فاجعة مصارع الثيران

مع بداية فصل الصيف من عام ١٩٣٤م، كان شاعرنا يضع لمساته الأخيرة في مسرحيته الجديدة: يرما، متنقِّلًا من موضعٍ لآخَر مع مسرح «لاباراكا»، وحين كان المسرح يقدِّم عروضه في مدينة «سنتندير» في شمال إسبانيا، يصله النبأ الفاجع بإصابة صديقه الحميم «إجناثيو سانشز ميخياس» مُصارِع الثيران العظيم، في حلبة المصارعة في مدريد يوم ١١ أغسطس، ويتأثَّر لوركا تأثُّرًا عظيمًا بهذا الحادث، الذي أودى بحياة صديقه في النهاية، ويجد نفسه مرةً أخرى وجهًا لوجه أمام الموضوع، الذي ما فتئ يناوشه منذ زمن: موضوع الموت.

وقد أشار كثيرٌ من النقاد إلى ذلك الموضوع الذي شغل بال الشاعر كثيرًا، وتبدَّى في كثيرٍ من «تيمات» قصائده وصوره الشعرية، فكما ذكر بدرو ساليناس في مقالةٍ له عن موضوع الموت لدي لوركا، يكمن «الموت» في قصائده، في الأعمال الطبيعية العادية، وفي الأماكن التي لا ينتظره أحدٌ فيها، وما إن يدخل القارئ إلى عالم لوركا الشعري في قصائده ومواويله وحكاياه ومسرحياته حتى يشعر أنه ينغمر في جوٍّ غريب. إن المناظر التي يقدِّمها شعبية عادية، ولكن أجواءها تعمر بالنذر والمخاطر الخفية، وتعبرها الاستعارات والتشبيهات الشعرية كطيور الشؤم، ومصير كل الشخصيات التي يخلقها لوركا — سواء في شعره أو في مسرحياته — مآلها إلى الموت، فالمؤلف يخلقها ويضعها في طريقٍ لا يؤدي بها إلا إلى الموت، ويتبدى هذا أكثر ما يتبدى في ثلاثيته المسرحية: عرس الدم — يرما — بيت برناردا ألبا، وهذا ما يدعو إلى القول بأن رؤيا الحياة والإنسان لدى لوركا، قد تأسست على فكرة الموت، والشاعر في هوسه بهذا الموضوع وتغلغله فيه، إنما يعكس التسليم بأهمية الموت ومكانه في حياة الإسبان عمومًا، فالشعب الإسباني هو من أكثر شعوب العالم قربًا من عقيدة الموت، التي تتبدى — على مرِّ العصور — في فنونه من تصويرٍ ونحتٍ وأعمالٍ قصصيةٍ ومسرحيةٍ تدور حول هذا الموضوع، ولا عجب أيضًا أن كانت الرياضة الأولى لدى الإسبان — وهي ترجع إلى ما قبل الفتح العربي الإسلامي — هي رياضة مصارع الثيران، التي إن هي إلا تمثيل حي للصراع بين الحياة والموت، ينتهي أحيانًا بموت المصارع، وحتمًا بموت الثور …

لذلك كانت أشمل مواجهة فنية بين لوركا وبين فكرة الموت، تتصل بالقصيدة التي سطرها غداة وفاة صديقه مصارع الثيران … وكان «سانشز ميخياس» قد اعتزل حلبة المصارعة بعد نجاح باهر، ولكن هيامه بهذه الرياضة — رياضة الرجال والشجاعة ومواجهة القدر — دفعته إلى العودة إلى مضمارها، وقد بلغ من العمر الثالثة والأربعين، وهي سِنٌّ عالية يعتزل فيها المصارعون عادة عملهم … وبعد حفلاتٍ عديدةٍ ناجحة، يطلب منه أحد زملائه المصارعين أن يحل محله في مصارعةٍ بمدريد، وهي التي انتهت بإصابته بجرح بليغ من قرن ثور أسود ضخم، صارع المصارع بعده الموت لمدة يومين، ثم قضى في ١٣ أغسطس ضحية حبه لهذه الرياضة ولشجاعته أمام الثيران.

ويصيب لوركا أحزانه على صديقه في مرثيةٍ صادقةٍ من أربعةِ أقسامٍ كتبها كلها في أربعة أيام، ويتناقلها الأصدقاء والشعراء قبل أن تطبع في النهاية في كُتيِّبٍ شعريٍّ وحدها مع سوم بريشة «خوسيه كاباييرو»، وهذه المرثية من أشهر قصائد لوركا الطويلة، ونقف جنبًا إلى جنب مع المراثي الشعرية الخالدة، مثل المرثية التي كتبها «توماس جراي»، ومرثية «أدونيس» التي سطرها شيلِّي في رثاء «جون كيتس» وغيرهما، وقد نجح لوركا في تصوير جو مصارعة الثيران، مقرونًا بنفسية المصارع والجمهور، إلى حدٍّ يجعل القارئ يدخل مباشرةً إلى جوِّ الصراع الأبديِّ بين المصارع والثور، بين الإنسان والقدر، الذي يجعله دائمًا في مواجهة الموت، الذي يأتي دائمًا في النهاية:

(١) الجرح والموت

في الخامسة من بعد الظهر
كانت الساعة الخامسة تمامًا بعد الظهر
أحضر صبي الملاءة البيضاء
في الخامسة من بعد الظهر
وأعدت سلة الليمون
في الخامسة من بعد الظهر
وما تبقى هو الموت، والموت وحده
في الخامسة من بعد الظهر
وأطارت الريح القطن
في الخامسة من بعد الظهر
ونثر الأوكسيد الزجاج والنيكل
في الخامسة من بعد الظهر
والحمامة تتصارع الآن مع الفهد
في الخامسة من بعد الظهر
وثمة فخذ ذو قرن وحيد
في الخامسة من بعد الظهر
وأجراس تقرع أنغامًا محمومة
في الخامسة من بعد الظهر
أجراس زرنيخية ودخان
في الخامسة من بعد الظهر
والجماعات صامتةٌ في كل الأركان
في الخامسة من بعد الظهر
والثور وحده هو سيد الموقف
في الخامسة من بعد الظهر
حين ظهر شريان الثلوج
في الخامسة من بعد الظهر
حين غطيت الحلبة باليود
في الخامسة من بعد الظهر
وأفرخ الموت بيضًا في الجراح
في الخامسة من بعد الظهر
في الخامسة من بعد الظهر
في الخامسة تمامًا من بعد الظهر
مرقده كفن يجري على عجلات
في الخامسة من بعد الظهر
وتدق في أذنيه عظام ومسامير
في الخامسة من بعد الظهر
والثور يخور في جبهته
في الخامسة من بعد الظهر
ويملأ الأسى الغرفة بألوان قوس قزح
في الخامسة من بعد الظهر
وها هي الغرغرينة تأتي من بعيد
في الخامسة من بعد الظهر
وفي عجيزته الخضراء بوق من زنابق
في الخامسة من بعد الظهر
واحترقت الجراح كالشموس
في الخامسة من بعد الظهر
وكانت الجماهير تحطم النوافذ
في الخامسة من بعد الظهر
آه …
يا لتلك الخامسة من بعد الظهر الفظيعة:
كانت الخامسة في كل الساعات!
كانت ظلال الخامسة من بعد الظهر!

(٢) الدم المراق

لا أريد أن أراه!
قل للقمر أن يطلع
فلست أريد أن أرى دم إجناثيو على الرمال
لا أريد أن أراه!
القمر ساطع منير
جواد السحب الداكنة
وحلبة المصارعة الحلمية الرمادية
وأعواد الصفصاف في المدرجات.
لا أريد أن أراه!
ذكرياتي تحترق
أنبِّئ الياسمين ببياضه الصغير
لا أريد أن أراه!
بقرة العالم القديم
مرَّت بلسانها الخرين
على خيطٍ من الدم المراق على الرمال
وثيران «جيساندو»
نصفها موت ونصفها حجر،
تخور كقرنين
أنهكهما التطواف في الأرض
كلا،
لا أريد أن أراه!
يصعد إجناثيو الدرجات وموته على كتفيه
كان ينشد الفجر
الفجر الذي لم يكن له وجود
كان ينشد بروفيله الواثق
ويملؤه الحلم بالعتمات
كان ينشد جسده الجميل
فصادف دمه المفتوح
لا تطلبوا مني أن أراه!
لا أريد أن أسمع الفيض يخور …
فيض يضيء الدرجات
ويفيض على المخمل القطني
وجلود الجماهير الملهوفة.
من يهيب بي أن أتقدم!
لا تطلبوا مني أن أراه!
لم تنغلق عيناه حين رأى القرنين يقتربان
ولكن الأمهات المذعورات رفعن رءوسهن
وارتفعت نسمة من الأصوات الخفية
من بين حظائر الثيران
وصاحت حظائر الضباب الشاحب
في وجه الثيران السماوية
لم يكن ثمة أمير في «إشبيلية» يضارعه
ولا سيف يضارع سيفه
ولا قلب صادق كقلبه
مدهش القفزة كالنهر الأسود
مرمري الجسد بحصافةٍ بارعة
ورأسه مكلل بأجواء روما أندلسية
وعلى ابتسامة ياسمينة من اللماحة والذكاء
يا له من مُصارعٍ في الحلبة عظيم!
يا له من جبلي قح في وسط الجبال!
يا لظرفه مع سنبلات القمح!
يا لصلابته مع الجراح!
يا لرقته مع الندى!
يا لبهائه في المهرجانات!
يا لروعته في سهام الظلمة الأخيرة!
ولكن …
ها هو نام الآن نومةً أبديةً،
الآن تفتح الطحالب والحشائش
زهرة جمجمته بأصابع واثقة
والآن يأتي دمه يغني
يغني في المستنقعات والمروج
ينزلق على القرون المنحدرة
يتعثر في الضباب دونما روح
يتعثر فوق آلاف الخفوف
كاللسان الطويل المظلم الحزين
وتكونت بركة من أسى
بالقرب من نهر «الوادي الكبير»
المليء بالأنجم
آه يا جدار إسبانيا الأبيض!
آه يا ثور الأسى الأسود!
آه يا دماء «إجناثيو» المتجمدة!
آه يا بلبل عروقه الصداح!
كلا،
لا أريد أن أراه!
ليس هناك من قدح يحتويه
ليس هناك من طيور تلعقه
ليس هناك من صقيع ضوء يبرده
ليس هناك من أغاني ولا طوفان من الزنابق
ليس هناك من زجاجٍ يغطيه بالفضة.
لا …
لن أراه!

(٣) الجسد المُسجَّى

قطعة الحجر
هي الجبهة التي تنوح عليها الأحلام
وقد حرمت من المياه الملتوية والأرزات المتجمدة
قطعة الحجر
كتف يحمل الزمان
مع أشجار الدموع وأشرطة الكواكب
لقد رأيت شآبيب رمادية تهرع نحو الموجات
ترفع ذراعيها الرقيقين الملغزين
كيما تصد عنها أسر الحجر الممدد
الذي يفكك أطرافها ولا يتشرب الدماء.
الحجر يجمع الحبوب والسحب
يجمع هياكل الحدآت وذئاب الشفق
ولكنه لا يخرج صوتًا ولا بِلَّوْرات ولا نيرانًا
بال حالبات مصارعة وحلبات مصارعة
ومزيدًا من حلبات المصارعة
بدون جدران.
الآن يرقد «إجناثيو» النبيل على الحجر
لقد انتهى كل شيء، ماذا يحدث؟
انظروا إلى جسده!
لقد غطاه الموت بالكبريت الشاحب
وتوجه برأس «منياطور» أسود
لقد انتهى كل شيء
ها هو المطر يتسرب إلى فمه
ويهدر الهواء صدره الساقط في نزوة
ويدفئ الحب نفسه على قطعان الثيران
وقد أغرقته دموع الثلوج
ماذا يقولون؟
ويهبط صمت مريع
نحن هنا مع جسد مُسجًّى يذوي
مع جسدٍ نبيلٍ كان له بلابله الشادية
نراه يمتلئ بالثقوب التي لا قاع لها.
مَن ذا الذي يطوي الكفن؟
ليس صحيحًا ما يروون.
ليس هناك مَن يغني
أو يبكي في الأركان
أو ينبجس جراحه
أو يخيف الثعبان
أريد هنا أن ترى عيناي المستديرتان
جسده الذي لا راحة له.
أريد هنا أن أرى الرجال ذوي الأصوات القوية
هؤلاء الذين يصطدمون بالجياد
ويسيطرون على الأنهار
هؤلاء الرجال الذين تصلصل هياكلهم
والذين يُغنُّون بأفواه ملؤها الشمس وحجر الصوان
أريد هنا أن أراهم
أمام هذا الحجر
أمام هذا الجسد ذي الأعنة المحطومة
أريد أن يبيِّنوا لي رثاء كالنهر
بضباباتٍ عذبةٍ وشطآن منحدرة
لتحمل جسد «إجناثيو»
ويخفوه قبل أن يسمع خوار الثيران المزدوج
فليذب في حلبة القمر الدائرية
التي تتخفى في شبابها بالثور الحزين الهادئ.
فليذب في أستار الليل
دون أغاني الأسماك،
في أيكات الدخان المتجمد البيضاء.
لا تغطوا وجهه بالمناديل!
فليتعود على الموت الذي يحمله
اذهب يا «إجناثيو»
ولتنس الخوارات المحمومة
نم
حلِّق عاليًا
استرح
فحتى البحار تموت!

(٤) روح غائبة

الثور لا يعرفك
ولا شجرة التين
ولا جياد منزلك ولا غلاته
الطفل لا يعرفك
ولا الأصائل
لأنك قد مت إلى الأبد
قطعة الحجر لا تعرفك
ولا قماش الساتان الذي يلفك
ذكريات الخرساء لا تعرفك
لأنك قد مت إلى الأبد
سيأتي الخريف بأبواق الرعاة
بأعنابه الضبابية وتلاله المتجمعة
ولكن لن يريد أحدٌ أن يطل في عينيك
لأنك قد مت إلى الأبد
لأنك قد مت إلى الأبد
مثل كل موتى الأرض الآخرين
مثل كل الموتى المنسيين
في كومة الكلاب الغامضة.
لا أحد يعرفك،
لا … ولكني أغنِّي لك
أغنِّي لخلقاء وجهك وسماحتك
لتضج فهمك النبيل
لشهيتك للموت ومذاق فمه
للحزن الدفين في بهجتك الجسور.
لن يولد أندلسي في مثل نبالتك
أزمانًا طويلة
ولا في ثراء مخاطراتك
أغنِّي لهذه الجلالة بكلماتٍ كالأنين
وأذكر نسمةً حزينةً هفت بين أشجار الزيتون.

ومضى لوركا بعد فراغه من وضع قصيدة مُصارِع الثيران، يعمل في مسرحيةٍ جديدةٍ هي «الآنسة روزيتا العانس أو لغة الزهور»، ويشرف على إعداد مسرحية «يرما» للعرض على المسرح، ويبدأ عرض تلك المسرحية يوم ٢٩ ديسمبر ١٩٣٤م في المسرح الإسباني بمدريد، بفرقة الممثلة «مرجريتا شيرجو».

وفي مسرحية «يرما» — كما في سابقتها «عرس الدم» — يعالج الشاعر موضوعًا ريفيًّا، وبطلها غير المنظور هو جو الاختناق والحصر والحسد، الذي كان يسود حياة الريف الإسباني أيامها، وبطلة المسرحية — يرما — تعيش مأساة تتمثل في عقم زوجها، وينشأ الصراع الدرامي من الزواج الذي لا ترى فيه زوجته سوى الأنثى التي تشبع رغبته، ومن يرما التي لا ترى فيه إلا الأب الذي يجب أن يهبها ابنًا، وتتفاعل عواطف الزوجة التي تحلم بالابن من إحساسها الديني، الذي يحملها على الأمانة والإخلاص بين الزوجين، فهي لا تحب أن تخون زوجها لتشبع نهمها إلى الإنجاب، وتفضل في النهاية أن تقتل زوجها العقيم، في مشهدٍ بلغ ذروته من العنصر الدراميِّ العنيف، إذ نرى فيه مأساة حياتها التي ترغب في إنهائها بإنهاء حياته، وهي إذ تقتله فإنما تقتل نفسها روحيًّا ورمزيًّا في نفس الوقت، إذ إنها بقتله تقتل كلَّ أمل لها في الإنجاب، الذي تراه هو هدف حياتها وسبب وجودها.

ومسرحية يرما هي أول تراجيديا للمؤلف تقوم على قاعدة عريضة من الواقعية الدرامية، فبينما يسيطر على شخصيات «عرس الدم» شعورٌ مشتركٌ بالمشاطرة في قدر تراجيدي، يقع كل العبء التراجيدي في «يرما» على شخصيةٍ واحدةٍ تتحمله وحدها، وهي البطلة يرما … ويرى الناقد الأمريكي «أدوين هونيج» أن «يرما» هي أعظم إنجاز في مسرح لوركا كله من الناحية الأخلاقية والدرامية على حدٍّ سواء، وأن شخصية «يرما» ترتفع من مجرد رمزٍ لمشكلةٍ إنسانيةٍ إلى تجسيدٍ حيٍّ لشخصيةٍ تراجيدية، لها كل الأبعاد الدرامية المطلوبة.

وغداة الاحتفال بمرور مائة ليلةٍ على عرض المسرحية، يصرِّح لوركا لأحد الصحفيين بحديثٍ يشكِّل الآن لغزًا أدبيًّا في حياة الشاعر، إذ إنه يقول إنه قد انتهى تقريبًا من الجزء الثالث من الثلاثية الدرامية وهو باسم «دمار سدوم»، ويقفز الآن سؤالٌ عن ذلك العمل المسرحي، إذ إن لوركا لم يقرأه على أحدٍ من أصدقائه، كما أنه لم يخلف وراءه أي مخطوطٍ يحمل ذلك الاسم، فهل يا تُرى كان يلمح عند ذكره للجزء الثالث إلى مسرحية «بيت برناردا ألبا»، التي تُعد بالفعل الحلقة الثالثة في ثلاثيته الأندلسية؟ أم أنه كان يقصد به عملًا آخَر مفقودًا الآن؟ وثمة احتمالٌ آخَر، هو أن ذلك العمل كان لا يزال مجرد فكرة في ذهن الكاتب، حمله حماسه المعروف عنه إلى الإعلان عن قرب انتهائه منه، ذلك أننا نجده يصرِّح في حديثٍ له نشر في مجلة «الصوت» في ١٨ فبراير ١٩٣٥م أنه يخطِّط لعديدٍ من «المسرحيات الدرامية ذات الطابع الإنساني والاجتماعي، وثمة مسرحية منها تناهض الحرب»، كما أنه يتحدث أيضًا عن مشروع عملٍ أدبي آخر عن القديسة الصوفية «سانتا تيريزا»، غير أن الوقت لم يُتِح له ولا المزيد من العمر كيما يحقِّق تلك المشروعات الأدبية، وفي نفس تلك المقابلة الصحفية، نجده يقول عن مهنته: «أحيانًا، حين أرى ما يحدث في الدنيا، أتساءل لماذا أكتب؟ ولكن … يجب الاستمرار في العمل، والمضي فيه قدمًا، العمل، ومد يد المساعدة إلى مَن يستحق، العمل حتى ولو ظن المرء أنه يعمل بلا طائل، العمل كشكلٍ من أشكال الاحتجاج، ذلك أنه يقيم العمل، فليس أمام المرء إلا أن يصرخ كل يوم عند الاستيقاظ من النوم، في عالمٍ مليء بالظلم والبؤس من كل شكلٍ ونوع: إني أحتج! إني أحتج! إني أحتج!»

وتزخر المسارح الإسبانية في ربيع عام ١٩٣٥م بمسرحيات لوركا المختلفة، ويجد الشاعر نفسه وفنه يعود عليه لأول مرةٍ بالكسب المادي الذي يفيض عن حاجته، ولكنه كان ينفق كل ما يصل إلى يده من مال، وكان يراوده حلم لم يتمكن آخر الأمر من تحقيقه، وهو أن يكون له بيت خاص به، يشيده ويؤثثه على ذوقه، يكون مواجهًا للبحر الأبيض في شاطئ مالقة، بيد أنه يظل قاطنًا شقته الجميلة، ١٠٢ شارع القلعة بمدريد، التي تغمرها الشمس، في طابقٍ عال، وذات شرفات على الجانبين، حيث كان يعيش سعيدًا، يستقبل زواره من الأدباء والفنانين بالبيجامة صيفًا وبالروب دي شامبر شتاء!

وتعبر شهرة لوركا حدود العالم الإسباني إلى فرنسا وإنجلترا، حيث يذيع راديو باريس ترجمة لمسرحية يرما، وتصدر ترجمة إنجليزية لمسرحية «عرس الدم» تحت عنوان: Bitter Oleander.

وزمانه، في عام ١٨٨٥، ثم الشخصيات الأساسية في المسرحية: العم، الذي يهتم باستنبات الورود في الخيمة الزجاجية، التي أنشأها في منزله، والعمة التي تدير شئون المنزل بمساعدة المديرة التي تعلق على كل ما يحدث من حولها، ثم يتعرف القارئ على روزيتا، وعلى خطيبها الذي يشكل عنصر المأساة، إذ يضطر إلى السفر إلى أمريكا الجنوبية تنفيذًا لمطلب أبيه؛ كيما يساعده في أعماله هناك، إلا أنه يعد العمة وروزيتا نفسها بالعودة سريعًا لإتمام الزواج، وفي الفصل الثاني، يكون قد مرَّ خمس عشرة سنة، لم تغير من روزيتا إلا مظهرها الخارجي، ولكنها لا تزال تنتظر خطيبها المسافر، وقد توقف الزمن بالنسبة إليها عند اللحظة التي سافر فيها الخطيب، ولم تعد تعيش إلا في فكرة حضوره للزواج منها، وتمضي في ترتيب أمور العرس والإعداد له، وينتهي الفصل بوصول خطاب من الخطيب بعدم استطاعته الحضور، وأنه لذلك يعرض استعداده لعقد قرانه على روزيتا «بالتوكيل» إلى حين حضوره، ويبدأ الفصل الثالث بعد مرور عشر سنوات أخرى، والوقت خريف موحش، وما زالت روزيتا ترتدي ملابس وردية وتتابع الأزياء الحديثة، بيد أنها تعرف جيدًا أن الشباب قد ولى من بين يديها، والخطيب لم يتزوجها بالتوكيل أو بغيره، ولم يعد ولن يعود أبدًا … وفي هذا الفصل تعلم أن العم قد مات، وأن العمة والمديرة قد نالت منهما الشيخوخة، وهما يتحسران على مصير روزيتا، فقد علمتا منذ شهور فقط أنه قد تزوج من امرأةٍ ثرية في أمريكا الجنوبية منذ ثماني سنوات، وهما قد أخفيا ذلك عن روزيتا ثم نكتشف أنها تعلم ذلك من قبل، وتطلق روزيتا كل أحاسيسها بالإحباط واليأس في حديثٍ طويل إلى عمتها، وتعترف لها بأنها كانت تعلم كل شيء عن زواج الخطيب، وتصور نفسها وقد توقف الزمن بالنسبة لها، بينما صديقاتها يتزوَّجْن ويُنجِبن أطفالًا يزورونها وينادونها بالآنسة روزيتا، وينحلُّ المنزل أطلالًا؛ فقد كان العم قد ارتهنه قبل وفاته فلا مفر من بيعه، ويخرج سكانه تحت جنح الظلام، بينما الريح يعصف كأنما يشارك روزيتا حزنها وقنوطها.

وهذه المسرحية هي أشد مسرحيات لوركا رقة وشاعرية، نظرًا لموضوعها الرومانسي الحزين، ويذكر ويساهم لوركا في أول عدد من المجلة الأدبية/ التي يصدرها «بابلو نيرودا» في مدريد تحت اسم «فرس الشعر الأخضر»، بقصيدةٍ من القصائد التي نشرت فيما بعد في ديوان «شاعر في نيويورك»، وعنوانها «ليلية الفراغ»، ثم ينتقل الشاعر في خريف ١٩٣٥م إلى برشلونة، حيث يحضر افتتاح مسرحية «الآنسة روزيتا العانس»، التي قدمتها فرقة «مرجريتا شيرجو» هناك، ويشارك أثناء وجوده في برشلونة في عديدٍ من المهرجانات الفنية والأدبية، منها مظاهرة فنية تأييدًا للسجناء السياسيين، ومهرجان لتكريم ذكرى الموسيقار الإسباني الشهير «إسحق ألبنيتز»، حيث دبج الشاعر قصيدةً باسمه قرأها أمام مقبرته في تل «موتخويش» ببرشلونة.

ومسرحية «الآنسة روزيتا العانس» أول مسرحية للوركا تحمل عنوانًا إضافيًّا، هو «لغة الزهور»، وقد وصفها مؤلفها بأنها «قصيدةٌ غرناطية عن عقد التسعينيات (من القرن التاسع عشر)، تنقسم إلى عدة بساتين وبها مناظر غناء ورقص»، والمسرحية من ثلاثة فصول، يقدم لنا الفصل الأول مكان الحدث وهو غرناطة، جو الكآبة والشجن فيها بجو مسرحيات «تشيكوف» خاصة «بستان الكرز».

وكانت «الآنسة روزيتا العانس» هي آخر مسرحية تعرض على المسرح في حياة مؤلفها، ذلك أن مسرحياته الأخرى، ومنها «بيت برنارد ألبا»، لم تعرض لأول مرة إلا في عام ١٩٤٥م، في المكسيك، كما سنرى بعد ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤