الجريمة كانت في غرناطة

في الخامسة من بعد ظهر ١٨ أغسطس، وكان رجال الأسرة «روساليس» كلهم غائبين عن المنزل، يدق جرس الباب، ويتقدم أحد الأشخاص — هو بالتحديد «رامون رويث ألونصو» سالف الذكر — يطلب اصطحاب لوركا! وتحاول سيدة المنزل الاحتجاج، ولكن «ألونصو» يصر على أنه لا خطأ في الأمر، وأن لوركا مطلوب في مبنى المحافظة.

وتتضارب الأقوال في ظروف القبض على لوركا في منزل عائلة «روساليس»، إذ يشهد ألونصو نفسه — وهو لا يزال على قيد الحياة الآن — بأنه قد ذهب هناك لاستدعاء الشاعر بناءً على أمر من نائب المحافظ، وبعد أن اصطحب معه «خوسيه روساليس» نفسه، ولكنَّ شهودًا آخرين يؤكدون أن «ألونصو» قد ذهب إلى المنزل، يصحبه عدد كبير من الجنود المسلحين، الذين أحاطوا بالمنزل وبالطرق المجاورة لمنع أية إمكانية لهرب الشاعر! ويؤكد «إيان جيبسون» في كتابه الموثق عن مصرع لوركا، وفترة الرعب التي شهدتها غرناطة في ١٩٣٦م، إن أكثر الروايات مصداقية عن ذلك هي رواية «ميجيل روساليس»، ويحكي «ميجيل» أنه حين وصلت التجريدة المسلحة للقبض على لوركا، لم يكن في المنزل أيٌّ من رجال الأسرة، فرفضت الأم تسليم لوركا لألونصو، وأصرت على أن يذهب أولًا إلى ميجيل ليخبره بذلك، ويذهب ألونصو لميجيل في قيادة «الفالانج» حيث كان يعمل، ويبرز له أمرًا من المحافظة بالقبض على لوركا، ويعود «ميجيل» معه إلى المنزل حيث يصطحبان لوركا معهم إلى مبنى المحافظة، بعد أن تأكد ميجيل من عبث أي اعتراض أو جدال أو مقاومة، موقنًا بإمكانية شرح الموضوع للمحافظ نفسه وحله معه.

وحين يصلون إلى مبنى المحافظة، ويجدون المحافظ متغيبًا، ويتم إيداع لوركا في إحدى حجرات الاحتجاز انتظارًا لوصوله … وحين يعلم الشاعر الصديق «لويس» بأمر اعتقال صديقه، يطير إلى مبنى المحافظة حيث يحرِّر مذكرة بالموضوع أمام نائب المحافظ، ويبرِّر فيها في نفس الوقت الأسباب التي دعته إلى استضافة لوركا في بيته، ويحكي «لويس» عن مواجهة حدثت بينه وبين «رويث ألونصو» عند تحرير المذكرة، قال فيها «ألونصو» أنه قبض على لوركا تحت مسئوليته الخاصة، متهمًا إياه بأنه قد سبَّب أضرارًا بشِعره أكثر مما سببه غيره من أضرار بأفعالهم!

ويعود «خوسيه» في اليوم التالي لمقابلة المحافظ، الذي يخبره أنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا؛ لأن لوركا ليس موجودًا في المحافظة ولا يدري أين هو، ولكن المحافظ «فالديس» كان يكذب، إذ إن لوركا كان وقتها مُودَعًا في إحدى حجرات المحافظة أُعِدَّت كزنزانة، وقضى فيها ثلاثة أيام من ١٦ إلى ١٨ أغسطس، وتشهد بذلك مربية أسرة لوركا التي ذهبت تحمل له طعامًا وملابس وسجائر، وشاهدته مرةً في تلك الزنزانة العارية من الأثاث، إلا من مائدة عليها محبرة وقلم وورقة، بينما كان ثمة رجل أمامه يردد: «يا لعار الابن، يا لعار الأب!» والحراس على باب الحجرة شاكي السلاح، وتقول المربية إن لوركا هتف بها حين رآها: «أنجلينا … أنجلينا … لماذا أتيتِ هنا؟» فردت عليه بأن والدته قد أرسلتها إليه.

وفي ١٩ أغسطس، حين ذهبت «أنجلينا» بسلة الطعام للسجين، قال لها الحراس إنه لم يعُد موجودًا بالمحافظة، وأنهم لا يعرفون عنه أي شيء، ولم يعرف أحدٌ ما حدث على وجه التحقيق، ولكن كل الشواهد تدل على أن لوركا قد بقي في مبنى المحافظة، حتى نقل فجر ١٩ أغسطس إلى المكان الذي تم إعدامه فيه.

وقد بدأت مساعٍ كثيرة خلال تلك الأيام لإنقاذ الشاعر، منها محاولة الموسيقار «دي فايا» التوسط من أجله عن طريق بعض شباب «الفالانخ» الذين كان على صلةٍ بهم، ويُحكى أنه ذهب معهم إلى المحافظة صباح ١٩ أغسطس، ثم عاد واحدٌ منهم متجهِّم الوجه ليخبره بأن الأمر قد خرج من أيديهم، إذ إنه قد تم إعدام الشاعر في فجر نفس اليوم!

وتفاصيل ما حدث، كما يذكر المؤلف «جيبسون» سالف الذكر، هو أن الكولونيل «فالديس» محافظ غرناطة، قام بالتوقيع على حكم إعدام لوركا بعد اتصالاتٍ أجراها برئيسه المباشر «كيبو دي يانو» قائد إشبيلية التي تتبعها مقاطعة غرناطة، واقتيد الشاعر مع مجموعة من المحكوم عليهم مثله من مبنى المحافظة إلى قرية على مشارف المدينة تدعى «فرنار»، بها مبنى يسمى «لاكولونيا» أي المستعمرة، حولته قيادة الانقلاب إلى سجن يودع فيه المحكوم عليهم بالإعدام المرسلون من غرناطة، وكان المدانون يصلون عادةً إلى «المستعمرة» حوالي الواحدة أو الثانية صباحًا، فيحبسونهم في الطابق السفلي حتى الفجر، وكانوا يسمحون لمَن يريد منهم الإدلاء بالاعتراف الأخير إلى قسيس القرية، وعند الفجر، يقود الحراس المحكوم عليهم بالإعدام إلى مكانٍ حول السجن، حيث يطلقون عليهم النار، ويتركونهم حيث يسقطون، إلى أن يرسلوا بعد ذلك بفرقةٍ عهدوا إليها دفنهم جماعيًّا في الأماكن التي سقطوا فيها.

وتشير كل الدلائل إلى أن هذا هو ما حدث مع لوركا، فبعد أن قضى ساعات قليلة في سجن «المستعمرة»، اقتيد في الفجر بصحبة المُقرَّر إعدامهم يومها، وكان منهم اثنان من مُصارِعي الثيران العاملين في صفوف الشيوعيين والمعروفين بالتطرف السياسي، وهبطوا بهم إلى مكانٍ قريبٍ لا يزال يُدعى بالاسم العربي له وهو «عين الدمعة» Aainadamar، حيث أطلقوا عليهم الرصاص، لتظل جثثهم بعد ذلك في مكانها إلى أن يحضر اللحادون ليدفنوهم تحت إحدى أشجار الزيتون.

وهكذا يقضي الشاعر الأندلسي الذين جَرُؤَ يومًا على أن يقول: سقوط غرناطة العربية في يد الإسبان كان كارثةً على الحضارة والمدنية، وبقي مدفونًا تحت الأشجار الحبيبة إلى قلبه، دون أن يعرف له أحد قبرًا حتى الآن، لتصدق النبوءة التي رددها يومًا في إحدى قصائده حين يقول:

عبر أشجار الغار
تطير حمامتان دكناوان
كانت أولاهما الشمس
والأخرى كانت القمر
قلت لهما: أيا جارتيا،
أين قبري؟
قالت الشمس: في ذيلي.
وقال القمر: في حلقي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤