١٩٣٦

ويحل عام ١٩٣٦م، وهو عام حاسم في تاريخ إسبانيا وهي حياة شاعرنا، إذ شهدت البلاد فورانًا هائلًا زاخرًا بالأحداث الجسام التي أدت في النهاية إلى مصرع الشاعر، ولما كانت «قضية» مصرع لوركا قد نالت من الاهتمام والبحث قدر ما ناله شعره ومسرحه، فسوف نعرض بشيءٍ من التفصيل للأحداث التي أدت إلى تلك النهاية.

في ربيع ١٩٣٦م، كان قد مرَّ على الجمهورية الإسبانية الوليدة خمسة أعوام شهدت تقلبات عديدة، فمنذ ولادة الجمهورية عام ١٩٣١م وحتى عام ١٩٣٣م، تولى الحكم برلمان اشتراكي يساري، ولكن انتخابات عام ١٩٣٣م أعادت القوى الملكية التقليدية المحافظة إلى الحكم مرةً أخرى في ظل الجمهورية، وكان سبب انتصار القوى المحافظة راجعًا إلى ثلاثة عوامل جوهرية: أولها، أن قانونًا صدر عام ١٩٣١م منح المرأة حق الانتخاب لأول مرة في إسبانيا، فصوتت معظم النساء الكاثوليكيات المحافظات ضد القوى اليسارية التقدمية، وثانيها، أن الانتخابات كانت تتم عن طريق نظام «القوائم» للمرشحين، وكل دائرة انتخابية لها عدد محدد سلفًا من المقاعد لكل من الأغلبية والأقلية، ففي دائرة مدريد مثلًا، كان هناك ١٧ مقعدًا، منها ١٣ للأغلبية و٤ للأقلية، وفي غرناطة ١٠ مقاعد للأغلبية و٣ مقاعد للأقلية، وهكذا في كل الدوائر، وهذا يعني أنه بالرغم من حصول أحزاب الأقلية على أعدادٍ كبيرة من الأصوات، إلا أنها لا تمثل في البرلمان إلا بتلك المقاعد المحجوزة لها سلفًا، وثالث تلك العوامل، أن أحزاب المعارضة، من ملكيين ومحافظين ومتدينين، قد تعلمت جيدًا من درس انتخابات ١٩٣١م، ووحدت من صفوفها في الانتخابات الجديدة، برغم الخلافات الشديدة التي تقوم فيما بينها في داخل الإطار المحافظ، في حين أن الأحزاب الجمهورية والتقدمية لم تدخل تلك الانتخابات كجبهةٍ متحدة، بل كأحزاب متصارعة متنافسة، مما جعلها تخسرها، وعمدت حكومة عام ١٩٣٣م المحافظة إلى هدم معظم ما بنته الحكومة الجمهورية الأولى، مما أثار حفيظة الطبقات العمالية والفقيرة في طول البلاد وعرضها، وأدى ذلك — ضمن جملة أمور — إلى حدوث تمردٍ خطير، قام به عمال مناجم الفحم في إقليم «أشتورياس» بشمال إسبانيا، قامت الحكومة المحافظة بقمعه في شدةٍ وقسوة وصرامة، أثارت مزيدًا من السخط عليها، وظل الموقف متوترًا على هذا النحو بين شد وجذب، إلى أن جرت انتخابات جديدة في فبراير ١٩٣٦م، انتصرت فيها الجبهة الشعبية المكونة من اتحاد الأحزاب التقدمية، انتصارًا ساحقًا تحت ظل نظام القائمة السابق الإشارة إليه، فرغم أن عدد الأصوات التي حصلت عليها الجبهة الشعبية هو ٤٧٠٠٠٠٠ وأصوات الجبهة الوطنية المحافظة هو ٣٩٩٧٠٠٠، إلا أن عدد المقاعد التي منحت للفائز هي مقاعد الأغلبية المطلقة.

وفي الفترة الواقعة بين تاريخ هذه الانتخابات في فبراير ١٩٣٦م، و١٨ يوليو ١٩٣٦م تاريخ الانقلاب العسكري الملكي المحافظ، كانت البلاد بطولها وعرضها مسرحًا لحوادث التوتر بين الجبهتين الرئيسيتين: التقدمية والمحافظة، وكان يمثل التقدميين المنظمتان العماليتان الرئيسيتان وهما: CNT أي «الاتحاد القومي للعمل»، وهي ذات ميول فوضوية، وUGT أي «الاتحاد العام للعمال»، وهو حزب اشتراكي، ثم الشيوعيون، أما في حزب اليمين المحافظ، فقد برز حزبان رئيسيان عملا جنبًا إلى جنب رغم العداء والخلاف الدفينين بينهما: «الفالانج» أي الكتائب التي أسسها عام ١٩٣٣م «خوسيه أنطونيو بريمو دي ريفيرا» ابن دكتاتور إسبانيا السابق، وحزب «سيدا» بقيادة «خيبل روبليس»، الذي كان يركز على العنصر الديني ويبرزه.

وما إن تولت الحكومة التقدمية الحكم بعد انتخابات فبراير ١٩٣٦م، حتى عمدت إلى العودة بالبلاد إلى الوضع الاشتراكي والقوانين الاشتراكية، ولكن ذلك بالطبع لم يُرضِ الجانب الآخر، جانب المحافظين والأثرياء ومالكي الأراضي، فبدءوا حملةً منظمة ضد أقطاب الأحزاب التقدمية، وفي البداية، رد العمال والفلاحون على أول الاغتيالات التي أصابت زعماءهم بالإضرابات والمسيرات ضد قوى الرجعية ولك، حين استمرت سلسلة الهجوم والاغتيالات، ازداد السخط الشعبي، وبدأ التقدميون يردون بالمثل، واتسعت الهوة السحيقة التي تفصل بين الجانبين، وأخذت تزداد اتساعًا مع كل يومٍ يمر.

وفي ظل هذه الحالة، يجري في ١٢ يوليو ١٩٣٦م اغتيال أحد أفراد حرس الهجوم — وهي فرقة حكومية جمهورية — على يد مجهولين يظن أنهم من حزب «كفالانج»، وفي ١٣ يوليو، يريد الجمهوريون اغتيال قطب من أقطاب الملكيين هو «كالفو سوتيلو»، وتعم البلاد موجة من الاستياء والغضب والرهبة، بينما يظل مجلس الوزراء في حالة انعقاد دائم، في محاولة للسيطرة على الموقف، وتحسُّبًا لأي انتقام يمكن أن يقوم به الملكيون، ردًّا على تلك الضربة القاصمة، وفي وسط هذا الجو المشحون بالتوتر والانتظار، ونذر الخطر التي تحيط بالجمهورية الوليدة، يقع الانقلاب العسكري الملكي.

ففي ١٨ يوليو ١٩٣٦م، يلقي الجنرال «فرانسيسكو فرانكو» بيانًا من إذاعتي «جزر الكناري» ومراكش الإسبانية، آنذاك، معلنًا قيام «الحركة الوطنية»، طالبًا من جميع الإسبان الوطنيين الانضمام إليه، وكان التمرد الانقلابي قد بدأ أساسًا — بتدبير سابق مُعَد له سلفًا إعدادًا محكمًا — في حامية مدينة «مليلة» في المغرب، تعاونها الفرقة العسكرية الإسبانية الرابطة هناك، وحدث تمرد مماثل في «سبته» و«تطوان» بنفس القدر من النجاح، وبات المغرب الإسباني كله وجزر الكناري تحت إمرة قادة الانقلاب، الذين بدءوا الاستعداد لنقل التمرد إلى أرض الوطن ذاته …

وفي البداية، أذاعت الحكومة الجمهورية نبأ وقوع تمرد في مراكش الإسبانية — وهو ذلك الجزء من أراضي المغرب التي كانت تحتله إسبانيا آنذاك — ولكنها أكدت سيطرتها على الموقف في أراضي الوطن، وأنها بصدد سحق التمرد، ولكن كان قد خفي على القائمين بالأمر في حكومة الجمهورية تواطؤ كثير من القادة العسكريين في كثير من المدن الإسبانية الرئيسية للقيام بتمرد في وقت واحد … وهكذا سيطر «الجنرال كييبو دي يانو» على حامية «أشبيلية»، مما أسقط المدينة كلها في قبضة الانقلاب، وحدث بعد ذلك نفس الشيء في عددٍ من كبريات المدن، بقدرٍ متفاوت من النجاح والفشل، وكان هذا النجاح والفشل هو الذي قسم البلاد إلى قسمين، يكادان يتعادلان قوة: جانب الجمهوريين الذين قاتلوا التمرد دفاعًا عن الشرعية، وجانب الملكيين — الذين اتخذوا اسم الوطنين — الذين قاتلوا دفاعًا عن الملكية والقوى المحافظة من كنيسة ومالكي أراض وجنرالات، وقد انضم إلى جانب الجمهوريين كل طوائف اليساريين والاشتراكيين والشيوعيين والفوضويين.

وكان هذا التعادل في القوى هو الذي أشعل الحرب الأهلية بين الطرفين، وجعلها تستمر ثلاثة أعوام إلا قليلًا، في حربٍ بين الأخ وأخيه، عرفت بأنها أبشع حرب أهلية في التاريخ وأشدها قسوة وضراوة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤