يثبتوا صدق خدمتهم للمابين، فأرسلوا الجمجمة في علبة عنونوها إلى يلدز في الآستانة، وذكروا أنها تحتوي عاجًا يابانيًّا، وأدوات صناعية لجلالة السلطان فلم تُفتح إلا هناك.

وكان مدحت كما رأيت من سياق سيرته ذكيَّ الفؤاد، حادَّ المزاج، حرًّا، حازمًا، همامًا، مستقلَّ الفكر جسورًا يحب وطنه ودولته، ويتفانى في مصلحتهما، وكان مخلص النية في أقواله وأعماله، شديد الرغبة في الإصلاح، يكره الاستبداد ولا يبالي بما يلاقيه في سبيل مقاومته؛ يدلك على ذلك أنه ذهب ضحية في هذا السبيل، ولكنه كان قليل الدهاء، يحسن الظن في الناس حتى في أعدائه، ولم يكن كتومًا إلى الدرجة التي تقتضيها حاله لما يحيط به من أرباب الدسائس؛ ولذلك رأيته انخدع في مواقف بيناها في أثناء الكلام عنه، فلو كان أكثر دهاءً في تفكيره، وأقلَّ حدة في مزاجه، وأسوأَ ظنًّا في أعدائه وأكتم لأسراره لما انتهت حياته بالكيفية التي ذكرناها، فذهب رحمه الله شهيد الحرية والدستور، فلما حدث الانقلاب الأخير وفاز الأحرار اعترفوا بفضله وسمَّوه أباهم وصاحب دستورهم، وسيبقى ذكره ما بقي التاريخ.

١  كان ينبغي أن ننشر ترجمته مع رجال السياسة ولكنها تأخرت سهوًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤