الفصل الأول
ما زلت أذكر كل شيء كأنما حدث بالأمس! كُتَّاب الشيخ محمد وتلاميذه الفقراء … أتعس تلاميذ على وجه الأرض، جلاليب وقباقيب وشباشب وجزم برقبة، وألواح أردواز، وأصابع طباشير، وفي جيوب بعضهم ملاليم.
***
والشيخ محمد قصير كأنه تلميذ نسيه أهله فشاب شعر رأسه، مقوس تمامًا كأنه حدوة حصان انبرت من كثرة الاستعمال، ليس له بيت؛ فهو ينام في المدرسة، ويسهر الليل بطوله في قهوة السروجي يلعب الكوتشينة وهو دائمًا يخسر، وهو دائمًا يغادر القهوة آخر الليل يترنح ويلعن سنسفيل جدود الذين غلبوه … ولكنه رغم ذلك كان شديد الحرص على شيئين اثنين في الحياة ولا شيء أكثر: طابور الصباح في المدرسة وسط التلاميذ المهربدين المعمَّصين المرتعشين من البرد والجوع، يصرخ معهم بصوته المسلوخ: مصر العزيزة لي وطن، وهي الحمى وهي السكن، ثم وقوفه عند الباب أول كل شهر يجمع مصاريف الدراسة وفي يده خرزانة لهلوبة، المصاريف خمسة قروش صاغ، ويا ويل الذي يحضر أول الشهر وليس معه شيء، اللهلوبة إذن هي أسلوب التفاهم الوحيد!
وكنت — والحق يُقال — أنيقًا وسط المجموعة، جلبابي مخطط، وحذائي برقبة، ومعي لوح أردواز، وفي جيبي مليم وأحيانًا مليمان! وكما كان الشيخ مواظبًا على الوقوف بالباب أول كل شهر، كنت أنا الآخر مواظبًا أكثر على دفع الخمسة قروش، ولم يكن ثمة تعليم ولا ثمة دراسة، مصر العزيزة لي وطن، وهي الحمى وهي السكن، وخطبة منبرية عن محمد علي باشا الكبير، وكان الله بالسر عليم.
وكان يمكن أن تمضي الحياة في كُتاب الشيخ محمد هانئة ولذيذة كما هي دائمًا، لولا صدقي باشا، ورغم أني طفل في السادسة، وفي كتاب الشيخ محمد، إلا أن السياسة — قاتلها الله — تتدخل أحيانًا لتفسد حياة الصغار!
صدقي باشا طردوه من الوزارة في عام ١٩٣٣م، وهبَّت مصر كلها تهتف بسقوطه، وتهتف لسقوطه، ومرت مظاهرة من أمام مدرسة الشيخ محمد، وخرج جميع التلاميذ يتفرجون على المظاهرة، وبقيت وحدي أرسم على لوح الأردواز جملًا بثلاث رجول، وفجأة شعرت بمغص شديد في بطني، فجلست وسط الحجرة وقضيت حاجتي في هدوء شديد وفي بهجة أشد! ثم نهضت مرتاحًا وعدت إلى لوح الأردواز أرسم جملًا بثلاث رجول، وبعد قليل عاد التلاميذ وعاد الشيخ محمد، وبدأ كل شيء يأخذ مجراه، ولكن الشيخ محمد توقف فجأة، وأمسك أنفه وصاح صيحة مروعة وكأنه طارق بن زياد: فيه كلب ميت في الفصل.
وركع الشيخ محمد على الأرض وراح يتشمم هنا وهناك؛ ولأنه ضعيف البصر فقد راح يتحسس الأرض بأصابعه، وفجأة غاصت يده في شيء طري، فلما رفع يده إلى وجهه صاح مرة أخرى ويده مرفوعة إلى أعلى منعاصة ومعكوكة: مين اللي عمل دي يا ولاد الكلب؟
وخيم صمت رهيب على الفصل فلم يتكلم أحد، وأعاد الشيخ محمد صيحته وكررها أكثر من مرة ثم وقف في هدوء شديد، ومسح يده في جبته، وقال في منتهى الوقار: الصدق منجي … إللي عمل دي يقول وأنا مسامحه.
وصدقت الشيخ فرفعت أصبعي فخورًا كأنني غزيت عكة … وقبل أن يصل إصبعي إلى رأسي كانت عصا الشيخ محمد تسلخ جلد وشي بالعرض وبالطول، ولم أحتمل كل ذلك فخرجت من كُتاب الشيخ محمد أجري إلى بيتي، وأقسمت وأنا أجري وألهث ألا أقول الصدق!
وجاء الشيخ بعد ذلك بأيام يسحبني إلى المدرسة ولكني رفضت. فضَّلت الحارة على مدرسة الشيخ محمد، وظللت أحمل له بغضًا شديدًا وإلى سنوات طوال، وكنت أحيانًا أنتظره وهو خارج من المقهى لأقذفه بطوبة أو أدفعه ليقع في الطين، وذات مساء وكان البرد شديدًا وقفت أنتظر الشيخ محمد خلف المقهى حتى يخرج، وعندما خرج جئته من خلفه وأغرقته بجردل ماء بارد، فانتفض الرجل صارخًا وهمَّ بالجري فتعثر وسقط، وأشفقت عليه فساعدته على النهوض، ووقف طويلًا يشتم في الأعمى الذي أغرقه بالماء من عمارة طويلة ظن أن الماء جاءه منها، وطيبت خاطره بكلمات وسحبته من يده في الشارع إلى مدرسته، واكتشفت في الطريق أنه يكاد يكون أعمى، وأنه بائس وضائع وغلبان أشد الغلب، ومن تلك الليلة أحببت الشيخ محمد … ونسيته!
وقضيت شهرًا في الحارة ألعب مع أولاد أم صفيح، وكانت أم صفيح امرأة غريبة وبائسة إلى أقصى حدٍّ. وكانت تسكن خلف بيتنا في الخلاء الواسع، وفي بيت من صفيح. كانت أمي سليطة اللسان حادة الطبع قوية الشخصية، بعكس أبي الذي كان شغوفًا بالنكتة يضحك من الأعماق، وكان طيب القلب ضعيف الشخصية مسالمًا إلى أبعد حد! وكانت أم صفيح وأبناؤها يسطون دومًا على عشة فراخ أمي، وعلى غسيلها المنشور، فأطلقت أمي على المرأة الغلبانة هذا الاسم … أم صفيح! وأغرب من ذلك أن المرأة المسكينة اشتُهرت به حتى أصبح علمًا عليها! وكنت أحب اللعب مع أبناء أم صفيح رغم نصائح أمي المتكررة، وزعيقها الذي لا ينقطع، وكانت اللعبة المفضلة لديهم هي قذف المارة في الطريق بالطوب، وذات صباح مر في الشارع رجل أسود كالليل، طويل كالمارد، سريع كأنه أرنب جبلي، وقذفه أبناء أم صفيح بالطوب وطاروا في اتجاه المزارع وطرت معهم، وطار الرجل الأسود المارد خلفنا، ولكنه لم يلحق إلا بي، وظل يضربني وأنا أصرخ ولا مغيث، وكان الرجل مفترسًا فلم يتركني إلا وأنا منزوف الأنفاس مقطوع القلب غارقًا في الدم.
ومن ذلك اليوم هجرت الحارة إلى مدرسة الشيخ عبد العال، وكان الشيخ عبد العال شيخًا وفسَد، طردوه من الأزهر لبلادته فاستأجر منزلًا مهجورًا وحوَّله إلى مدرسة، وخلع الجبة والقفطان وارتدى البدلة والطربوش، وأمسك في يده بمنشة ليف، وكان سمينًا كالطور، ثقيل الدم كأنه ترسة، مفترسًا كأنه ضبع، وقضيت في مدرسة الشيخ عبد العال ثلاثة أشهر، ثم حدث أن دخل حارتنا ساعة عصاري وفي يده بطيخة وفي يده الأخرى شمامة، وفي جيوبه ليمون وفجل، والمنشة الليف بين أسنانه، وعندما مر من أمامي ضحكت، فتوقف الشيخ عبد العال والتفت نحوي، فلما رآني ازداد غيظه، وناداني فوقفت، وأنبني على ضحكي وألقى على مسامعي درسًا في السلوك والآداب، ثم مد يده نحوي بالبطيخة وأمرني أن أحملها عنه إلى المنزل، ولكن يده ظلت معلقة بالبطيخة في الفضاء فلما نهرني بشدة سقطت المنشة من بين أسنانه، فانفجرت ضاحكًا وتقهقرت إلى الخلف، فانحنى الشيخ يلتقط المنشة فسقطت البطيخة وانكسرت، ولما حاول أن يلتقط البطيخة، سقطت منه الشمامة وتدحرجت على الأرض، ثم تدحرج منه الليمون وذهبتْ كل ليمونة في اتجاه، وأصبح منظر الشيخ عبد العال مضحكًا للغاية، وتظاهر هو بأنه يجمع الليمون واقترب مني، وهبدني قلمًا وشلوطًا رماني على الأرض، فلما نهضت كان منظره يدعو إلى الضحك أكثر، فضحكت مرة أخرى وجريت من أمامه، فلما حاول أن يلحق بي قذفته بطوبة بطحت رأسه، وأقسم يومها أن يقتلني، وأقسمت ألا أذهب إلى مدرسة الشيخ عبد العال!
وتنقلت بين أكثر من كتَّاب وأكثر من مدرسة، وعندما جاء الصيف قرر خالي أن يلحقني بمطبعة طوال الصيف، وسحبني من يدي وأنا لا أدرك شيئًا، ووقف مع صديقه صاحب المطبعة وأشار نحوي، وهمس لصديقه بكلام لم أسمعه ثم تركني وانصرف، ووقفت عند الباب لا أفعل شيئًا، ثم ناداني الرجل وأمرني بالذهاب إلى القهوة وإحضار مقعد؛ ليجلس عليه أحد أصدقائه، وذهبت وعدت بعد ساعة، والكرسي فوق رأسي يكاد يقطم رقبتي، وعندما رآني انهال على رأسي ضربًا، ثم دفعني بقدمه إلى داخل المطبعة وصفعني على وجهي بقسوة، ثم شتمني وخرج! ووقفتُ وحيدًا وسط المطبعة أبكي في صمت وأجزُّ على أسناني من شدة الغيظ، ولا أدري كم مضى من الوقت، وأنا واقف وحدي وسط المطبعة أجفف دموعي بجلبابي، وأتطلع من خلال الباب المفتوح إلى الذين يعبرون الطريق في صخب شديد، ولكن فجأة دخل الرجل إلى المطبعة ومعه فتاة تضحك في دلال وتهتز وتقفز كأنها فرخة يطاردها أحد، ونظر الرجل نحوي في غيظ شديد، وركلني بقدمه وأمرني بالوقوف عند الباب، ثم وقف يضحك مع البنت ويتكلم في هدوء، ثم دعاها إلى الدخول في حجرة نظيفة بها مكتب وعلى الجدار صورة ضخمة لرجل يرتدي نيشانًا، ويكبس على رأسه طربوشًا، وله شارب ضخم عريض، وعلى صدره نيشان أصخم من شنبه، وغاب الرجل مع البنت طويلًا، ودخلت إلى المطبعة ووقفت أختلس النظر من خلال ثقب الباب، وكانت البنت مطروحة على كرسي جلد والرجل يجثم على صدرها كأنهما في عراك، والبنت تدفعه بيديها، وتصرخ أحيانًا، وهو يشد شعرها ويمزق ملابسها!
واستغرقتني الفُرجة فنسيت نفسي، ألقيت بجسمي كله على الباب فانفتح فجأة، وهب الرجل واستدار نحوي مذعورًا، وشهقت البنت وصرخت، ووقفت لحظة ملبوخًا، ثم انطلقت بأقصى سرعة إلى الطريق.
ومضى الصيف سريعًا وأنا ألعب في الحارة وأستعد لدخول المدرسة الابتدائية، وعندما جاء رمضان كدت أطير من الفرحة؛ ففي رمضان أستطيع أن أسهر كما أشاء، فلا أحد ينام، وكانت هوايتي الكبرى هي الاستماع إلى الشحاتين وهم يطوفون بالأبواب بعد المغرب، وكانت لذتي الكبرى هي الاستماع إلى بنت غجريةٍ — كما كانت تسميها أمي — تحضر إلى حارتنا بعد العشاء وتقف على كل باب، ومعها رق تضرب عليه، وتغني بصوت لم أسمع أجمل منه أبدًا، وكانت البنت جميلة ومليئة وترسم على دقنها وشمًا، وكان صوتها يسيل حزنًا وهمًّا، وكأن حنجرتها جرح يسيل، وكنت أتبعها ساعات طويلة وهي تخرج من بيت لبيت، ومن حارة لحارة حاملة الشوال الضخم على كتفها ممسكة في يدها بلقمة جافة تقضم منها كلما كفَّت عن الغناء، وكنت كلما عدت إلى البيت بعد رحلة مُضنية كهذه تستقبلني أمي بقسوة، وكانت تصرخ وهي تضربني: أنا عارفة عاجبك إيه في الغجرية دي؟ عاجبك نواحها، دي بتنوح.
وكانت أمي صادقة فقد كانت البنت تنوح، وكان نواحها جميلًا ولذيذًا، وكانت أمي تحذرني من المشي وراءها؛ لأنها غجرية وأنها ستسحبني يومًا ما وتسرح في بلاد الله، وكان هذا الخاطر يطوف بي أحيانًا، فأتمنى لو تحقق تحذير أمي وسحبتني البنت الغجرية لأتفرج على بلاد الله، فلم أكن حتى هذه السن قد خرجت من الجيزة بعد، وكنت أتخيل البلاد الأخرى شجرًا وحدائق ومخاليق مثلنا يقيم كل منهم في طبق، صورة غريبة لا أعرف لماذا رسمتها في خيالي لكل بلد آخر أسمع به، أو أسمع عليه!
وكان يعبر حارتنا أيضًا كل صباح موكب عجيب مكون من خمسة رجال أصحاء وفي منتهى القوة، ليس معهم سوى شيلة بسيطة من الكحك، يهتفون معًا بصوت منغَّم ورَخيم وقوي، ستين كحكة بقرش أبيض، وكنت أتعجب لهذا الجيش الجرار من الرجال الأقوياء الذين يحملون هذه الشيلة التي أستطيع حملها وحدي، وكنت أتفرج عليهم وأشتري منهم أحيانًا، وأتمنى من صميم قلبي أن أسرح معهم أبيع مثلهم؛ لأكون حرًّا بعيدًا عن رقابة أمي التي تلاحقني كالدَّيْدَبان؛ فلقد كنت وحيدًا، مات ابنها الأكبر وبقيت أنا مع خمس بنات، وكانت دائمة الشجار مع بناتها وشديدة القسوة عليهن، وكانت إذا صفَت أحيانًا جلست بينهن تتدرب على نطق الحروف وهجاء الكلمات، وعندما يسخرن منها تنهال عليهن ضربًا بالشبشب، ويتحول البيت إلى عويل وعواء وكأننا في حديقة حيوان، ثم تهدأ أخيرًا وتجلس فوق الكنبة تبكي وتندب حظها المنيل؛ لأنها فقدت ابنها الأكبر بينما بقيت بناتها متمتعات بالعافية والصحة!
وكان أبي يحمل معه عند العودة جريدة الصباح، وكان من عادته أن يجلس معها يقرأ لها الحوادث التي وقعت، وأخبار السياسة، والقصص، وأنباء الوفيات، وكان كلما نطق باسم ميت تقاطعه بشكل حاسم، وتحكي قصة مختلقة عن هذا الميت وأسرته وبلدته وأقربائه وأصهارهم وأنسبائهم، وهي قصة مختلقة طبعًا لا علاقة لها بالميت، وكان أبي يدرك هذا جيدًا، ولكنه كان يستمع إليها في شغف فقد كانت تجيد فن الحكاية، وكانت تبدو في أسعد لحظات حياتها عندما تحكي بلا انقطاع.
وكانت إذا قاطعها أحد، أو انبرى لتكذيب روايتها تصدت له في جنون، ولقد حدث مرة أن هتف أبي باسم ميت، فقالت على الفور: … آه، دا مِ المنوفية، من عيلة أبو مرزوق إللي مناسبين جماعة أبو الغيط، اللي تبقى مرات عبد العليم، عمة ابن أخوه، إللي إللي إللي، وهات يا كلام أكثر من ساعة، وأبي ساكت ينظر إليها في هدوء وعلى شفتيه ابتسامة، فلما سكتت تمامًا، وهدأت تمامًا، قال أبي بنفس الهدوء: لكن دا مش م المنوفية، فردت أمي على الفور: آه يبقى من عائلة أبو مرزوق بتوع الشرقية، حاكم بتوع الشرقية، وبتوع المنوفية يبقوا قرايب، ماهو محمد أبو مرزوق يبقى … ويبقى … و… و…
وقال أبي بنفس الهدوء: بس الراجل ده من فلسطين، من غزة!
وسكتت أمي فترة قبل أن تقول: ماهي غزة دي في المنوفية برضه.
قال أبي: لأ، دي بلد في فلسطين، وسكتت أمي ولم تتكلم.
ومضى الصيف سريعًا، وجاء الشتاء، وارتديت البدلة والطربوش لأول مرة في حياتي، ووضعت في جيبي قرشًا كاملًا، وخرجت من منزلي ذات صباح في عام ١٩٣٥م، في طريقي إلى المدرسة الابتدائية!