غرناطة ولوركا

في قمة الأحداث التي سردناها سابقًا، وجد الشاعر نفسه يوم ١٨ يوليو ١٩٣٦م في بلدته، يقضي الصيف كعادته في منزل العائلة بالفيلا المسماة ﺑ «ستان سان فيسنت» في ضواحي غرناطة، كان قد حسم لتوه مشروعًا كان يمكن أن يغير مجريات الأحداث التي انتهت به إلى غاية فاجعة، ذلك أن فرقة «مارجريتا شيرجو» المسرحية كانت تُعد لجولة في أمريكا اللاتينية في فترة الصيف تبدأها بالمكسيك، وعرضت على الشاعر أن يسافر برفقتها إلى هناك، ورغم أنه كان قد قبل الفكرة مبدئيًّا، إلا أنه ألغى المشروع بعد ذلك، مفضلًا البقاء في إسبانيا للانتهاء من أعماله الأدبية المعلقة، والإشراف على إخراج الأعمال المسرحية التي كانت توشك على أن ترى النور، وهكذا أنفذ القدر كلمته، وبقي لوركا في وطنه في تلك الفترة المضطربة، كيما يواجه مصيره المحتوم.

ورغم أن الشاعر كان بعيدًا كل البعد عن المشاركة السياسية، أو الانحياز صراحة إلى أيٍّ من الأحزاب السياسية المتصارعة آنذاك، إلا أن ثمة أعمالًا اشترك فيها قد حسبت عليه بعد ذلك، رغم أنها مواقف إنسانية تنبع أساسًا من حب الإنسانية والحيرة، ومن بين هذه الأعمال ما يلي:
  • إن الشاعر — عند مشاركته في الحفل الذي أقيم لتكريم زميله «رافاييل ألبرتي» بمناسبة عودته من زيارة لروسيا — قد ألقى بيانًا للكتاب الإسبان ضد الفاشية.

  • انضمامه إلى الموقعين على بيان للاتحاد العالمي للسلام.

  • توقيعه على رسالة موجهة إلى رئيس جمهورية البرازيل، تطلب العفو عن القائد الثوري البرازيلي «لويس كارلوس برستس».

  • إدلاؤه بحديث إلى مجلة «المساعدة» لسان حال عصبة عمالية شيوعية.

  • اشتراكه في تكريم ثلاثة أدباء فرنسيين يمثلون الجبهة الشعبية في بلادهم، وهم: «أندريه مالرو» – «جان كاسو» – «لي نورمان».

  • الإعلان عن اشتراكه في حفل لتكريم «مكسيم جوركي» الكاتب الاشتراكي السوفيتي المعروف.

إن مثل هذه النشاطات العادية التي تنم عن حس إنساني عام، وروح الأخوة بين زملاء المهنة الفكرية الواحدة، يمكن أن تفسر في ظل ظروف متغيرة تفسيرات ملتوية، تلائم النفس المتعصبة ضيقة الأفق التي ملأها الحقد والغيرة سمًّا زعافًا، وكان هذا في الواقع هو ما حدث فعلًا، وأحداث ذلك الصيف الدامي من عام ٣٦ دليل واضح على ذلك، ورغم أن ما حدث للشاعر بعد وقوع الانقلاب الملكي في ١٨ يوليو ١٩٣٦م، يلفه تيار من الشك والغموض والأساطير، وتعرض لتفسيرات عديدة متناقضة، إلا أنه يمكن استخلاص سير الحوادث على النحو التالي:

منذ إعلان الجمهورية في إسبانيا عام ١٩٣١م، شهدت غرناطة صراعات عديدة بين ملاك الأراضي الإقطاعيين، الذين يسيطرون أيضًا على صناعات السكر في المنطقة الزراعية من غرناطة، وبين الفلاحين والعمال المنضوين تحت لواء الحزب الاشتراكي «الاتحاد العام للعمال»، وقد رأى هؤلاء الإقطاعيون في الجمهورية خطرًا يتهدد وضعهم وثرواتهم وامتيازاتهم، فقرروا الانضواء تحت حزب من الأحزاب الملكية هو حزب «العمل الشعبي» الذي كان فرعه في غرناطة يصدر جريدة تعبِّر عنه باسم «إيديال»، التي أصبحت لسان حال تلك الطبقة، وكان في مقابلها الجريدة التي تعبِّر عن آراء الاشتراكيين والمثقفين في غرناطة، وهي «الحامي» التي يرجع تاريخ صدورها إلى عام ١٨٧٩م، وكان اليمينيون المحافظون يكسبون في الغالب الانتخابات في المناطق الزراعية، حيث ملاك الأراضي ودهاقنة الإقطاع يضغطون على الفلاحين، كيما يصوتوا لصالح المرشحين اليمينيين، على الرغم من فوز اليساريين في حواضر تلك الأقاليم، كمدينة غرناطة مثلًا، مما كان ينتهي إلى فوز اليمينيين بمقاعد الأغلبية المخصصة للإقليم كله في البرلمان، بينما يحوز اليساريون مقاعد الأقلية، وقد شهدت الأعوام من ١٩٣١م حتى انقلاب ١٩٣٦م مصادمات عنيفة، ومناوشات لا تنتهي بين الفريقين وصحيفتيهما.

وفي انتخابات فبراير ١٩٣٦م التي فازت فيها الجبهة الشعبية اليسارية بصفة عامة، فاز اليمينيون فوزًا حاسمًا في غرناطة، ولكن المرشحين التقدميين طعنوا في صحة الانتخابات في غرناطة، وطالبوا البرلمان بإلغائها وإجراء انتخابات جديدة هناك، ووافق البرلمان على ذلك وتم إجراء انتخابات جديدة في ٣ مايو ١٩٣٦م، أسفرت عن فوز اليساريين بجميع المقاعد المتخصصة لغرناطة في البرلمان، وما يهمنا في هذا الشأن أن من بين المرشحين اليمينيين الذين فازوا في الانتخابات الأولى الملغاة، كان النائب المدعو «رامون رويث ألونصو»، الذي سيرتبط اسمه ارتباطًا وثيقًا بأحداث اعتقال لوركا وإعدامه كما سنرى لاحقًا.

وقد أدى ابتعاد اليمينيين تمامًا عن تمثيل مدينتهم في البرلمان إلى توحيد صفوفهم، والإعداد سرًّا للانتقام بتخزين الأسلحة والتحضير للاستيلاء على الحكم بالقوة، كما أن ذلك عزز موقف «الفالانج» داخل اتحاد الأحزاب اليمينية، وانتصار رأيه بضرورة استخدام العنف لصد المد اليساري والشيوعي، وزاد في تسهيل مهمة اليمينيين بعض الانشقاق الذي وقع بين فروع الأحزاب التقدمية في غرناطة حول تعيين عمدة للمدينة، وهو بمثابة المحافظ، ولم تجد هذه الأحزاب حلًّا إلا في اختيار الدكتور «مانويل مونتسينوس» الاشتراكي، عمدة لغرناطة، وجدير بالذكر أن «مونتسينوس» هذا هو زوج «كونشا» شقيقة لوركا، ولم يشغل منصبه ذاك سوى عشرة أيام، إذ إنه كان من أوائل الأشخاص الذين أعدموا غداة الانقلاب الملكي.

وقد شهد تاريخ إسبانيا منذ أواخر القرن التاسع عشر، أن الجيش كان هو العامل الحاسم في ميدان السياسة، وأن أي تغيير سياسي كبير يبدأ بانقلاب عسكري، مثلما جرى الحال في صعود الجنرال بريمو دي ريفيرا إلى السلطة في عام ١٩٢٣م، ثم صعود فرانكو بعد ذلك عام ١٩٣٩م؛ ولذلك فإنه بعد الإعلان عن تمرد القوات الإسبانية في المغرب وفي بعض المدن الإسبانية، ونجاحها في السيطرة على عدد من هذه المدن، ومنها إشبيلية التي تتبعها غرناطة عسكريًّا، شاع الاضطراب في أرجاء الجو السياسي في غرناطة، وتطلعت الأنظار إلى الحامية العسكرية المرابطة فيها، وكان على رأس هذه الحامية الجنرال «ميجيل كامبنز»، الذي أعلن ولاءه للجمهورية، ولكن معظم مساعديه من الضباط كانوا متورطين حتى أقدامهم في المؤامرة الانقلابية دون أن يدري هو بذلك، ورغم أن عدد أفراد «الفالانج» والمنظمات اليمينية المماثلة في غرناطة كان محدودًا بالنسبة إلى عدد العمال والفلاحين، إلا أن تخوف قادة المدينة الجمهوريين من توزيع السلاح على الشعب للدفاع عن الجمهورية وإصرارهم على عدم اتخاذ هذه الخطوة، أدى إلى انفساح المجال أمام اليمينيين بما كانوا قد خبأوه من أسلحة.

وهكذا، ففي وسط الانتظار والترقب في غرناطة، انتهز المتآمرون في يوم ٢٠ يوليو فترة القيلولة التي تتعطل فيها الأعمال، ويهجع الناس هنيهة بعد الغداء — خاصة في جوِّ غرناطة الشديد الحرارة في الصيف، فأنزلوا قواتهم إلى المدينة واحتلوا المواقع الهامة فيها، ونصبوا المدافع في الميادين والطرق الرئيسية، واضطروا الحاكم العسكري إلى إصدار بيان يعلن حالة الحرب، وأقالوا الحاكم المدني وعينوا بدله الضابط «خوسيه فالديس»، الذي أصبح منذ ساعتها مسئولًا عن المدينة وأرباضها وعن تطهيرها من كل العناصر المعارضة للملكية أو المشكوك في ولائها لها، عن طريق حمام دم غطى المنطقة كلها بالرعب والفزع، وما إن سيطر الموالون للانقلاب على مقاليد الأمور، حتى تصدوا لهذه العملية التطهيرية، التي بدأت بقصف وحشي على تجمعات العمال والفلاحين، التي لجأت إلى حي «البيازين» الشعبي العربي القديم تحتمي به وتتحصن فيه، وانتهى الأمر بسحق هذه التحصنات واعتقال معظم المدافعين وإعدامهم بعد ذلك.

وما إن حلت ليلة ٢٣ يوليو حتى كانت المدينة كلها في يد اليمينيين، الذين بدءوا في الحال حمام دم لمعارضيهم السابقين، في مذبحة كبرى أودت بكثير من الأبرياء، وانتهزها بعض ضعاف النفوس من المنتصرين لصبِّ شرورهم الرخيصة والتنفيس عن أحقادهم الدفينة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤