الفصل الثالث عشر

لعل النهضة الثانية أثبت من الأولى١

كانتا كنا حالمين، أطبقت ظلمٌ على ظلمٍ حتى التمس الناس بعضهم بالأيدي، ثم لاحت إيماضة فانطوت، ثم استمرت الظلمات أربعة أعوام كاملة، وها نحن اليوم نتبصر فنرى سنًا باديًا فنهتدي به، إذا لم يكن برقه خلبًا فإنه كوكب الصبح، بعده نهار مشرق الطلعة صافي الديباجة، ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي.

كنا في مثل هذا الأوان نسمع ما يقوله المعجبون بالاتحاديين، فنكاد نطاول الجبال غرورًا، وكنا إذا ذُكر الاتحاديون نُطرب به كما يُطرب بالصوت الحسن سامعه، فإذا دعا باسم الجمعية داعٍ أصاخت له الأرواح في الأجساد، وكم تخيلنا تلك الجمعية، فواحد يصور منها مثالًا كتمثال «فينوس»، وآخر يقيم لها طورًا يسجد له كأنه طور سيناء، وظل كل قلم كأنه «فرشة» روفائيل المصور الشهير، وظلت سلانيك ومناسير كأنهما لوحان من ألواحه الفاتنة الخالدة.

وهبنا هذه الجمعية المودات وبذلنا أيام الحياة، فردت المودات وقبلت أيام الحياة، فباتت وهي أملك للأرواح من بارئها، وكانت أحب إلى الناس من النعيم، فصارت أبغض إليهم من الشقاء. ولما سطت على المستبد سطوتها، ورحلت به إلى موضع أمانها، زادت مكانًا وحبًّا، حتى قدسناها تقديسًا، وكانت في غفلة من الأمة تُسرق وتُخزن إلى أن نما ثراؤها ومُلئت خزائنها، ثم اشتد ساعدها واستحل سطرها فلم توقع به إلا الأمة، فإذا سيف من عدل الإله قد سُل على زقاق «شرف» حتى كاد يحصد زرعه حصدًا.

إنا لنعرف لأبطال العثمانيين فضلهم، لقد استعادوا الدستور مرتين، أما المرة الأول فأتى من لم يصنعوا شيئًا وزاحموهم في الحكم، وأما المرة الثانية فنرجو أن لا تكون كذلك، اليوم أهل فروق في عيد جديد، هنيئًا لأهل فروق عيدهم، وإنها لحسناء وإن صفيت، وفاتنة وإن رفلت في الأطمار البالية، إذا بدت على ترائبها قلائد الزينة بين الثياب، رأينا كواكب الأفق في الليلة الصافية، لن يغيرها أن مآلفها اليوم أجداث، وأن دورها أطلال، حسبها أن خلصها من ظلم الاتحاديين، فإن دام لها هذا الهناء فذلك جِد عاود الصعود، وإن ودعها بعد قليل وصل ساعة داوى هجر أعوام.

الفرح بالنُّجْح لا يدع مجالًا للشماتة بخيبة الأعداء، إن العثمانيين أولو نجدة، رضينا أن نفوز ولا نبالي أن يرجع الأغيار بإخفاق.

الله الله، ما أطيب شذا الحرية، وما أرق نسائمها! ضاقت بنا بلاد الله ونحن اليوم نمرح بين الخافقين جذلًا. دنوًّا دنوًّا أيتها الآمال المولية، إنا لنحسبك بعد اليوم ثابتة غير مزعزعة، بضاعتنا رُدت إلينا، لا نطلب من عدو لنا ما بين جنبيه، ذاك عطاء من الله، ولا نحاول حسابًا على ما مضى، إنا في حاجة إلى راحة يتلوها العمل.

أهلًا بوزراء الدولة وشيوخ تجاريبها، أحق الموضع بكم هذه المقاعد، ملك مهزول، وأهوال ناصبة، ومكايد مثبوتة، وأعداء مختبئون لا ينهض بهذه الأعباء غيركم، فإن جاوزتم بنا الهلكات وانتهيتم إلى الموضع الذي تركنا فيه الآباء، فآمال أصابت وجدود ساعفت، وإن حالت فتن الأعداء دون ما تريدون، فشقاء لم نستحقه ساقه قدر محتم وفناء موعود.

لن نقترح الآن شيئًا، أنتم أعلم بما ينبغي؛ لأنكم في الدار ونحن نازحون عنها، خلا شيئًا واحدًا نطالبكم به ما تحركت في أفواهنا ألسن: أن تحموا شيخنا الوطن، وأن لا تجعلوا عصره السابع آخر عصوره، الإخلاص معانٌ والصدق مرجوٌّ، فإن قصرت سواعدكم وصلناها بسواعدنا، أمامكم السلطان وعلى آثاركم الأمة، هكذا تنتظم مواكب المجد.

رحمة الله على حسن فهمي وصميم وزكي ثلاثة أغصان علت في أرض الوطن، في ربيع الحياة، هصرتها يد الموت بمنجل الجمعية، جمعهم التراب كما تجمع الحرية والمساواة والإخاء كلمة العدل، سلام على تلك الأرواح الطاهرة، لعل النهضة الثانية أثبت من الأولى.

١  كُتبت هذه الرسالة على أثر سقوط الاتحاديين واستلام الوزارة المختارية الكاملية زمام الحكم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤