الفصل الثالث

التعصب يُخرِج الحرية من ديارها

هلموا إلى نجدتها يا أحرار
أسيرٌ بدار الظلم أعياه آسره
أما مِن فتى في الناس حرٍّ بناصره
أفي الناس أحرار وفيهم أحبة
فما لأخيهم لا يرى مَن يؤازره
عفاءٌ على الزوراء بعد جميلها
إذا ربعه المعمور أخلق داثره
ألمَّ به خطب من الجور فادح
«كما انقض بازٌ أقتم الريش كاسره»
تنادوا به والضغن ملء قلوبهم
وقالوا وحيدٌ ما لنا لا نكاثره
فإن نكفِه نكفِ الشديد مراسه
وما بعده فينا عدو نحاذره
فطافوا به مِن خلفهِ وأمامهِ
كما طاف بعد المحل بالربع زائره
أحين هوى عبد الحميد بعرشه
وغبره بالذم في الناس غابره
يقوم رجالٌ يستعيدون عهده
وفينا نيازي قائمٌ وعساكره
ألا قد بغت هذي العمائم بغيها
فدارت على القوم الكرام دوائره
ألا لا نرجِّي العدل والعدل دوننا
موارده محميةٌ ومصادره
تجلَّى زمانًا ثم لم تبتسم لنا
أوائله حتى استسرَّت أواخره
بأي كتاب أم بأية سُنةٍ
يُجازى على قول الصواب معاشره
بأي كتابٍ أم بأية سُنةٍ
يريدون طي الحق إن قام ناشره
سلامٌ على الأوطان من بعد مأمل
ذوي وأرق الإقبال منه وثامره
سلامٌ على الدنيا سلامٌ على الورى
سلامٌ على العهد الذي قلَّ شاكره
سنبكي على العيش الذي كان غرنا
وقد ساء ماضيه وما سر حاضره
سقى الله أجداثًا علت شهداؤها
بكل ملث الودق تهمي مواطره
قضوا تحت أسوار الحصار حمية
ولم تغنِ عن عبد الحميد دساكره
فإن يكُ بالدرويش قد زل جده
فهذا عبيد الله حلَّق طائره
أقام على الأطلال كالبوم ناعيًا
يبشر بالتخريب ساءت بشائره
فأما قضى فيكم جميل بحسرة
ستبقى عليكم شاهدات مآثره
وإن تحجبوا من فضله كل باهر
فليس ضياء الشمس يحجب باهره
أخي وفجاج الأرض بيني وبينه
أعيذك من هم تبيت تساوره
أعيذك من وجد يضيفك نازلًا
وأهوال ليل مظلم أنت ساهره
توقف في ظلماته غير منجلٍ
كواكبه تسطو عليها دياجره
تشوفك البيت الذي كنت بدره
لقد أظلمت حزنًا عليك مقاصره
وأصبح زاهي الروض بعدك يابسًا
وناح على دوحاته لك طائره
فإن تظلموا فيكم جميلًا لغاية
فإن جميلًا ليس يغفل ثائره
وإن فريق الظلم إن طال ظلمه
سنمشي إليه بالسيوف نبادره

أيها العالم الجليل أستاذي الدكتور شبلي شميل: أهبت بنا فأسمعت، قرأت في المقطم ما سطرته أناملك الطيبة، وأنا طريح الفراش طليح الهموم، فخلت السقف وقع على رأسي ونهضت واقفًا، وها أنا أسطر هذه السطور ولا أدري هل أجد جلدًا إلى إتمامها.

كنت قرأت ردود المؤيد على العلامة الزهاوي فاستشعرت وجلًا وأحس قلبي بالشر، ثم عاجلتها بكلمة عنوانها «المرأة المسلمة بين القاتل والفادي» نُشرت على صفحات المقطم الأغر، غير أن كلام السوء أنفذ سهامًا وأشد إصابة لمقاتل الرجال من كلام الخير، فذهبت صيحتي ولم يرجع لها صدى، ودوَّت صيحة المؤيد وأشياعه لتمام المحنة ولشقوة الأمجاد، هكذا دأب الشرق يفلح الغاش ولا يفلح الناصح.

قلت حين نبذوا لنا جيفة الدستور: نؤازر هؤلاء القوم القائمين فينا بالأمر، ربما أصابوا من حيث لا يشعرون، وكم رمية من غير رامٍ، ثم أوائل الدول تأتي بمخلوقات عجيبة كصندوق الدنيا فيه عجائبه، وقلت اطمئني أيتها القلوب واسكني يا ثائرات النفوس، ووقف إخواني العثمانيون يتفرجون فما راعنا إلا مذابح وفتن وغارات تتلوها غارات، وصخب وضجيج بين نواب الأمة يتجاذبون أطراف الفوائد، كلٌّ يريد أن يسمن كبشه، فبدت السرائر في أشكالها وألقت الأفواه بما أخفته الصدور، فقلنا على الآمال والمستقبل السلام.

ولما افترَّ التعصب عن نواجذه أقمنا نقصد المراثي لننوح بها على الوطن في جدثه، غير أننا حاربناه فغلبنا، واستجرنا بأنصار الآدمية فلم نجد مجيرًا، وما بنا أن نلقى المنية في جهادنا، ولكن مَن لهذه المخازي بعدنا يسجلها في دفاترها السود لتبقى عظات خالدات للأعقاب؟ هذا داءٌ أعضل قلت الحيلة في استئصاله، وأنت طبيب لا يزاد مثلك علمًا، وترى عبيد الله يسعى في أديم كأديم التمساح، لا تعمل فيه النبال ولا رصاص المرتيني، ومَن لنا بماوزر أولوبيل ولي متفورد فنجربه في جسده عسى يستشعر ألمًا أو يُحدِث في خلقه تغيرًا، هيهات هيهات!

وكم من مثل عبيد الله، وقوفًا مشمرين يحفرون للوطن لحده، والأمة تنظر ولا ترى، هي في حاجة إلى الدرس والدرس فات زمانه، وما يجدي الدستور إذا كان الشعب لم يتهيأ للدستور؟! جنى جانٍ جناية كلنا مأخوذون بها اليوم.

وجرم جرَّه سفهاء قوم
فحل بغير جارمه العقاب

أخواننا الذين يظلهم الدستور العثماني لا قِبل لهم بمعارضة الحكام، وهم معذورون، ثَم شفار أُرهفت وسيوف سُلت تقتطف الرقاب كما تقتطف الثمار، ومن قام مصوتًا بصوت قامت عليه نوادبه، ونوابنا — حماهم الله عيون الحاسدين — كجماعة الإوز تتحاوم على مناهل الماء، لكل امرئ منهم شأن يغنيه، وفي القتيلين على جسر غلطة عبرة للسائلين.

أما لو يفيد العتب لعصفت به عواصف هذي القلوب، أما لو يغني النصح لامتلأت به بطون الدفاتر، ولكن قال أبو الطيب:

يُراد من القلب نسيانكم
وتأبى الطبائع على الناقل

على أنني أرى رأيًا أخاله يخرجنا من هذا المأزق، ولا تتسع له هذه السطور، وما هو مما يُنشر بالصحف السيارة، فاضرب لي ميعادًا توافيني فيه إلى عند الأساتذة أصحاب المقطم، هنالك أبسطه لكم وتنظرون أنتم فيه.

وبعد، فيا أيها المسلمون، أنا مسلم مثلكم، يحزنني خسرانكم ويشركني معكم مصرعكم، هؤلاء الرجال الذين أثقلت هاماتهم العمائمُ أكثرهم لا يعقلون، كان عبد الحميد يقتل الناس ويظلمهم وينفيهم وينهب الخزائن، وكل هذا حرام في دينكم، فما قام في وجهه واحد منهم ناصحًا أو رادعًا، ولكنهم اليوم — وقد وسعتهم بلاد الحرية — يكرهون أن يروا حرًّا يتكلم، يهاجمون من لا يكون من فريقهم، يملئون الدنيا صخبًا وضجة، يكفِّرون الساعل والماخط والآكل والشارب حتى لقد زهَّدونا في الحياة، وهم أشد الناس بها تعلقًا، فلا تجعلوا لهم سلطانًا عليكم فيكسبوا من خسرانكم ويسعدوا بشقائكم وأنتم لا تعلمون.

إن ينزل بالزهاوي نازل من الظلم فتلك سبيلٌ أبناؤكم سالكوها غدًا، فإلا يحزنكم مصرعه فإن في مصارع أبنائكم ما يستدر جامدات العبرات، إيهٍ لكم! قطعت الشعوب أشواطًا في منازل الحياة ونحن إلى الوراء راجعون، لا تكونوا واسطة السوء بين الأسلاف والأخلاف، أما لتقذفن لكم الأرحام بأضاحي كالتي شهدتم، تلبسون ليومها السواد ويطول عليها أنينُكم تحت طيات الدياجر.

استجار المقطم الأغر بالوالي وبالرئيس — لك الله — إنما تستجير من الرمضاء بالنار، بُحت الأصوات وتقطعت الأنفاس واضطربت الجوانح وعيت الألسن وشُلت الأنامل.

وقد أسمعت لو ناديت حيًّا
ولكن لا حياة لمن تنادي
ألا في سبيل المجد والحق والحرية شهيد جديد، إذا لم يخُنه جده ويرن في الأسماع نعيه فقد جاوز مهالك عظيمة، وإن حم حمامه — لا قدر الله — فإنا له ثائرون أو به لاحقون، وليُروَ ثراك أيها الوطن بدمائنا إن لم تروِه أنهارك، ولتقم في جوانبك المناحات على أنصار الحرية وأبناء آدم شهود.١
١  كُتبت هذه الرسالة والتي بعدها على أثر اضطهاد حكومة بغداد للأستاذ الفاضل والعالم العامل الشيخ جميل الزهاوي وعزله من منصبه وزجه في أعماق السجن لكتاباته بشأن المرأة والحجاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤